أعلام وأقطاب

شمس الدين التبريزي وقواعده الأربعون للعشق

صالحة علام

شمس الدين التبريزي وقواعده الأربعون للعشق

صالحة علام

لا يختلف اثنان على أن مولانا جلال الدين الرومي هو المؤسس للطريقة المولوية الصوفية التي اجتاحت العالم، وتركت بصمتها في الشرق والغرب، كما لا يمكن لأحد إنكار أن شمس التبريزي هو الأب الروحي للمولوية، وواضع الإطار العام لفلسفتها الخاصة بالعشق الإلهي، الذي بزغت منه شمسها، وحلقت في فضاء الصوفية، وانطلقت منه نحو العالمية بصورة أدهشت الكثيرين، لكونه أستاذ الرومي ومعلمه الذي نهل من علمه ومعارفه، وتعلم منه الكثير من الحكمة، والفلسفة الروحية، والزهد في متاع الدنيا، والعشق الإلهي.

 

اسمه الحقيقي

اسمه الحقيقي محمد بن علي بن ملك داد، ووالده هو الإمام علاء الدين داد، ولد في مدينة تبريز الإيرانية عام 1185م، ومن هنا جاء لقبه التبريزي، عالم صوفي قضى عمره كله في البحث عن سر العشق الذي يسمو بالروح الإنسانية، ويمنحها الخلود في معية الخالق سبحانه وتعالى، الذي يمثل في أفكاره وفلسفته الروحية المحبوب.

أما اسم شمس فيعود على الأغلب إلى اعتباره محور الطرق الصوفية في عمومها، فهو بالنسبة إليهم يمثل الشمس التي تدور حولها الأرض، ولكون فلسفته قائمة على تقبل اختلافات الآخرين مهما كانت، ونبذ الفرقة، ونشر المحبة التي تجمع كافة السبل الكفيلة بتحقيق الشرائع السماوية.

تعد شخصية شمس التبريزي بما حملته من غموض، وما أثارته من أقاويل مصدراً أساسياً للإلهام الروحي لدى تلميذه جلال الدين الرومي، وجميع من سلك طريق التصوف بعدهما، فهو شخصية عُرفت بالزهد والعزوف عن ملذات الحياة، في سعيها للوصول إلى الحياة الخالدة التي تتمثل في العشق الإلهي، والذوبان في ماهية المعشوق أي الخالق سبحانه وتعالى.

فلسفته الروحية

من أجل الوصول إلى تلك الغاية كان التبريزي يرتدي لباسًا خشنًا عبارة عن قلنسوة بنية طويلة مصنوعة من اللباد الخشن، وهي القلنسوة نفسها التي لا يزال يرتديها الدراويش أثناء أدائهم رقصتهم الشهيرة المعروفة باسم “رقصة الدراويش” أو “رقصة السماح”، وفي أحيان أخرى كان يرتدي لباس أثرياء التجار، ويبدو في هيئة مثل هيئتهم. لم يكن مهمًّا لديه المظهر الخارجي للإنسان، لأنه يرى أن الأصل هو القلب الذي يقع داخل هذا الإنسان، والمهم هو مدى صفاؤه ليُمكنه أن يعكس جمال الكون من حوله، ويشهد بنفسه على مدى عظمة خالقه، حتى يمكنه إدراك محبته من خلال تلك الرؤية القلبية.

لم يكن التبريزي منتميًا إلى أي فرقة من الفرق التي كانت منتشرة في عصره، كما أنه لم يكن فيلسوفًا بالمعني العلمي المتعارف عليه في عصرنا الحالي؛ فلم يكن صاحب نظرية فلسفية، بل كان رافضاً لكل أقوال الفلاسفة ونظرياتهم التي تتمحور حول البحث عن المعاني باستخدام العقل، الأمر الذي يضع الإنسان في حيرة من أمره من دون أن يصل إلى حقيقة تبدد تلك الحيرة وتحقق له الراحة التي يبحث عنها.

فهو ينكر أن يتخذ الإنسان من العقل طريقاً للوصول إلى الحقيقة، وأن يتجاهل القلب وإشاراته، فنراه يقول: “الفيلسوف يصبح مُنكِراً، فكل ما لا يعرفه عقله لا يكون له وجود”. لقد بنى التبريزي فلسفته على القلب، الذي رأى فيه أساس الارتقاء بروح الإنسان وسموّها على الماديات، حتى تصبح مؤهلة للوصال مع الحضرة الإلهية واستقبال جمال نورها، فلا شيء في داخل الإنسان غير تلك المضغة -أي القلب- يمكنه أن يحل محلها في أداء تلك المهمة العظيمة، بما تحمله من أنوار ومعارف ربانية يعجز العقل عن استقبالها أو استيعاب مغزاها؛ فالإنسان -بقلبه وليس بعقله- يعلو فوق جميع الكائنات الموجودة في هذا الكون، وفي هذا المعني يقول: “إن باب القلب هو الذي يجب أن يُفتح”.

زهده وترحاله

اشتهر شمس التبريزي بكثرة الأسفار؛ إذ لم يكن يستقر في بلد معين، ولم يُعرَف له مكان إقامة دائم، بل كان دائم الحل والترحال من مكان إلى آخر، فلم يكن منتمياً إلى وطن معين يحن إليه في سفره وترحاله، وليس له بلد يعود إليه من أسفاره، ولذا أُطلق عليه اسم “شمس الطيار” لكثرة تنقّله وترحاله وسرعة مغادرته للبلد الذي يصل إليه.

زار دمشق وبغداد وحلب، وتذكر بعض الروايات أنه حين ينزل في أي مدينة من المدن كان يقوم بفتح ما يسمى الكُتّاب، ويجمع فيه الصبية الصغار لتعليمهم القرآن والعلوم الشرعية، فيقدم له الأهالي مبلغًا من المال نظير عمله، لكنه كان يمتنع عن أخذه طالبا تأخير الأجر لفترة من الوقت، وحينما يصبح المبلغ كبيراً يختفي التبريزي تماما عن الأنظار دون أن يأخذ منهم الأجر الذي تراكم له لديهم.

لقاء التبريزي والرومي

في السادس والعشرين من جمادى الآخرة عام 642هـ كان اللقاء الأول بين شمس التبريزي وجلال الدين الرومي في مدينة قونيا التركية، وعن هذا اللقاء يذكر التبريزي في كتبه أنه طالما تضرع إلى الله عز وجل بأن يمكنه من مخالطة أوليائه، وينعم عليه بصحبتهم في هذه الدنيا حيث سير المحب إلى الله تعالى ونيل رضاه، وكان يرى في رؤياه جواب سؤاله، وهو أن الله تعالى سيجعله يصحب أحد أوليائه، وحينما كان يسأل: أين سأجده؟ لم يكن يجد إجابة. وقد تكررت تلك الرؤيا ثلاث مرات، ثم قيل له إنه في بلاد الروم، ورغم بحثه الدائم عن ذلك الولي فإنه لم يعثر عليه، إلى أن قيل له إن الأمور مرهونة بأوقاتها.

وحينما حان الوقت التقى التبريزي بالرومي عند خروجه من المسجد الذي يلقي فيه دروسه على تلاميذه ومحبيه في مدينة قونيا، فأخذ بعنان فرسه وسأله: “يا إمام المسلمين أيهما أعظم أبو يزيد -ويقصد بذلك أبا يزيد البسطامي- أم محمد؟ -ويقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال الرومي إن السماوات السبع قد اهتزت لسؤاله، وأجاب: “إن محمدا هو أعظم العالمين، فأين منه أبو يزيد؟”، فقال التبريزي: فكيف التوفيق بين قول أبي يزيد “أنا سلطان السلاطين”، وقوله صلى الله عليه وسلم: “سبحانك ما عرفناك حق معرفتك؟” فأجاب الرومي: إن أبا يزيد سكنَ من جرعة واحدة، أما المصطفى عليه الصلاة والسلام- فكان له ظمأ في ظمأ، وكان له في كل يوم زيادةُ قربى، وكان يرى المزيد يوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة من أنوار الحق وعظمته، فصاح التبريزي صيحة عظيمة ووقع على الأرض.

وكان ذلك اليوم بمثابة يوم الولادة الحقيقية لجلال الدين الرومي، كما كان موعد تحقيق رغبة التبريزي في مخالطة الأولياء، حيث فتح الله لكل منهما عقب هذا اللقاء آفاقا واسعة من العلوم الفلسفية والمعارف الروحية، ولم يعد أحد يرى الرومي بعد ذلك اليوم إلا وبصحبته شمس التبريزي، الذي أصبح يمثل له طاقة الأنوار الإلهية، وفيض التجليات الربانية، وتتجلى حوله العناية الإلهية التي تقود خطواته إلى المعرفة الحقيقية، التي لم تكن مُتاحة له من قبل.

مؤلفاته وأشعاره

كان من أوائل مؤلفاته الكتاب المعنون بـ”قواعد العشق الأربعون” إذ إنه فور لقائه بالرومي، الذي صحبه إلى منزله، اعتكفا معًا مدة أربعين يوما كاملة، قام خلالها التبريزي بإملاء قواعده الأربعين في العشق الإلهي على الرومي الذي أصبح منذ تلك اللحظة تلميذه النجيب.

إلى جانب ذلك ألف شمس التبريزي عدداً من المؤلفات وتُرجمت تلك المؤلفات إلى كثير من اللغات، ومن أهمها كتاب “مرغوب القلوب” وقد جمع فيه بين الحكمة والأفكار التي ترتكز عليها الدائرة العرفانية الصوفية لديه، وكتاب “ديوان شمس تبريزي” ويسمى أيضا بالديوان الكبير، وهو عبارة عن مجموعة من القصائد جمع فيها التبريزي أقواله في الغزل والحكمة والعشق.

ومن أشهر أقواله: “ما تريده لن يأتي إليك دون أن تذهب إليه، تعلق الفاني بالفاني يفنيه، وتعلق الفاني بالباقي يبقيه. الشيء الذي لا يمكن التعبير عنه بكلمات لا يمكن إدراكه إلا بالصمت. إن دعوت الله أن يرزقك راحة البال فلا تستغرب هجران الناس لك. جاهد ألا تلتفت إلى الوراء فإن المرء على قدر حنينه يُهان”.

 

وفاته وما يحيط بها من غموض

يكتنف الغموض وفاة شمس التبريزي، فهناك العديد من الروايات التي تتناقلها التراجم، ومنها أن الغيرة أصابت تلاميذ جلال الدين الرومي من مصاحبته له، وغيابه الذي أصبح دائماً عن حلقات الدرس والوعظ، واعتذاره عن الاستمرار في التدريس، حتى وصل الأمر إلى التآمر عليه والاشتراك في قتله وإلقاء جثمانه في أحد الآبار لإخفاء جريمتهم، مستغلين في ذلك سلوك الرجل في السفر والترحال الدائم دون سابق إنذار، ثم بعد فترة اكُتشف الجثمان حين طفا على سطح البئر، فتم استخراجه ودفنه في مكان قريب من مركز مدينة قونيا بالقرب من مدفن جلال الدين الرومي وعائلته.

وتقول رواية أخرى إن شمس التبريزي حينما فشل في تهدئة نفوس هؤلاء التلاميذ، وضجر من شدّة كراهيتهم له قرر الرحيل عن قونيا، وتوجه إلى مدينة خوي حيث عاش بعيداً عن الأنظار إلى أن توفاه الله، ودليل هؤلاء أن له ضريحًا كبيرًا هناك يحمل اسمه، وتم اعتماده من جانب هيئة اليونسكو ليكون أحد مواقع التراث العالمي.

______________

*نقلًا عن “الجزيرة نت”- بتصرُّف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى