أناشيد الصوفيـَّة والموسيقى الدنيويَّة في تونس بين الائتلاف والاختلاف
فتحي زغندة
كاتب من تونس
يحتلّ «المالوف» مكان الصدارة في المخزون الموسيقي المتقن (وينعت أيضا بالكلاسيكي أو التقليدي) الذي توارثته الأجيال عن طريق التناقل الشفوي، وقد تعدّدت التحديدات لهذا المصطلح المشتقّ من «مألوف»، وهو إسم مفعول من «ألف»، وأجمع الباحثون على أن هذا المصطلح يطلق في البلاد التونسية على مجمل التراث الموسيقي الذي نما وانتشر في المدن التونسية، وخاصة منها تلك التي تجمّع فيها المهاجرون الأندلسيون الذين توافدوا على إفريقية (وهو الاسم الأصلي لتونس) منذ القرن السابع للهجرة (الثالث عشر ميلادي)، ومن هذه المدن تونس، العاصمة الحالية للبلاد التونسية، وسليمان القريبة منها، وتستور، الواقعة على نحو ثمانين كيلومترا غربي العاصمة، ويعدّ خلاصة لإبداعات….
الموسيقيين والشعراء لسكان تونس الأصليين ولروافد عربية وأندلسية وتركية، امتزجت فأفرزت طابعا مميّزا تنفرد به الموسيقى التونسية المتقنة عن سواها في البلدان العربية مغربا ومشرقا، وتظهر عناصر الاختلاف بالخصوص من خلال «الطبوع»، وهو مصطلح يقابله «مقام» في أغلب البلدان العربية وبعض الأقطار الإسلامية، ومن خلال الإيقاعات، وطريقة أدائها.
ويتكوّن «المالوف» من قسمين رئيسيين، قسم ينعت «بالجدّ»: وترتبط أغراضه بالمعتقد الديني، وقسم ثان ينعت بالدنيوي أو «الهزل» وتنطق كذلك «الهلس»: وهو ذو أغراض متّصلة بالحب والغزل وسائر المواضيع المتعلّقة بالدنيا، ويتركز هذا البحث على استجلاء نقاط الإئتلاف والاختلاف بين كلا القسمين.
ظهور الطرق الصوفيَّة:
لا توجد في تونس موسيقى تنعت بالدينية بالمعنى الدقيق للكلمة، بل عرفت البلاد على مرّ العصور أشكالا من التعبير الموسيقي ارتبطت بالطرق (جمع طريقة) الصوفية العديدة التي انتشرت في ربوعها وأصبحت تحتل مكانة هامة في إحياء المناسبات والأعياد الدينية والدنيوية.
والطريقة هي المنهج أو السبيل – كما ورد في دائرة المعارف الإسلامية (الطبعة الفرنسية – ص 701) وقد أصبحت هذه الكلمة في القرن الخامس للهجرة تدلّ على جملة من الطقوس التي تؤدّى في نطاق حلقات المسلمين، وتخصّص لذكر الله قصد ترويض النفس والوصول إلى الحقيقة بمفهومها المطلق.
ويدلّ استعمالها عند المتصوّفين على الطريق التي يسلكها المسافر إلى الله، وقد قسّمت إلى مراحل يعرف بواسطتها «أحواله» الروحية وتنتهي به إلى كشف حجاب الحسّ.
ولكلّ طريقة أناشيد مخصوصة تطلق عليها تسميات متعدّدة تختلف من طريقة إلى أخرى. وأصبح الإنشاد الصوفي في تونس يمثّـل أحد أهم مكونات التراث من حيث وفرته وانتشاره بين الناس وتداوله في حلقات الذكر وسائر الاحتفالات الدينية والدنيوية، ويعدّ ظهوره امتدادا لانتشار التصوّف الإسلامي الذي نشأ في المشرق العربي نتيجة لعدّة عوامل سياسية واجتماعية أهمّها:
انقسام المسلمين بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومقتل سيدنا عثمان رضي الله عنه، فكان أن تفرّقت كلمتهم وتصدّعت قلوبهم وانقلب الوضع السليم إلى فتنة ثمّ إلى حروب أنهكت القوى، من مضاعفاتها ظهور الاتجاهات السياسية المختلفة والمذاهب من شيعة وخوارج ومرجئة وغيرها من الملل والنحل.
الإثراء السريع والترف بعيد الفتوحات الإسلامية وعدم توزيع الأموال والغنائم المتأتّية من هذه الفتوحات توزيعا عادلا، فبدأت أيّام حكم الخليفة عثمان سيطرة الأرستقراطية القرشية تطفو من جديد.
ومن ردود الفعل التي صدرت عن أولئك الذين آمنوا بمثل الإسلام السامية واتبعوها الإعراض عن لباس الحرير وارتداء الصوف عوضا عنه، دلالة على نكر الذات والابتعاد عن مظاهر الترف، ولجأ كثير من المسلمين إلى الزهد الذي وجدوا فيه وسيلة للفرار من حياة طغت عليها الأنانيّـة وحبّ المال والجاه.
واتخذ المتصّوفون من الإنشاد أداة تقرّبهم من الله تعالى وتثير فيهم حالة نفسية يعبّر عنها بالوجد، وهو – كما يفسّره أبو حامد الغزالي في باب «آداب السماع والوجد» من مؤلّفه (إحياء علوم الدين) ثمرة السماع الذي يحرّك الأطراف إمّا بحركة غير موزونة فتسمّى اضطرابا أو بحركة موزونة فتسمّى التصفيق والرقص.
وبصرف النظر عن الآراء المختلفة والمتضاربة المتعلّقة بموقف فقهاء المسلمين من الغناء بين محلّل ومحرّم، فإنّ حلقات الذكر والإنشاد الصوفي ازدهرت عبر العالم الإسلامي في إطار الطرق التي تعدّدت وأصبح لكلّ منها تراث زاخر بالأشعار المكتوبة بالفصحى وبمختلف اللهجات العامية وبالألحان المرتجلة أو المصاحبة بالإيقاع، وفي تونس لعبت «الزوايا» (مفردها «زاوية») دورا محوريا في انتشار الأناشيد الصوفية، حيث وجد فيها أتباع الطرق ملاذا يمارسون في الموسيقى والإنشاد بعيدا عن أنظار المحرّمين للممارسة الموسيقية، و«الزاوية» فضاء لزيارة الأولياء والصالحين، يجتمع فيه المنتسبون إلى إحدى الطرق الصوفية قصد التعبد والذكر والتقرب من الله تعالى ومدح شيوخ الطريقة وتقديم النذور والصدقات للفقراء والمحتاجين وللتعارف والترفيه عن النفس بإنشاد القصائد والمدائح.
وتعتبر الطريقة الشاذلية أمّ الطرق الصوفية في تونس، وهي المنسوبة إلى أبي الحسن الشاذلي (593 ـ 656 هـ/ 1196 ـ 1258م) الذي لعب دورا كبيرا في ترسيخ التصوّف في تونس، وهي طريقة مبنيّة على الذكر وملازمة الخلوة للتعبّد، بما يوفّر، في نظر المنتسبين إليها، السعادة الروحية الناتجة عن محبّة الله تعالى وصفاء القلب. ألّف أبو الحسن الشاذلي أربعة عشر حزبا (ومفردها حزب وهو مجموعة من الأدعية التي يؤلفها أحد الشيوخ البارزين، يكون محورها طلب الرحمة والحكمة والمغفرة من الله تعالى في الدين والدنيا وتقرأ من قبل أتباعه)، ومن أكثر أحزاب سيدي أبي الحسن تداولا بين أتباع طريقته حزب البرّ، ويسمّى أيضا حزب الدعوات، والحزب الصغير ويسمّى حزب البحر، قاله قبل سفره إلى الحجّ من القاهرة على مركب في النيل، وحزب الحمد، ويسمّى حزب النور، وحزب الفتح، ويسمّى حزب الأسرار، وحزب التوسّل. ولكلّ حزب من هذه الأحزاب ذيل يسمّى «وظيفة» وهي جملة من الأدعية والابتهالات تختم بها قراءة الأحزاب وجاء في معجم «دوزي»1 أنّ هذا المصطلح يعني ما قدّر من عمل، فترتيل ما تيسّر من القرآن الكريم يوميّا يسمّى «وظيفة» ويقال أيضا أنّ القيام بالصلوات الخمس في مواعيدها المحدّدة «وظيفة». ويدلّ هذا المصطلح لدى المنتسبين إلى الطرق الصوفية على التسبيح والدعاء لله تعالى والاعتراف بعظمته وجلاله ووحدانيته وذكر لفضله على البشر ورحمته وإحسانه.
وتقوم الطريقة على تلاوة القرآن الكريم وقراءة أحد أحزاب أبي الحسن الشاذلي والذكر بترديد اسم الجلالة (الله) ثمّ بضمير الغائب (هو) عدّة مرّات على درجتين صوتيتين يفصل بينهما مسافة رباعية أو خماسية، ويقوم «الباش منشد» (وهي رتبة تسند إلى كبير المنشدين وقائدهم) بارتجال ينشد فيه بعض القصائد ذات الأغراض المتصلة بالدين والتصوّف، ثمّ يشترك مع بقية المنشدين، بعد الانتهاء من الذكر، في إنشاد ما اصطلح على تسميته «بالمرزوقية»، وهي مجموعة قصائد تنشد عادة في طبع «رصد الذيل»، وهو من الطبوع التونسية الذي يقرب من حيث توالي درجاته وسلمه الموسيقي من مقام النكريز في بلاد المشرق العربي، ويتناوب المنشدون ويشتركون بعده في أداء بعض البشارف التونسية (مفردها بشرف) «بالآهات» (أي بترديد الألحان على مقطع «آه»)، والبشرف معزوفة من أصل تركي تتكوّن من مقاطع يسمى كلّ واحد منها «خانة» يكون آخرها في نسق أسرع من «الخانات» التي تسبقها.
ومنذ القرن السابع للهجرة اشتد ميل أهل إفريقية إلى التصوف، فانتشرت الطرق الصوفية، ومن أهمها: القادرية المنسوبة إلى سيدي عبد القادر الجيلاني (491-561 هـ/ 1097-1165 م) ويوجد ضريحه ببغداد، والعيساوية، وهي الطريقة المنسوبة إلى سيدي محمّد (بفتح الميم) بن عيسى (872 – 933 هـ/ 1467 – 1526م) ويوجد ضريحه بمدينة مكناس المغربية، والسلامية المنسوبة إلى مؤسسها سيدي عبد السلام الأسمر (880-981هـ /1475-1573م) وهو مدفون بمدينة زليطن الليبية، والطيبـيّة المنسوبة إلى مؤسسها مولاي الطيب الوزاني (المتوفى سنة 1181هـ / 1767م) والمدفون بالمغرب الأقصى، والتجانية نسبة إلى الشيخ أحمد التجاني المتوفى سنة 1230 هـ / 1814م والمدفون بمدينة فاس المغربية، والعامرية (وتنطق في بعض مناطق تونس عوامرية) وهي الطريقة المنسوبة إلى الشيخ سيدي عامر المزوغي الذي عاش في أوائل القرن الحادي عشر للهجرة(السابع عشر ميلادي) ويوجد ضريحه بمدينة الساحلين بمنطقة الساحل في تونس، والعزوزية، نسبة إلى سيدي علي عزوز المتوفى سنة 1117 هـ / 1705م ويوجد ضريحه بمدينة زغوان الواقعة على بعد نحو خمسين كيلومترا غربي تونس العاصمة، وغيرها من الطرق المختلفة والتي يزيد عددها الجملي عن عشر طرق.
وأصبح لسكان القطر التونسي اعتقاد كبير في الأولياء والصالحين ومحبة لشيوخ الطرق حتى انتشر بين العامة المثل السائر: «إنّ من لا طريقة له فطريقته شيطانية» مما نتج عنه انتشار واسع للزوايا، وهي مزارات الأولياء والصالحين يلتقي فيها المنتسبون إلى إحدى الطرق الصوفية قصد التعبد وذكر الأدعية والتقرب من الله ومدح شيوخ الطريقة، وقد يكون ذلك مصاحبا بالترنم بالأناشيد ذات الأغراض المتصلة بتعظيم الخالق عزّ وجلّ وبمدح رسوله الأعظم سيدنا محمد صلى الله علية وسلّم وسائر الأنبياء والمرسلين وشيوخ الطرق الصوفية.
الأناشيد المتَّصلة بالطرق الصوفيَّة:
أجازت التقاليد في تونس أداء الأناشيد المرتبطة بالدين، وقد خلا الرصيد الصوفي من الموسيقى الصرفة، أي التي لا غناء فيها، ومن أهم التعبيرات:
– ترتيل القرآن الكريم، أي تلاوته بطريقة تعطي كلّ حرف حقّه في النطق حسب أصول أقرّها العلماء، وباستعمال نغمات وألحان مرتجلة وغير خاضعة لإيقاع محدد تؤدى بصوت حسن، ومن أكثر الطبوع التونسية استعمالا «رصد الذيل» و«الأصبعين» (ويقابله في المشرق العربي مقام «الحجاز») و«الحسين» (ويقابله في المشرق العربي مقام «البياتي»).
– الآذان (الدعوة للصلاة) ويكون في طبوع تونسية هي في الغالب طبع «رصد الذيل»، و«الصيكاه» (وتكتب «السيكاه» في المشرق العربي) أو «الأصبعين».
– إنشاد قصائد ونصوص تتعلق بسيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وتؤدى في ذكرى مولده، ومن هذه القصائد «الهمزية في مدح خير البرية» و«البردة» وكلاهما من شعر الإمام شرف الدين محمد البصيري (القرن السادس للهجرة)، أما «مولد البرزنجي» تأليف جعفر الرزنجي (المتوفى سنة 1180 هـ /1766 م) فهي أهم نص نثري يسرد مختلف مراحل سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد جاء بالسجع.
وتنشد «الهمزية» في لحن لا يخضع لإيقاع محدد وفي طبع «الصيكاه» التونسية، أما «البردة» فتنشد في طبع «المزموم» التونسي وهو قريب من حيث سلمه ودرجات سلمه الموسيقي من مقام «الجهاركاه» في بعض بلاد المشرق العربي.
إلى جانب هذه التعبيرات الموسيقية المبنية على نصوص ذات أغراض متصلة بالدين الإسلامي وبالرسول الأكرم، أوجدت كل طريقة من الطرق الصوفية أناشيد خاصة بكل منها، وتشترك جميعها في اشتمالها على أشعار بالفصحى والدارجة بعضها من تأليف مؤسّسي هذه الطرق والبعض الآخر من نظم أتباعهم، وتتركّز أغراضها على تعظيم الخالق عزّ وجلّ ومدح نبيّه محمد صلّى الله عليه وسلّم، والخلفاء الراشدين والأولياء والصالحين ومؤسّسي الطرق وأتباعهم، أما ألحانها فلا يعرف بالتحديد من وضعها، إذ اعتمد كل من لحن الأناشيد التستر، ولعل وراء ذلك خوفا من ردود فعل من لا يسمح بتعاطي الموسيقى والإنشاد، أو ربما اعتبر التلحين نوعا من الأعمال الخيرية التي لا يسمح بالتعريف بأصحابها. ولعله يجدر في هذا المجال التنويه إلى أن التلحين ظهر متأخرا نسبيا، أي بعد ما ظهر بعض الذين لهم إلمام بهذا الفن في القرنين التاسع عشر والعشرين، وكان الإنشاد يعتمد قبل ذلك على استعمال ألحان الموشحات وسائر المقطوعات التي تكون «مالوف الهزل» واستبدال كلماتها بأخرى ذات أغراض صوفية.
وتشترك طقوس مختلف الطرق في كونها تستهل بقسم خال من الإنشاد، يبدأ بتلاوة سورة الفاتحة من القرآن الكريم، ثم بقراءة أحد «الأحزاب» أو ما سواها من الأدعية التي ألفها شيوخ الطرق.
وتلي هذا القسم الأول أناشيد غير خاضعة لإيقاع محدّد ولا تستعمل فيها الآلات الموسيقية، لا الإيقاعية منها ولا اللحنية، بل تؤدى فيها الألحان منسابة بطريقة جماعية، من ذلك مثلا ما يجري في أعمال الطريقة «السلامية» من إنشاد جانب من «السلسلة الذهبية» وهي أرجوزة (أي قصيدة من بحر الرجز) تعدّ تسعا وسبعين بيتا، نظمها الشيخ عبد السلام الأسمر سنة 979 هـ / 1571 حسب ما جاء في بيتها السبعين، وورد في هذه «السلسلة» ذكر عدد هام من شيوخ ناظمها ومن المتصوفين، وكأنّها سلسلة إسناد طالعها:
يقول راجي العفو والغفران
عبد السـلام ابن سليـم الفانـي
الحـمد للـه الــذي هــدانا
إلى طريق الخـير واجتـبـانـا..
وتلي القسم ذا النسق اللحني الحر أناشيد تصاغ في إيقاعات تونسية، منها ما هو قريب من الإيقاعات المتداولة في الموسيقى المتقنة (أي «المالوف») ومنها ما هو أقرب إلى الإيقاعات الخاصة بالموسيقى الشعبية بلونيها الحضري والريفي.
ومن إيقاعات القسم الأول «البطايحي» ذو الأربع وحدات والمتسم بالبطء ونجده في أناشيد «السلامية» و«العيساوية» و«العوامرية» مع اختلاف نسبي في وضع الأوقات القوية والضعيفة وطريقة الأداء، و«السعداوي» كثير التداول في أناشيد الطريقة «السلامية»، ويتركب من اثنتي عشرة وعدة تكوّن أربعة أوقات ثلاثية، وهو مستعمل في الموسيقى الشعبية التونسية، ويلي «البطايحي» أو «السعداوي» إيقاع ذو نسق أسرع ويسمى «دخول برول» وهو ذو وحدتين إيقاعيتين، ويتدرج النسق بطريقة تصاعدية في أناشيد كل الطرق الصوفية، مثلما هو الشأن في الموسيقى الدنيوية، حيث يبدأ بطيئا ويختم بإيقاع على غاية من السرعة يسمى تارة «ختم» وطورا «برول» ويؤدي هذا الإيقاع السريع لدى بعض الطرق «كالعيساوية» و«العوامرية» و«العزوزية» إلى ما يسمى «بالتخميرة» وهي حالة تشنج قصوى تصيب المنشدين والراقصين الذي يقفون في صف أو حلقة، ويخرجون عن وعيهم، ومنهم من يقوم بحركات يتشبّه فيها بالأسد المقيّد بسلسلة، أو بالجمل فيأكل أوراق التين الشوكي، وهي عادات آخذة في الانقراض…
وتتميّز بعض الطرق بإيقاعات تنفرد بها، من ذلك أن الطريقة «العيساوية» تشتهر بإيقاع «المجرّد» الذي يتخلل القسم الأول من أعمالها، وهو إيقاع ذو خمس وحدات لا يوجد ما يقابله في الموسيقى الدنيوية التونسية، ويتم ضربه بالتصفيق الجماعي للمنشدين.
ومن أبرز الطبوع المستعملة في أناشيد الطرق الصوفية «رصد الذيل» و«الأصبعين» و«الحسين» و«الصيكاه» وكلها مستعملة في الموسيقى المتقنة (مالوف «الهزل») وتضاف إليها بعض الأصوات التي تستعمل في الموسيقى الشعبية ومنها «العرضاوي» القريب من حيث سلمه من الراست الشرقي مع اجتناب الوصول إلى الدرجة الثامنة (الديوان)، و«الصالحي» القريب من حيث سلمه من «البياتي» إلا أنه يقتصر على عقد خماسي (خمس أصوات) و«المحير سيكاه» (القريب من حيث سلمه إلى العشاق أو النهاوند) و«المحير عراق» (القريب من حيث سلمه إلى الراست على درجة النوى)، وكل هذه الطبوع كثيرة التداول في الموسيقى الشعبية الحضرية التونسية.
الآلات الموسيقية المستعملة في مرافقة الأناشيد الصوفيَّة:
الآلات الإيقاعية: ومنها «الدربوكة» وتسمى «طبلة» في بعض بلاد المشرق العربي، وتصنع من فخار غير مطلي ولها رقبة تضيق في مستوى نصف الآلة ويوضع بها جلد ماعز أو جمل، و«البندير»، ويعرف في بعض البلدان العربية بالدف أو الدائرة أو الغربال، إذ يشبه من حيث شكله الغربال، يغطى من جهة واحدة بجلد ماعز أو ضأن، و«الطار» وتطلق عليه في بعض البلدان العربية تسمية «رق» وهي آلة مستديرة الشكل، يصنع إطارها من خشب تجعل به صنوج من نحاس، ويأخذ أحجاما مخالفة، أكبرها متداول في مجموعات «العيساوية».
الآلات اللحنية: ومن أكثرها استعمالا في الطرق الصوفية: «الزرنة» وتسمى أيضا «زكرة» وهي آلة نفخ خشبية تتكون من قطعة واحدة مجوفة ذات شكل اسطواني ولها نهاية تشبه الجرس، وهي كثيرة الانتشار في أرياف تونس وبواديها، تستعمل لمرافقة الأغاني الشعبية إضافة إلى أناشيد الطريقتين «العيساوية» و«العوامرية»، وتستبدل «الزرنة» في بعض مناطق تونس (وخاصة بجهتي صفاقس ونابل) «بالكلارينات» وهي آلة نفخ أوروبية الأصل تستعمل في الفرق السنفونية وفي مجموعات موسيقى الجيش.
وتشمل الموسيقى الصوفية في تونس مدونة شعبية أو إثنية تظهر بالخصوص في موسيقى ما يسمى «بالسطمبالي» وهو لون تختص به طريق برزت في أوساط الزنوج مثل طريقة سيدي «السوداني» أو «سيدي سعد»، ومما تنفرد به ألحانهما المركبة على سلم خماسي الدرجات وإيقاعاتهما الخاصة ثلاثية التركيب، إضافة إلى الآلات المستعملة وهي من أصل إفريقي مثل «القمبري» وهي آلة وترية نبرية لها صندوق صوتي عليه أصداف وذراع طويلة.
يظهر من خلال هذا الاستعراض السريع أن الطرق المنتشرة في تونس تعد امتدادا لترسخ التصوف الذي مثل سلوكا اتبعته طائفة من المسلمين لقهر النفس ونبذ مظاهر الابتعاد عن تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، ومثلت الأذكار والأناشيد وسيلة لتحقيق ما يصبو إليه المتصوف من مشاهدة المحجوب والفوز بمقامات المكاشفة والوصول إلى الحقيقة المطلقة، وقد ساعد على انتشار المدائح الصوفية شغف أهل تونس بالموسيقى والإنشاد، خاصة أن المجتمع أبدى تسامحا إزاء هذه الممارسة الفنية التي توفر المتعة النفسية والروحية وعناصر الفرجة والاحتفال الجماعي.
وتتميز المدونة الموسيقية المتصلة بالطرق الصوفية بتنوع مضامينها وتعبيراتها الموسيقية التي تمثل وجها من وجوه اللهجة الموسيقية التونسية بأدق خصائصها وتعكس ثراءها، وقد ساهمت الطرق التي انتشرت في الزوايا في الحفاظ على تلك الخصوصيات وفي تنمية الرصيد الموسيقي التونسي، الذي رغم ما يبدو من أوجه اختلاف في مكوناته الدينية والدنيوية يبقى مشتملا على عناصر مشتركة تتجلى معالمها في ما يستعمل من طبوع وإيقاعات فيها الكثير من أوجه الشبه، ولعل الرصيد المتصل بالطرق الصوفية يعد بمثابة الخط الرابط بين الموسيقى الدنيوية بوجهيها المتقن (مالوف الهزل») والشعبي بلونيه الحضري والريفي، ولا شك أن ذلك ما جعل هذا الرصيد ينتشر انتشارا واسعا في تونس ويتواصل تداوله بين أتباع الطرق وحتّى من قبل غير المنتسبين إليها ويتواصل إنشاده في المناسبات الدينية وغيرها من الاحتفالات والمهرجانات الشعبية وتتناقله الأجيال جيلا بعد جيل…
*نقلًا عن فصليَّة “الثقافة الشعبيَّة”- البحرين.
_________________________
الهوامش والمراجع:
– ابن خلدون، عبد الرحمان: المقدمة ط. دار الكتاب اللبناني.
– بسيوني، إبراهيم: نشأة التصوف الإسلامي، القاهرة 1969.
– الرزقي، الصادق: الأغاني التونسية، الدار التونسية للنشر 1968.
– زغندة، فتحي: الطريقة السلامية في تونس، أشعارها وألحانها، بيت الحكمة قرطاج 1991.
– مدخل إلى دراسة الأغنية الشعبية في تونس، مجلة الحياة الثقافية وزارة الثقافة – تونس- عدد 31 سنة 1984
– المهدي، صالح: الموسيقى المدائحية: محاضرة مرقونة، إدارة الموسيقى، وزارة الشؤون الثقافية تونس.
– النيال، محمد البهلي: الحقيقة التاريخية للتصوف الإسلامي، نشر وتوزيع مكتبة النجاح، تونس.
الفرنسية:
Dozy : Supplémentaudictionnairearabe.MaisonneuveetLarose/ TomeIetII Leyden 1877