مشاهد ومراقد

معالم الأولياء ومزارات الصالحين في تونس

معالم الأولياء ومزارات الصالحين في تونس

تحفل المصادر القديمة وكذلك نصوص المخطوطات ومجاميع المناقب والأخبار بذكر فضل البلاد التونسية، والإشادة بمدينة تونس (العاصمة) وضواحيها في كونها عاصمة للعلوم الروحية والمعارف الدينية. وتتداخل مراحل تاريخ مدينة تونس (المصر) بروابط حميمية ووجدانيّة وبوقائع يلتقي في نسج أحداثها عالم السماء بعالم الأرض، والماضي السحيق بالماضي القريب وبالمستقبل، وتبرز في الآن ذاته صورة هذه المدينة بامتدادها الجغرافيّ، وفضاءاتها المعمارية ومواقعها الأثرية “حلّة نُسجت خيوطها” على حدّ عبارة أبي الحسن الشاذلي.

 

 

ولا يقف بحث انتساب المدينة على المدوّنة الاسلامية فحسب بل يمتد إلى أديان ومرجعيات حضارية أخرى. ولذلك كانت مدينة تونس قبلة الزهاد والصّوفية من مشرق ومغرب. وهو ما جعل المدينة تكتسي بفعل حوادث الزمان قداسة وتصير العديد من معالمها مزارات وشواهد على رسوخها في الحضارة، فهي تبدو موغلة في ماضي حكايات وحقائق مدهشة.

ويجد المتأمّل في مجاميع المناقب الخاصة بأولياء تونس ذكراً لأسماء المواضع والمعالم والمواقع التي ارتبطت بها سيرة الأولياء، ومجاهداتهم الروحية، ولقاءاتهم الصوفية.

المغارة الشاذلية

وتتعدّد الروايات في شأن فضل المغارة والمقام بجبل التوبة (المقام الشاذلي حالياً).جاء في “مناقب المغارة والمقام” للهنتاتي: روى التادلي: أنّ الشيخ سيدي أبا الحسن الشاذلي قال: إنّ السيد الخضر – عليه السلام – ملازم لزيارة المغارة. وقال: من زار المغارة وزار المقام الشاذلي خاض في الرحمة، وكان منّا وإلينا، وكان في حزبنا. وروي عن أبي الحسن الشاذلي

  • أنّ الشيخ عبد السلام بن مشيش قال: يا علي عليك بزيارة جبل الراهب، وغربيه جبل الأنوار، وفيه يجلس الأقطاب السبعة، وزيارة المغارة، فإن في كلّ عام يخرج منها صديق.

وكان دخلها حزقيل (Ezéchiel) العابد وجازها الشيخ سيدي عبد القادر الكيلاني وأبو القاسم الجنيد والسري السقطي ومعروف الكرخي وميمون الأصبهاني ومنصور بن عبد السلام الشامي وفتح الدين بن علاقان، وأقام بها أربع عشرة سنة، وذو النون المصري لما توجّه إلى زيارة أستاذه بالقيروان، وزارها أبو يوسف الدهماني، وأقام بها سبع ليال، وأبو عمران الفاسي وسالم القديدي وأبو العباس المرسي وأبو العباس السبتي ومحمد بن رحلة المراكشي وأبو الربيع سليمان وأتباعه وأبو ظافر. وتتداخل الأزمنة في ذكر ما يقع في هذه الأماكن حيث يلتقي أهل عصر ما بمن سبقهم، كما يُلمّحُ إلى القادمين من أهل الصلاح. جاء في الحلل السندسية لالوزير السراج: “وحدّث أبو عبد اللّه محمد بن أبي العباس الأبدي، قال: طلعت لزيارة جبل الزلاج، فلقيت رجلا من الصالحين ومعه عشرة رجال من أهل اللّه، فسلّمت عليهم، فردّوا عليّ السلام، فسألتهم: من أنتم؟ إنّكم سادة ما رأيتكم قط، فقال لي أكبرهم: نحن تلامذة سيدي أبي مدين شعيب، قد بعثنا الشيخ لزيارة المغارة الشاذلية، وما كان إذاك للشاذلي وجود على وجه الأرض”. وتذكر المصادر ومجاميع المخطوطات أخبارا في حقيقة المغارة ومقامها. ورد في “الحلل السندسية” نصّ قصة رواها إبراهيم الهنتاتي في كتاب مناقب المغارة والمقام”حول المغارة الشاذلية قال: “ومن الأماكن المعهودة البركات، والمقامات التي أربت أنوارها على الشمس وضحاها، وغدت مرتبتها، لأولي الأسرار، قلب رحاها، المكان الذي نيطت بأرجائه مفاتيح خزائن البركات، وفاحت بدوحة حضرته نوافح المدد والعنايات، مقام اتّخذ تفريج الشدائد دثاره وشعاره، المرتبة السامية المسمّاة بالمغارة، أكرم بها منزلا قصد زيارته الأنبياء والرسل، صلوات الله وسلامه عليهم، ثمّ الأمثل فالأمثل ممّن آمن بهم وصدق بما لديهم. فمن الرسل الذين علا مقدار المغارة بحلولهم فيها موسى – عليه السلام – ويشوع بن نون – عليه السلام ، كما روي ذلك عن الأستاذ الفقيه أبي عبد الله محمد بن أبي العباس السوسي، تلميذ العلامة أبي عبد اللّه محمد بن فرحون، قال: نظرت في كتاب مكتوب بالعجمية فرفعته إلى أستاذي أبي عبد اللّه بن فرحون، فوجد خطّه بالعبراني، فأمرني أنّ أقف به على الشيخ أبي الفرج بن طاهر المكي، وكان يسكن بزاوية الأستاذ أبي محفوظ محرز بن خلف – نفعنا اللّه ببركاته – وكان خبيرا بسبعة ألسن، كاتبا بأربعة عشر، فلمّا دفعت له الكتاب قرأه وبكى، وقال لي: يا أخي أين جبل الراهب؟ فقلت له: أعرفه، فلم تسأل عنه؟ قال لي: مكتوب هنا أنّ سيدنا موسى – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – لما خرج في طلب الخضر – عليه السلام – وكان معه يشوع بن نون – عليهما السلام* أتيا معا إلى جبل الراهب لأن الخضر – عليه السلام – كان بات فيه أربع عشرة ليلة، وكان ملتقاهما مع الخضر بين العين والصخرة، وهي شرقي جبل الزلاج، وكانت في السابق تعرف بجبل الراهب.

ويروى أنّ أبا الحسن الشاذلي قال: “إنّ المغارة أصلها مغارة الراهب، واسمه عدل، وكان مقصودا مقبولا عند القوم الأوّل، وكان يقرأ الانجيل، وكان صاحب المعلّقة يقصده للزيارة ويتبرّك به في كلّ عام مرّتين ويعطيه الخراج، وكان تحتها واد، يسمّى وادي الصوف، وذلك قبل وجود تونس وحدوثها. ومكث فيها الراهب المذكور مائة سنة”. هكذا إذن تمتد ذاكرة المغارة وتاريخها إلى أزمنة موغلة في القدم تشمل أنبياء ورسلا، موسى ويشوع وغيرهما ممّن علا مقدار المغارة بحلولهم، وتتعاضد الروايات لتذكر صالحين ورهبانا من أديان أخرى انتموا إلى المغارة وسكنوها وعمّروها بفيض وجدهم وبذكرهم للخالق تقرّبا إليه، فالمغارة ملتقى الأولياء، وهي كذلك ملتقى الأديان والرسالات التوحيديّة. وتذكر مصادر أخرى أنّ “الراهب المشار إليه مكث في المغارة مائة سنة حتى فتحت تونس”.وقال الشيخ الحبيبي: “قال لي شيخي – يعني أبا الحسن – لا يتخلّف الخضر يوم السبت عن المغارة، والمغارة سرّ من أسرار الخلق وهو الذي بنى البيت والمغارة”. وترتبط زيارة المغارة بتحصيل المعرفة والكمال وقضاء الحاجة والانتساب إلى أهل الصوفية. قال بعض أصحاب الشيخ: “إنّ من زار المغارة يوم السبت وتوسّل إلى اللّه فيها وقرأ حزب البحر وصلّى على المصطفى إحدى عشرة مرّة وقرأ قل هو اللّه أحد خمس مرّات، فتح اللّه عليه”. وقال الشيخ القسطنطي: حدثني من أثق به قال: وجدت في خزانة الامام ابن عرفة كلاما منسوخا بخطّه نصّه: واللّه ما فتح عليّ بالعلم والعمل إلاّ بزيارة المغارة الشاذليّة. وكان ابن عرفة من المواظبين على زيارتها كلّ يوم سبت.

وجاء في المجاميع ونصوص المناقب روايات في ذكر مساجد ومقامات ومعالم أخرى إلى جانب المغارة مثل جامع الصفصافة وخلوة المركاض والشرف ومرسى عبدون ورأس الجبل (جبل الزلاّج) وجبل المنار وشاذلة (حيث مقام سيدي علي الحطاب حاليا) ومغارة المعشوق بجبل التوبة. ونجد ضمن الروايات التي أوردتها “مناقب المغارة والمقام”: حدثني الشيخ سيدي حسن السيجومي [ت 1266م] قال رأيت الشيخ الغوث القطب أبا محفوظ محرز بن خلف بن عبد الرحمان بن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه في جامع الصفصافة وهو يقول: باللّه لا تتركوا زيارة هذا الجامع ما من وليّ للّه إلاّ وله قدم وزيارة لهذا الجامع فإنّه كندرة الأولياء في كلّ وقت. وحدثني الشيخ الأجلّ سيدي سعدون الأسمر [ت 1258م] قال حدثني سيدي علي الڨرجاني رحمه اللّه أنّ سيدي محرز يأتي إلى الجلاز [كذا] زائرا بعد صلاة العشاء ليلة الجمعة إلى ثلاثة أمّاكن جامع الصفصافة، وخلوة المركاض، وخلوته المتّصلة بكعب الصور [وحددها عبد العزيز الدولاتلي ومحمد ابن الخوجة عند باب جديد] داخل المدينة. وحدثني الشيخ الأجلّ سيدي عبد اللّه الهاشمي رحمه اللّه تعالى قال: كنت ذات يوم جالسا في الشرف [أي عند مقبرة الڨرجاني] أترحم على الأموات إذ أقبل عليّ رجل من الأولياء فقلت له: [من أين أتيت؟] قال من جبل مراكش أتيت زائرا جبل الجلاز والشرف، والخلوة المحرزيّة لأنّ الدعاء فيها مستجاب. وتمثّل مثل هذه الفضاءات أماكن مودعة بها أسرار ربانية تتجلّى فيها الكرامات، ويؤتى فيها ما يتجاوز ملكات الادراك العادي. جاء في مناقب السيدة المنوبية: “حدثني من أثق به قال لي: كنت جالسا حذو سيدتي عائشة يوم الجمعة يوم النصف من رجب وإذا بالشيخ سيدي عثمان الحداد… فقالت له يا عثمان نحبّوا الليلة نصلّوا في مكة شرفها اللّه تعالى. قال فقمنا وطلعنا الجبل المعروف بسيدي ماضي وزرنا الشيخ عبد السلام… وقالت اقرأ يا عثمان سورة ياسين، والفتح، والواقعة، وتبارك الملك، وآيات الكرسي وإنّا أنزلناه في ليلة القدر. قال فقرأ. قالت غمضوا [كذا] أبصاركم وإذا نحن في مكة وقايل يقول السلام عليك يا سيدتي عائشة المنوبيّة“.

 

 

ابن عربي في تونس

هكذا عدّت مقامات ومزارات أولياء تونس منطلقا لطي الأرض واستشراف الأماكن المقدسة في مختلف أنحاء العالم. وتمتدّ هذه السلطة الروحية لمدينة تونس لتشمل أولياء من أقطار وبلدان أخرى وليشاهدوا في مثل هذه المواقع براهين وبشارات على كمال ولايتهم وصدقهم في الطريق. وكان الولي العارف (القطب الأكبر والكبريت الأحمر) محيي الدين بن عربي أبرز هؤلاء، حيث يروي عندما جاء إلى تونس لرؤية الشيخ عبد العزيز المهدوي الذي كان يرى فيه امتدادا روحيّا لا يضاهى لشيخه وشيخ أولياء القرن الثاني عشر ميلادي سيدي أبي مدين (590هـ/1198م) قصّة ذات شأن تصوّر فضل هذه الديار وسرّها. قال (ابن عربي) : “اتفق لي مرة أخرى أني كنت بمرسى تونس في مركب في البحر فأخذني وجع في بطني وأهل المركب قد ناموا فقمت إلى جانب السفينة وتطلعت إلى البحر فرأيت شخصا على بعد في ضوء القمر وكانت ليلة البدر وهو يأتي على وجه الماء حتى وصل إلي ووقف معي ورفع قدمه الواحدة واعتمد على الأخرى فرأيت باطنها وما أصابها بلل ثمّ اعتمد عليها ورفع الأخرى فكانت كذلك. ثمّ تكلّم معي بكلام كان عنده ثمّ انصرف يطلب المغارة مائلا نحو تلّ على شاطئ بيننا وبينه مسافة تزيد على ميلين فقطع تلك المسافة في خطوتين أو ثلاث. فسمعت صوته وهو على ظهر المغارة يسبح اللّه تعالى وربما مشى إلى شيخنا جراح بن خميس الكتاني وكان من سادات القوم مرابطا بمرسى عبدون وكنت جئت من عنده بالأمس من ليلتي تلك فلمّا جئت المدينة لقيت رجلا صالحا فقال لي: كيف كانت ليلتك البارحة في المركب مع الخضر؟ ما قال لك؟ وما قلت له؟”.

 

مناقب المغارة والمقام

لقد كانت تونس بالنسبة إلى القطب الأكبر والكبريت الأحمر كما تسمّيه كتب الصوفية الفضاء الميمون وبابا للفتح الرباني إذ جاءه فيها الخضر معلّم الصوفية وأستاذ العلم اللدني. وممّا يدعّم هذا الشأن لمدينة تونس ويعطي حظوة كبيرة لأوليائها ما جاء في مخطوط “مناقب المغارة والمقام”: أخبر بعض أهل الأحوال قال ذهبت للحج وذهبت لبيت المقدس فوجدت رجلا من أهل الأحوال فقال لي: من أي البلاد أنت؟ فقلت: من تونس. فقال لي: عندكم أبو الحسن الشاذلي وعندكم المغارة، وعندكم سيدي محرز بن خلف وعندكم [جميع] هذه الأماكن بتونس وتفتقر إلى هنا! [وقد] سمعت من شيخي عز الدين الخرساني [أنّ] زيارة هذه الأماكن بمثابة حجة مبررة. وهكذا إذن ترتقي عظمة المدينة وبركتها حتّى تحاكي أمّاكن العبادة الكبرى والرئيسية التي تقصد لأداء الأركان. وتتعاضد في هذا روايات كثيرة وأقوال تشترك فيها ألسن من مختلف الأمصار الاسلامية.

وقد أدرك الشاذلي سرّ ذلك ووقف على تجلّيات من هذا الأمر فوصف مدينة تونس كما لو كانت عقداً، رصّعته مقامات أوليائها ومزاراتهم وجبال اعتكافهم ومعالم تعبّدهم ورباطاتهم: “… قال سيدي محمد الخياط وقفت على رأس الجبل [أي جبل الجلاز] أنا وسيدي أبي الحسن الشاذلي… فقال لي يا خياط، تونس حلّة مفصّلة، وخياطتها المقام وهو مقام الجلاز الفوقي، وطوقها المغارة، وصدرها محرز بن خلف، وعمامتها الجلاز والشرف، وبرمتها السلسلة [أي مقبرة السلسلة بين بابي البنات والمنار]، وبطانتها جامع الصفصافة، وفصّالها سيدي أبو سعيد الباجي، وجلاسها زغوان، وختامها شكلي، وكمالها المغارة، ولابسها فقير عارف شاذلي”.

 

وترد ضمن هذه المصادر ونصوص “المناقب” على ألسنة أولياء تونس عديد الأقوال والنبوءات التي تدعم الصلة بين هذه الفضاءات، وتمتّن أواصر الترابط الروحي بينها، هذا الترابط الذي يخترق الزمن ويشدّد على صلة هؤلاء الأولياء ويمتنّ أواصر العلاقة الروحية بينهم.وتعلو هذه العلاقة على ما عرفته البلاد زمن الدولة الصنهاجيّة أو زمن الموحدين. وهكذا مثّلت الولاية الروحية كيانا قائم الذّات صلبا يكفل للمدينة وحدتها أمام هزّات الحروب والفتن والصراعات، بل يصل إلى حدّ يجعل منها عاصمة وقوة موحّدة وإنّ كان ذلك على الصعيد الروحي فحسب. ويمكن أنّ نورد هذا النص الذي يؤكّد مثل هذا القول: “رأى بعض الصالحين الشيخ المقدس المرحوم أبا سعيد الباجي في المنام بعد وفاته بقليل، فقال له: أبشر وبشّر أصحابك وكلّ من صلّى علي وشيّعني في جنازتي وحضر مجلسي، أنّ اللّه تعالى، قد غفر له. ومن أراد زيارتي وزيارة قبري فلا يتعبنّ فإني أنا والمؤدب محرز والمؤدب يونس وأبو العباس أحمد بن نفيس نجتمع عند أبي زيد المناطقي كلّ خميس. ودفن معه في التربة الشيخ الصالح المقرئ أبو عبد اللّه النحوي، حفيد الشيخ أبي الفضل النحوي، رحمهما اللّه…”. ومن المعلوم أنّ أبا سعيد الباجي جاء بعد محرز بن خلف بحوالي قرنين. فالصلة بين الأولياء روحية ودائمة وتخترق الزمن. وقد قال أبو سعيد الباجي لأبي الحسن الشاذلي الذي مثّل امتدادا له وذلك عندما اجتمع به عند قدومه إلى تونس: “يا صاحب المغارة الشاذلية، يبقى حزبك فيها مشهورا إلى يوم القيامة”.

إنّ مثل هذه الهالة من القداسة التي أضفيت على مقامات الأولياء كانت وراء كثرة العناوين التي وردت في كتب القدامى التي تؤكّد زيارة هذه المقامات والتبرّك بها. من ذلك نقرأ فصولا وأبوابا كثيرة في فضل زيارة هذه المقامات والأماكن. وقد جاء في تحقيق هـ. ر. إدريس لمناقب محرز بن خلف فصل بعنوان “فضل مزارات تونس كخلوات محرز بن خلف وغيرها”: “… وحدثني الشيخ الأجلّ الولي الصالح أبو عبد اللّه محمد المالقي، رحمه اللّه، قال: من عسرت عليه الطريق إلى مكة فليزر الشرف والزلاج ولو في الشهر مرة. وكذلك من أتى بين الشيخ المغربي والشيخ القرطبي وسأل اللّه تيسير الحج يسر اللّه عليه بأدنى سبب. وقال رضي اللّه عنه: من زار الجبل صبيحة الجمعة والسبت أعطاه اللّه إحدى عشرة خصلة: تنوير القلب، وسماحة الوجه، وراحة البدن، وقلة التعب، وسعة في الرزق، وحفظا من المخاوف، وأمنا من المعاطب، وتيسيرا للأمور، وإعانة في القبور، ودرعا من القلة، وأمّانا من كلّ بليّة ومصيبة”. ولم تقتصر مثل هذه الصلة الروحية وما يلفها من دلالات رمزية وواقعية على العاصمة وضواحيها بل امتدت لتشمل كل ّ أرض البلاد التونسية (إفريقية سابقا) وإنّما أخذنا تونس مثالا لذلك باعتبارها عاصمة روحية. ولعلّ مصادر أخرى مثل “معالم الايمان في أولياء القيروان” والمخطوط الذي ألّف في مناقب سيدي أبي علي النفطي ومخطوطات أولياء جزيرة جربة تكشف عن امتداد الحلّة المنسوجة لتشمل كلّ أنحاء تونس وجهاتها، في عقد يزداد انصهارا مع كلّ عصر وفي كلّ مصر.

 

ويبدو أنّ هذا العامل كان وراء استعداد البلاد التونسية بمختلف أمصارها ودواخلها لاحتضان كلّ النزعات والطرق الصوفية الوافدة عليها من المشرق أو من المغرب، ولاحتوائها في أبنية وتمثّلات تتلاءم وتتشكّل حسب طبيعة المجتمع ومسايرة عوائده وذهنياته. وقد رأى بعض المؤرّخين من المستشرقين وغيرهم أنّ الطرق الصوفية الكثيرة التي وجدت في المجتمع التونسي إلى حدود بداية القرن قد مثّلت تعددية فكرية مبكّرة تتعايش طبقا لأخلاقيات حديثة لا سيما أنّها توجد متجاورة بنفس الفضاء الاجتماعي، وأن ّ أتباعها ينتمون إلى نفس الوسط غالبا، كما مثّلت عامل نماء وثراء اجتماعي وثقافي من جهة التنويع في أساليب الحياة وأنماط الاعتقاد والتفكير وحتى السلوك، إذ أرست الطرق الصوفية على اختلافها في الحياة الاجتماعيّة التونسية عادات في اللباس والأكلّ وأنماطا في الفنّ والموسيقى والشعر والأدب صارت بمرور الوقت من أبرز مكوّنات الشخصية التونسيّة، ومن أهمّ ما يحفظ ذاتيّتها التائقة دائما إلى التعدّد والانفتاح حتى داخل النموذج الواحد. ولقد تسنّى لبعض الباحثين إطلاق مفهوم مجتمع الولاء الصالح (société maraboutique) ضمن تحديدهم لطبيعة ذهنية المجتمع التونسي في القرون 12و13و14 و15م وذلك باعتبار تعميم مبدإ الانتماء إلى الطرق الصوفية. وقد أورد الصادق الرزقي الشعار الذي كان سائدا داخل المجتمع التونسي وهو: “من لا طريقة له فطريقته شيطانيّة ومن لا وليّ له فوليّه الشيطان”، وهذا يعكس اختراق الاعتقاد في الطريقة والاعتماد على الصوفية في تصريف شؤون الحياة خاصة ما اتّصل منها بالمصير، وتزكية القلب، وتحصيل البركة، وهو ما تجلّى في عديد “سفاين” الذكر والانشاد واستغاثات المريدين وبعض أتباع الطرق.

 

___________________

*عن “الموسوعة التونسية المفتوحة”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى