الطريق الصوفي في القرنين الثالث والرابع
الطريق الصوفي في القرنين الثالث والرابع
بلغ التصوف مرحلة النضج والكمال في القرن الثالث وازداد تكامله بحيث يمكن القول بأن التصوف الحقيقي قد بدأ منذ القرن الثالث الهجري.
ومن الصعب تحديد فواصل زمنية بين حركتي (الزهد) و(التصوف) في الإسلام واللتين يتشكل منهما الطريق الصوفى ، إذ التطورات الفكرية لا تخضع بطبيعتها للتحديد الزمني الصارم. وقد رأينا بعض متأخري الزهاد في القرن الثاني الهجري كانوا ينزعون إلى التصوف، واعتبرهم بعض كتُّاب التراجم من الصوفية.
وبالتأكيد أننا لسنا في حاجة إلى أن نوضح أن ليس المراد من القرن الثالث هما: أن اليوم الأول من سنة مائتين هجرية هو بدء المرحلة الثالثة للتصوف، بل إن ذلك حكم تقريبي، ويجب مراعاة هذا الموضوع في القرن الثاني كذلك، لأن التطورات الفكرية وسير العقائد والآراء كما ذكرنا لا يتمشى بموجب القوانين العددية والأحكام الرياضية بل إنه على الأغلب يسير بالتدريج وبدون ترتيب، وله تموجات غير منظمة تجعل تقسيمه إلى مراحل مختلفة أمرًا عسيرًا.
ومما لا شك فيه أننا سنلاحظ مع ذلك تحولًا واضحًا طرأ على الزهد منذ أوائل القرن الثالث الهجري على وجه التقريب، ولم يعد الزهاد في هذه الفترة يُسَمَوْنِ بهذا الاسم، وإنما عَرِفوا بــ: (الصوفية)([1]). واتجهوا إلى الكلام عن معاني لم تكن معروفة من قبل، فتكلموا عن الأخلاق، والنفس، والسلوك، محددين طريقًا إلى الله يترقى السالك له فيما يعرف بالمقامات والأحوال، وعن المعرفة ومناهجها، والتوحيد، والفناء، والاتحاد والحلول، ووضعوا القواعد النظرية لهذا كله. كما حدّدوا رسومًا عملية معينة لطريقتهم، وأصبحت لهم لغة رمزية خاصة لا يشاركهم فيها سواهم.
ويمكن على وجه التقريب أن نقول: إن مفهوم التصوف في بادئ الأمر كان في نظر الصوفية بسيطًا جدًا، ولم يخرج عن حدود القرآن والحديث والتشبه بالنبي وأولياء الدين والزهد والتعبد وتقديم الآخرة على الدنيا.
وتوسَّع هذا المفهوم بالتدريج حتى وصل إلى حد المبالغة والإفراط ثم غذته بمرور الزمن مواد ذوقية واتسعت من جراء ذلك ساحة التصوف والْتَقَطَ الصوفية من المصادر المختلفة أقوالاً وأضافوها إلى التصوف، وتغيَّر مفهومه تدريجيًا لهذا السبب. وتبدَّل تعريفه وتحديده في كل عصر ووَصَفَهُ كل شيخ وإمام من الصوفية بنحوخاص. حتى إننا نجد للشيخ الواحد تعابير مختلفة في بيان التصوف، فنجده يُبين التصوف بأساليب وعبارات مختلفة.
وهنا فى هذين القرنين : ظهر التدوين في التصوف. ومن أقدم من صَنَّفَ فيه المحاسبي المتوفى سنة 243هـ، والخراز المتوفى سنة 277هـ، والحكيم الترمذي المتوفى سنة 285هـ، والجنيد المتوفى سنة 297هـ. وهم جميعًا من صوفية القرن الثالث. فبرغم التعارض الذى قد يبدو قائما بين أسس التصوف وأصوله من جهة لأن التصوف الحقيقى عمل ومجاهدة، وبين تأليف الكتب من جهة أخرى، حتى قال أبو سعيد بن أبى الخير: (المرحلة الأولى للتصوف هي تمزيق الدفاتر وتناسي العلوم)، فقد أقدم أفراد هذه الطائفة بحكم الضرورة على التأليف ونهضوا يدافعون عن أنفسهم بسلاح الكتب.
وبهذا يمكننا القول بأن القرن الثالث هو بداية تَكَوُّنِ علم التصوف بمعناه الدقيق، كما أن الخصائص العامة للتصوف التي تحدثنا عنها فى موضوع (@الطريق الصوفى – خصائصه العامة@) بدأت تتجلى فيه بوضوح. واستمر هذا التصوف كذلك في القرن الرابع، بحيث يمكن أن نعتبر تصوف هذين القرنين تصوفًا إسلاميًا ناضجًا اكتملت له كل مقوماته.
وقد أشار الدكتور أبو العلا عفيفي –أيضًا- إلى ذلك قائلًا: «دخل التصوف بعد ذلك -أي بعد أن كان زهدًا- في دور جديد هو دور المواجد، والكشف، والأذواق. ويقع هذا الدور في القرنين الثالث والرابع اللذين يمثلان العصر الذهبي للتصوف الإسلامي في أرقى وأصفى مراتبه»([2]).
ولقد امتاز الطريق الصوفى فى هذه الفترة بأن أصبح التصوف متميزًا عن علم الفقه من ناحية الموضوع، والمنهج، والغاية، وهو ما تناولناه فى موضوع (@الطريق الصوفى – التمييز بين التصوف والفقه على أساس منهجى@).
كما يلاحظ الدارس للطريق الصوفى في القرنين الثالث والرابع أن التصوف أصبح للمعرفة بعد أن كان طريقًا للعبادة، (راجع: @الطريق الصوفى – تطوره من العبادة إلى المعرفة@).
ومن جهة أخرى فقد صار التصوف في القرنين الثالث والرابع علمًا للأخلاق الدينية أساسًا (راجع: @الطريق الصوفى – علاقته بعلم الأخلاق الدينية@).
ومما شهده الطرق الصوفى فى القرنين الثالث والرابع –أيضًا- ظهور الطرق الصوفية([3])في صورتها الأولى، وهو ما اصطلحنا على تسميته بالطرق الأصلية ، وأفردنا لها بابا مستقلا فى مشروعنا، (راجع: @الطرق الصوفية – الطرق الأصلية@)، (وراجع أيضا: @الطرق الصوفية – الطرق الأصلية – مدخل عام@)
وقد ظهر الكلام في الفناء عند كثير من أهل الطريق الصوفى فى القرنين الثالث والرابع بوضوح، والكلام عن الفناء وأثره على الطريق الصوفى يحتاج إلى وقفة خاصة ربما تطول شيئا ما (راجع: @الطريق الصوفى – علاقته بالفناء الصوفى@) .
بالإضافة إلى ما تقدم فنجد عند أهل الطريق الصوفى فى القرنين الثالث والرابع : الكلام بشكل أكثر توسعا وعمقا عن الطمأنينة أو السكينة التى صارت غاية من غايات الطريق (راجع: @الطريق الصوفى – الطمأنينة@).
ومن أبرز ما يميز الطريق الصوفى فى القرنين الثالث والرابع –أيضًا- اصطناع أصحابه لأسلوب الرمز في التعبير عن حقائق التصوف.
لعله قد تبين الآن من خلال حديثنا عن الطريق الصوفى فى القرنين الثالث والرابع أنه قد اكتملت لدي أهل الطريق فى هذه الفترة عناصر التصوف بمعناه الدقيق.
فهم قد تحدثوا عن الأخلاق، والسلوك والترقي فيه، والمعرفة الذوقية المباشرة بالله، والفناء في الحقيقة المطلقة (الله)، والتحقق بالطمأنينة أو السعادة، كما لجأوا إلى الرمزية في التعبير عن حقائق التصوف.
وهذا يعني أن الخصائص العامة التي ذكرناها فى موضوع (@الطريق الصوفى – خصائصه العامة@) تنطبق على تصوفهم تمامًا.
إلا أنه يجب التنبيه إلى أن الطابع الغالب على أهل الطريق الصوفى فى هذين القرنين –مع ذلك- هو الطابع النفسي الأخلاقي، فكانت عنايتهم موجهة أساسًا إلى الأخلاق والسلوك، أما المنازع الميتافيزيقية التي ظهرت عند بعضهم، فقد ظهرت في صورة بسيطة، حيث إنها لم تظهر بعد ذلك ظهورًا قويًّا إلا عند المتفلسفة الصوفية منذ القرن السادس الهجري وما بعده.
وقد رأينا أن كلام أهل الطريق فى هذين القرنين في الفناء عن شهود السوى، وما يعقبه عند بعضهم كالبسطامي من القول بالاتحاد، أو عند الحلاج من القول بالحلول، ليس من قبيل النظريات الفلسفية فيما بعد الطبيعة التي تعالج علاقة الإنسان بالله أو علاقة العالم بالله([4]).
ولذلك أصاب نيكولسون حين قال: «وقد وضع صوفية القرنين الثالث والرابع نظامًا كاملًا في التصوف من ناحيتيه النظرية والعملية، ولكنهم لم يكونوا فلاسفة، ولم يُعْنَوُا إلا قليلًا بالمشكلات الميتافيزيقية»([5]).
وكذلك يجب أن يوضع في الاعتبار أن الخصائص العامة للطريق الصوفى التي تنطبق على تصوف القرنين الثالث والرابع بوجه عام، قد لا تنطبق كلها على تصوف صوفي معين في هذه الفترة، فإن بعض صوفيتها غلب عليهم -كما رأينا- الكلام في ناحية معينة من نواحي التصوف دون النواحي الأخرى.
وبالجملة، نستطيع القول بأن القرنين الثالث والرابع قد شَهِدَا اكتمال الطريق الصوفى الذى يعبر أفضل تعبير عن التصوف الإسلامي، وأن صوفيته -كما قال الدكتور أبو العلا عفيفي- يمثلون العصر الذهبي للتصوف الإسلامي في أرقى وأصفى مراتبه. وهم لا شك رواد لكل من سيجيء بعدهم.
بينما يرى باحث آخر أن أهم خواص تصوف القرن الثالث التي تجعله متميزًا عن تصوف القرن الثاني بالنضج والكمال هي:
الأولى: أن التصوف في هذا العهد يعطي التفكر والتدبر وإمعان النظر أهمية كبيرة أكثر من القيام بالرياضات الشاقة أو بعبارة أخرى، أن الحياة الشاقة الخشنة التي يعدها صوفية القرن الثاني مناطًا للنجاة مثل إبراهيم بن أدهم، ورابعة العدوية وأمثالهما لا يأبه لها صوفية هذا القرن، كالجنيد وأتباعه، أو يعدونها أقل أهمية، هذا إلى جانب أن العبادة والطاعة والزهد وترك الدنيا إنما ذلك وسيلة لا غاية، ومقدمة لبلوغ غرض أسمى وأعلى، وليس بالمطلوب والمقصود النهائي.
ولا يقول أبو يزيد البسطامى بمداومة الرياضة والزهد، ويعتقد أن السالك يجب أن يغض الطرف عن الدنيا والآخرة وعن نفسه، وأن يتجه إلى أصل الموضوع والهدف. ويقول أبوسعيد الخَرَّاز([6]): الجوع قوت المرتاضين، والتفكر قوت العارفين.
والخلاصة أن الناحية النظرية للتصوف صارت أكثر أهمية، وتغلَّبت على الناحية العملية في هذا العصر.
والثانية: أن الهدف الوحيد للصوفية هو: (الاتصال بالله) ليس إلا، ولم يعطوا أهمية لأي أمر آخر غير هذا الغرض السامي.
ويجب الالتفات إلى أن صوفية هذا العهد لم يكونوا كلهم بالصورة التي صورناها بقولنا إن التصوف بلغ في هذا القرن مرحلة الكمال فليس المراد من ذلك القول أن طريقة صوفية القرن الثاني اندرست حقًا في هذا القرن، بل الواقع هو أنه بينما كانت جماعة تتبع الآراء الكاملة والناضجة لهذا القرن كانت هناك جماعات أخرى تشابه من حيث السير والسلوك وطريقة الفكر وأسلوب القول صوفية القرن الثاني مشابهة تامة، بل إن بعضهم كانوا يمثلون في سلوكهم الزهاد والمرتاضين المعتدلين في صدر الإسلام، وكل ناحية من النواحي كانت ملائمة لنوع خاص من التصوف وتطوره، فصوفية خراسان مثلاً كانوا نوعًا ما ذوي أفق واسع، وكان معظمهم من أصحاب السكر وتحررهم الفكري وانطلاقهم كان أكثرهم من صوفية العراق وسائر الجهات.
وهناك ملاحظة جديرة بالذكر، وهي أن أثر التصوف كان يبدو بصورة خاصة في الأشخاص أي في حين أن كل فرق التصوف كانت تجمعها أصول مشتركة كانت شخصية الأفراد مصونة، وكان لكل شخص أسلوب في التفكير والفهم وسليقة خاصة به. كما أن مثل هذه المسألة تشاهد اليوم بين العرفاء، ويصدق هذا الحكم أصوليًا على كل المسائل النظرية والعقيدية.
الثالثة: أن الصوفية في هذا القرن سلكوا مسلكًا حزبيًا، وأصبحوا طبقة خاصة، أي أصبحت لهم خصوصيات حزبية ومقررات ورسوم وآداب طائفية، ودخلت كل طائفة تحت رعاية شيخ ومرشد وقطب، وكان الشيخ أو المرشد ذا سلطة كاملة على مريديه، يراقب أعمالهم، ويحث كل شخص على إطاعة أوامر المرشد، ومراعاة الأنظمة، وكانت للأحزاب والفرق المختلفة من الصوفية طرق متنوعة في السير والسلوك. ومع أن الصوفية كانوا يهدفون إلى شيء واحد، فقد كانت كل طائفة ترى لنفسها طريقًا خاصًا للوصول إلى الغرض، وتسير في طريقها الخاص بها كما تشاهد هذه الحالة نفسها بين فرق الصوفية مع وجود الغاية المشتركة بينهما، وأن وجود الخانقاوات للمرة الأولى كان نتيجة هذه الاختلافات([7]).
ولكي نحصل على معلومات نعرف منها مقدار التطورات التي حدثت للتصوف في القرن الثاني وكيف بلغت درجة الكمال في القرن الثالث يكفينا أن نعقد مقارنة بين (الْجُنَيْد) وخاله وشيخه (السَّرِيّ السَّقَطِيّ)، والسَّرِيّ السَّقَطِيّ مع معلمه وشيخه (مَعْرُوْف الكَرْخِيّ) هؤلاء الثلاثة في الرعيل الأول من أكابر الصوفية، وهم موضع ثقة العامة، وكان أحدهم للآخر مريدًا وشيخًا بالتوالي، أي أن الجنيد([8])كان مريد السَّرِي السَّقَطِي([9])، وكان هذا مريدًا لمعروف الكَرْخِيّ([10]).
فمعروف الكرخي الذي كان أبواه مسيحيين- رجل ورع متعبد زاهد خيِّر حليم، عازف عن الدنيا، مع التعويل على أحكام الشرع وشعائره. وقد بلغ من زهده أنه أراد أن يتصدق بثوبه الوحيد كي يخرج من الدنيا عاريًا كما أتى إليها، وكان مسلكه مع الناس على الصورة التي رواها العطار، وحينما توفي كان خلقه وسلوكه من حيث التواضع بدرجة أن كل الطوائف الدينية من اليهود والنصارى والمسلمين قالت: (إنه منا)، وقد أفطر يومًا في أثناء النهار مراعاة لكلمة سقاء كان ينادي (رحم الله مَن شَرِب).
أما السَّرِيّ السَّقَطِيّ الذي هو من مريديه فيختلف عنه في أشياء، فكان إلى جانب زهده البالغ ورياضته وخوفه العظيم من الله يرى الرفق بالمخلوقات وصفة الإيثار أمرين ضرورين للنجاة، ويتكلم في الحقائق والتوحيد، كما يتكلم في العشق والمحبة. ويعتقد أن حسنات الأبرار سيئات المقربين، ويتفوَّه بعبارات جديدة من جملتها قوله: سيدعى غدًا الأمم بأنبيائها، ولكن الأحباء سيدعون إلى الله.
– الشوق أسمى مراتب العارفين.
– وقد جاء في بعض الكتب المنزلة أن الله يقول: أي عبدي، عندما يغلب ذكري على لسانك أكون أنا العاشق لك، والعشق هنا بمعنى المحبة.
– العارف في الصفة كالشمس تشرق على كل العالم، وفي الشكل كالأرض تتحمل ثقل جميع الموجودات، وفي الطبيعة كالماء به حياة قلوب الجميع، وفي اللون كالنار يضيء به العالم.
– إن لسانك ترجمان قلبك، وإن وجهك مرآة ضميرك، ويظهر على وجهك كل ما تكتمه في قلبك.
– القلوب ثلاثة: قلب كالجبل لا يقدر شيء أن يحركه من موضوعه، وقلب كالشجرة أصلها ثابت بَيْد أن الريح تحركها أحيانًا، وقلب كالريشة تذهب مع الريح وتدور في كل مكان.
– مقدار فهم كل شخص لنفسه منوط بمقدار قرب قلبه إلى الله.
– رباه، إن عظمتك منعتني من مناجاتك، ومعرفتي إياك جعلتني بك أنيسًا.
ويعطي السري أهمية أكبر بباطن الشريعة ومعناها، ويقول:
– لو لم تأمرني بذكرك ما ذكرتك. أي أن ذكرك لا يستوعبه اللسان، وكيف أفتح فمًا ملوثًا باللهو بذكرك؟
وأما الجنيد البغدادي الملقب (بسيد الطائفة) و(لسان القوم) والذي دُعي بـ (سلطان المحققين) و(أعبد المشايخ) فإنه مظهر الكمال المعتدل للتصوف، ولو تعمّقنا في كلامه لرأينا أن التصوف قد دخل معه في مرحلة جديدة، وأن صوفية هذا العهد قد تجنَّبوا الرياضة المنهكة وإماتة الجسم والافتخار بالفقر، وفحوى كلامهم هو أن الرياضة هي المرحلة الأولى لسفر طويل، وأنها كتمهيد وتمرين لحياة روحانية أهم.
ويقول الجنيد: بعد أربعين سنة من الرياضة والطاعة ظننت أنني بلغت القصد وإذا بهاتف يقول: ياجنيد، لقد آن الأوان لأريك زنارتك. وحينما سمعت هذا قلت: رباه ماذا صدر من الجنيد؟ فجاء نداء يقول: أتريد ذنبًا أعظم من هذا الذي أنت فيه؟ فتأوّه الجنيد ورفع رأسه وقال:
مَن لم يكن للوصال أهلا | * | فكل إحسانه ذنوب |
ونستطيع أن ندرك من العبارات التالية التي تركها لنا الجنيد ما مقدار الفرق في النضج الفكري الذي كان عليه الجنيد بالنسبة إلى أسلافه، وبسبب أي نوع من التطور، وأي أسلوب من الكلام أصبح الجنيد موضع اعتراض الفقهاء، وأهل الظاهر بحيث نسبوه إلى الكفر والزندقة([11]).
– لقد قعدت ثلاثين سنة حارسًا على باب القلب وحفظت القلب وقد حافظ عليَّ قلبي عشر سنوات، والآن بعد عشرين سنة لا أعلم شيئًا عن القلب، ولا يعرف القلب شيئًا عني.
– غادرت الدهر بحيث بكى عليَّ أهل الأرض والسماء، ثم صرت بحيث كنت أبكي أنا على غيابهم، والآن أصبحت لا أعلم عنهم ولا عن نفسي شيئًا.
– لقد ناجى الله تعالى الجنيد ثلاثين سنة بلسان الجنيد، والجنيد غير ظاهر، والخلق لا يعرفون عنه شيئًا.
– تكلَّموا عشرين سنة على هامش ذلك العلم لكنني لم أبح بشيء من غوامضه وأسراره لأنهم منعوا الألسنة من الكلام، وحرموا القلوب من الإدراك.
– الخوف يقبضني والرجاء يبسطني، فمهما أكن منقبضًا بالخوف يكن ثمة فناء، وعندما أبسط بالرجاء يعيدون إلى نفسي.
– لوقال الله تعالى لي غدًا، انظر إليَّ لَمَا استطعت، ولقلت: إن العين موكول إليها حب الغير والغريب. وإن غيرة الغيرية تمنعني من الرؤية إذ كنت أرى في الدنيا دون واسطة العين.
– يروى أن الجنيد كان دائم الصيام، وحينما كان أصحابه يدخلون عليه يقطع صومه ويفطر معهم ويقول: إن فضل المساعدة مع الإخوان لا يقل عن فضل الصيام.
– ويقال إن الجنيد كان يرتدي لباس العلماء فقال له أحد أصحابه: يا شيخ الطريقة. ماذا يحصل لوكنت تحليت بالمرقع مراعاة لأصحابك، قال: لوكنت أعلم أن للمرقع فائدة لسبكت ثوبًا من الحديد والنار وارتديته، ولكنهم ينادون كل ساعة في باطننا أن ليس الاعتبار بالخرقة إنما الاعتبار بالحرقة.
– إن الطاعة ليست هي العلة التي جرى عليها علم الأزل ولكنها مبشرة بما جرى في الأزل وقد جرى للمطيع حسنًا.
– إن المرء يكون رجلاً بالسيرة لا بالصورة.
– فقدت يومًا قلبي فقلت: يا إلهي رُدّ عليَّ قلبي، فسمعت مناديًا يقول: ياجنيد، نحن سلبناك القلب لكي تكون معنا، وتريد أن تبقى مع غيرنا!
– ويروى أن الجنيد عندما يتكلم في التوحيد كان يتكلم في كل مرة بعبارة غير الأخرى لا يستطيع أحد أن يفهمها.
– يحكى أن الشِّبْلِيّ قال يومًا في مجلس الجنيد: يا الله. فقال الجنيد: إذا كان الله غائبًا، فذكر الغائب غيبة والغيبة حرام، وإذا كان حاضرًا فذكر اسم الحاضر في مشهد الحاضرين بعيد عن الأدب.
– إن صدرك هذا حرم الله الخاص فلا تدخل -بقدر ما تستطيع- من هو غير أهل بالحرم الخاص.
– إن قلوب أحباء الله هي مكمن أسرار الله، وإن الله تعالى لا يضع سره في قلب فيه محبة الدنيا.
– وكان يتكلَّم يومًا فقام أحدهم وقال: لا أدرك كلامك، فأجابه: ضع طاعة السبعين سنة تحت قدمك. فأجاب، وضعت ولا أدرك ذلك. فقال: إذا لم تدرك فضع رأسك تحت قدمك، وإذا رأيت أنك لم تصل بعد إلى الغاية فاعرف أن الذنب ذنبي.
– هنيئًا لذلك الشخص الذي نال الحضور ولو لساعة واحدة طيلة عمره.
– متى ما حضر الأخوة والأحبة فإن النوافل تسقط.
– حكي أنه كان يمشي ليلة في الطريق مع مريد له، فنبح كلب، فقال الجنيد: لبيك، لبيك، فقال المريد: ما هذه الحال؟ فقال: إني شاهدت قوة الكلب ودمدمته دليلاً على قهر الله تعالى، وسمعت النداء من قدرة الحق تعالى، ولم أشاهد الكلب فيما بين ذلك فلا جرم أن أجبت: لبيك.
– إن التصوف هو أن يميتك الحق عنك، ويحييك به.
– من يقول (الله) دون أن يراه فهذا كذب، وزعم معرفة الوجود جهل عند حصول العلم، قالوا: أضف أنت، فقال: إنه هو العارف والمعروف.
– يقول أهل الأنس في الخلوة والمناجاة أشياء تبدو لدى العوام كفرًا إذ لو سمعها العوام لكفَّروهم.
– المعرفة هي مكر الله، أي أن كل من يظن أنه عارف يُعد ممكورًا.
– غاية التوحيد إنكار التوحيد، أي أن تنكر كل توحيد تعرفه لأن ذلك ليس بتوحيد.
– سألوه مرة ثانية عن التوحيد فقال: هو اليقين، قالوا: كيف ذلك؟ قال: أن تعرف أن حركات الخلق وسكناتهم عمل الله، ولا يشاركه فيه أحد، فإذا سلمت بذلك فقد سلمت بشرط التوحيد.
وبمقارنة هذه الأقوال بأقوال أسلاف الجنيد نرى بوضوح أن تطورًا فكريًا في غاية الأهمية قد ظهر فيها، وأن أفكارًا جديدة واصطلاحات وتعابير خاصة قد وجدت فيها من مثل: عدم الاعتناء بالمرقع ومظهر الدروشة والتصوف ، وعدم الاعتقاد بأن الزهد هو ترك الدنيا، وأن العبادة ليست هي الهدف النهائي أو الغاية المطلوبة، بل إنها مقدمة لهدف أعلى، وعدم الاتكال على الطاعة لأن من الممكن أن تكون هذه الطاعة نفسها حاجبًا عن الطريق أحيانًا. وكذلك الاهتمام العظيم بالعشق والمحبة والقلب والذهول والهيام، وأن كل شيء مظهر للحق.
والحاصل أن التصوف بالمعنى الحقيقي نشأ على يد أهل هذا القرن، وتكوَّن له أساس قوي. ولاشك أنه قد طرأت عليه تغيرات أخرى بمرور الزمن، أكثرها يرجع إلى التعبيرات والاصطلاحات والرسوم والظواهر، وكيفية مقامات السير والسلوك وأمثال ذلك؛ أما الناحية الفلسفية للتصوف فقد تحققت على يد جماعة من قبيل الغزالي وابن عربي والسُّهْرَوَرْدِيّ. وأما التوفيق بين الشرع والتصوف وتعاليم السير والسلوك وتعيين المقامات التي يجب أن يسلكها السالك وقوانينها وأصولها، مع مراعاة أصول الشرع وإسنادها إلى القرآن والحديث، فقد تكوَّن كل ذلك بفضل رجال مثل القُشَيْرِيّ وأبي نصر السَّرَّاج والهجويري والغزالي .
المراجع :
– مدخل إلى التصوف الإسلامي، د. أبوالوفا الغنيمي التفتازاني، القاهرة: مكتبة الثقافة للطباعة والنشر، ط 2، 1976م، (ص 109 – 170)، باختصار واسع.
– تاريخ التصوف في الإسلام، د.قاسم غني ( ت 1372هـ) ، ترجمه عن الفارسية: صادق نشأت، راجعه: د. أحمد ناجي القيسي، د. محمد مصطفى حلمي، القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، ط د، 1970م ، (ص 71-84) ، بتصرف واختصار.
([1]) عرف الاسم فيما يبدو قبل سنة 200 هـ (الرسالة القشيرية: ص7-8. مقدمة ابن خلدون: ص 228)، ولكنه فيما يبدوا انتشر في القرن الثالث الهجري، يقول الهمداني: «ولم يكن السالكون لطريق الله في الأعصار السالفة، والقرون الأولى يُعْرَفُوَن باسم (التصوف)، وإنما (الصوفي) لفظ اشتهر في القرن الثالث».
Massignon: Recueil.. etc, p.11.
([2]) التصوف الثورة الروحية في الإسلام: ص92.
([3]) في التصوف الإسلامي وتاريخه: ص 20.
([4]) انظر: ص 148، ص 154-157 من هذا الكتاب.
([5]) في التصوف الإسلامي وتاريخه: ص 21.
([7]) هذه بعض أسماء أئمة الصوفية ومشاهيرها الذين ولدوا فيما أواسط القرن الثاني الهجري، وآخر القرن الثالث وننقل تاريخ وفاة كل منهم بعد ذكر أسمائهم فيما يلي. وكل من أراد الوقوف على تفاصيل أحوالهم وأقوالهم فليرجع إلى كتب الصوفية المعتبرة، مثل: (اللمع)، و(كشف المحجوب) و(الرسالة القشيرية) وإحياء العلوم (وكيمياء سعادات) للغزالي، و(عوارف المعارف) وتذكرة الأولياء، و(نفحات الأنس) أويرجع إلى كتاب التاريخ وتراجم الأحوال من مثل (وفيات الأعيان) لابن خلكان، و(حلية الأولياء) لأبي نُعَيْم و(صفة الصفوة) لابن الجوزي وأمثال ذلك، حتى يقف على تراجم أحوالهم وأقوالهم وآرائهم، وأن تاريخ وفاة العرفاء الذي ستأتي أسماؤهم يطابق ما جاء في (نفحات الأنس) إلا في موضع صرحنا بنقلها من مصادرها الأخرى.
رابعة العدوية 135، وفيات الأعيان ابن خلكان، وبرواية أخرى أن وفاتها كانت سنة 185.
أبوهاشم الصوفي عاشر سفيان الثوري | ذوالنون المصري | 245 | ||
سفيان الثوري | 161 | أَبُوتُرَاب النَّخْشَبِيّ | 245 | |
إبراهيم بن أدهم | 162 | سرِيّ السَّقَطِيّ | 253 | |
داود الطائي | 165 | زكريا بن يحيى الهروي | 255 | |
شَقِيْق البَلْخِيّ | 174 | يحيى بن سعاد الرازي | 258 | |
الفُضَيْلُ بنُ عِيْاض | 187 | بايزيد البِسْطَامِيّ | 261 | |
مَعْرُوْف الكَرْخِيّ | 200 | أبوحفص الحداد | 264 | |
أَبُوسُلَيْمَان الدَّارَانِي | 215 | أبوإسحق النَّيْسَابُورِيّ | 265 | |
فتح بن علي الْمَوْصِلِيّ | 220 | شاه بن شجاع الكرماني270 بعد 270 وكتب بعضهم أنها قبل | 300 | |
بشر الحارث الحَافِي | 227 | حمدون القَصَّار | 271 | |
أحمد بن الحواري | 230 | فتح بن شخروف المروزي | 273 | |
حاتم بن عنوَان الأصَمّ | 237 | علي بن سهل الأصفهاني | 280 | |
أبوحامد البَلْخِيّ | 240 | سَهْلُ بنُ عَبْدِ اللهِ التُّسْتَرِيُّ | 283 | |
أبوالعباس حمزة بن محمد الهَرَوِيّ | 241 | أبوسعيد الخرَّاز | 286 | |
المحاسِبِي | 243 | عباس بن حمزة النيسابوري | 288 | |
أبوحمزة البغدادي | 289 | الجنيد البغدادي 297 أو298 أو | 299 | |
أبوحمزة الخراساني | 290 | أَبُوعُثْمَان الحِيْرِيّ | 298 | |
إبراهيم الخَوَّاص | 291 | أبوالعباس بن مسروق الطُّوسيّ | 299 | |
أبوالحسن النوري | 295 | أبوعبد الله المغربي | 299 | |
عمروبن عثمان المكي الصوفي | 296 | حمشاد الدِّيْنَورِيّ | 299 |
سمنون المحب، توفي بعد الجنيد، راجع صفة الصفوة: جـ2.
يوسف بن حسين الرازي 303 (أو304).
الحسين بن منصور الحلاج 309 (وفيات الأعيان لابن خَلِّكَان).
وقد ذكر أبونصر السراج المتوفى سنة 378 أسماء مائتين من الصوفية تقريبًا حتى زمانه.
([8]) كانت وفاته بتحديد الجامي في نفحات الأنس سنة 267هـ.
([11]) تذكرة الأولياء: الباب 13 في ذكر الجنيد البغدادي.
_____________________________________
* نقلًا عن موقع “بيت الكتب”.