رؤية منهجيَّة لفقه التعارف وأثره في التواصل بين الشعوب وبناء الحضارات
فاطمة سالم
باحثة في مناهج بناء المعرفة /الخرطوم، السودان.
مدخل تقديمي
تتأسس أهمية البحث في (فقه التعارف) على كونه أحد أهم قضايا المُتجلى الوجودي الجمعي للحياة الإنسانية، ومُتَطلَّب عيشها الآمن في سلامٍ، يدفع عنها غوائل التعدي، والاستضعاف التي تحرض عليها نوازع الطغيان وغرائز الأطماع والإفساد، ما يجعل قسمة الاستقرار وكريم المعيشة، ضيزى بين شعوب العالم، ويرد مظالم، إنْ تعاظمت فتحتْ منافذ للنيل من كرامة الإنسان وأهدرتْ طاقاته الإيجابية المخلوقة لعمارة الأرض، على أعمدة التعارف والتآلف والتعاون، وهي التي يتشيّد عليها بناء الحضارة التي توثق مسيرة الإنسان وكسبه على أرض الاستخلاف.
تعتبر الفكرة المركزية للبحث، أنّ “فقه التعارف”، هو الجامعة المفاهيمية المرجعية لمقتضيات التواصل بين الشعوب، ودافعيتهم نحو الإعمارية الحضارية، بما يُظْهِر أنّ بناء الحضارات البشرية، عبر العصور، مهما تمايزت وتنوعت سياقاتها الاجتماعية والثقافية، إنمّا هي نتاج مساهمات متنوعة، من تواصلات وتداخلات الشعوب مع بعضها، بما يُبيّن لبحوث المعرفة التحقيقية، مدى حضور المشترك الإنساني، في مختلف الحضارات، التي بناها الإنسان، في تَشُّعُبَاته التكاثرية والجغرافية، ومنظوماته القَبَلية/ القبائلية، على امتداد الأرض.
يعتمد البحث في رؤيته هذه، على المنظور القرآني المرجعي في تفسير منشأ المشترك الإنساني، المتمثل في وَحدَة الأصل الخَلْقي: من نفس واحدة، من ذكرٍ وأنثى، من أصلٍ أبوي واحد، ثمّ الجَعْل الوجودي الذي تشكل في وحدات الاجتماع البشري: الشعوب، والقبائل، وتجلى في آياتِ اختلاف الألسنة والألوان، وما نشأ من ذلك من ثقافات وحضارات، من ثمّ ينظر البحث في إعادة التدُّبر في مفهومي: الشعوب والقبائل، استنادا على بناء منهجي، يقدمه البحث، خاصة اجتهاده، يعتمد على الأدوات المعرفية التفسيرية، التي بينّها النص القرآني نفسه، ومقايسة مدى الفرق الذي أحدثه التصور العنصري الوضعي لمفهومي: الشعوب والقبائل الذي رسَّبته أعراف وممارسات التجارب البشرية الطامعة، وكيف أفضى، ذاك التصور، إلى التفرقة، والتصارع، والتحارب الحضاري، في مقابل منظومة مفاهيم التدافع، والقيم التعارفية والتعاونية العملية البانية، التي قدمها القرآن الكريم وأكدها المثال النبوي، وكيف أنتج أنساقاً حضارية، امتد أثرها عبر الزمان والمكان، وذلك من خلال مقاربات حول المفاهيم الجذرية للوجود التنوُّعي، والاستدراك التفسيري على التصورين: الثقافي / التقليدي، والأكاديمي المدرسي، لظاهرة الاختلاف في الألسنة والألوان. وأثر ذلك على المدى التعارفي التواصلي بين الشعوب.
يهدف البحث بشكل رئيس إلى تجذير منظور تجديدي في بناء مناهج التفسير المتعلقة بالظاهرة الوجودية الاجتماعية وعلاقات الشعوب المبنية على الأصل الواحد والذي يشكل الدافع الأكبر لرعاية الصلات على قيم المساواة والتعاون.
كما يهدف البحث إلى استظهار المشترك الإنساني وأثره في بناء الحضارات من خلال تنزلات مفاهيم فقه التعارف في امتداداتها المعرفية وكسوبها الثقافية والعلمية وتداخلاتها الإسهامية في أبنية الحضارة عبر التاريخ.
ارتكزت محاور البحث على:
-بناء المنهج التفسيري- قواعده، وتطبيقاته، على النصوص المصدرية (لفقه التعارف) واستجلاء المفاهيم الجذرية.
-الوجود التنوُّعي: مقايسة بين الفقه التعارفي والتصور التقليدي.
-المدى التواصلي لفقه التعارف.
-الأرضية التفاهمية للتواصل بين الشعوب.
-بناء الحضارات – الأفق الاستشرافي لفقه التعارف.
الإشكالية الرئيسة لموضوع البحث: قلة المنتوج التفسيري والتحريري المتكامل، لفقه التعارف وعلاقته الوثيقة بالتواصل بين الشعوب، عبر المداخل المختلفة للتعارفات، وكيف نتجت عن ذلك إشكالية المبحث الحضاري، وأنّ بناء الحضارات ناتج حتمي، للتواصل التعارفي، في مكوناته: القيمية، والعلمية، والفكرية، والمعرفيات التطبيقية، في عمائر الحضارة.
يخلص البحث، إلى أنّ فقه التعارف، هو المنظور الذي يعيد تأسيس أرضية المشترك الإنساني، ويستجلي الأفق الذي يشتغل عليه الخطاب التواصلي الحضاري، بمعرفيته الدينية التي هي تفسيرية وجودية كافة للناس.
التعارف- منظور ادراكي
مثل ما أنّ كل القضايا القرآنية تتعلق بالحقائق الوجودية للإنسان، في حيزّه التعايّشي، بمكونيه: الاجتماعي البشري / الناس، والطبيعي الكوني / البيئة، والمسخرات جميعا في السموات والأرض، فإنّ مسألة التعارف بين الناس اتخذت موضعاً مركزياً في القول القرآني، لارتباط غاياتها بتحقيق تواصلهم وسلامهم الاجتماعي وازدهارهم الإعماري، حيث اشتملت الآية المرجعية للتعارف (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات:13] في سياقها الجذري، على منظومة تعريفية متكاملة حول وحدة المنشأ والمصير، واحتوت جامعة مفاهيمية مغايرة للتصورات النزاعية والشقاقية، التي حفلت بها تجارب النظر الوضعي، مما شهدت عليه وقائع وأحداث الممارسات البشرية عبر العصور، حتى انتهت الى الأُطروحات الصدامية والاقصائية التي غمرت واقع الناس بالدماء والدموع والاحتياج الوجداني الإنساني، وقد أسهمت التصورات الخاطئة حول رؤية الدين للإنسان والكون والحياة، في إطالة آماد هذا الحال، حيث أدى ظهور علل الخلافات المتناحرة ونشوء الجماعات المتنازعة والفرق المتخاصمة، الى أنْ ينتقل اختلاف الآراء من الأذهان إلى الأبدان، فتحاربوا بدل أنْ يتحاوروا، وانسحب كل ذلك على واقع التعايش الاجتماعي، والتآخي الحضاري، وهي ظاهرة عبر التاريخ، فاقم من آثارها تداخل عوامل طغيانية عديدة، تتفاوت نسب تأثيرها بتفاوت قوى البني الاجتماعية ومستويات الإسناد السلطوي والمذهبي، وكل ما مثلنا له يعكس ضعف الحالة التعارفية بين الناس، وغياب شركاء الأرض عن (فقه التعارف) بتنزلاته التواصلية الشاملة في حيواتهم وعلاقاتهم الشراكية المتشابكة. والملحظ أنّه وعلى كثرة وغزارة ما تم من تآليف وتصانيف وكتب في مختلف ضروب العلوم والآداب والشروحات والمحاولات الاجتهادية في مسائل (التفسير)، الإ أنّ فقه التعارف، على جوهرية موقعه المعرفي من قضايا الناس، لم يجد حظه، فيما بين يدي ما طالعناه، من التدبُّر في متنه، والاستنباط من موارده، لهداية الناس للتي هي أقوم، كما هو وصف كل الهدي القرآني، ولعلّ أيّة عوامل تُرصَد فيما يتعلق بمسارات واختيارات قضايا النظر في التاريخ العلمي للمسلمين، أو لسواهم من الباحثين الذين اهتموا بالدراسات الاسلامية، لن تكون إلا عوامل ثانوية، إنّما العامل التأسيسي بشأن غياب (فقه التعارف) وما شابهه من فقهيات مناهج المعرفة القرآنية، إنّما يرجع لظاهرة هجر القرآن / هجر التدبُّر المعرفي، لا هجر العناية والتلاوة، وذلك ما وثقه النص القرآني على لسان مبلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الظاهرة التعطيلية (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا )] الفرقان:30] فقد هجر أغلب الناس مصدر المعرفة التدبّرية التي تُنشيء الأفكار على حقائق الواقع والمآلات، ورشادة الاستقامة في المواقف والتصرفات، واكتفوا بحواشي الشروحات المُقيّدة بسقف شارحها وسياقاته الظرفية الثقافية، وحدود ملكاته في النظر، وهجروا المتون القرآنية المطلقة، المستجيبة لأحوال الإنسان في كل زمان ومكان، لأنّها تخاطب كينونته الإنسانية من حيث هو إنسان، كما تخاطب الناس في وحدات تشكلاتهم الاجتماعية بخطاب كافي مطلق، لذا فإنّ هذه الآية تحيل إلى تقويم اعوجاجات كبيرة في سلامة التصور المرجعي لدى غالب الناس الذين لم يحسنوا فقه اتباع رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث ظل الإشكال الرئيس في التعاطي المعرفي مع المنظور القرآني متعلق بمذاهب الشروحات، التي لا يستند أغلبها على أسس تفسيرية مستنبطة أدواتها ومناهجها من داخل النص القرآني نفسه الذي جاءت فيه مفردة التفسير مرة واحدة، في دلالة وظيفية بصيرة، يقول الله تعالى (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) ]الفرقان :33[، ما يعني أنّ الحق ومتعلقاته من الحقائق المعرفية الجذرية للمفاهيم والرؤى، يجب أنّ ترتبط باجتهادات تفسير القول القرآني / النص، وفق المرجعيات المفهومية للقرآن ذاته، لا مواضعات ممارسات وأعراف الثقافة الاجتماعية التي أشكلت على الشارحين وأضعفت إمكانهم في ضبط المرجعية اللسانية للتفسير، وانضاف تبعاً لذلك عامل الالتباس المنهجي فيما يتصل باعتبار بيئة التنزيل حاكمة على النص، فأنشأت إشكالاً مترتباً في القياس الدلالي، من ثمّ إشكال في صحة التَكْييف الفقهي، سواء ما تعلق منه بالتصورات، وهي المتعلقة بالمفاهيم، أو الاجراءات المتعلقة بالأحكام الحقوقية والقضائية، فرسالة الرسول عليه الصلاة والسلام كافة للناس (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ]سبأ:28[، أكثر الناس لا يعلمون أنّ كافية الرسالة للناس جميعهم، تقتضي ألا تكون بيئة التنزيل هي المرجع التوقييفي، لتفسير وفهم مُرادَات النص، ذلك أنّ بيئة التنزيل لا تعدو أنْ تكون إحدى مكونات المجتمع البشري المُتَقَصَدة بالهداية، فضلاً عن كونها إحدى الأمثال القياسية في خطاب الإصلاح القرآني، وهو ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث تنزّل بقيم المؤاخاة وأرسى نظم التعايش وساوى بين مكونات المجتمع، وأسس قواعد التعاهد الاجتماعي في وثيقة المدينة، أعظم مراجع إدارة التنوع، من ثمّ يصبح التساؤل المفضي إلى المسؤولية، هو كيف نتبع الرسول عليه الصلاة والسلام فيما بلغنا من مثال تطبيقي عملي لفقه التعارف في واقع حياة الناس؟ لنخرج من حرج المحدودية التأريخانية التي حبست وعي العالمين بالرسالة الكافية للإسلام؟ وفتحت أبواباً من أيديولوجية التفرقة بين الناس، على أسس تقسيمية وتمييزية، وحالة من العَنْصَرة، لم يسلم منها حتى الدين واللغة.
ليس من مخرج سوى بناء منهج تفسيري من داخل القول القرآني نفسه، من خلال أدواته المعرفية وتنزيلها في تكييف المفاهيم التعَارُفِيّة، في متن النص المرجعي.
فقه التّعَارُف – القواعد المنهجية للبناء التفسيري:
-الآية المرجعية (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ]الحجرات :13[.
-الاجتهاد الفقهي الذي تقدمه هذه الرؤية البحثية يتأسس على نسق: تَدَبُّري، تَعَقُّلي، استنباطي.
القواعد المنهجية:
القاعدة الأولى: التحقيق الدلالي والحُجيّة العقلية:
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف:2[
تشكل هذه القاعدة المفتاح المعرفي لفهم الخطاب القرآني، فالإنزّال العربي، يتصل بعربية الإفصاح والوضوح (الإعراب: الإٍبانة والإفصاح عن الشيء)[1] وهي تمييز لساني وإفصاح المعنى عن مدلوله دون تعددية لغوية، أي أنّ المعنى في القرآن يتسق ويتحد في جذره الدلالي، ولا يحتمل التغاير، كما يوجد في معاجم اللغة التقليدية، حيث يحمل اللفظ الواحد العديد من الدلالات، يجمعها واضع المعجم بحسب طبيعة الاستخدام اللغوي والممارسة الثقافية والاجتماعية للفظ، بما يجعل الإحالة اليه في الاستدلال مربكة وغير مبينة، إلا بمنهج تحقيقي للدلالة بحيث يتسق المعنى المختار مع المفهوم اللساني القرآني، وهذا ما سيتضح من خلال المثال التطبيقي في بناء المفهوم من خلال الآية المرجعية لفقه التعارف. ومن المهم هنا الإشارة الى أنّ للقرآن نظريته اللسانية الخاصة، التي لا يتسع المجال لتفصيلها هنا، إلا في حدود المثال التطبيقي. إنّ أكثر إشكالات الضبط الفقهي، أو تكْييف الأحكام المتصلة به، والتي أنتجت تصورات خاطئة ومغايرة للمراد الشرعي، دخلت من باب الاختيار اللغوي الخاطئ من المراجع اللغوية، دون دراية تدبُّرية في مفاهيم النص القرآني، ثمّ الرجوع لاختيار الدلالة المتسقة، التي معها يتحقق عَقْل النص. ومفهوم العقل من أشهر أمثلة الإسقاط اللغوي الخاطئ على النص، بل نشأت جراء ذلك إشكالية فقه معرفية، لا زالت تُلقي بغبش الرؤية إلى اليوم، على مستوى الدرس الشرعي، والثقافة التصوّرية لدى عامة المسلمين، ونشأ سجال مدرسي تاريخي متطاول حول ما سمي (بالعقل والنقل)، وللمفارقة، تبع الحداثيون المقلدون ذلك، كأنّ متناظريه لم ينظروا القرآن الذي لا يجعل العقل موازياً اختيارياً لأي فعل، بل مطلوباً أصيلاً لإدراك مراد النص، ولذلك ظل التعقُّل مضارعاً متصرفاً في آيات القرآن (يعقلون، تعقلون،..)، ولم يُستخدم كمصدر (عَقَلَ يَعْقِل عَقْلاً)، كما أنّ العقل أصلاً ليس آلة أو مكوناً تشريحياً في جسد الإنسان كالعين أو الأذن، بل هو حالة إدراكية (عَـقِلَ عَقْلاً: أدرك الأشياء على حقيقتها)[2]، ومحلها القلب (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ]الحج:46[.
*إذاً سيتم تطبيق هذه القاعدة على المثال المرجعي لننظر ناتج المفهوم في فقه التعارف.
القاعدة الثانية: الإبانة ونفي عَنْصرَة اللسان:
-(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)] النحل :103[.
-هذه القاعدة التي تبين أهم الخصائص القرآنية: الإبانة الى جانب عروبة الإفصاح، تحتوي موارد معرفية ذات صلة موضوعية بالمثال التفسيري الذي نشتغل عليه في إعادة التدبُّر في آية فقه التعارف، فهي تعطي معنى لسانياً، ومؤشراً مفهومياً، مغايراً للسائد اللغوي؛ من أنّ الأعجمية هي مدلول عنصري وقد ترتبت عليه في بعض المجتمعات التنوُّعية، إشكالات ثقافية / اجتماعية، كما سيجد القارئ هذه الدلالة متصدرة في المعاجم والمراجع اللغوية (العجم: خلاف العرب) أو (العرب: خلاف العجم)، بينما المعنى المختار المتسق مع اللسان المبين في الآية وفي ذات المرجع (الأعجم: من لا يفصح، كالأعجمي والأخرس)، وهناك حشد من المدلولات المتغايرة لذات اللفظ، لذا يجدر في هذا السياق، الذكر أنّ كبار أئمة اللغة العربية ومراجعها، كانوا من غير العرب الجغرافيين، أي الذين تمتد جذورهم في الجغرافيا العربية وينتمون لألوانها، وهذا استدلال مهم، ليس فقط على سبيل البعد الثقافي الحضاري الذي أضافه اللسان القرآني العربي، وإنّما لإشارة استدعائية كذلك متعلقة بوحدة الأصل، التي جعلت اختلاف الألسنة والألوان آية محفزة على اكتشاف الروابط اللسانية / اللغوية، كما أنّ هناك مقاربات لغوية كثيرة جرت بين المفردات المتشابهة بين مختلف اللغات، ما يشير إلى علاقات حضارية في تاريخ الأصل الإنساني، ولكن ظاهرة اختلاف الألسن لم تجد حظها الوافي من التجديد البحثي والتحقيقي، وآثارها على التفاهمات الثقافية. هناك إشكالية أخرى ذات صلة تمثل مهدداً لغوياً ودلالياً سادت أوساط التداول الكتابي والثقافي وهو وضع معاني ودلالات مغايرة للأصل اللساني، مثل ذلك في هذه الآية الفعل (يلحدون)، الذي يعني دالة في الجدل (ألْحَدَ: مال وماري، وجادل، لَاحَدَ فلاناً: أعوج كلٌ منهما على صاحبه)[3] وهو معنى متسق مع مدلول الآية، لكن نجده في المتداول يعني الكفر بالله أو عدم الإيمان بوجوده، فلو تم إسقاط لغوي بهذا المعنى على الآية فستنتج دلالة مخالفة تماماً لمراد النص، من هنا تأتي خطورة التهوين في أمر العناية بصحة اللسان، والاستخدام اللغوي، لما يترتب على ذلك من تحريف مفاهيمي في مسائل التفسير ومن ثم تأثير على سلامة أنساق التفكير.
القاعدة الثالثة: السياق الاستنباطي
-لإكمال البنية التفسيرية للآية يستوجب فهم مكونات السياق، الذي تنزلت الآية ضمن معانيه: من ذلك مفتاح خاتمة الآية ذاتها، إنْ كان متعلقاً بمآلات، أو بدلالات وصفية، ومنه منظومة الآيات التي تتصل بقضاياه، إذ إنّ الاستنباط والإدراك الفقهي يستوجب نسقاً توحيدياً يتمم حُجيّة الرؤية، ويدفع للتبشير بمعانيها.
التحقيق الدلالي في المفاهيم التعارفية
-لتأكيد وحدة المنشأ والمشترك جاء مفتتح خطاب الآية بالنداء الكافي (يا أيُّها الناس) ما يعني أنّ الخطاب يتناول قضية وجودية جامعة لمطلق الناس.
-الخَلْق: أصل الرابطة الايجادية بين الله الخالق والناس (يا أيُّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وانثى) وهو الأصل الأبوي الموحد لأصل التكوين، وتلك سنة مضت منذ بدء الخليقة وأصبحت حقيقة وجودية، قاطعة الدليل التجريبي حتى لغير المؤمن بالخالق، لذا كان الخطاب كافياً للناس، كما أنّ الأصل الخلقي الثابت من نفس واحدة (ياأيُّها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ) ]النساء :[1، هو أول دليل لا تمييزي بين الناس.
-الجَعْل: جعل الشيء وضعه[4]
-السعة المفهومية لمعنى الجَعْل في القرآن هو التكييف الوظيفي لأجل غاية، ليس عليها مترتبات انحراف عن أصل الخلقة، ولا تشابه الخصائص التكوينية للإنسان من حيث هو إنسان / أو الناس من حيث هم ناس، ومن ذلك التخصيص الجَعْلي الوظيفي: (جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) ]البقرة: 143[، (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا) ] الزخرف: 3[
-وعلى ذلك يكون الجَعْل الوجودي للناس، من بعد الخلق، تكييفاً وظيفياً في وحدات تَشَكُّلِهم الاجتماعي (شعوباً وقبائل)، فما هي الدلائل المعززة للمشترك في هذين المفهومين: شعوباً وقبائل، وفقاً لقواعدالتفسير المنهجي، ولم قدم جَعْل الشعوب على القبائل؟
(وجعلناكم شعوبا وقبائل) – الحزم الدلالية:
-الشعب: كالمنع :الجمع والتفريق [5]
-تشعّب: تفرّق.. صار ذا شعب. افتراق مع اتصال بالأصل الواحد
-قِبلة: جهة، مقصد[6]
(اجعلوا بيوتكم قبلة) يونس:87
-التشعُّب في كل شيء يبدأ من نقطة أصل واحدة، لذا قدم جَعْل الشعوب على القبائل، مع المعية دون تراخ، شعوباً وقبائلَ وليس شعوباً ثم قبائل، في تأكيد لوحدة المنشأ واستمراريتها في الاتصال في كل الأطوار.
-ذلك أنّ التشعّيب من نقطة الأصل الواحدة يبدأ بالطور التكاثري في مساحة من الأرض، فإذا تضاعف تكاثراً، انتقل إلى الطور القَبلي متمدداً في القِبَل الأرضية، متوسعاً في المساحات، إذاً المجاميع القبلية مُحدِدْ اتجاهي لهذا التشعيب، وتمثل التكاثرية الجغرافية، وفق هذه التراتبية، التي جعلت الناس وهم مجموع الحاصلة التكاثرية (الشعوب) في اتجاهات وقِبَل الأرض الجغرافية (القبائل)، بمعنى آخر الناس هم الاسم الجمعي لسكان العالم، والشعوب والقبائل هم وحدات الاجتماع البشري الكبرى، يمكننا الاستدلال على أنّ الغاية التعارفية (لتعارفوا) اتخذت منذ البداية اتجاهاً تواصلياً كُليّاً عالميا / في عالم الناس، فما هي دلائل ذلك؟ على المستويات الثقافية والحضارية؟ وهل يؤثر المفهوم القرآني للقبائل، ذو السعة الجغرافية، بمحمولاتها الثقافية التنوُّعية المتناسبة مع هذه السعة، على المفهوم التقليدي المحدود للقبيلة / القبائل؟ ربما علينا مقاربة ذلك بعدالتحقيق الدلالي والمفهومي لفقه التعارف.
فقه التعارف – المدى التواصلي
-من أهم مداخل بسط الامتداد التعارفي، استعادة مفهوم الفقه إلى الحقل المعرفي كما في دالته القرآنية، المؤشرة عليه كحالة إدراك علمي منتجة، (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) [الأنعام:65 [حيث شمول المدار التفقهي، فالآية قد تكون كونية فقهية تطبيقية، وقد تكون في الحقائق الإنسانية المتعلقة بالكينونة النفسية (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [فصلت :53]
حيث الفقه الإدراك الدقيق (العلم بالشيء، الفهم له، الفطنة)[7]
-يسع الحقل الدلالي للفعل التعارفي (لتعارفوا) كل أنماط حركة المعرفة، فالجذر التأسيسي: عَرَفَ يتضمن الحصول التأكيدي للاكتشاف بدلائله وعلاماته، ففعل المعرفة يرتبط بالإدراك الحواسي (فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) ]يوسف:58[ والملموس التجريبي (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا) ]النمل:93 [، كما هو فعل تحققي (تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) ]المائدة:83، [ والتتبع في توثيق الآيات القرآنية للفعل عرف / المعرفة، في القرآن نجده يرتبط بدقائق الأحوال والمواقف البشرية في مدار حراكهم الحياتي، وقد قرنته الحزم الدلالية في المفاهيم بمعاني العلم والإعلام (عرف: يعرفه معرفة وعرفانا: علمه)[8].
-التعريف: الاعلام[9]
-تعارفوا: عرفوا بعضهم بعضا
-ولذلك جاء في الآية المرجعية على أوسع الصيغ التفاعلية (تعارفوا) وزادته لام التعليل (لتعارفوا) هذا التدليل التأكيدي، والصيغة المضارعية الاستمرارية، لأنّه فعل الحاجة المتجددة للناس، تركيزاً على الإستعادة المستمرة لربط المعرفة بوحدة الأصل والمصير.
-كما أنّه الفعل (التعارفي) الذي جاء شاملاً لحيوية حركة الناس داخل مجاميعهم الكُلّية (الشعوب والقبائل)، الموّارة بكل أنواع التدافع، والتنازع، والتطامع، وكذلك أنشطة التسخير والتطوير والتطلع، ولذلك يمتد مداه التواصلي إلى التعارفيات الثقافية للشعوب والقبائل وكسوبهم الحضارية، وفي سياق هذا الحراك الناسيّ الكوني، لابُد من تمركز القيمة الآدمية الجامعة (الكرامة / التكريم الإلهي) الذي حمله به في كل وسائل حراكه؛ براً وبحراً، التي تقلّه في تشعيباته المستمرة، إلى قبائل في اتجاهات الأرض (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) ]الإسراء :70[.
-ارتباط التكريم بتسخير وسائل الحراك الإعماري والرزق المعيشي، الطيبات، الذي هو من لوازم حفظ حقوق الكرامة الآدمية /الإنسانية، ولأنّ حفظ الحقوق يسلتزمه نظام تقوى / وقاية، تحميه من شرور التعدي، فقد جعل المفهوم التعارفي مرتبطاً بدرجة تفضيلية في التكريم لمن كان اتقى، في تدابير حماية هذا الامتداد التعارفي (لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله اتقاكم إنَّ الله عليم خبير)، ولكن ما هو مفهوم هذه التقوى المتنزل في هذا المحيط التعارفي التواصلي؟
-التقوى هل هي حالة ذاتية فردية غير متعدية؟ أم أنّ التقوى / تقوى الله، متنزلة على كافة تعاليمه. المُمْتَحنة في عالم الناس؟ الأكيد أنها متنزلة، لذلك محلها ومصدر اشتغالها هو القلب، ومحلها القلب ليس لأنَّها سرّ بين الله وعبده، وإنّما لأنّ القلب محل الوظائف الفكرية والإدراكية العقلية (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ]الحج:46[ والفقهية(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) ]الأعراف: 179[ والتدبّرية (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) ]محمد:24 [حيث أنّه دون إعمال وظائف الفكر العقلية والفقهية والتدبُّرية لا يتحقق أمن الناس التعايُّشي ذلك لأنّ (أمن الناس، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى الحضور العملي لوظائف الفكر في واقع حياتهم: تعقُّلاً وتدبُّراً وتفقُّهاً، بما يتيح مادة الإصلاح الاجتماعي في قضاياها وموضوعاتها: التربوية، الثقافية، الإعلامية، الاقتصادية، والسياسية، الخ..، فالتعقُّل يمنح الناس القدرة على تبين الأمور المشكلة وتحديدها وضبطها (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف:2]، العربي هنا يعني المبيّن، وهي صفة علمية للسان، وليست عنصرية للبيئة، هذا استدراك مهم في فهم فوقية القرآن على الزمان والمكان، فيما التفقه، يحيل إلى الإدراك العميق لتلك الأمور وفهم دقائقها، أمّا التدبُّر، فَيُمكِّن من تحصيل المعرفة بحقائق المشكلات، بالقدر الذي ييسر الاحتياط لها ابتداء، والوقاية من معضلاتها، من ثمّ فإنّ اعمال التدبُّر يوفر إمكان النظر المستقبلي، وهذا عين مقصود فكرة الأمن، الأمن إذاً حالة احتياط فكري متكاملة، تتداخل فيها عوامل التفاعل النفسي، الإنتاج الذهني، والاستنباط الفقهي (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)[10] [النساء 83].
إذاً التقوى هي كل هذا الأداء الفعّال في حياة الناس الاجتماعية، من ثم فاِنّ الوقاية من شرور التعدي داخل السياق التعايشي الاجتماعي متعلق بها، ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة:2 ]ٍ، والوفاء بالعهد وحقوق التعاهد لا يكون إلا من الفاعلين بالتقوى / المتقين (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [آل عمران:76]، (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [التوبة: 4]، وكل منظومة الإصلاح الاجتماعي متعلقة بالتنزيل المفهومي والاجرائي للتقوى /الوقاية، من الوفاء بالعهود، إلى إصلاح ذات البين (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) [الانفال:1]، الى كل متعلقات الأحوال الشخصية الشائكة (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ) [الطلاق: 1]، (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [البقرة: 241]، ولكل هذه العظمة التنزيلية الواقية للتقوى، في مسارات حياة الناس كافة، بامتداداتهم التكاثرية والجغرافية التي تشعبت / شعوباً، في قِبَل الأرض / قبائلا، كان أكرم الناس عند الله هو من حقق قيمة (التعارف)، الغاية الوجودية الواقية المحققة لوعي المساواة بين الناس، لوحدة أصلهم في اختلاف ألسنتهم وألوانهم وتنوعهم الانتشاري، وهذا التفضيل التكريمي، لأنّ الكرامة الآدمية هي مُتَوصَل الوعي الفطري والنداء الحقوقي الذي انتظم عالم الناس، بعد إفساد وتنكُّب واستضعاف الإنسان لأخيه الإنسان، واضهاده وسلب حقوقه في الكرامة والعدل والمساواة، أبرز سمات العصر الحديث، الذي طفق يبحث من جديد عن معادلات حوارية مع (الأنا) و(الآخر)، وتقليب أسفار الكسب الحضاري من جديد لعلّه يجد ما يقي مستقبله القادم من دمارات تآكل الذات وحروبات الإفناء العبثية، فالتكريم التفضيلي هنا لإعلاء الحماية الوجودية لكافة الناس، ما يعني أنّ هذه المعاني المعرفية تؤشر على مسارات حوارية جديدة ومختلفة في خطابات التواصل الإنساني، سواء على المستوى الإيماني (الديني)، أو على مستوى بذلها فكرياً، ليتبين الباحثون عن الحقيقة جدواها في نفع الناس، مطلق الناس، فهي تقول للناس قولاً سديداً في كل منظوراتهم الفلسفية والأيديولجية وتصانيفهم ومقترحاتهم التقسيمية التي خدمت بلاط سلطة التفرقة الاجتماعي، طبقياً ودرجياً، منذ فلاسفة أثينا اليونايين الى مُجترحات الحداثة وما بعد الحداثة، حتى محاولة إنهاء تاريخ التطور الاجتماعي عند فرانسس فوكوياما، أو تعريض التنوع الحضاري لصدامية متعددة الأوجه كما تخيل صمويل هنتغتون. إنّ فقه التعارف يشكل مرجعاً تفسيرياً لكل ما يكتنف واقع حياةالناس، وما انطوت عليه آثار تجاربهم الماضية، والحاضرة، وعللهم الفكرية والحضارية، وأزماتهم الصراعية التي بلغت في حدها العصري الحديث مداها التدخلي: ثقافياً واجتماعياً واقتصاديًا واحترابياً، ما أدى إلى الإخلال يسلامة التعايش بين شعوب الأرض وقبائلها، فبغياب فقه التعارف بمضامينه وأدواته الحوارية والتفاهمية، تفاقمت آثار الاختلافات الثقافية لأنّها انطوت على أبعاد تعصبية، يقول إيغليز وهيوسون في كتابهما :(نشبت صراعات دموية بسبب هذه الاختلافات الثقافية، وعلى سبيل المثال لا الحصر: البروتوستانت والكاثوليك في ايرلندا الجنوبية، والتأميل السنهال في سريلانكا، واليهود والفلسطينيين في إسرائيل، على الرغم من وجود أسباب اقتصادية وسياسية معقدة لهذه النزاعات، إلا أنّها في صميمها نزاعات حول الأفكار والقيم والمعتقدات)[11].
إذاً ما يحكم راهن اللحظة الانسانية، هذه العلل الفكرية والصراعية، لذا نجد أنّ الآية المرجعية لفقه التعارف، ومثلما ذكرنا سابقا، في إطار قاعدة التطبيق المنهجي الثالثة (السياق الاستنباطي)، نجد سياق الاحاطة القرآني قدم في الآية السابقة لها، أمثلة من كبريات العلل المؤدية الى المواجهات والفتن الاجتماعية العاصفة (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 6].
-وقد تحيلنا هذه الى شواهد عصرية حديثة بسبب أزمات القيم الإخبارية الإعلامية، وغياب نواظم حماية أخلاقية وقانونية لما تبثه وسائط التواصل الاجتماعي من أنباء غير محققة تصيب من سيرة أفراد المجتمع وجماعاتهم وهيئاتهم إصابات بالغة، قد تضاعف من شقة الخلافات وتفقد الأمن الاجتماعي مقومات حضوره، بل إنّ مقدمات الفقه التعارفي في هذا السياق تمنع حتى مجرد السخرية التي تنال من احترام الاختلافات مهما كان تنوعها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 11 ]، ونحن نشهد في أنماط العرض الإعلامي الحديث وبعض الفنون، تسخر، في أعمال يشاهدها العالم، من شعوب بكاملها، من ثقافاتها وطرائق عيشها، ومن المؤكد أنّ هذا النوع من الخطابات الإعلامية أو الفنون الساخرة، يوثر كثيراً على الروابط الإنسانية والتواصلية الثقافية، ويزيد من حدة العصبيات، لذا تلت آية التعارف هذا السياق الذي تناول ظواهر الوحدات الاجتماعية الأصغر عدداً، بخطاب جذري كافي للناس (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13]، وختم مكون السياق الاستنباطي بمفتاح الآية (إنّ الله عليم خبير)، لتأكيد أنّ الله هدى الناس إلى أمر التعارف لكونه عليماً بأحوالهم البشرية، وخوافي وظواهر عللهم النفسية والاجتماعية، وخبيراً بهم خَلْقَاً وجَعْلاً، ظلّ يمنحهم من عبرات بآثار تجارب السابقين منهم، وذات الصفات: العلم والخبرة، يحيلها للناس في خطاب الهدى مادة لتنزيلات السلوك التعارفي، فكلما تبادلت الشعوب والقبائل خبراتها، واتخذت من العلم سُبلاً وطرائق للتعارف وبناء القوى الوجودية المتعاونة، أمِنَتْ الاصطدام والتنازع والفشل وذهاب الريح.
-لذا يمهد السياق بالإشارة لمؤديات وإصلاحات هذه العلل، حتى وإنْ وصلت حد المقاتلة (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الحجرات :9]، ففي خطاب القاعدة الإيمانية وإنْ وصل الخلاف إلى الاقتتال، لا يُلجأ للتكفير المهلك، ذلك أنّ حالة الإيمان لم تنتف، لكن انحراف ردة فعل الخلاف وتطوره، تُصْلَح، فالعدل والقسط يعيدان الاستقرار الاجتماعي إلى مواضعه.
الوجود التنوُّعي: مقايسة بين الفقه التعارفي والتصور التقليدي
إنّ فقه التعارف وفق الرؤية القرآنية، يقدم نسقاً معرفياً للوجود التنوُّعي للناس على نحو مفاهيمي محقق لتطلعات الكوامن الإنسانية نحو الشعور بكرامة المساواة، التي تجنّت عليها تجارب العدوانية ونوازع السيطرة، في التجارب البشرية منذ بواكير تلمساتها في مختبرها الأرضي، حيث سولت للأخ قتل أخيه (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ]المائدة:27 [وتراكمت من ثمّ ثقافة التظالم عبر العصور المجتمعية، وأنتجت تصورات تفاوتية وتمييزية بين الناس، لم تسلم منها ثقافة اجتماعية، عبر الحقب، إلا على مستوى نسب الممارسة. وقد لاحظ الكاتب Antony D.Smith ذلك في محاولة رصدية (يمكننا أنْ نفصل السمات المتكررة في النماذج التاريخية للمجتمعات والهويات المصنفة (كأمم) و(هويات قومية)، بوصفها مغايرة للمجتمعات والهويات الأخرى، ورغم ذلك فإن بين طرفي النقيض المتمثلين في الخصوصية والعمومية، من الممكن أيضاً اكتشاف أنماط متكررة بوضوح شديد في أنواع معينة من الثقافات العامة للأمم، لقد وجدت أنّ تلك الأنماط متأثرة تأثراً قوياً بالتقاليد الراسخة التي تعود إلى العالم القديم، وإنّها، في بعض أشكالها المتغيرة، استمرت في جعل تأثيرها ملموساً، حتى في ظل عالم غاية المدنية قائم على الاعتماد المتبادل)[12].
إزاء هذا المتواتر في السلوك الذهني الغريزي المجتمعي، تتضاعف الحاجة لاستجلاء المنظومة المعرفية المتكاملة لفقه التعارف لأجل تأسيس بنيات جديدة من أنساق التفكير، متحررة من أسر النظم التقاليدية، التي تختزن ثقافة استعلائية جهولة في مسألة التنوع البشري، ذلك أنّ الثقافة تتدخل أغلب الأحيان للتحكم في اتجاهات النظر. يقول دكتور المهدي المنجرة في حديثة عن عنصر التنوع (لا يوجد اثنان ينظران لنفس الشيء بنفس الطريقة، إنّ طريقة النظر ليست عملية موضوعية فقط، بل تتدخل فيها الثقافة بالضرورة)[13].
إنّ فقه التعارف يتبنى مساراً تحريرياً للتصور التقليدي للتنوع، لا سيما في التصورات الإشكالية الرئيسة، التي شكّلت الثقافات المجتمعية، وتبعتها على نحو ٍما بعض الأطروحات المدرسية، وسنقارب هذه الإشكالات ما بين منظور فقه التعارف والتصور التقليدي بشقيه: الثقافي والأكاديمي.
اختلاف الألسنة والألوان
حين يشير الخطاب القرآني الى الآيات / العلامات المعرفية، يلفت مباشرة الى تفسير مغاير للرؤية البشرية المجتمعية المتواترة، فبينما تصنف الثقافة المجتمعية اختلاف ألوان الناس تصنيفاً تمييزياً تفريقياً عنصرياً عرقياً، يقدم خطاب القرآن مفهوم (اللون) مقابل (العنصر والعرق)، لأنّ اللون حالة وصفية، بينما العنصر / العرق تصنيف ادعائي لا أصل علمي له. (اللون: النوع)[14] فإذاً هي تدخل في الإطار التنوُّعي للوجود، تنوُّع احيائي جمالي، وعندما يصف الله اختلاف الألوان والألسن بالآية فلأنّها اختلاف عن أصل واحد، فالناس مخلوقة من نفس واحدة، ومن أصل أبوي واحد، وبذات الكيفية (من ذكر وأنثى) ومع ذلك يخرجون مختلفين في ألستهم وألوانهم. أمّا العنصر فهو مجرد وصف لا موضوعي، وإنّما تكييف بالانحراف اللغوي، والثقافي (العنصر: الأصل والحسب)1 فهو لا يعبر سوى عن علاقة اجتماعية نَسَبية في اطار الجَعْل، وليس الخَلْق، أو كما ذكرنا في البناء التفسيري الجَعْل هو تكييف وظيفي (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا) ]الفرقان :[54، وهذه العلاقة النَسَبية إنْ لم تجرِ في الاتجاه التعارفي لا التفاخري، فلا قيمة لها في الحال ولا المآل (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) ]المؤمنون: 101[. أمّا الإشكال المدرسي الأكاديمي فقد وقع في ذات الخطاب، حيث تبنى اتجاهاً تصنيفياً خاطئاً في مسألة التنوع الخَلْقي فاستخدم مصطلح (العرق)، وهو مصطلح غير لا علميته، خلّف إشكالاً ثقافياً اجتماعياً تاريخياً، مع كون العرق من ناحية لغوية ليس سوى واحد من أسماء مجاري الدم، أمّا في العلوم فهي الشرايين والأوردة. من المهم أنْ ينتظم اتجاه علمي/اجتماعي، لإعادة النظر في مسائل التصنيف التنوُّعي، والتخلص من التركة المثقلة لآثار المصطلحات اللغوية والأكاديمية الخاطئة، لارتباطها بتشكيل الرؤية الثقافية والموقف الاجتماعي، وهذا المقترح نقدمه كأحد المنظورات المعرفية لفقه التعارف.
المفهوم القبلي / القبائلي
كنا أثرنا سؤالاً في فاصلة سابقة في مبحث البناء التفسيري لفقه التعارف، وهو هل يؤثر المفهوم القرآني للقبيلة / القبائل، بسعته الجغرافية، ومحمولاتها الثقافية التنوُّعية المتناسبة مع هذه السعة، على المفهوم التقليدي المحدود للقبيلة / القبائل؟
بإمكاننا هنا، ونحن بإزاء مقايسات فقه التعارف/ والمفهوم القرآني، مع التصورات التقليدية، أنْ نقول: أنّ المفهوم القرآني بإحالته لمفهوم القبيلة بالسعة الجغرافية، ومترتباتها الثقافية، قد قدّم تحريراً عميقاً للناس من أسر وآثار التبعات التعصُّبية والصراعية، بين المجاميع القبلية التقليدية، فالقبيلة في المفهوم القرآني ليست مفهوماً نَسَبيّاً بمعنى الجامِعة التي ينتهي نسبها لجد واحد، وإنّما تنسب القبيلة في وسعها الجغرافي، لأصل الخلق الواحد، الذي يشكل منظومته القيمية الخاصة، الإنسانية، والانتمائية. في القبلية القرآنية يكون الفرد حراً، اختياري الانتماء، متى ما ارتأ الانتقال، من منظوره التعارفي، من ثمّ فلا عصبية أو انتساب جبري، يدفعه للمشاركة في الصراعات والاقتتالات والتفاخرات العرفية، التي تعيق التعارف والتصاهر، والتاريخ الاجتماعي حافل بإشكالات التعصب القبلي، حتى العصر الحديث تضاعفت فيه المشكلات القبلية، وأصبحت وقوداً لنيران الحروب، ليس معنى ذلك أنّ الوفاء والبّر والانتماء للقبيلة التقليدية مذموم، بل هناك الكثير من المعارف والخصال الحميدة متوافرة في قيمها البيئية، لكن المحتوى التعارفي بالمعنى القرآني والتآلفي، هو الذي لا يجعل الاختلافات اللونية أو اللسانية مدعاة للتباعد التصاهري، ولا تباينات القوى حافزة للاستضعاف، ولم يجعل قسمة الموارد الزراعية والرعوية سبباً في الصراعات والنزاعات، بل أنّ القيمة الإسلامية التي رفع قواعدها الرسول عليه الصلاة والسلام تدعو الى الشراكة في الموارد (الناس شركاء في ثلاث: الماء والنار والكلأ)[15] لو تحققت لدرأت الآثار التي تنشأ عن صراع الموارد، ولتخففت الكثير من حمولات المواجهة.
فهذا مقصود فقه التعارف فيما يتعلق بالمفهوم القِــبـَلي/القَبَلي، التوسيع الدائم نحو جغرافيا تنتج لك سعة العيش، واتساعاً في العلاقات الانسانية المتعارفة المتآلفة أمّا التساؤلات في ذات الفاصلة عن الدلائل الثقافية والحضارية، للغاية التواصلية العالمية بين الناس، حسب المفهوم القرآني للمحتوى الاجتماعي للقبائلية القرآنية، فإنّها أكثر من أنْ تحصى، إذْ أنّ كل الحضارات الإنسانية، منذ نشأتها ساهمت فيها جماعات من الشعوب، التي تشعبت الى قبائل الأرض، حتى لو تسمّت حضارة باسم المجموعة السكانية الغالبة أو باسم الموقع الجغرافي، فإنّها في الحقيقة حاصلة مساهمات الأفراد والمجموعات التي وفدت من شعوب الأرض المتعددة. وذلك لأنَّ المفهوم الحضاري الذي يتيحه فقه التعارف يقوم على منظومة تدافعية من قيم التعاون والإبداع العمرآني، والشواهد على ذلك ذاخرة في الحضارات الإسلامية الزاهرة وغيرها من الحضارات.
فقه التعارف – الأرضية التفاهمية للتواصل بين الشعوب
إنّ التعارف بالضرورة هو عملية تواصلية، من حيث مستوى الغايات والوسائل والأنظمة، غير أنّ الشعوب المعاصرة تعيش أوضاعاً اجتماعية وثقافية أكثر تعقيداً، وتشابكاً وتداخلاً، ورغم انفتاحات الفضاء الاتصالي وتطور وسائطه وتنوعها، واتاحة مختلف المنافذ للمعروض الثقافي، إلا أنّ المحتوى التعارفي وغاياته يكاد يكون غائباً عن المشهد، على الأقل من منظور فقه التعارف، الذي يرى أنّ التعارف له آثاره الفعالة في واقع الناس، لكن غلبة الحروب والنزاعات واتساع مَد المجتمعات غير المستقرة، والنمط الإعلامي، الإثاري، الخالي من رسالة الاتصال الاجتماعي، كلها عمقّت من آثار الصور النمطية السالبة عن الشعوب في مرآة بعضها البعض، إلى جانب مؤثرات دعايات الإعلام السياسي. فنشأت العديد من الإشكالات التفاهمية ذات الطابع الثقافي أو الديني، ذلك مع ضعف مساحات الأنشطة الحوارية المجتمعية، من ثمّ فإنّ فقه التعارف يحيط إحاطة واعية بطبيعة الواقع الاجتماعي للشعوب، مع الإدراك، لتطلعاتها في التواصل، كتطلعها للسلام الذي بات أمنية كل الشعوب التي تاهت في صراعات الحضارة المادية، الفوقية، التي لم تعطِ للثقافة متنفساً بحجم الاحتياج، (الثقافة الحضارية ينبغي أن تعطي لفكرة السلام شخصيتها الحقيقية)[16].ولقد انتبه المفكر الياباني توشيهيكو الذي أعد دراسات معمقة في القرآن (إنّ الفكر القرآني معنيٌّ بمشكلة خلاص البشر ولولاها لما أُنزِل القرآن، كما يؤكد ذلك القرآن بوضوح ويكرره)[17]. فكرة تشيهيكو هي إمتداد لما ذكرناه عن تطلعات الشعوب للسلام بمعناه العميق، وبالطبع فإنّ مسألة الخلاص المستنبطة عن الرؤية القرآنية هي مُنتْفع دنيوي باعتبار ثمارها الأخلاقية وعوائدها على تعايش البشر /الشعوب، في سلام. مثل هذه الرؤى تمثل بعض مطلوبات بناء الأرضية التفاهمية التي تُمكِّن الشعوب عبر تشكلاتها الجماهيرية أو النخبوية، من سد فجوات المعرفة الاتصالية وتحويلها الى عائد تواصلي فعّال بين الشعوب (هناك تقرير يرى أنّ للمعرفة الإنسانية تاريخاً مشتركاً يمتد عشر آلاف سنة، كلها ستضاعف نفسها خلال الثلاثين سنة المقبلة، لنتصور ونتخيل ما معنى هذا التغيير الذي لا يحتسب بالكم فقط بل بالكيف، ولنتصور هذه السرعة التي تتطور بها المعرفة كعنصر أساس، ماذا سيكون عالم الغد)[18].بالطبع إذا كانت المعرفة في حدها الكيفي، مع الحد الكمي، الذي أصبح متطوراً بإثارة، فيصبح تساؤل المنجرة في سياق الحاجة التعارفية / التواصلية، أكثر إلحاحاً، فلو أنّ المعرفة في هذا النمط الانتشاري، لم تجد الغاية التعارفية حاضرة، فسيتمدد النسق الصراعي على حساب المشترك الإنساني. كل هذه المعطيات والاحتياجات تحيلنا الى ضرورة بناء أرضية تفاهمية، تتيح للأسئلة التعارفية أنْ تجيب على الالتباسات التي خلّفتها حالة الاعلام اللا إنساني.
فقه التعارف – بناء الحضارات / الأفق الاستشرافي:
إذا كان فقه التعارف على المستوى المضموني هو حالة الإدراك المتكاملة للمدى التفاعلي لوظائف فعل المعرفة / عَرف، فإنّ المحمول الإجرائي والتطبيقي، لا شك مُتَنَزَل على مختلف أنشطة الحياة التطورية والإبداعية: فكرياً وعلمياً وتقنياً، وكل أعمال النهضة والرفاه، فإذا كان الخطاب التعارفي القرآني كما أشرنا، في موضع سابق، اتجه كلياً منذ البداية على كافية الناس ودفعهم لوحدة خلقهم، وأنّ هذا السعي التعارفي مزود مشمول بمعرفيات العلم والخبرة، كما فصلنا في القاعدة التطبيقية الخاصة بالسياق الاستنباطي، فماذا يمكن أنّ يُسمى ناتج هذا التفاعل التعارفي / المعرفي، المزود بتعارفيات العلم والخبرات سوى أنّه ناتج حضاري، ولكن، ما الذي يميز حضارة منشأها صراعي وعلى خلفيات تاريخ احترابي حافل بالاعتداءات على الموارد البشرية والمادية، حتى لطورٍ انتهى فيه منظروه إلى تشيئة الإنسان، وتبضيعه، وإفراغ معناه الثقافي، من مكون إبداعي إنساني، الى مختوم آلي متمركز حول اقتصاد السوق (وفيما عدا القبائل سريعة الاختفاء في أدغال البرازيل Papua new Gunineu، لا يوجد فرع واحد للبشرية لم تلمسه يد الآلية، أم لم يرتبط ببقية البشرية، من خلال همزة الوصل الاقتصادية العالمية للإستهلاك الحديث. وأنّها ليست علاقة الإقليمية، بل العالمية، التي تعترف بأنّه قد ظهر في القرون القليلة الماضية، شيء من قبيل الثقافة العالمية الشاملة، الحقيقة التي تتركز حول النمو الاقتصادي، الذي تدعمه التكنولوجيا والعلاقات الرأسمالية الاجتماعية، الضرورية لإنتاجه أو وقفه)[19]. هذا معطى آخر نسخة في حضارة العصر الحديث، وإذا كان المفكر الفرنسي رجاء جاروديه يوماً، قدّم أطروحته العميقة الناقدة (ديانة السوق)، فهل بامكاننا أنْ نُنشيء مقاربة ناقدة لمطروحات مثل (نهاية التاريخ)، بأنّها معطى (حضارة السوق)، أو ليس حقاً نحن بحاجة من خلال بصائر (فقه التعارف)، إلى إنشاء مقاييس منضبطة لفكرة الحضارة؟ هذا ينطبق على كثير من دورات التاريخ، وليس حصراً على الحضارة الصناعية المعاصرة، لذا، من الأفضل اعتماد تصنيفات جديدة لنسبية الحضارة، التي وسمت العديد، مما يمكن أنْ نسميه الحضارات الجزئية. إنّ معنى التعارف الواسع ومعطاه المعرفي، ، يؤشر لنا إلى إمكان تحقيق مثال حضاري تعارفي يمتلك مقومات السعي نحو الاكتمالية، لا لشيء إلا لأنّه يستصحب كافة الناس، ويمثل نبض حضورهم؛ شعوباً ذاكرة، لتشعبها من أصلها الواحد، وقبائل، حاضرة كلها في جغرافيا الحضارة الإنسانية.
لقد ظل مفهوم الحضارة في خاطر المفكرين، أنّها مشترك إنساني، يقول دكتور علي شريعتي: (تطلق الحضارة على العطاءات والأرصدة المادية والمعنوية للإنسانية، وهذه الحضارة لم تختص بقوم أو جماعة أو جنس معين بل إنّها مشتركة بين جمع أفراد الإنسانية، لأنّها تعكس وجه التاريخ الإنساني لجميع الاقوام البشرية)[20].
لقد مثلت الحضارة الإسلامية، كجامعة كبرى للمساهمة الإنسانية، حضوراً مستمر الأثر، لأنّها تجاوزت التنسيب العنصري للحضارة، ولأنّها اختزنت قيم التعارفية، فقد تجاوزت حيوزات المركزية الجغرافية، فأنظر تعارفيتها التي قدمت مراجع العطاء الحضاري في مختلف العلوم، من كل قبائل الأرض، هذا الخوارزمي الذي لا زال بصمة تأسيسة في المعرفيات التطبيقية، هو عالم مسلم روسي، وُلِد ونشأ في خوارزم (كانت خوارزم سوقاً للحركة العلمية ومنها نشأ كثير من العلماء الذين اتصلوا ببيت الحكمة المأموني ببغداد)[21]، نموذج في تواصل الشعوب لبناء الحضارات، ومثله كثير من أعلام الحضارة الاسلامية / الإنسانية، التي نشأت على أنّها حضارة الرؤية والفكرة، التي لا تفصل تعاليم الدين عن تفاصيل علوم الحضارة. (ما الدافع وراء ابتكار الخوارزمي لعلم الجبر ؟ الواقع أنّ الذي دفع الخوارزمي إلى ذلك هو علم الميراث المعروف بعلم الفرائض، فأراد أنْ يبتدع طرقاً جبرية تسهل هذا العلم الشائك)[22].
إنّ فقه التعارف هو المنظومة التواصلية المرتجاة لتجديد بناء الحضارة الانسانية من جديد، التي لا تستغني عن إسهام أي معطى من الناس، من أي الثقافات جاء، يرى مالك بن نبي أنّ الثقافة (هي كل ما يعطي الحضارة سمتها الخاص ويحدد قطبيها: من عقلية ابن خلدون وروحانية الغزالي، أو عقلية (ديكارت) وروحانية (جان دارك)، هذا هو معنى الثقافة في التاريخ)[23] ، ونضيف عليه: هذا هو أحد معاني فقه التعارف لكافيّة الناس.
إنّ فقه التعارف يفتح أُفقاً استشرافياً لتجديد بناء الحضارات، واستئناف تداخلية المساهمة الإنسانية بتنوعاتها، وباختيارية تلقائية، لا حاجة فيها لقسريات، ولا انتظمات دولية، هي حضارة تصنعها شعوب في قبائل الأرض.
الاحالات المرجعية والمصادر
1/ القرآن الكريم
- الفيروز آبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب. القاموس المحيط،تحقيق أنس محمد الشامي، زكريا جابر أحمد، دار الحديث، القاهرة، لا يوجد رقم طبعة، 2008م.
- أنيس، إبراهيم. منتصر، عبد الحليم.الصوالحي، عطية.أحمد، محمد خلف الله. المعجمالوسيط، بدون رقم طبعة، القاهرة، 1972م.
- الرازي، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر.مختارالصحاح، دار الكتب العربية، بيروت، بدون رقم طبعة، بدون عام طبعة.
- سالم، فاطمة. الأمن الفكري من منظور التأسيس الاجتماعي، مجلةمسارات معرفية، مطابع السودان للعملة، العدد الثالث، 2013م، الخرطوم.
- انغليز، ديفيد. هيوسون، جون. مدخل إلى سوسيولجيا الثقافة، ترجمة لما نصير، مراجعة فائز الصباغ، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة. قطر، الطبعة الأولى، 2013 م.
- سميث، أنتوني دي. الأسس الثقافية للأمم – الهرمية والعهد والجمهورية، ترجمة صفية مختار، مراجعة سارة عادل، هنداوي سي آي سي، المملكة المتحدة، 2012 م.
- المنجرة، دكتور المهدي. حوار التواصل من أجل مجتمع معرفي عادل، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة العاشرة، 2004م.
- السجستاني، أبي داود سليمان بن الأشعث. سنن أبي داود، كتاب الإجارة، باب في منع الماء، رقم 3477.
- نبي، مالك. مشكلات الحضارة – مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق سوريا، الطبعة الرابعة، 1984م.
- إيزنتسو، توشهيكو. الله والإنسان في القرآن – علم دلالة الرؤية القرآنيةللعالم، ترجمة وتقديم د. هلال محمد الجهاد، المنظمة العربية للترجمة، بيروت لبنان، الطبعة الاولى 2007م.
- فوكومايا، فرانسيس. نهاية التاريخ، ترجمة وتعليق دكتور حسين الشيخ، دار العلوم العربية لللطباعة والنشر، بيروت -لبنان، لا يوجد رقم طبعة، لا يوجد عام طبع.
- شريعتي، دكتور علي. تاريخ الحضارة،ترجمة حسين نصيري، مراجعة حسين علي شعيب، دار الأمير الأمير للثقافة والعلوم ش.م.م.، بيروت، الطبعة الأولى 2006م.
- حربي، خالد أحمد. علوم حضارة الإسلام ودورها في الحضارة الإنسانية، وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية دولة قطر الدوحة، الطبعة الأولى، 2005م.
- الرواية المعتمدة في القرآن الكريم ورش عن نافع.
[1] الفيروز آبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب. القاموس المُحِيط، تحقيق أنس محمد الشامي، زكريا جابر أحمد، دار الحديث، القاهرة، لا يوجد رقم طبعة، 2008، صــ 1066
أنيس، إبراهيم. منتص، عبد الحليم. الصوالحي، عطية. أحمد، محمد خلف الله. المعجم الوسيط، بدون طبعة، القاهرة، 1972، ص647[2]
[3] القاموس المحيط، المرجع نفسه صـــ1057
[4] القاموس المحيط، المرجع نفسه صـــ 275
[5] القاموس المحيط، المرجع نفسه صــ 865
[6] القاموس المحيط، المرجع نفسه صــ1283
[7] القاموس المحيط، المرجع نفسه صــ 1260
[8] القاموس المحيط، المرجع نفسه صــ 1260
الرازي، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر. مختار الصحاح، دار الكتب العربية، بيروت، بدون رقم طبعة، بدون عام طبعة، ص 427[9]
[10] سالم، فاطمة. الأمن الفكري من منظور التأسيس الاجتماعي، مجلة مسارات معرفية، مطابع السودان للعملة، العدد الثالث، 2013م، الخرطوم، صـ16
[11] انغليز، ديفيد. هيوسون، جون. مدخل إلى سوسيولجيا الثقافة، ترجمة لما نصير، مراجعة فائز الصباغ، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة. قطر، الطبعة الأولى، 2013، صــ14.
[12] سميث، أنتوني دي. الأسس الثقافية للأمم – الهرمية والعهد والجمهورية، ترجمة صفية مختار، مراجعة سارة عادل، هنداوي سي آي سي، المملكة المتحدة، 2012، صــ 20
[13] المنجرة، دكتور المهدي. حوار التواصل من أجل مجتمع معرفي عادل، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة العاشرة، 2004م، صــ27
[14] القاموس المحيط،، المرجع نفسه، صـ149
السجستاني، أبي داود سليمان بن الأشعث. سنن أبي داود، كتاب الإجارة، باب في منع الماء، رقم 3477، رواه بلفظ (المسلمون). [15]
[16] نبي، مالك. مشكلات الحضارة – مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق سوريا، الطبعة الرابعة، ، 1984م صــ128
[17] ايزنتسو، توشهيكو. الله والانسان في القرآن – علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم، ترجمة وتقديم د. هلال محمد الجهاد، المنظمة العربية للترجمة، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، 2007م، صــ128
[18] حوار التواصل، .المرجع نفسه، صــ100
[19] فوكومايا، فرانسيس. نهاية التاريخ، ترجمة وتعليق دكتور حسين الشيخ، دار العلوم العربية لللطباعة والنشر، بيروت –لبنان، لا يوجد رقم طبعة، لا يوجد سنة طبع، صــ147
[20] شريعتي، دكتور علي. تاريخ الحضارة، ترجمة حسين نصيري، مراجعة حسين علي شعيب، دار الأمير الأمير للثقافة والعلوم ش.م.م،. بيروت، الطبعة الأولى، 2006م، صــ17
[21] حربي، خالد أحمد. علوم حضارة الإسلام ودورها في الحضارة الإنسانية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية دولة قطر الدوحة، الطبعة الأولى، 2005م، صــ33
[22] علوم حضارة الاسلام، المرجع نفسه، صــ44
[23] نبي، مالك. مشكلات الحضارة – مشكلة الثقافة، المرجع نفسه، صــ77