الحضرة في التصوُّف الشعبي : الزاوية العلاوية أنموذجاً
يوسف توفيق
( كاتب من المغرب )
يعتبر التصوف الشعبي من المواضيع التي باتت تشغل الرأي العام، فما أن يقام موسم لإحدى الطرق الصوفية، حتى تقوم قائمة وسائل الإعلام، لتغطية مراسم الطقوس والاحتفالات، وكأن الأمر يتعلق بتظاهرة رياضية أو فنية مرموقة.
وقد زاد – لكثير من الأسباب، ليس هنا موضع ذكرها- أتباع الطرق الصوفية، كما زاد تغلغلها في الأوساط الشعبية والرسمية، على حد سواء، مما يجعلنا نقول: ما أشبه اليوم بالبارحة. فقد كانت الزوايا في الماضي جزءا لا يتجزأ من النسيجين الاجتماعي والسياسي، كما أنها كانت تضطلع بمهام تربوية وجهادية يؤهلها لأن تكون رقما صعبا في المشهد المغربي.
وقد اكتسبت الزاوية العلاوية في الآونة الأخيرة شعبية كبيرة أهلتها لتكون أكثر الزوايا استقطابا للمريدين في المنطقة الشرقية، بعد الزاوية القادرية البودشيشية1، التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، وأضحت حديث العام والخاص، خصوصا إبان احتفالات المولد النبوي، إذ تستقطب سنويا عشرات الآلاف من الزوار من الداخل والخارج.
تطرقت في هذا العرض إلى التعريف بالزاوية العلاوية وأشياخها، كما عرضت للعمارة باعتبارها ظاهرة فرجوية بامتياز تتوفر فيها جميع التقنيات الدرامية.
وقد ذيلت البحث بملحق ضمنت فيه الأشعار الصوفية الشعبية التي يرددها فقراء الزاوية في مجالسهم.
الزاوية العلاوية:
تتبنى الزاوية العلاوية الطريقة الشاذلية الدرقاوية، فالشاذلية نسبة إلى أبي الحسن الشاذلي2، والدرقاوية نسبة إلى سيدي العربي الدرقاوي3. أسسها الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي المستغانمي، سنة 1914 بمدينة مستغانم على الساحل الجزائري.
تعتبر من الطرق الصوفية التي تعرف إشعاعا كبيرا في الجزائر والمغرب وباقي بلدان العالم، كما تشكل أدبيات الشيخ العلاوي القاعدة النظرية والمنهاج التربوي الذي تسير عليه الطريقة. تعاقب عليها منذ تأسيسها أربعة شيوخ، هم على التوالي، الشيخ أحمد بن المصطفى العلاوي (1869-1934)، وحفيده من جهة الأم الشيخ عْدَّة بن تونس (1898-1952)، والشيخ المهدي بن تونس (1928-1975) ابن الشيخ عدة وخليفته، والشيخ خالد بن تونس (1949-….) ابن الشيخ المهدي وخليفته.
أشياخ الزاوية العلاوية:
أ-الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي المستغانمي مؤسس الطريقة العلاوية:
ولد الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي بمدينة مستغانم سنة 1286هـ/1869م، ولم يعهد عليه أنه تعاطى الكتابة أو أنه دخل الكتاب4، إنما استفاد من أبيه الذي كان يلقي عليه بعض الدروس القرآنية.
أسس سنة 1914 الطريقة العلاوية، وقد لقيت تجاوبا من الكثيرين، حيث استطاعت في ظرف سنوات قليلة أن تصبح ملاذ الأفواج الكبيرة من الناس.
عرف الشيخ بأخلاقه العالية وسمته الحسن، وقد كانت له شخصية جذابة كاريزمية بتعبير العصر، كما كان مفوها في خطبه: مقنعا في مناظراته.
أخذ علم التصوف عن شيخه البوزيدي عن محمد بن قدور الوكيلي بن بوعزة الجهاجري عن سيدي محمد العربي الدرقاوي.
من حكمه:
– ما كثرت النفس إلا لتسد مساوئ القدس.
– من تجلت عليه عظمة الذات، أذهلته عن الصفات .
-لا تترك نفسك وتعاديها، بل اصحبها وابحث عما فيها .
مؤلفات الشيخ عديدة منها:
-الأنموذج الفريد لخالص التوحيد.
-مفتاح علوم السر في تفسير سورة العصر.
لباب العلم في سورة النجم.
نور الإثمد في سنة وضع اليد على اليد.
المنح القدوسية.
-المواد الغيثية الناشئة عن الحكم الغوثية (3أجزاء).
-القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم الأعظم.
ب- الشيخ خالد بن تونس:
ولد الشيخ خالد بن تونس سنة 1949 في مستغانم، وهي مدينة على الساحل الجزائري، عرفت بدورها الكبير في محاربة المستعمر الفرنسي، وقد كانت أرضها ميدانا لمعركة مزغران التي طبق خلالها المستعمر حصارا على مجاهدي الأمير عبد القادر.
تلقى في الزاوية الأم بمستغانم تعليمه الأولي، أبوه هو الشيخ الحاج المهدي بن تونس الشيخ الثالث في الطريقة العلاوية.
وقد تنوعت العلوم التي تلقاها في الزاوية العلاوية، حيث كان له ثلاثة معلمين، أما أحدهما فكان يلقنه العلوم الشرعية وما جاورها من نحو وفلسفة، والثاني للشعر والسماع والثالث للجانب اللطيف والباطني للحياة، ولم يتم تقديمه لأبيه الشيخ إلا بعد أن بلغ سن الرشد، وهي السن التي تؤهله للخوض في علوم القوم والارتباط بشيخ الطريقة.
لم تكن هذه العلوم هي الوحيدة في البرنامج التعليمي للشيخ خالد، بل التحق بالتعليم العمومي سنة 1963، مما أتاح له الاستفادة من تكوين مزدوج أحدهما أصيل، والآخر تقدمي على حد قول الشيخ نفسه في مذكراته ص 25-26.
دفعته ظروف الحياة لأن يهاجر إلى باريس، ومنها إلى انجلترا لينخرط في كلية الحقوق بأكسفورد،لأن النظام الجزائري حينها لم يكن يتفق والتوجه التربوي للزاوية التي كانت تتمتع بنفوذ كبير، وقد كان عبوره إلى الضفة الأخرى عن طريق المغرب حيث يوجد أقاربه من جهة الأم.
بعد أن وجد صعوبة كبيرة في التأقلم مع البيئة الانجليزية عاد مرة أخرى إلى باريس، حيث تعاطى التجارة لتوفير المعاش.
إلا أن الحدث الأبرز في حياة الشيخ خالد هو وفاة والده سنة 1975م، إذ شكل نقطة انعطاف خطيرة انقلبت معها حياته رأسا على عقب، فقد قام اختياره خليفة لوالده من طرف مجلس الحكماء، حيث يجتمع أعيان الطريقة يتعبدون ويتأملون. وأثناء اجتماعهم يتلقى كل واحد منهم إشارة عن طريق رؤيا أو كشف أو إلهام، تدله على الشيخ المرتقب ثم يتشاورون فيما بينهم ليعلنوا في الأخير عن خليفة الشيخ، وقد أحدث هذا الاختيار المفاجئ زلزالا في كيان الشيخ خالد، إذ عرف تغييرات نفسية وفيزيولوجية حادة استمرت ثلاثة أشهر.
عن التغييرات الفيزيولوجية يقول الشيخ:
ففي الليل كنت أتصبب عرقا، ويصيبني السهاد، وفي النهار كنت أتقيأ باستمرار وأحس وكأن صدري ملتهب، لم أكن أستطيع أن أتناول الطعام إلا الأشياء الطاهرة الصرفة وبكمية قليلة، وكان لدي نفور تجاه كل ما هو من أصل حيواني 5
أما عن التغييرات النفسية فيقول:
لقد واجهت إذ ذاك هذه الحقيقة مباشرة، وتحقق هذا التطور الباطني يوما بعد يوم، كأن كائنا يشرع في الرحيل وآخر يحل محله تدريجيا، وتملكت اللطيفة الربانية هذا الجسد الذي كان مهيئا ثم أصبح قادرا على استقبالهما…لقد عشت هذه التجارب من غير أن أطلبها، كنت وكأني منتقل إلى عالم آخر، فمن الصعب شرح ذلك، إنها تجربة جذرية 6
لقد كانت وفاة الشيخ المهدي بن تونس، إيذانا بميلاد الشيخ خالد الذي تحقق من حال المشيخة والحضور الدائم مع الله في كل حركة وسكنة وخلوة وجلوة وصحو ويقظة. وفي هذه الولادة يقول الشيخ خالد:È يمكن تشبيه تلك السيرورة بولادة ونضج، أي على شكل المولود الذي يخرج من بطن أمه ولن يستطيع أبداً العودة إليه، ففي البطن كان يغذى. لكن البطن عالم آخر، عالم منغلق، وبعد الولادة تغيرت حالة المولود وعالمه وطبيعته، وبذلك يكون التغيير جذريا، فهذه التجربة لها بداية ونهاية بدون عودة .
من مؤلفات الشيخ خالد بن تونس:
-التصوف قلب الإسلام.
-الإنسان الباطني على ضوء القرآن.
LÕhomme intŽrieur ˆ la lumire du coran
-تحقيقه لكتابي “عيسى روح الله ” و”هكذا حدثني الشيخ عدة بن تونس” صدرا تحت عنوان “نعمة الأنبياء” .
-بعد أن تولى زمام أمور الزاوية، قام الشيخ خالد بن تونس بتجديد هياكل الزاوية، ابتداء من الزاوية الأم بمستغانم، ثم بباقي المناطق، فشيد الزاوية داخل الجزائر وخارجها، وأضاف إليها أقسام الدراسة ومكاتب المطالعة وأحيى العمل الجمعوي بتأسيس العديد من الجمعيات، كجمعية أحباب الإسلام بباريس وبروكسيل، وجمعية الشيخ العلاوي للتربية والثقافة الصوفية بالجزائر، والكشافة الإسلامية بفرنسا، وأخيرا جمعية أراضي أوروبا بباريس.
وفي المجال الصحفي أصدر الشيخ خالد مجلة أحباب الإسلام، ومنشور لقاء وألف إعلام (Alifinfo) هذا ويشارك الشيخ وينظم العديد من الملتقيات، والمحاضرات والندوات عبر العالم، الهدف منها خلق حوار هادف وبناء بين جميع الأديان والثقافات، ولبيان ما للتربية الروحية من أهمية في ترسيخ قيم الأخوة والمحبة والإنسانية في العالم.
ومن هذه الملتقيات ملتقى التربية الروحية في الإسلام الذي يعقد سنويا بالجزائر، ومؤتمر إسلام السلام الذي انعقد بمقر اليونسكو بباريس سنة 2000…
السند الصوفي:
السند الصوفي هو الطريق الذي يقطعه علم التزكية والسلوك، بدءا من النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وانتهاء عن آخر شيخ يؤم الطريقة، ويضم السند الطرقي للطريقة العلاوية خمسة وأربعين شيخا من بينهم: الحسن البصري، أبو القاسم الجنيد، عبد القادر الجيلاني، شعيب أبو مدين، أبو الحسن الشاذلي، بن عطاء الله الأسكندري، العربي الدرقاوي.
تعيين الشيخ:
يُعتبر الشيخ أكبر سلطة روحية في الزاوية، ويليه النائب ثم المقدمون، وهم مرشدون روحيون في الزاوية. يختارهم الفقراء ويجيزهم الشيخ، وليس الشيخ في تصور الطريقة العلاوية هو الصنم المقدس الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بل هو الشمعة التي تحترق لتنير السبيل للآخرين. يقول الشيخ أحمد العلاوي:
إن الشيخ على صورة شمعة مشتعلة تستنفد قواها بإنارة الآخرين إلى أن تخلفها شمعة أخرى.
في الزاوية العلاوية لا يعين الشيخ خليفته، بل يتولى ذلك مجلس حكمائها الذي ينعقد مباشرة بعد وفاة الشيخ، حيث يختلي أعيان الطريقة، يتعبدون ويتنسكون ويتأملون، ويتلقى كل واحد منهم إشارة من العالم العلوي، إما عبر رؤيا، وإما عبر إلهام، وعند استقرار آرائهم، يقومون بمصافحة الشيخ المعين، وتسليمه السبحة، لتجديد العهد، والبيعة على مواصلة السير وفي طريقة الاستخلاف هاته، يقول الشيخ البوزيدي7:
“ما أنا إلا مستأجر، عند وفاتي أرد المفتاح للملك الذي يمنحه لمن يشاء”
الجانب التربوي في الزاوية العلاوية:
تركز الزاوية العلاوية من خلال توجيه شيوخها على الجانب التربوي والسلوكي للفرد، وتهدف من خلال كل مجامعها8 ومحاضنها أن تربط الإنسان بالله، وتعتبر أن الغاية المثلى من وجوده في الكون، هو تحقيقه لمقتضيات الاستخلاف، ومستوجبات المعرفة.
وتجندت لتحقيق هذه الأهداف جملة من الأمور من بينها:
أ-الأوراد العامة والخاصة:
أ – 1 الورد العام:
هو الورد الذي التزم به الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي، وألزمه أشياخ الطريقة، وأتباعها من بعده، وهو مستوحى من كتاب الله وسنة رسوله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، لا يستغني عنه مبتدىء ولا واصل. تم تداوله منذ عهد الإمام الشاذلي، واستمر العمل به إلى اليوم، كان يقرأه الشيخ كل يوم في زاويته بعد الصبح وبين العشائين، ولم يكن يترك ذلك في كل حال من الأحوال، كالسفر والمرض والضيافة والزيارة، وكذلك الحال مع مشايخ الطريقة، وكل مريد صادق في التوجه إلى الله. إذ يعتبر الورد عهدا مع الله بسلسة الأولياء الذين حملوا مشعل الطريقة من النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وأوصلوها إلى الوقت الحاضر من غير تبديل ولا تغيير، ويسمى الورد وظيفة كذلك، وهو من موجبات السير، يقول أحد المتصوفة “من لا ورد له لا وارد له”.
الورد العام للطريقة العلاوية:
يقرأ المريد سورة الواقعة، ثم يقول:( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
يدعو المريد بعد ذلك الله سبحانه وتعالى بما شاء من الدعاء. ثم يقول: اللهم يا من جعلت الصلاة على النبي من القربات، أتقرب إليك بكل صلاة صليت عليه من أول النشأة إلى ما لا نهاية للكمالات (ثلاث مرات).
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ثم يقول: أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أستغفر الله (تسع وعشرون مرة)، أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه (مرة واحدة لختم المائة)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ. لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير (99 مرة) لا إله إلا الله، سيدنا محمد رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ (مرة لختم المائة) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقّ الحمد لله والشكر لله. (مائة مرة).
ثم يقرأ المريد سورة الإخلاص (ثلاث مرات) ويدعو الله سبحانه وتعالى بما شاء من الدعاء، ثم يختم بـ:
الصلاة والسلام عليك يا سيدنا يا حبيب الله
الصلاة والسلام عليك يا سيدنا يا نبي الله
الصلاة والسلام عليك يا سيدنا يا رسول الله
ألف ألف صلاة وألف ألف سلام، صلى الله عليك وعلى آل بيتك وأصحابك يا أكرم الخلق عند الله (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
أ – 2 الورد الخاص:
هو اسم إلاهي يعطيه الشيخ للمريد ليذكره في خلوة لمدة معينةÈ9.وتعطى الأوراد الخاصة إلى كل مريد حسب طاقته، ورسوخه في الطريقة، ويمكن أن تقل أو تكثر حسب همة السالك وقوة عزيمته.
ب-الخلوة:
هي مكان يعتزل فيه للذكر والعبادة، قد تستمر ثلاثة أيام إلى أربعين يوما، وهي محطة يستزيد منها السالك الطاقة اللازمة للسير، كما تكون فرصة تسمح له Çبالإشراف على الوضع في مجمله، وبالعيش في مواجهة مع النفس، وبالغوص في أغوار الباطنÈ10، ومن المستحب أن تمارس على الأقل مرة واحدة في السنة.
الحضرة أو العمارة:
هي الحال الذي يعتري الفقراء، بعد الاندماج في طقس الذكر أو السماع، يقول عنها الشيخ خالد بن تونس: هي نوع من الذكر ومن الاهتزاز الروحي 11، وتكتسب في الطريقة العلاوية مشروعية شرعية، وأخرى ذوقية، فمن النصوص الشرعية التي يعتمدها العلاويون، قول النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ سبق المفردون المستهترون في ذكر الله، يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفافا 12، ومن الأدلة الذوقية ما أشار إليه الشيخ العلوي في قوله: إني لا أقول بأن الرقص والتواجد هما من لوازم التصوف، إنما هما من لوائح ما ينشأ عن الاستغراق في الذكر، ومن شك فليجرب. فليس الخبر كالمعاينة 13.
ومن جميل ما قيل في العمارة ما أورده إميل ديرمنجين، في كتابه شعائر القديسين في الإسلام لدول المغرب العربي ، إذ يقول: يكون الإخوان دائرة مغلقة وهم واقفون ومتزاحمون بعضهم مع البعض، وأعينهم مغمضة، واليد اليمنى في اليد اليسرى للمجانب، والأصابع متشابكة، وفي وسطها قطب واقف يرسم الإيقاع، ويصفق ويدور على نفسه وهو يراقب كل واحد وكذا الجميع، ويغير مكان هذا أو ذاك لكي يبقى الكل متوازنا، وعندما يوشك النظام أن يختل أو يرى أثر الإعياء الشديد يوقفها أي الحضرة. كما يقف في وسطها أيضا واحد أو إثنان من المسمعين الذين ينشدون أشعارا صوفية في تعظيم الله عز وجل وفي مديح النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وبارتفاع الإيقاع تدريجيا يصير اسم الله في كل صدر لاه ، ه ، وهو لم يعد يصدر عن الشفتين ولكن عن الصدر، إنه نفس يصعد من القلب بالذات، والحال أن الأجساد تهتز من الأعلى إلى الأسفل دون أن ترتفع الأقدام- وتشبه الحشرجة الجامعية الشديدة صوت مستثار ضخم، وتبقى الأعين دائما مغمضة والوجوه متهللة- تعبر عن الألم الممتزج بالفرح 14.
إن الحضرة من المجامع التي تحرص الزاوية العلاوية على أن تعقد عند مريديها بصفة دورية (كل أسبوع إن أمكن)، ويبدأ المجلس الذي تقام فيه الحضرة (العمارة)، بتلاوة كتاب الله وقراءة الورد، فالسماع الذي يتخلله ترديد اسم الله الأعظم. وغالبا ما يكون السماع من القصائد التي يتضمنها ديوان الطريقة العلاوية، وهي قصائد كتبها شيوخ الزاوية: الشيخ محمد بن الحبيب البوزيدي، الشيخ العلاوي. والشيخ عدة بن تونس، وتتغنى القصائد في مجملها بحب الله والتفاني في الحضرة الإلاهية، وتعرض لمختلف الأحوال والمقامات التي تحصل للقوم، كما تتناول مدح المصطفى والتغني بجمال الحضرة المحمدية. ومن أجمل ما قاله الشيخ العلاوي في الحضرة:
فلا شيخ إلا من يجود بسره
حريص على المريد من نفسه أولى
ويرفع عنه حجبا كانت لقلبه
منيعة عن الوصول للمقام الأعلـى
ويدخل حضرة الله من بعد فضله
ويرى ظهـور الحـق أينمــا تولـى
ويفنى عن العالم طرا بأسره
فلا قاصرات الطرف يهوى ولا خلا15
شروط انعقاد العمارة:16
إن العمارة في الطريقة العلاوية طقس يندرج ضمن البرنامج التربوي العام، ولا بد من انعقاده بصفة دورية لأنه محطة روحية تزود المريد بالطاقة التي تمكنه من متابعة السير، ولكن لا بد أيضا لهذه العمارة من شروط.
من بين هذه الشروط:
أ-القطبانية:
وهي العملية التي تهتم بإدارة العمارة، ويقوم بها شخص يعينه المقدم. يسمى القطب، وهو من المحنكين في الطريقة، ممن يتقن فن العمارة، ويغوص في أسرارها وطقوسها، يقوم بضبط إيقاعها، فيرفعه تارة ويخفضه أخرى، كما أنه المسؤول عن تنبيه من يخرج عن نظامها، وهو من يوقفها إن رأى ما يستدعي ذلك من الإعياء أو غيره.
ب-المكان:
لا بد للعمارة تمشيا مع التوجه العقلي والعلمي للزاوية، أن تراعي شرط المكان، فلا تقام فوق سطوح المنازل، لأن اهتزاز المعمرين قد يتسبب في إحداث شروخ في سقف المنزل.
ج-الزمان:
ليس هناك زمان محدد فكل الأزمنة مباركة، إلا أنه ليس هناك مجال للتصنع والتكلف، فمتى تحقق الحال والخشوع فذاك زمان العمارة، وإلا فلا داعي لإقامتها.
د-الأشخاص:
إن كثيرا من الناس لا يستطيع أن يستوعب معاني الحضرة، فهي بالنسبة إليه بدعة منكرة، وطقس عجائبي في أحسن الأحوال، لذلك لا يقيم مريدو الزاوية العلاوية العمارة في مجمع، إلا إذا تجاوز عددهم عدد العوام من الناس. كما أنها تشترط في المشاركين في الحضرة، الانسجام في الحركة والذكر.
الجانب الدرامي في الحضرة:
-يجمع الدارسون على أن الاحتفالات والشعائر الدينية، تختزن طاقة مسرحية هائلة: يقول حسن يوسفي: كل المجتمعات الإنسانية تخلق لنفسها طقوسا واحتفالات تجسد عبرها مجموعة من العادات والشعائر والأحداث اجتماعية كانت أو سياسية وتحتوي هذه الطقوس والاحتفالات على طاقات مسرحية جد مهمة، لذلك اعتبرت الولادة والختان، والموت والرقص والجذبة، وممارسة الشعائر كلها طقوسا مسرحية17 ، كما أن الفضاءات التي تحتضن هذه الشعائر، هي فضاءات مسرحية بامتياز، كيف لا؟ وبيتر بروك يقول:
أستطيع أن اتخذ أية مساحة فارغة وأدعوها خشبة مسرح عارية، فإن سار إنسان عبر هذه المساحة الفارغة، في حين يرقبه إنسان آخر، فإن هذا كل ما هو ضروري كي يتحقق فعل من أفعال المسرح18 .
ولدقة الموضوع واستلزامه أدوات النقد المسرحي التي لا نتوفر إلا على النزر القليل منها، سوف أتناول الموضوع من ثلاثة وجوه:
أ-الفضاء. ب-الحركة.
ج-المشاركون.
أ-الفضاء:
إن فضاء الحضرة ليس طبعا الخشبة الإيطالية أو حتى الساحات العمومية، ونستثني هنا حضرة عيساوة وحمادشة التي تقام أمام العموم- إنه فضاء له قدسيته وحرمته، يتميز بالروحانية الشديدة التي يضفيها عليه الذكر والسماع.
ب-الحركة أو عنف الجسد.
تحظى الجذبة باهتمام الدارسين من مختلف التخصصات، وقد أولاها الانثروبولوجيون الذين يهتمون بمتخيل الجسد، اهتماما كبيرا حيث اعتبروا أن الحضرة تراوح بين الواقع والمتخيل، وهي طقس سحري ساخن يتميز بالحركة الدائمة والهيجان والعنف الجسدي19 .
إن المشاركين في الحضرة لا يصلون إلى الذروة اختيارا ، بل عنفا ينال الجسد من جراء الإثارة التي يحرض عليها الطقس ومكوناته20 .
إن الحركة في الحضرة يحددها الإيقاع الشعري للألفاظ، فخلافا للطرق الأخرى التي تعتمد الآلات الموسيقية تكتفي الطريقة العلاوية في حضرتها- بحجة المحافظة على قدسية الطقس- على الألفاظ، وتعتبرها أساسا لتوقيع الألحان، فتمد وتقصر الكلمات وتسكن المتحرك وتحرك الساكن، بحسب ما يناسب ذلك من الألحان.
وعندما تصل الحضرة إلى ذروتها، فإن الألفاظ تخرج من الصدر، وليس من الفم، وهذا ما استرعى ملاحظة الكثير من المهتمين، يقول أحدهم: الكيفية التي يصنع بها الجسد موسيقاه باكتفاء ذاتي صرف فالصوت لا يخرج من الفم، بل من القفص الصدري، وعوض أن يتبع الصوت طريق تشكله العادي باتجاه التخريج الكلامي، تلتقطه اليد مباشرة من الصدر وتخرجه21 .
ومن الأمور التي تستدعي البيان في هذا العنصر، القوة التي يكتسبها جسد الحضرة، يقول الشيخ خالد بن تونس: فإنك ترى أشخاصا يبلغ عمرهم نحو السبعين سنة، وهم يتوكأون على عِصي، فبمجرد ما يباشرون هذه العمارة يصبحون شبابا من ذوي العشرين عاما22 .
وترجع هذه القوة الرمزية إلى الطاقة التي يستقيها من قدرته على أن يكون لحظة الجذب جسدا مغايرا لذاته ومسافرا في عمقه التاريخي الفعلي والمتخيل ومغتنيا بالغنى الروحي لهذا التاريخ لذلك لا يعبأ جسد الجذبة بالوضع العمري والصحي للجسد المعتاد23 .
ج-المشاركون:
يعتبر بعض الباحثين أن الاحتفالات الدينية والشعائرية Çتكتسي طابعا ابتهاجيا أو تفريجيا أو إعلاميا24، لذلك يدخل هذا النوع من الاحتفالات في Çموازاة مسرح Çالبسيكودرام25È Psychodrame كمسرح علاجي حديثÈ. لذلك يحس المشاركون بعد الحضرة براحة نفسية غامرة، إذ سيطرحون عن كواهلهم أعباء ثقيلة تراكمت بفعل مشاكل الحياة التي لا تنتهي.
ويمكن تقسيم المشاركين إلى ثلاثة أقسام:
– القطب:وهو المسير Meneur de jeu وقد أشرنا إليه عند الحديث عن القطبانية.
-المشاركون العقليون أو الشخوص الرئيسية: وهم الذين يأخذهم الوجد، فيرقصون فرحا بربهم.
الشخوص الثانوية:وهم الذين يساعدون المعمرين، بالذكر، وترديد إسم الجلالة.
.
الهوامش والمراجع:
1: تقع الزاوية القادرية البودشيشية بشمال شرق المغرب بقرية مداغ (تبعد بحوالي 20كيلومترا عن مدينة بركان)،وتحظى بشعبية كبيرة عند المغاربة الذين يحجون إليها بأعداد هائلة لحضور احتفالات المولد النبوي، شيخها هو حمزة بن العباس البودشيشي .
2: هو أبو الحسن الشاذلي، علي بن عبد الله بن عبد الجبار، ينتمي نسبة إلى سيدي عمر بن مولاي إدريس المثنى بن مولاي إدريس الأكبر دفين زرهون، ولد سنة 571ه بقبيلة الأخماس الغمارية. رحل لفاس فقرأ على كبار علماء وقته حتى أصبح من أكبر علماء الظاهر. أحس برغبة تراوده في طلب علم الحقيقة، فرحل إلى المشرق طلبا للقطب، فلما اجتمع بالعارف أبي الفتح الواسطي قال له: تطلب القطب بالعراق وهو في بلادك. يقصد بذلك عبد السلام بن مشيش. عن المطرب بمشاهير أولياء المغرب بتصرف.
3: هو شيخ مشايخ الصوفية المتأخرين، من ذرية أبي العباس سيدي أحمد بن المولى إدريس، ولد في أوائل النصف الثاني من القرن الثاني عشر بقرية بني عبد الله من قبيلة بني زروال، نشأ بها وتعلم القراءة وحفظ القرآن الكريم، وعندما صححه وأتقنه بالروايات السبع اشتغل بطلب العلم فرحل لمدينة فاس وأقام بها مدة قرأ خلالها على أكابر علماء وقته ما قدر الله له من العلوم، وتلقى علم التصوف عن كثير من الشيوخ. وافاه الأجل سنة 1239ه، ودفن بزاويته القديمة ببوبريح (عن المطرب بتصرف).
4: وهذا موجود بكثرة في تاريخ المتصوفة، إذ هناك الكثير من الحالات التي يقف فيها المرء مندهشا، فمثلا سيدي عبد العزيز الدباغ كان أميا، وكان العلماء يستفتونه فيما يستعصى من المسائل الشرعية. وهو ما يفسره أهل التصوف بالعلم اللدني الذي يفتح الله به على من يشاء من عباده.
5: الشيخ خالد بن تونس التصوف قلب الإسلام ص39.
6: نفسه ص39.
7: الشيخ محمد بن الحبيب البوزيدي، أخذ منه الشيخ العلاوي الطريقة الدرقاوية كان مريدا لسيدي محمد بن قدور الوكيلي الذي كان يسكن جبل كركر قرب عين زوره (الدريوش)
8: من أهم مجامع الزاوية احتفال مولاي إدريس في شهر شتنبر، واحتفال مولاي عبد السلام في أواخر شهر يوليوز، واحتفال عيد المولد بإيمزورن، واحتفال السنة الجديدة بتاوريرت، واحتفال نصف شعبان بوجدة، واحتفال الفاتح من محرم بالناظور.
9: خالد بن تونس-التصوف قلب الإسلام-عربه عن الفرنسية معهد ألف- باريس بإشراف سماحة المؤلف-دار الجيل- الطبعة الأولى-2005 ص295
10: المرجع السابق ص165
11: خالد بن تونس-التصوف قلب بالإسلام- ص166
12: رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة، والطبراني عن أبي الدرداء. نقله السيوطي في جامعه وأشار إلى صحته.
13: خالد بن تونس-التصوف قلب الإسلام-ص167. وللاستزادة في هذا الموضوع، يطالع كتاب الشيخ العلاوي: القول المعروف في الرد على من أنكر التصوف
14: خالد بن تونس، التصوف قلب الإسلام ص166-167.
15: ديوان ص6.
16: أدلى إلي بهذه المعلومات كل من الرابوني لمفضل في الخمسينات (خياط)، والعامري عبد الله من مواليد 1969 بزايو، يعمل إطارا لمحكمة الاستئناف بالناظور، وهما فقيران من فقراء الزاوية العلاوية.
17: حسن يوسفي-المسرح ومفارقاته مطبعة سيندي مكناس الطبعة الأولى 1996-ص104.
18: نفسه، ص104.
19: حسن يوسفي المسرح ومفارقاته ص76.
20: نور الدين الزاهي، المقدس الإسلامي ص61.
21: نور الدين الزاهي-المقدس الإسلامي-دار توبقال الطبعة الأولى الدار البيضاء 2005- ص56.
22: خالد بن تونس-التصوف قلب الإسلام، ص167.
23: المرجع نفسه- ص85.
24: حسن المنيعي المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة، الطبعة الثانية مؤسسة النخلة للكتاب وجدة 2002 ص31.
25: تقنية هدفها البحث النفسي المنصب عل تحليل الصراعات الداخلية عن طريق تأدية أدوار أبطال سيناريو مرتجل، انطلاقا من بعض التعليمات، أحمد بلخيري معجم المصطلحات المسرحية، الطبعة الثانية، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء 2006- ص83-84.
مراجع البحث والمصادره:
– أحمد بلخيري معجم المصطلحات المسرحية، الطبعة الثانية، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء 2006.
– حسن المنيعي، المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة، الطبعة الثانية مؤسسة النخلة للكتاب- وجدة 2002.
– حسن يوسفي-المسرح ومفارقاته مطبعة سيندي- مكناس- الطبعة الأولى 1996.
– خالد بن تونس-التصوف قلب الإسلام-عربه عن الفرنسية معهد ألف- باريس -بإشراف سماحة المؤلف-دار الجيل- الطبعة الأولى-2005 .
– عبد الله بن عبد القادر التليدي-المطرب بمشاهير أولياء المغرب- دار الامان Ðالطبعة الرابعة-الرباط2003.
– نور الدين الزاهي-المقدس الإسلامي-دار توبقال- الطبعة الأولى – الدار البيضاء 2005.