فنون و آداب

الأدب الصوفي من الشعر إلى الرواية

دينا سعد

الأدب الصوفي من الشعر إلى الرواية

دينا سعد

الصوفية أحد المذاهب الإسلامية والتي تنبني بالأساس على قاعدة الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، ويكون للقلب في هذا المذهب الأفضلية على العقل، وغاية هذا المعتقد السمو بالروح عن العالم المادي ومعطياته. نشأ الأدب الصوفي مع التصوف، فالأدب الصوفي هو الأدب الذي كتبه المتصوفون مجسدين فيه نزعاتهم الروحية، وآيات عشقهم لخالقهم.

الأدب الصوفي قديمًا وحتى عهد قريب كان يُصاغ شعرًا، ومن أهم من اشتهر بكتابته «ابن الفارض»: هو «أبو حفص شرف الدين عمر بن علي بن مرشد الحموي»، أحد أشهر الشعراء المتصوفين، وكانت أشعاره غالبها في العشق الإلهي حتى أنه لقب بـ«سلطان العاشقين». ولد بمصر سنة 576 هـ الموافق 1181 م، ولما شب اشتغل بفقه الشافعية، وأخذ الحديث عن «ابن عساكر»، ثم سلك طريق الصوفية ومال إلى الزهد. رحل إلى مكة في غير أشهر الحج، واعتزل في واد بعيد عنها، وفي عزلته تلك نظم معظم أشعاره في الحب الإلهي، حتى عاد إلى مصر بعد خمسة عشر عامًا. ومن أشهر أشعاره “قلبي يحدثني”:

قـلـبي يُـحدثُني بأنكَ مُـتلفي * روحـي فِداكَ عرَفتَ أم لم تعرفِ لم أقضِ حق هواكَ إن كنت الذي * لـم أقـض فيه أسى ومثلي مَن يفي مـا لي سوى روحي * وباذلُ نفسه فـي حب من يهواه ليس بمسرفِ فـلئن رضـيتَ بها فقد أسعفتني * يـا خيبة المسعى إذا لم تسعفِ يـا مانعي طـيب المنام * ومانحي ثـوب الـسقام بـه ووَجدي المتلفِ عـطفًا على رمَقي وما أبقيتَ لي * من جسمي المضنى وقـلبي المُدنفِ فـالوجد بـاقٍ والوصال مماطلي * والـصبر فانٍ والـلقاء مسوِّفي لم أخلُ من حسدٍ عليكَ * فلا تُضِع سهَري بتشنيع الخيالِ المُرجِفِ واسأل نجوم الليل: هل زار الكرى جَـفني * وكيف يزور من لم يعرفِ..

من أشهر شعراء الصوفية كذلك «الحسين بن منصور» المُلقب بـ«الحلاج»، والذي تضاربت الأقاويل عن أمر انتمائه للمذهب الصوفي، فقد وصف بالزندقة، والفسوق، وقيل فيه إنه شيعي، إلا أنه من أشهر شعراء الصوفية، كتب كثيرًا من القصائد المميزة التي أُديت غنائيًا فيما بعد، وصارت من أشهر القصائد المغناة، ولاقت استحسانًا كبيرًا في عصرنا الحالي. من أشهر قصائده «يا نسيم الروح» والتي غناها الملحن والمطرب اللبناني  مارسيل خليفة .

يا نسيم الريح قولي للرشـا * لم يزدني الورد إلا عطشا لي حبيب حبه وسط الحشـا * إن يشا يمشي على خدي مشى روحه روحي وروحي روحه* إن يشا شئتُ وإن شئتُ يشـا

أحد أشهر الشعراء المتصوفين أيضًا «محي الدين ابن عربي»: وهو «محي الدين محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي»، لقبه أتباعه وغيرهم من الصوفيين بـ«الشيخ الأكبر»، ولذا تُنسب إليه الطريقة «الأكبرية» الصوفية. ولد في مرسية بالأندلس. كتب الكثير من القصائد الصوفية، وما زال شعره إلى الآن يستهوي الكثيرين؛ حتى تكونت مجموعة للإنشاد الصوفي تحمل اسمه «ابن عربي»، تقوم بتأدية معظم أشعاره مثل قصيدة «أدين بدين الحب» وغيرها..

تَنَاوَحَتِ الأرواحُ في غَيضَةِ الغَضا * فمالتْ بأفنانٍ عليَّ فأفناني وجاءتْ منَ الشَّوقِ المبرَّحِ والجوى * ومن طُرَفِ البَلْوَى إليّ بأفْنانِ لقدْ صارَ قلبي قابلاً كلَّ صورة * فمَرْعىً لغِزْلاَنٍ وديرٌ لرُهْبانِ وبَيْتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائف * وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهتْ رَكائِبُهُ * فالحُبُّ ديني وإيماني.

الرواية الصوفية

بدأ الفن الروائي في الظهور في الأدب العربي في أوائل القرن العشرين، عقب ظهوره في أوروبا في القرن الثامن عشر. مع تطور الأدب العربي وتأثره بالظروف السياسية والاجتماعية بدأت الرواية تفرض نفسها على الساحة الأدبية كأكثر الأصناف الأدبية رواجًا لدى القارئ العربي؛ وبذلك سحبت البساط من تحت أقدام الشعر الذي ظل متصدرًا المشهد الأدبي العربي قرون عديدة.

مؤخرًا ومع الطفرة التي شهدها الوسط الأدبي من إقبال الشباب على القراءة، وخاصة قراءة الروايات، صار على الرواية أن تُغطي كافة الموضوعات، حتى تلك الموضوعات التي لم تكن تعرضت لها من قبل، إذ اُختزلت الروايات في فترة من الزمن في اللون الرومانسي، أو الاجتماعي، وبالطبع التاريخي. مؤخرًا ظهر ما يعرف بين جموع القراء بالرواية الصوفية، وأصبح شغف قطاع كبير من القُراء – خاصة الشباب – يفضلون هذا النوع من الروايات، حتى وإن لم تكن لهم أية ميول دينية.

أكثر الروايات الصوفية التي لاقت رواجًا عالميًا رواية قواعد «العشق الأربعون» للكاتبة التركية «إيليف شافاق» التي صدرت باللغة الإنجليزية عام 2010، وحققت نسبة مبيعات عالية؛ حيث وصل عدد النسخ المُباعة 550,000، فأصبح بذلك الكتاب الأكثر مبيعًا في تركيا، ومع صدور الترجمة العربية تصدرت الرواية الساحة الأدبية العربية وصارت محط اهتمام كل من القراء والنقاد على حد سواء، وبذلك غيرت مفهومنا عن الأعمال التي تلقى استحسان القُراء.

العجيب أن الفكر الصوفي نال إعجاب الجميع، حتى غير المسلمين. أن تركز على الروح لا المادة، وقيمة الحب المجرد، تلك هي الأفكار الصوفية التي جذبت الكثير من القُراء، إذ وجدوا فيها سلوى عن كل منغصات الحياة حيث لا منطقية العقل المجهدة، فقط روح وقلب.

تدور أحداث الرواية عن «إيلا روبنشتاين» التي تحصل على عمل كناقدة أدبية، وتكون أولى مهامها الوظيفية أن تقد نقدًا لكتاب يحمل عنوان «الكفر الحلو»، ومن خلال قراءتها لهذا الكتاب الذي يتحدث عن قصة بحث «شمس الدين التبريزي» عن «جلال الدين الرومي» تسير أحداث الرواية على خطان متوازيان: خط حياتها الحالية، وخط صحبة شمس الدين لجلال الدين الرومي، وكيف ستؤثر تلك القصة في حياتها.

تبدأ الناقدة اليهودية إيلا بالتعلق بشخصية شمس الدين وتُعجب بالكاتب الذي ترى فيه شمس الدين آخر. الكاتب بدوره لم يكن صوفيًا بل كان مسلمًا، ولكنه أسلم فيما بعد تأثرًا بشخصية شمس الدين. الطرح الذي قدمته الكاتبة في الرواية أحدث نقلة في خط سير الأدب الصوفي؛ فبعدما كان الأدب يكتبه المتصوفون ذاتهم عن ذاتهم، أخذتنا الكاتبة لمنحنى آخر يجسد الصوفية من وجهة نظر غير معتنقيها، وكيف تغير الصوفية حياتهم من العدم إلى الوجود، وكيف تضفي الراحة والسكينة على حياتهم، ويكف أنها معتقد يناسب كل الأديان.

القاعدة الأولى من كتاب “قواعد العشق الأربعون”:

إن الطريقة التي نرى فيها الله ما هي إلا انعكاس للطريقة التي نرى فيها أنفسنا، فإذا لم يكن الله يجلب إلى عقولنا سوى الخوف والملامة؛ فهذا يعني أن قدرًا كبيرًا من الخوف والملامة يتدفق في نفوسنا، أما إذا رأينا الله مفعمًا بالمحبة والرحمة فإننا نكون كذلك.

القاعدة الرابعة:

يمكنك أن تدرس الله من خلال كل شيء وكل شخص في هذا الكون، لأن وجود الله لا ينحصر في المسجد أو في الكنيسة أو في الكنيس. إذا كنت لا تزال تريد أن تعرف أين يقع عرشه بالتحديد، يوجد مكان واحد فقط تستطيع أن تبحث فيه عنه، وهو قلب عاشق حقيقي. فلم يعش أحد بعد رؤيته ولم يمت أحد بعد رؤيته، فمن يجده يبقى معه إلى الأبد.

اعتنق الكثير من الكتاب العرب هذا اللون من الكتابة، وأصبح هناك خط متواصل من الروايات الصوفية التي تتصدر الساحة الأدبية، يكفي فقط أن تصف هذا العمل بأنه صوفي حتى يحقق رواجًا كبيرًا.

فيما مضى كان المتصوفون هم ذاتهم من يكتبون أدبهم؛ أما الآن صارت النزعة الصوفية موضوعًا يجتذب الكثير من الكتاب والقُراء، وحتى وإن لم يكونوا من معتنقي هذا المذهب؛ ربما يرجع ذلك لقساوة الحياة المادية التي نحياها، فصرنا نتعلق بأي خيط يربطنا بالروح مرة أخرى.

هناك الكثير من المحاولات الجادة التي تسعى لتسطير فصل آخر من فصول الأدب الصوفي بصبغة روائية، قد نتفق أو لا نتفق مع كثير من تلك الأطروحات لكن يبقى للقارئ الكلمة العليا فيما إن كان يفضل هذا اللون الروائي أم لا.

_____________________________________

*نقلًا عن موقع “إضاءات”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى