طرق و مدارس

التصوف والمتصوفون في موريتانيا.. معارج ومقامات وأحوال

محمد سالم عبد المجيد

التصوف والمتصوفون في موريتانيا.. معارج ومقامات وأحوال

محمد سالم عبد المجيد

(صحافي وكاتب موريتاني)

 

شكّل دخول الإسلام إلى بلاد “شنقيط” أو موريتانيا الحالية، أوائل القرن الثاني الهجري، وما تلا ذلك من قيام دولة المرابطين، شكّل مرحلةً حاسمةً طبعت الحياة في هذا الفضاء الصحراوي الفسيح بطابعها الخاص، على الصعيدين الديني والسياسي.

ونظراً للعلاقة المتوترة بين “المرابطين” و”المتصوفة” في بلاد المغرب الأقصى، وما شابها من حَنَقٍ وصل أحياناً حدّ حرق كتاب “إحياء علوم الدين” لأبي حامد لغزالي؛ فقد احتاج التصوف لأكثر من ستة قرون بعد دخول الإسلام إلى شنقيط، كي يجد موطئ قدم فيها، وذلك رغم وجود إشاراتٍ وصلاتٍ تشي بروح “صوفية” كانت سائدة في أوساط المجتمع الموريتاني قبل ظهور التصوف في صيغه الطرقية المعروفة حالياً.

لكن ما هو التصوف؟ ومن أين جاء إلى موريتانيا؟ وما هي أهم طرقه؟

لم يتفق الباحثون المهتمون بهذا الميدان على تعريف للتصوف يمكن الركون إليه، فهناك من يُرجع أصله اللغوي إلى الكلمة اليونانية “سوفيا” التي تعني الحكمة، ومنهم من يُحدده انطلاقا من تعريف الزاهد، كما عند بن سينا حين يقول: إن الصوفي هو “المُعرض عن متاع الحياة الدنيا وطيباتها”.

أما بن خلدون فيُصر على أن اشتقاق كلمة “التصوف” يعود إلى الصوف، إذْ اختُص المتصوفة بلبسه “لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب”، وإن كان أبو القاسم القشيري يخالفه في ذلك ويرى أنه “لا يشهد لهذا الاسم اشتقاق ولا قياس من جهة العربية، والظاهر أنه لقب”.

بيد أن الأهم من هذا كله هو تحديد معنى التصوف كممارسة وسلوك ذي مغزى، وذلك ما حدده أبو القاسم الجنيد بن محمد (تـ 297 هـ) صاحب الطريقة بقوله: “هو أن يُمِيتَكَ الحق عنك ويحييك به”. أما عبد القادر الجيلاني فيصفه بأنه “الصدق مع الحق، وحسن الخُلق مع الخلق”.

وتتشكل الحركة الصوفية في موريتانيا إجمالاً من ثلاث طرق أساسية هي: القادرية، والشاذلية، والتيجانية. وهي طرُقٌ يتفاوت انتشارها وتأثيرها الفكري والاجتماعي، وتختلف من حيث تمركزها الجغرافي داخل الرقعة الترابية المحلية، فضلاً عن تباين مراحل بروزها تاريخياً؛ إلا أنها بلغتْ أوج ازدهارها وقمة عطائها خلال القرنيْن الـ12والـ13 الهجرييْن.

القادرية وجدلية التأسيس

تعود نسبة الطريقة القادرية أصلاً إلى الشيخ سيدي عبد القادر الجيلاني (المتوفى سنة 56هـ)، وقد عرفت طريقها إلى بلاد المغرب الأقصى عن طريق أبي مدين شعيب الأنصاري الأندلسي (المتوفى سنة 594 هـ).

أما في موريتانيا فيرجع وجودها إلى الشيخ سيد أعمر بن الشيخ سيد أحمد البكاي (المتوفى سنة 959 هـ)، والذي تلقفها عن الشيخ محمد عبد الكريم المغيلي التواتي الجزائري المتوفى سنة (940هـ(.

ثم ترسخت هذه الطريقة في موريتانيا أكثر على يد سيدي المختار الكنتي، خلال القرنين الـ12 والـ13 الهجريين، وشهدت تمدداً واسعاً جعلها تتقدم الزوايا الأخرى من حيث التأثير الفكري وكثرة المنتسبين. وتتمثل القادرية في موريتانيا عبر فرعين رئيسييْن؛ أحدهما “البكائية” المنسوبة إلى الشيخ سيد أحمد البكاي، والتي يُعد الشيخ سيديَّا الكبير وابنه الشيخ سيدي محمد (نزيلا بتلميت جنوب البلاد) من أبرز أقطابها. ثم “الفاضلية” نسبة إلى الشيخ محمد فاضل بن مامين المتوفى سنة (1281هـ)، التي تفرعت بدورها إلى قسمين آخرين، تمركز أحدهما في الصحراء الغربية شمال موريتانيا، وهو قسم الشيخ ماء العنينين بن الشيخ محمد فاضل، فيما برز الآخر جنوب البلاد على يد أخيه الشيخ سعدبوه بن الشيخ محمد فاضل.

الشاذلية.. نخبوية الانتماء

أما الطريقة الشاذلية فتعود نشأتها إلى علي بن عبد الله الشاذلي المكنى بأبي الحسن، المتوفى بمصر (سنة656هـ)، وقد تلقاها الشناقطة عن طريق الشيخ محمد بن ناصر الدرعي.

ويرى بعض المؤرخين أن هذه الطريقة ظلت نخبوية جداً ومحدودة الانتشار في الأوساط الموريتانية، إذا ما قُورنت بباقي الطرق الأخرى. وقد تزامن ظهور “القادرية” بأزواد في مالي إلى الشرق من موريتانيا مع ميلاد “الشاذلية” بأقصى الشمال الشرقي الموريتاني، وتحديداً في مدينتيْ “وادان” و”أوجفتْ” بولاية آدرار على يد الشيخ سيدي محمود الحاجي خلال القرنيْن الـ12 والـ13 الهجرييْن.

ومن أعلام هذه الطريقة في الجنوب الموريتاني، الشيخ محمد فال بن متالي المتوفى في الربع الأخير من القرن الـ18 الميلادي، والشيخ يحظيه بن عبد الودود، فضلاً عن الشيخ سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم في ولاية تكانت.

وإذا كانت الطريقة القادرية قد تمددت وتشعّبت ذاتياً؛ فإن الطريقة “الغظفية” المنسوبة إلى الشيخ محمد الأغظف الداودي المتوفى (سنة 1218هـ) حاولت المزج بين “منهج” الطريقتين الشاذلية والقادرية معاً، بعد أن عرفت انتشاراً واسعاً على يد الشيخ سيد المختار بن طالب أعمر بن نوح البوصادي وخلفائه الآخرين أمثال: الشيخ محمد محمود الخلف، والشيخ محمد أحمد الغزواني، والشيخ المحفوظ بن بيه. وكان تمركزها جغرافياً وسط البلاد وفي جزئها الجنوبي الشرقي، خاصةً منطقتيْ الركيبة والعصابة.

التيجانية.. تصوف الأفارقة

لم تشذ الطريقة التيجانية عن سابقتيْها في نوعية الأخذ والتلقي، فقد سلكت ـ هي الأخرى ـ طريقها إلى البلاد ابتداءً من الثلث الأول للقرن الـ13هـ، عن طريق الشيخ محمد الحافظ بن المختار بن حبيب العلوي، الذي تلقاها عن الشيخ سيدي أحمد التجاني الجزائري مؤسس الطريقة المعروفة باسمه.

وتُعدّ الطريقة التيجانية من آخر الطرق الصوفية وصولاً للبلاد؛ حيث بدأ محمد الحافظ العلوي نشرها بعد عودته من المغرب حوالي 1220هـ، وعمل على ترسيخها في محيطه الاجتماعي أولاً، قبل أن تتوسع على أيدي شيوخٍ آخرين أخذوها عن أحمد التيجاني أيضاً، أمثال: الشيخ سيدي مولود فال اليعقوبي، والشيخ إبراهيم انياس (ت1975م) الذي نشرها في السنغال، وكذا الشيخ الحاج عمر الفوتي (تـ 1281هـ) الذي تكفل بنشرها في نيجريا.

يتوزع “التيجانية” أيضاً فرعان أساسيان، أحدهما “الحموية”، نسبة إلى الشيخ حماه الله التيشيتي أحد رجالاتها البارزين، عُرف بموقفه المُناهض للاستعمار الفرنسي؛ فتم نفيه إلى ساحل العاج ثم إلى فرنسا، حتى مات هناك في ظروف غامضة سنة 1943 بمدينة نيس الفرنسية.

أما الفرع الثاني من التيجانية فهو”الحافظية”، المنسوبة إلى الحافظ للعلوي الذي نشر تعاليمها في بلاد شنقيط وجنوب غرب أفريقيا. ثم تغلغت على أيدي مشايخ آخرين بينهم الشيخ إبراهيم الكَوْلَخِي الذي نشرها في السنغال وأفريقيا السوداء، وكذا الشيخ مالك سي (تـ 1922) الذي انتهج سياسة المُهادنة والعقلانية لتحصين الجبهة الداخلية ضد المستعمر في السنغال.

مقامات وأحوال

ولئن كانَ من أهداف الطرق والزوايا الصوفة التوقُ إلى تهذيب النفوس والترقي بها في معارج الصفا والزهد؛ فإنها لم تَخْلُ من “أحوال” تعتري المُريدين، يتدرجون خلالها في رحلة من المقامات، تبدأ بـ”الجذب” ولا تنتهي إلا بمقام”التمكين”.

أما “الجذبُ فـ”هو انجذاب المُريد عن الدنيا وتوجهه إلى الله، دون مبالاتٍ بالواقع من حوله” وهو مقام يشمل كل الحركات الصوفية، غير أن تسميته قد تختلف من طريق إلى أخرى.

وتتقاطع “القادرية” و”التيجانية” في ممارسة “الجذب” من حيث المضمون؛ إلا أن الأخيرة تُمسيه “فَيْضَةَ” ويتم عندها بشكل جماعي تصاحبه أعراضٌ كثيرة قد ينسلخ المُريد فيها من عقله.

أما “الكشف” فهو “اطلاع المُريد على بعض الأمور الدنيوية التي تغيب عن الحسّ” أو تلك الغامضة المتعلقة بماضٍ موغل في القِدم، أو مستقبل مجهول. كما أن ثمةَ مقاما “الولاية” و”المحبة” اللذان يُعدّان في ارتباط مباشر بين الله وعبده. فإذا كانت الأولى تعني الاستقامة في السلوك والعبادة لله كما لو أن المُريد يراه؛ فإنّ الثانية تختص بمحبته في ذاته وصفاته وخَلقه.

ويعرّف الصوفيون “التمكين” بأنه “محبة الله لعبده”. ويستندون في هذا التعريف على تأويل الحديث الشريف: “لا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها”.

طقوسٌ في الحضرة

في قلب الحضرة الصوفية يمارس المريدون ألواناً متعددة من العبادات، يتعاطونها في مجالسهم العامة، ومن ذلك الأدعية التي يرددونها في الجلسات التعبدّية ويسمونها “الأوراد”، وهي صيغٌ متنوعةٌ تتم قراءتها في الجلسات الجماعية والفردية.

وتختلف الطرق الصوفية في تحديد مصدر تلك الأدعية، بين مَنْ يقول إنه أخذ سندها متسلسلاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق شيوخ آخرين، أو من يقول إنه أخذها عن طريق الجن، أو في المنامات وِ”الكشوفات” وغير ذلك من وسائل تطبعها الطرافة والغرابة!

ويتم تكرار هذه الأوْرَادِ فردياً أو جماعياً، في أوقات معلومة كمساءات الجُمَعِ، أو بعد صلاة المغرب في معظم الأيام اعتماداً على تحريك السُبْحة في اليد تزامناً مع الترديد نُطْقاً.

غير أن الممارسة التعبدية في الحضرة قد لا تقتصر على صيغة الأوراد وحدها؛ بل قد تأخذ شكلاً آخر يقوم على التًعبّد بالصلاة من خلال أدعية مخصوصة.

ولعل العامل المؤثر في حركية التصوف بموريتانيا، تأصيلاً وانتشاراً وتمكيناً، كان استيعابه لمختلف الأبعاد العلمية والفقهية، والكلامية، التي يتم تعاطيها في نطاق المدارس التقليدية المُسماة محلياً بـ”المحاظر”. فشيوخ الصوفية كانوا في أغلبهم علماء وشعراء؛ ذلك أن الشيخ سيدي المختار الكنتي القادري، الذي شكل مَنبعاً روحياً لكثير من المتصوفة في البلاد الموريتانية، هو صاحب كتاب “فتح الودود في شرح المقصور والممدود”، والشيخ سيدي عبد الله محمد الصغير التيشيتي التيجاني، هو من ألف كتاب “ضالة الأديب” وكذا الشيخ سيديا الكبير، هو من صنّف كتاب “الطيُّ والنشر في المسائل العشر”.

لذلك؛ مثلت الزوايا الصوفية مراكز علميةً زاهيةً، يجد فيها المتصوفون وطلاب العلم بُغيتهم، ويقيمون في رحابها سُوقاَ أدبياً مُزدهراً، يتبارَوْن فيه بحضرة الشيخ فيُشاركهم الإنتاج والتلقي وإبداء الرأي، نقداً وتعليقاً.

أدبٌ بنَفَسٍ صوفي

وإذا كانت “الحضرات” الصوفية مَوئلاً للتعبد وترسيخ الجوانب الروحية التربوية؛ فإنها أيضاً شكلتْ مَرْتعَاً خِصباً صال فيه الأدباء وجالوا، وساهموا في تسويق خطابها ونشره في أوساطٍ عريضة من المجتمع.

ومما ساعد على ذلك أن كثيراً من مشايخ هذه الطرق كانوا شعراء وعلماء بارزين أيضاً، يتعاطون الأدب والثقافة، ويتجاذبون الشعر مع الشعراء أخذاً ورداً. لذا؛ أنتجتْ الحضرات الصوفيةُ أدباً غزيراً يضج حيويةً ونشاطاً، يطفح الأحاسيس والرؤى، ويتوكأُ في كثير من معانيه وإحالاته على مدلولاتٍ موغلة في التصوّف. فالمتأمل لقصيدة الشاعر المصباح بن الشيخ حبيب الله، مُريدُ الشيخ التراد بن العباس الفاضلي مثلاً، التي مطلعها:

تجنبْ كل ذي رأي سقيم ** فما المرء المسافر كالمقيم

يجدها ترشح بإحالات واضحة في هذا المنحى، ذلك أنّ “بحر المعارف والعلوم” الوارد في القصيدة يحيل بشكل مباشر على مصطلح “الفيض”، كما أنّ “إصلاح الأفئدة” الذي ذكره الشاعر أيضاً يكشف جزء من الجانب التربوي الذي تتأسس عليه مثل هذه الحركات.

ويدخل في هذا الباب أيضاً ما يُروى عن الشاعر الشيخ أحمدُ بن عينينا، الذي كان مُريداً للشيخ ماء العنين، ثم أجازه في التصوف القادري وأمره بالعودة إلى قومه جنوب البلاد، لكنه لم يصبر كثيراً على مفارقة شيخه والمكوث بعيداً عنه، فشد الرحال عائداً إليه في الصحراء الغربية، وخلال ذلك أنشد قصيدة أشواقه النونية التبتلية التي يقول فيها:

تلجلج عزمي في الفؤاد زمانا ** وما طلته ألاَّ يكون فكانا
وما كان عزمي في حيازيم جبّيء ** إذا همَّ بالأمر المهم توانى
ولكنه في قلب شيحان لم يكن ** هيوباً إذا هاب الجبان جبانا
أخو ثقة أنضى على السير جسرةً ** نعوباً إذا كلّ العتاق هجانا

وفي هذه القصيدة يصور الشاعر حالته النفسية المتوثّبة، ويردّدُ كثيراً من المصطلحات العميقة لدى الصوفية. فـ”المُربي” و”القطب” و”العروة الوثقى” و”المصباح” كلمات وردت في القصيدة بصيغة الإضافة إلى النفس الجماعية (مربّينا، قطبنا، عروتنا، مصباحنا) تعبيراً عن درجة عالية من الالحتام الروحي والتعالق الوجداني بين المُريد وشيخه.

وتذكر الروايات التاريخية في هذا الصدد، أن الشيخ ماء العينين لما شاهد ابن عينيا قادماً إليه، التفت إلى جلسائه قائلا، وفي نظراته قلق وحسرة: “ألم أخبره أن أنواري وأنواره لا يسعهما مكان واحد؟

أُقسم أن أحدَنا سيترك ظاهر الأرض لصاحبه قريباً”. وبالفعل؛ ما هي إلا أيام قليلة حتى توفي بن عينيا في حضن زاوية الشيخ ماء العينين، وتلك أفضل أمنية لدى المريد أن يتوفى في حضرة شيخه، مكلّلاً ببركة مقاماته وأحواله!

____________________

*نقلًا عن موقع ” ثقافات”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى