أبو القاسم الجنيد: أصل التصوّف المغربي
يوسف شرقاوي
يحظى المغرب بإرث صوفي عريق يضرب بجذوره في عمق الثقافة والهوية المغربية. بيد أن هذا الإرث الصوفي الذي يشمل طرقاً متعددة كالتيجانية والقادرية والبرهانية والسمانية استند إلى آراء وطروحات علم التصوّف السنّى أبي القاسم الجنيد. ويقول فقيه القرويين ابن عاشر في منظومته “المرشد المعين” ليصف الثوابت المغربية: “في عقد الأشعريّ وفقهِ مالك، وفي طريقة الجنيد السالك”، أي، كما تتداول العامة اليوم: المذهب المالكي في الفقه، والمذهب الأشعري في العقيدة، ومذهب الجنيد في التصوف.
والتصوّف في المغرب “التزام تام بالشريعة الإسلامية من أجل الوصول إلى مقام الإحسان الذي يعد لب الإيمان وروحه وكماله”. واقتدى أهل المغرب بالجنيد لثلاثة أسباب، أولها “إجماع العلماء على تقدم الجنيد في علمَي الشريعة والحقيقة”؛ ثم لأنه “صاحب مدرسة صوفية انخرط في سلكها جمهور العلماء والناس على اختلاف مراتبهم”. وفي الأخير، لأن التصوف الذي يدعو إليه الجنيد هو “التصوف الأخلاقي الذوقي”، فيما ينبذ التصوف المبني على “الإغراق والتحدث في الحقائق التي لا تدركها العقول”.
وكان الجنيد قد اتبع في التصوّف مذهباً ليس فيه خروجٌ عن الشرع والكتاب والسنّة. مذهبه تميّز بالاعتدال المضبوط على الأصول الشرعية، وما من متصوف جاء بعده إلا وذكره بكل خير، وتأثر به، وأخذ بطريقته، وأشاد بأفضاله، وبمناقبه الروحية والمعرفية، وأنه أكثرُ مَن اتّصف بالتصوف السني المعتدل.
وكان “هذا التوجه الشرعي، المتّسم بالسنيّة في المنحى، والمتصف بالأخلاق في المشرب، هو الذي جعل منهج الإمام الجنيد ينال القبول والاستحسان من الفقهاء والصوفية على السواء، فلم ينكروا عليه شيئاً في مسلكه، بل اعتمدوه وساروا على دربه، لما يمتاز به من رسوخ وتمكين، واعتدال وصحو، وربط بين الحقيقة والشّريعة”. وقد عدّه العلماء شيخ مذهب التصوّف، “لضبط مذهبه بقواعد الكتاب والسنة، ولكونه مصوناً من العقائد الذميمة، محمي الأساس من شبه الغلاة، سالماً من كلّ ما يوجب اعتراض الشرع”، كما يجيء في كتاب الأعلام للزركلي.
قال باحثون في الصوفيّة إنها تشكّلت منذ ظهورها في اتجاهين مختلفين: اتجاه عُرِف بمدرسة السلوك والأخلاق ويُعد أبو القاسم الجنيد من بين أعلامه، واتجاه آخر عُرِف بالتجريد والتحدث في الحقائق، يلحق به الحلاج وآخرون. أما الجنيد فقد عُرِف عنه أنه كان يرفض الصوفية كنوعٍ من اعتزال الناس والانكفاء على الذات والهرب إلى شعب الجبل بعيداً عن أعين الآخرين وهمومهم، وإنما كان يشارك في الحياة العامة مؤثراً فيها. له مجلس خاص به يلقي فيه الدروس ويفتي معيناً الناس على دينهم ودنياهم، وقد تخرّج على يديه عددٌ من العلماء.
ويذكر الخطيب البغدادي أنّ الحلاج، وكان تلميذاً للجنيد، جاء إليه يسأله فلم يجبه، وقال عنه «إنه مدّعٍ». وأضاف الحافظ أن الجنيد قال للحلاج ذات مرة: «لقد فتحتَ في الإسلام ثغرة لا يسدها إلا رأسك». بعد ذلك، انفصل الحلاج عن الجنيد وطريقته.
وُصف الجنيد بأنه أبو التصوف الإسلامي، وله رؤية متفردة يصفه فيها، حيث يقول: “التصوّف هو اجتناب كلّ خلقٍ دنيّ، واستعمال كل خلقِ سنّي، وأن تعمل لله ثم لا ترى أنك عملت”. واشتُهٍرت مقولته التي تُعَد أساس مذهبه كما ورد في حلية الأولياء لأبي النعيم الأصفهاني: “علمُنا مضبوطٌ بالكتاب والسنّة، مَن لم يحفظ الكتاب ويكتب الحديث ولم يتفقّه، لا يُقتدى به”. وقوله الذي ورد في تاج العارفين: “الطرق كلّها مسدودة على الخلق، إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، واتبع سنته، ولزم طريقته، فإنّ طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه”.
صورة تم التقاطها يوم ١٧ سبتمبر ٢٠٠٣ لمسجد الإمام الجنيد البغدادي في بغداد. المصدر: THOMAS COEX/ AFP.
إذن، إنّ التصوّف الإسلامي بمفهوم الجنيد هو “الالتزام التام بالشريعة الإسلامية من أجل الوصول إلى مقام الإحسان الذي هو لب الإيمان وروحه وكماله. فالسالك لطريق الله عز وجل لا يمكنه أن يتذوق حلاوة الإيمان إلا إذا أدى الفرائض على أكمل وجه، وواظب على السنن وصلاة الليل وكثرة الصيام والبكاء من خشية الله تعالى والابتعاد عن اللغو وكثرة القيل والقال والميل إلى السكوت والإكثار من ذكر الله عز وجل، وشكر النعمة، ومجاهدة نفسه وكثرة مراقبتها، وتطهير قلبه وعقله ونفسه من كل الرذائل الدنيوية”.
بسبب هذا كلّه تبنّى المغرب طريقة الجنيد في التصوف، حيث غاية التصوّف الأولى هناك هي التحلي بـ “الأخلاق المحمدية”، حرصاً على “التسنن الكامل قولاً وفعلاً وحالاً بسيرة رسول الإسلام محمد”. لذلك اختار “المغاربة في ممارستهم للتصوف المنحى السني الأخلاقي، والذي يرمز له بالإمام الجنيد، عوض الاتجاه الصوفي الآخر الذي عرف بالتجريد والتحدث في الحقائق، التي لا تدركها العقول”.
يقول الباحث المغربي حسن جلاب أيضاً: “تتجمع أسانيد الطرق الصوفية المغربية عند الجنيد لتتفرع بعد ذلك، إذ لا نكاد نجد طريقة لا تتصل بها إلا نادراً، وحتى في هذه الحالة غالباً ما تتوفر هذه الطريقة على سندٍ ثان يوصلها إلى الجنيد، وتفسر هذه الظاهرة بحرص الطرق الصوفية المغربية على أن تكون سائرة على نهج السنة المحمدية لشهرة الجنيد بذلك”.
كان الجنيد يرى أنّ مخاطبة الناس يجب أن تكون على قدر عقولهم، وأن الجواب يكون على قدر السائل لا على قدر المسائل. فكان منهجه في تعامله مع “الحقائق” إبعادها على من ليست له أهليّة تقبّلها. إذ كان من المعروف أنّ الطرق الصوفية تخضع في عمومها لمبادئ العلم والعمل بالأحكام الشرعية واتخاذ النموذج والقدوة، وطريقة الجنيد في التصوف تتميز بتوجهها الأخلاقي واهتمامها بالجانب العملي والسلوكي، دونما تغليب لحقائق المعرفة الصوفية أو اعتداد بما يسمى بالكرامات السنية، وإنما بما يفيد تقرّب المسلم من ربه وما تقتضيه أحوال عيشه. لذلك يتميز الخطاب الصوفي في المغرب بكونه “بسيطاً وواضحاً، وبعيداً عن التعقيد، ويغلب عليه جانب الممارسة أكثر من جانب التجريد والتنظير العلمي”.
توفي أبو القاسم الجنيد في بغداد سنة 297 للهجرة، وهو في سكرات الموت أخذ يتلو القرآن، فقيل له لو رفقت بنفسك، فأجاب: “ما أحد أحوج إلى ذلك مني الآن وهذا أوان طيّ صحيفتي”. كما يجيء في كتاب “البداية والنهاية“.
رحل سيد الطائفة، وطاووس العلماء، وتاج العارفين، وشيخ طريقة التصوف، ومُقدّم الجماعة، كما يُلقَّب، تاركاً أقواله ليستشهد بها علماء السلف. قلبه قلب صوفي، وعقله عقل فقيه، فاقتدى بحاله جمهور الصوفية. صلَّى عليه نحو ستين ألف إنسان، وأخذ الناس يزورون قبره في كلّ يوم نحو الشهر أو أكثر، كما يجيء في تاريخ بغداد للبغدادي.
المصادر:
١. سحنون، ربيعة، العلمي، طارق. منهج الإمام الجنيد في السلوك وخصائص الممارسة الصوفية بالمغرب، مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة. المصدر: https://www.goodreads.com/book/show/21847704.
٢. الجنيد، أبو القاسم. رسائل الجنيد – أول عمل يجمع كل رسائل الإمام الجنيد وأقواله المأثورة. دار اقرأ، ٢٠٠٥. المصدر: https://www.goodreads.com/book/show/18074088–.
٣. الجنيد، أبو القاسم. السر في أنفاس الصوفية. دار الكتب العلمية، ٢٠١٥. المصدر: https://www.goodreads.com/book/show/22074583.
______________________________
*نقلًا عن موقع ” fanack” – وقائع الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.