فنون و آداب

الأدب الصوفي في أرخبيل الملايو

د. روسني بن سامة

الأدب الصوفي في أرخبيل الملايو

د. روسني بن سامة

(جامعة العلوم الإسلامية الماليزية بنيلاي، ماليزيا)

الملخص:
أرخبيل الملايو مجموعة من الجزر وشبه الجزر التي تقع في منطقة جنوب شرقي آسيا من القارة الآسيوية. ويتكون من ثلاث مجموعات رئيسية: اتحاد ماليزيا وجمهورية إندونيسيا وجمهورية الفلبين. بالإضافة إلى المملكة البرونية وسنغافورا ومنطقة الفطاني جنوب التايلاند. وصل الإسلام إليه في وقت مبكر، وذلك في القرن الأول الهجري بفضل التجار العرب الذين كانوا يترددون من شبه الجزيرة العربية إليه، ثم إلى الصين. وانتشر في القرن الثالث عشر الميلادي على جهود المتصوفين العرب والهنود والفرس. وانتشرت التعاليم الصوفية وقصصها وشعرها. ومن هنا نركز الحديث في هذا البحث عن وصول حركة الصوفية إلى أرخبيل الملايو وتطورها مع الكشف عن أشهر المؤلفات الصوفية وقصصها وشعرها.
الكلمات الدالة:
التصوف، الإسلام، الأدب الماليزي، آسيا، الشعر الديني.
***
The mystic literature in the Malay Archipelago
Dr Rosni Bin Samah
USIM of Nilay, Malaysia
Abstract:
The Malay Archipelago is a group of islands and peninsulas located in the Southeast Asian region of the Asian continent. It consists of three main groups: the Federation of Malaysia, the Republic of Indonesia and the Republic of the Philippines, in addition to the Kingdom of Brunei, Singapore and the Patani region, southern Thailand. Islam reached it at an early date, in the first century AH thanks to the Arab merchants who traveled from the Arabian Peninsula to it, and then to China. And it spread in the thirteenth century AD on the efforts of Arab, Indian and Persian mystics. Sufi teachings, stories and poetry spread. Hence, we focus the discussion in this research about the arrival of the Sufi movement to the Malay Archipelago and its development with the disclosure of the most famous Sufi writings, stories and poetry.
Keywords:
Sufism, Islam, Malaysian literature, Asia, religious poetry.
***
النص:
يطلق أرخبيل الملايو على مجموعة ضخمة من الجزر وشبه الجزر التي تقع في منطقة جنوب شرقي آسيا من القارة الآسيوية. وهى تتكون من الجزر العديدة المبعثرة التي تمتد من أقصى الطرف الجنوبي الشرقي للقارة الآسيوية المتاخمة لجنوب بلاد التايلاند شمالا، حتى شمال القارة الأسترالية جنوبا، بينما يحدها شرقا بحر الصين الجنوبي، ويحدها غربا المحيط الهندي. ويتكون من ثلاث مجموعات رئيسية: اتحاد ماليزيا وجمهورية إندونيسيا وجمهورية الفلبين. بالإضافة إلى المملكة البرونية وسنغافورا ومنطقة الفطاني جنوب التايلاند. ولهذه المجموعات لغتها الخاصة الموحدة فضلا عن اللهجات المحلية، وهي اللغة الملايوية التي يتكلم بها شعبها في حياته اليومية وفي معاملاته الرسمية، ويكتب بها مؤلفاته الأدبية والعلمية. وكان الأدب الملايوى هو الأدب لهذه اللغة.
ووصل الإسلام إليه في وقت مبكر، وذلك في القرن الأول الهجري بفضل التجار العرب الذين كانوا يترددون من شبه الجزيرة العربية إليه، ثم إلى الصين. وانتشر في القرن الثالث عشر الميلادي على جهود المتصوفين العرب والهنود والفرس(1). وانتشرت التعاليم الصوفية وقصصها وشعرها.
1 – وصول حركة الصوفية إلى أرخبيل الملايو وتطورها:
بلغ التصوف قمته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الأخيار. ويعتبر الأدب الصوفي قد بلغ الذروة من الرقي في تلك الفترة وإن لم يكن قد عرف نزعة الشطح والحلول وغير ذلك من الحدود والرسوم والتعارف(2).
والأدب الصوفي هو أدب الصوفيين الذين دونوه وخلدوه في آثارهم شعرا ونثرا وحكمة ونصيحة وموعظة ومثلا وعبرة. ويحتوي على عاطفة صادقة وتجربة عميقة. وقد تناولوا فى آدابهم الكثير من دقائق الحكمة والتجربة والفكر والمعاني والأخيلة وأعمق مشاعر الإنسان، وحفل أدبهم بروائع المناجاة والحب الإلهي. كما أنه يحفل بكثير من القصص خاصة قصص الأولياء وكراماتهم في التراث الشعبي، ومن كرماتهم إحياء الموتى بإذن الله، وطي الأرض وكلام الموتى وانغلاق البحر وتحويل الأشياء إلى صور أخرى وإبراء العلل وكلام الجمادات والحيوانات وطاعة الحيوانات لهم واستجابة الدعاء والصبر على عدم الطعام والشراب ورؤية المكان البعيد من وراء حجاب.
وقد ساهمت حركة الصوفية بدور فعال في تعريف أرخبيل الملايو بالأدب الصوفي، وكانت بغداد على حالة من رواج اقتصادي وانتعاش تجاري في العصر العباسي، فلا بد أنها مركز للتجار المسلمين من العرب والفرس لنقل المتاجر منها إلى البلاد الواقعة في المحيط الهندي، ثم إلى الصين في الشرق الأقصى، حيث يوجد في منتصف القرن الثامن الميلادي كثير من التجار العرب والفرس المسلمين في ميناء كانتون. وساعدت الرحلات التجارية المتكررة من بغداد في القرن التاسع الميلادي على نقل حركة الصوفية إلى أرخبيل الملايو خاصة وإلى الشرق الأقصى عامة(3).
وكانت حركة الصوفية التي انتقلت إليه في تلك الآونة ليست بمجرد الجهد الفردي من التجار أو الرحالة فقط، وإنما من السعي الجاد الذي بذله بعض الخلفاء العباسيين أنفسهم، وذكر في الحقائق التاريخية أن الخليفة العباسي هارون الرشيد بعث عددا غير قليل من الدعاة والوعاظ إلى جزر الأرخبيل في فترات متفاوتة، وأكثرهم من المدارس الصوفية ببغداد والبصرة، وكانوا أول المدرسين حملوا نواة التصوف إلى الأرخبيل في أواخر القرن الثاني الهجري، فانتعشت وانتشرت تعاليمه في القرون بعده(4).
ومن أثر تطور حركة الصوفية ظهرت الطريقة القادرية التي أسسها الشيخ عبد القادر الجيلاني (471هـ-1078م)، وكانت من أشهر الطرق الصوفية التي كثر أتباعها في إندونيسيا إلى يومنا هذا. فقد ادعى علماء إندونيسيا القدماء أن هذا الشيخ الصوفي قد وصل إلى سومطرة في القرن الحادي عشر الميلادي لتأسيس طريقته، فانتشرت هناك منذ ذلك العصر(5).
وجاءت في القرن الثاني عشر الميلادي أفواج من الصوفيين، فتوزعوا في ولايات الأرخبيل، منها قدح وملقا وأتشية وباساي وجاوة وصولو ومنداناو. وبأيديهم قويت الدعائم الإسلامية التي سبق أن وزع نواتها إخوانهم المسلمون الأولون(6). وجاءت الأخبار عن إسلام ولاية ملقا في كتاب تاريخ الملايو حيث تحولت هذه المملكة التجارية الرائجة إلى الإسلام في عهد أحد ملوكها، وهو راج كشيل بن راج بسر، ويرجع فضل ذلك إلى الداعية الصوفي القادم من جدة، وهو السيد عبد العزيز الذي غير اسم الملك إلى السلطان محمد شاه(7).
وفي عام (531هـ-1136م) قدم إلى ولاية قدح داعية صوفي يدعى الشيخ عبد الله بن الشيخ أحمد بن الشيخ جعفر القوميري من بلاد اليمن، ومعه إحدى عشر داعية وقد زار فور وصوله حاكم البلاد الذي ما زال على الديانة البوذية، ودار الحوار السريع بين الجانبين حيث سأله الشيخ عن دينه ودين أبناء البلاد، ثم بدأ يعلمه هو وزوجته الشهادتين، كما بدأ يعلم كبار الوزراء وأعيان البلاد عامة، وبمرور الأيام أسلم الشعب الملايوي بقدح جميعا. ثم غير اسم الملك من اسمه القديم (برا أونج مها ونجسا) إلى اسم عربي إسلامي وهو السلطان المظفر شاه(8).
وفي منتصف القرن الثاني عشر الميلادي وصل إلى مدينة أتشية صوفي عربي عبد الله عارف، ويرجع الفضل إليه في نشر الإسلام في هذه المنطقة، وهو من الدعاة الأوائل الذين كرسوا جهودهم في الدعوة الإسلامية في هذه المنطقة(9). كما وصل الشيخ برهان الدين الذي اختار لنشاطه غربي سومطرة وجنوبها(10).
وبدأ الإسلام ينتشر بشكل فعال في القرن الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين نتيجة الجهود التي بذلها الصوفيون الذين بدأ وصولهم إلى الأرخبيل منذ ذلك القرن، ثم ازداد انتشار الإسلام ليشمل جميع مناطق الأرخبيل في أواسط القرن الثالث عشر الميلادي، وذلك من أثر هجرات عدد كبير من الصوفيين إلى هذه البقعة(11).
وشهد القرن الثالث عشر الميلادي نقطة البداية لوصول الدعاة الصوفية بانتظام إلى ملقا وقدح والساحل الشرقي لشبه جزيرة الملايو، وذلك نتيجة سقوط بغداد معقل الثقافة الإسلامية على أيدي التتار(12).
ولقد بلغ نشاط الحركة الإسلامية التي قام بها الدعاة والصوفيون بملقا قمتها حتى ليقال: ولم يكن يقضي نصف قرن من انتشار الإسلام بها حتى أصبحت مركزا للدراسات الإسلامية، وبجهودها أسلمت ولايات في جنوب شبه جزيرة الملايو، كما خضعت تحت نفوذها مقاطعات بجزيرة سومطرة، فدخل جميع حكامها في حوزة الإسلام بفضل الصوفيين الذين تحركوا منها(13).
ومن أثر الجهود التي بذلها الدعاة الصوفيون في ذلك العصر أن تغيرت أوضاع التعاليم الإسلامية في المراكز التي تحولت إلى الإسلام، فأصبحت قصور الملوك والأمراء مراكز لتعليم الدين، وقاعات المحاضرة للأحكام الإسلامية، ومكاتب لإصدار الكتب الأدبية التي تتسم بالروح الدينية الصوفية(14).
وبالإضافة إلى أن السلطات الحاكمة شجعت الحلقات الصوفية ببناء الأماكن للأولياء والصالحين، وأغدقوا لهم بالأموال للاستعانة بجهودهم لمواجهة نفوذ أصحاب الخلوة الروحية الجاهلية القديمة، التي كانوا منذ قرون موضع التبجيل والتقديس، كما كانوا بمثابة المعلمين الروحانيين في نظر السكان(15).
وكانت مجهودات الدعاة والوعاظ الصوفيين في سبيل نشر تعاليم الإسلام تلقت التعزيزات المنظمة في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، ووصلت جماعة من الصوفيين إلى المقاطعات الشمالية لسومطرة في أوائل القرن الرابع عشر الميلادي، وهم قدموا من العرب دفعة واحدة برئاسة شيخ عبد الله الملك المبين، وهم الشيخ عبد الله الملك المبين في أتشية والشيخ عبد الوهاب في قدح والشيخ محمد في ميننجكاباو والشيخ محمد داود في فطاني والشيخ أحمد الشتاوي في سمودرا والشيخ محمد سعيد التتاحري في شامبا بفيتنام(16).
ومن نتيجة انتشار التعاليم الصوفية تطورت الطرق الصوفية في الأرخبيل وأن الطريقة الشطارية أكثر الطرق الصوفية أتباعا فيه في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، وكان لها شيوخ بارزون في المدينة وبجانبها تطورت الطرق القادرية والنقشبندية والشاذلية وغيرها، وأقبل الشعب على دراسة التعاليم الصوفية وأدبها التي يمثلها الإمام الغزالي أحسن تمثيل(17).
وفي هذين القرنين شهدت الدويلات الإسلامية الملايوية تطورا كبيرا من التيارات الصوفية والوفود الصوفيين من بلاد العرب والهند فيها. وفي عام (1582م) وصل من مكة الشيخ أبو الخير بن الشيخ بن حجر والشيخ محمد اليمني، وبعد مدة رجعا إلى المدينة. وكذا وصل من جوجرات في سنة (1588م) الشيخ محمد جيلاني محمد الرانيري بعد دراسته التصوف في مكة(18). ووصل في سنة (1637م) من جوجورات الشيخ نور الدين الرانيري الصوفي(19).
وقد واصل الجهد الذي بذله السابقون بعض الصوفيين المحليين من أمثال حمزة الفنصوري وشمس الدين السومطراني وعبد الرؤوف السنكل وبخاري الجوهري(20). وكان حمزة الفنصوري من المؤسسين الصوفيين بسومطرة وتلقب بابن عربي الملايوي، حيث تأثر به كثيرا، وهو أول من وضع شعرا صوفيا في الأدب الملايوي، وكان أثر الأدب الصوفي من العرب والفرس قد ساعده على إبداع الشعر الملايوي الصوفي، الذي ساد عليه اسم الشعر. وهو أول المصطلح الذي ظهر فنا للكلام المنظوم، ويرى العطاس(21) أن قراءته العميقة في الأشعار الصوفية لابن عربي وذي النون والحلاج والبسطامي وغيرهم وانطباعاته فيها قد ألهمته في إبداع الشعر الملايوي الصوفي.
ومن خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين برز الدعاة والصوفيون والوعاظ الذين بذلوا جهودهم في نشر الإسلام بمنطقة جاوة ويطلق عليهم اسم الولي أو الأولياء. ومن أبرزهم الأولياء التسعة، وكانت جنسياتهم الأصلية مجهولة، وبعضهم من العرب الذين درسوا لغة أهل البلاد، ولم تختف عليهم الأسرار العميقة التي ينطوي عليها الشعب بين جنباته واستعانوا بأساليب الدعوة المختلفة غير المتجنبين الوسائل الفنية كالأغنياء والموسيقى والتمثيل ومسرح العرائس وخيال الظل والأراجوز والرسوم الفنية على الأقمشة والاتصالات الشخصية.
ثم خططوا لكل مرحلة من مراحل الدعوة مشروعها في دقة وهدوء مهتمين بالعناية التامة باحترام مشاعر الشعب وأحاسيسه وعواطفه تجاه عاداته القديمة وتقاليده، فاستعملوا الحكمة في عملية التحويل والتغيير حتى لم يكد الشعب يحس بتحركه نحو التغيير العقائدي والاجتماعي.
وفى مقدمتهم مولانا ملك إبراهيم، ويطلق عليه لقب الشيخ المغربي وهو ليس ملايوي الأصل، ولكنه من سلالة زين العابدين بن الحسن بن علي، وبدأ نشاطه في الدعوة الإسلامية بين طبقتي التجار والفلاحين، فأسلم على يديه الكثيرون منهم، واتسعت دائرة دعوته حتى آمن بها معتنقو البوذية. وكانت ساحة الحركة والتبليغ له في جاوة الشرقية، واستهل دعوته بأسلوب التقرب إلى الناس والتعامل معهم على أساس من الاحترام والتكريم محققا في معاملاته معهم مبادئ الإسلام وأخلاقه الفاضلة، عارضا محاسن الإسلام متجنبا عوامل المصادمة والمجابهة لعقائدهم أو لعاداتهم التي درجوا عليها، ففاز بإعجابهم وكسب عددا كثيرا آمن معه بالإسلام.
ولما اتسعت أمامه آفاق الدعوة وتفتحت ميادينها انتقل إلى مرحلة إعداد مجموعة من الدعاة الصالحين يساعدونه في نشر الإسلام. فلذلك فتح المدارس الدينية المشهورة، وكلما زاد عدد المسلمين تحمس في تخريج مجموعة جديدة من الدعاة حتى لا يذر المسلمين الجدد دون رعايتهم وتقوية وتعميق مفاهيمهم عن الإسلام(22). وتوفي في يوم 9 من إبريل سنة 1419 للميلاد ووجد قبره في بلدة غريزيك من بلاد سورابايا(23).
ومن هنا ظهر الدور البارز الذي أدته حركة الصوفية في نقل الفكرة والثقافة الصوفية إلى أرخبيل الملايو، ثم انتشرت التعاليم الصوفية ووصلت إلى قمتها بظهور الصوفيين الملايويين ومؤلفاتهم الصوفية باللغة الملايوية. وبالإضافة إلى ذلك ظهرت القصص الصوفية عن الشخصية الصوفية أو تعاليمها، وكذا ظهر الشعر الصوفي الذي امتاز بنفحات صوفية خالصة.
2 – المؤلفات الصوفية وأبرز علمائها:
وصل تطور علم التصوف قمته في أرخبيل الملايو في القرن الثالث عشر الميلادي وما بعده بتعاقب وصول الصوفيين إليه لمجرد نشر تعاليمه. وفى القرن السادس عشر الميلادي ظهرت مدينة أتشية مركزا وحيدا لانطلاق التعاليم الصوفية، حتى سادت وتغلبت على التعاليم الإسلامية الأخرى، ومن أعلام التصوف في ذلك العصر الشيخ أبو الخير والشيخ محمد اليمني اللذان اهتما بتعليم التصوف ونشره على تيار وحدة الوجود(24).
وظهرت الترجمات العديدة من الكتب والقصص الصوفية العربية. ومن الكتب الصوفية المترجمة كتاب بداية الهداية للغزالي الذي قام بترجمته عبد الصمد الفلمباني في سنة (1192هـ). وسماه “هداية السالكين في علم التصوف”. كما قام بترجمة كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي في سنة (1193هـ) وسماه “سير السالكين في طريق السادة الصوفية”. كما ترجم كتاب حكم لابن عطاء الله السكندري في سنة (1836م) وقام بإنجازها الشيخ عبد الملك بن عبد الله(25). ثم عثر على ترجمة كتاب منهاج العابدين للإمام الغزالي وقام بترجمته الشيخ داود الفطاني.
كما برز الصوفيون المحليون بمؤلفاتهم منذ أواخر القرن السادس عشر الميلادي، وفى مقدمتهم الشيخ حمزة الفنصوري الذي اعتنق تيار وحدة الوجود، ومن مؤلفاته الصوفية “أسرار العارفين في بيان علم السلوك والتوحيد” و”شراب العاشقين” و”رباعي حمزة الفنصوري” و”المنتهى” وامتاز محتوى مؤلفاته الصوفية بتيار وحدة الوجود.
ثم برز الشيخ شمس الدين السومطرائي الذي كان من تلاميذ حمزة الفنصوري، ومن مؤلفاته الصوفية “شرح رباعي حمزة الفنصوري” و”مرآة المؤمنين” و”جوهر الحقائق” و”نور الدقائق” و”شرح مرآة القلوب” و”سير العارفين”.
ثم ظهر الشيخ نور الدين الرانيري لمهاجمة التيارات الصوفية التي أثارها حمزة الفنصوري وتلميذه شمس الدين، ومن مؤلفاته الصوفية “أسرار الإنسان في معرفة الروح والرحمن” و”حجة الصديق لدفع الزنديق” و”التبيان في معرفة الأديان” و”حل الظل” و”شفاء القلوب” و”الفتح المبين على الملحدين” و”الأخبار الأخيرة في أحوال القيامة وما بعد الحياة لأهل الممات” و”لطائف الأسرار” و”جواهر العلوم في كشف المعلوم” و”شزارم الصديق لقطع الزنديق” و”هداية الإيمان بفضل المنان” و”علاقة الله بالعالم”.
ثم ظهر عبد الرؤوف السنكيلي من أنصار الشيخ نور الدين في مهاجمة تيار وحدة الوجود، ومن مؤلفاته الصوفية “عمدة المحتاجين إلى مسلك المفردين” و”الطريقة الشطرية” و”مجموع المسائل” و”شمس المعرفة” و”كفاية المحتاجين” و”دقيق الحروف” و”بيان التجلي”.
وظهر في ولاية فلمبانج في القرن الثامن عشر الميلادي الشيخ عبد الصمد بمؤلفاته الصوفية المستقاة من كتب الإمام الغزالي، منها “هداية السالكين” الذي ألفه عام (1778م) وقد استقى أفكار الإمام الغزالي في كتابه بداية الهداية في إنجاز مؤلفاته. وفى العام نفسه ألف “سير السالكين في طريقة السادة الصوفية” واقتبس الأفكار من كتاب “إحياء علوم الدين” للغزالي في إنجازه، ومنها “العروة الوثقى” و”راتب عبد الصمد”. كما ظهر أيضا الشيخ شهاب الدين بكتابه الصوفي “رسالة”.
وتطور التصوف في ولاية بنجرماسين على يد الشيخ أرشد البنجارى بمؤلفاته الصوفية، منها “تحفة الراغبين في بيان حقيقة إيمان المؤمنين وما يفسده في ردة المرتدين”. وفى ولاية الفطاني ظهر الشيخ داود عبد الله الفطاني بكتابه “الجواهر السنية” و”كشف الغمة”.
ومن مميزات هذه المؤلفات أنها تحتوي على التعاليم الصوفية، كما أنها تحمل العبارات والألفاظ العربية، مثل العنوان باللغة العربية، وكذا أبوابها الرئيسية وفصولها ومباحثها كلها باللغة العربية، وفي مضمونها ألفاظ عربية متناثرة ومصطلحات صوفية. وفى بدايتها البسملة والحمدلة والصلاة على النبي والدعاء والشكر، وفى النهاية الدعاء والشكر كلها باللغة العربية.
ومن ناحية الكتابة أنها كتبت بالحروف العربية التي تعرف بالحروف الجاوية حيث استخدمت جميع الحروف العربية مع زيادة خمسة أحرف لمراعاة النطق الملايوي، وهى “ج” بثلاث نقط وسطها و”غ” بثلاث نقط فوقها و”ف” بثلاث نقط فوقها و”كـ” بنقطة واحدة أعلاها و”ن” بثلاث نقط أعلاها.
وقد ساهمت هذه المؤلفات على انتشار الكلمة العربية والمصطلحات الإسلامية الصوفية في اللغة الملايوية، حتى أصبحت تتداول على أفواه الناس، وتحتل متون القواميس الملايوية وقام الباحثون اللغويون بشرح دلالتها ومعانيها.
وأدت المؤلفات الصوفية دورا رئيسيا في تعريف الشعب بالتعاليم الصوفية الرفيعة، وقامت بتغذية عقوله وتربية أخلاقه وتهذيب روحه. واستطاعت على تكوين الشعب ليكون إنسانا كاملا يتعبد نفسه إلى خالقه من خلال التحلي بالصفات المحمودة والتخلي عن الصفات المذمومة. ومن الأخلاق المحمودة التي أثارتها التعاليم الصوفية التوبة والصبر والشكر والرجاء والخوف والفقر والزهد والتوحيد والتوكل والمحبة والشوق والرضا والنية والإخلاص والصدق والمراقبة والمحاسبة والتفكر وذكر الموت وما بعده.
ومن الصفات المذمومة التي تعرضت ليجتنبها العبد عجائب القلب والنفس وشهواتها وآفات اللسان والغضب والحقد وحب الدنيا والمال والبخل والجاه والرياء والغرور. ومن خلال عملية التحلي والتخلي حصل العبد على أعلى مستويات عند الله وأحلى التقرب إليه.
3 – القصص الصوفية:
عثر في الأدب الملايوي القديم على عدد من القصص الصوفية، وفي مقدمتها “حكاية وصية لقمان الحكيم” و”حكاية جمجمة بيضاء” و”حكاية الملك سلطان إبراهيم أدهم” و”حكاية أبى يزيد البسطامي”. وبدأت حكاية وصية لقمان الحكيم بالحديث عن شخصية لقمان، ثم صورت حوارا بين لقمان وابنه والذين يريدون التعلم منه، وفي نهاية القصة ذكر المؤلف قائمة عن دروس لقمان الحكيم وحكمته ووصاياه، وكان مضمون الحكاية الملايوية يتشابه بمضمون القصة العربية، وهي قصة لقمان في قصص الأنبياء للثعالبي. ويمكن القول إن القصة الملايوية مستقاة من قصة لقمان للثعالبي مع بعض الإضافة في الأحداث، ولم يعرف مؤلفها ولا تاريخ تأليفها، وذكرت هذه القصة في قائمة الأعمال الأدبية الملايوية القديمة للورندلي سنة (1736م) وتحمل عنوان حكاية الملك بسمان ولقمان(26).
ومن الجدير بالذكر أن الشعب الملايوي قد تعرف عليها منذ العصر المبكر عندما انتشر الإسلام في الأرخبيل، لأن الشعب في ذلك العصر أقبل على القرآن – قراءة وفهما وقدوة – فلا بد أن يتعرف على هذه القصة من خلال اطلاعه على القرآن، ولكنها في أول الأمر عبارة عن قصة للقدوة، وتداولت في الحلقات التعليمية، ثم انتشرت كنوع من الحكاية.
وكانت خصائص شخصية لقمان الحكيم في الحكاية الملايوية “حكاية وصية لقمان” مثل ما ورد ذكره في القرآن الكريم. وصورت الحكاية أنه رجل ذو عقل وحكمة، ومنح الله له العلم والحكمة حتى يستطيع الحوار مع الحيوان والأشجار والأحجار، وقيل إنه نبي. وكان يهتم بتعليم ابنه الأدب والأخلاق والحكمة ليكون عابدا مؤمنا بالله.
وجمعت تعاليمه ووصيته لابنه في كتاب يسمى “مجلة لقمان”. ومن تعاليمه لابنه أنه حثه على أن يتخلق بالأخلاق الكريمة، وأن يتعبد إلى الله ويجتهد في سبيله، وبالإضافة إلى ذلك أنه حذر ابنه من عذاب النار مع بيان أصناف وصفات أهل النار، مثل الحاكم الظالم والجائر، كما أنه علم ابنه علوم التوحيد وما يتعلق بالإيمان بالله.
ومن الحكاية ذات الطابع الصوفي “حكاية جمجمة بيضاء” واستقيت نواتها من المصدر العربي من القصة عن معجزة النبي عيسى عليه السلام في إحياء الموتى، وعثر على هذه القصة في الأدب العربي في كتاب “حلية الأولياء” لأبى نعيم الأصفهاني، ورواها كعب الأخبار(27). وأصبحت هذه القصة مصدرا للحكاية الملايوية. وفي المركز المتحفي بجاكرتا عثر على ست نسخ من هذه الحكاية تم نسخها سنة (1827م)، وفى مكتبة ليدن عثر على أربع نسخ، وفى مكتبات مختلفة بلندن عثر على خمس نسخ، ثم عثر على نسخة واحدة تم طبعها ونشرها بسنغافورة بدون تاريخ، وقام بكتابتها بابو ضامن شاه ولم يفصح عن تاريخ تأليفها.
صورت حكاية جمجمة بيضاء الملايوية(28) أن بطلها ملك الشام ومصر، وهو رجل وسيم يلبس ملابس رفاهية، وله ميزة خاصة يتميز بها عن سائر الملوك، ولم يكن أحد من ملوك الدنيا يفوقه في الغناء والجاه. ورزقه الله طول العمر حيث حكم مملكته لمدة أربعمائة سنة. وذات يوم أصيب بالمرض الذي لا يستطيع الأطباء علاجه، وازداد الأمر سوءًا يوما بعد يوم، وبعد مضي سبعة أيام جاء إليه ملك الموت، فحاول الملك رشوتهم بأن أقنعهم بالتبادل بين روحه وأمواله وإبعاده عن الموت، ولكن الملك اتهمه بأنه عاص بالله ولا يتعبد إلى الله في حياته، فنزعت روحه فمات، ثم دفن. وذاق ألوان عذاب الله المتنوعة في النار وتنقل من عذاب إلى آخر.
وذات يوم عندما تنزه النبي عيسى في الصحراء لقي جمجمة ذلك الملك، ودعا إلى الله كي تتكلم معه، فبإذن الله كلمته الجمجمة، وحكت له ما أصابها من ألوان العقاب في النار حتى غفر لها الله، ثم طلبت من النبي عيسى لإحيائها مرة أخرى للتعبد إلى الله، فدعا النبي عيسى إلى الله فعاشت مرة أخرى، وعاد ذلك الملك إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام والتعبد إلى الله، وحكى لهم ما أصابه من ألوان العذاب حتى يتعظوا بخبرته في النار، وأصبحوا عباد الله الصالحين المخلصين، وأما ملك الجمجمة فبعد مرور أيام أصبح صوفيا يتعبد إلى الله(29).
كما عثر في الأدب الملايوى على نوع من القصة الصوفية وهى حكاية إبراهيم بن أدهم التي تعد من أوائل ما وصل إلى الأدب الملايوي من القصة الصوفية، وذكرها الشيخ نور الدين الرانيري في كتابه “بستان السلاطين” سنة (1640م)، وتحدث عنها في أكثر من عشر صفحات، كما عثر على مخطوط عنها سنة (1779م)، وكان مصدرها من القصة العربية عن إبراهيم بن أدهم، وربما كان مصدرها ما كتبه المقريزي عن إبراهيم بن أدهم في المقفى الكبير، ويرى بعض الباحثين أن مصدرها ما كتبه السلمي في كتابه “طبقات الصوفية” عن إبراهيم بن أدهم.
صورت حكاية السلطان إبراهيم بن أدهم الملايوية شخصيته بأنه ملك العراق مشهور بالعدل والاحترام عند أهل بلاده، وكلامه مسموع ومطاع. وذات يوم عندما كان في الصيد مع وزرائه وصل إليه غراب، يخطف طعامه، وطار في الهواء على حسب سرعة وطئه وتبعه من الوراء حتى وصل إلى رجل مربوط بشجرة يأكل ويشرب بمساعدة ذلك الغراب، وكان هذا الرجل مصدر إلهام الملك ليكون صوفيا، وفكر في أن من يتقي الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب. وذات ليلة ترك قصره وبلاده متجها إلى مكة للتعبد إلى الله، وفي الطريق أحس بالجوع فتناول رمانة على سطح ماء النهر وأكلها، ثم تنبه بأنه أكلها بدون الاستئذان من صاحبها. فذهب إلى حديقة الرمان واستأذن من صاحبته فسمحت له إلا بشرط أن يتزوج بها، فتزوج بها ومكث عندها مدة. ولا يمنعه هذا الزواج عن قصده، ثم خرج متجها إلى مكة حتى وصل إليها، واعتكف في المسجد الحرام يتعبد إلى الله فيه، وأصبح صوفيا يترك الحياة المترفة طلب التقرب إلى الله ورضاه(30).
وجاءت هذه الأحداث نفسها في كتاب “المقفى الكبير” للمقريزي. ومن خلال المقارنة بين مضمون هاتين القصتين نجد أن القصة العربية عن إبراهيم بن أدهم في كتاب “المقفى الكبير” مصدر للقصة الملايوية لوجود التشابه بينهما في جميع النواحي من الشخصية والأحداث والظروف والرسالة الصوفية إلا أن القصة الملايوية جاءت مختصرة على شكل القصة دون إيراد أقوال المؤرخين(31).
وبجانب القصص المذكورة ظهرت حكاية الشيخ أبي يزيد البسطامي، ولم يعثر على الوثائق التاريخية التي تدل على وصول هذه الحكاية إلى الأدب الملايوى في العصر المبكر، كما لم تدرج في القائمة لورندلي سنة 1736م وربما وصلت إلى الأدب الملايوى في العصر المتأخر، أو أنها وصلت مبكرة ولكن لم تدرج في تلك القائمة، وكان مصدرها من القصص العربية. والجدير بالذكر أنها مترجمة أو مستقاة من حكاية أبى يزيد البسطامي العربية أو كتاب “مسائل الرهبان”.
وصورت الحكاية شخصية بطلها بأنه صوفي أدى فريضة الحج خمس وأربعين مرة، وذات يوم عندما أحس بالجوع باع حجه للحصول على الطعام، ثم يئس وندم على ما فعله، فسافر للبحث عن صومعة للتقرب إلى الله، وفى الطريق صادفه راهب، وحاول إقناعه بالإسلام ولكن محاولته فشلت، وذات يوم دعاه ذلك الراهب إلى الكنيسة لاستماع الخطبة من رئيس الرهبان، وحضر في ذلك المجلس بتنكر نفسه راهبا، وعندما بدأ الرئيس خطبته توقف عن الكلام ولا يستطيع أن يكمل خطبته لتواجد أبي يزيد معهم، ثم تحداه بالمجادلة، فدارت بينهما المجادلة العلمية حيث استطاع أبو يزيد إقناع الرهبان ورئيسهم بالإجابة عن جميع الأسئلة المطروحة له، ثم أسلموا جميعا(32).
وجاءت هذه القصة مطابقة مع ما ورد في قصة عربية عن أبي يزيد البسطامي مع الراهب حيث حكت أنه ولي من أولياء الله وحج خمسا وأربعين حجة ثم باع حجه برغيف خبز. وبعد أن يئس من فعله دخل الروم والتقى بالراهب وجرى الحوار بينهما حيث أجاب عن جميع الأسئلة المطروحة له، وفي نهاية الحوار اقتنع الراهب به وأسلم(33).
ومن خلال التعرض للقصة الصوفية المذكورة يتضح لنا أنها تنقسم إلى نوعين من حيث طابعها، والأول عن التعاليم الصوفية، والثاني عن الشخصية الصوفية التي تعكس من خلال تصرفاتها التعاليم الصوفية. وكللت جهودها بالنجاح في تعريف الشعب بالتعاليم الصوفية، ومنها التحلي بالأخلاق المحمودة، والتخلي عن الصفات المذمومة. ويظهر ذلك جليا في قصة لقمان الحكيم من خلال نصيحته لابنه. ومنها ترك الدنيا ومتاعها والتقرب إلى الله. وذلك كما أثارت قصة إبراهيم بن أدهم قضايا الزهد، من ترك الدنيا في البحث عن التقرب إلى الله حيث ترك الملك ثروة الدنيا ولذاتها في طريقه إلى الله. وعن التخلي عن الصفات المذمومة واجتناب المعصية تعرضت قصة الجمجمة ألوان العذاب المتنوعة للعاصي، ويظهر ذلك من خلال رحلات صاحبها في طبقات النار. وفي أهمية العلم في حياة الناس وفي طريق الدعوة أثارت قصة أبي يزيد البسطامي حيث صورت نجاح أبي يزيد في منافسته الرهبان بعلمه العالي.
4 – الشعر الصوفي:
تطور بجانب النثر الصوفي في الأدب الملايوي الشعر الصوفي حيث نجد أن قصيدة البردة للبوصيري أول ما احتل مكانا في الأدب الملايوي، وكان طابعها الصوفي دافعا أداها إلى الانتقال. وعثر على أول ترجمة لها في القرن السادس عشر الميلادي، وتحتوي على 162 بيتا، وما زال مخطوطها مودعا في مكتبة جامعة كمبرج، وهى مكتوبة بالخط الجاوي الموسوم بالحروف العربية، ثم أعاد كتابتها دريويش بالحروف اللاتينية وقام بترجمتها إلى اللغة الهولندية(34).
وتدل هذه الترجمة على أن نصوص البردة قد وصلت إلى أرخبيل الملايوي في وقت مبكر قبل ترجمتها، وكانت في بداية وصولها تتداول في المجالس الصوفية والأعياد الإسلامية الرسمية، وكان للجهود الصوفية فضل في نقلها إليه.
ثم عثر على ترجمة البردة الثانية في كتاب “برزنجي مجموعة شرف الأنام” الذي يحتوي على ثلاثة أبواب، وكانت البردة في الباب الثالث، وقام المترجم بوضع الكلمة الملايوية المترجمة تحت الكلمة العربية، وأتى بحاشية يسجل فيها المعنى العام للبيت مع شرح المفردات العربية الصعبة. وما زال المترجم وتاريخ الترجمة مجهولين لأن المترجم لم يسجل اسمه ولا تاريخ إنجازه.
وكانت نصوص البردة العربية تذاع في أرخبيل الملايو، وتلقت رواجها لدى الشعب حتى تمت ترجمتها في القرن السادس عشر الميلادي. ثم تطورت مع ترجمتها في المناسبات الإسلامية والأعياد.
كما تداولت بجانب البردة قصة المولد النبوي المعروفة بالبرزنجي، حيث ظهر كتاب البرزنجي وهو مجموعة شرف الأنام الذي ترجم إلى اللغة الملايوية، وقد انتشرت البردة والبرزنجي جنبا بجنب لدى الشعب حيث يقرأهما صباحا ومساء، ويتغنى بهما في المناسبات الإسلامية والاحتفالات والأعياد، وكثيرا ما يتغنى بهما في حفل الزفاف وذلك قبيل وصول العروسين في الحفل، وفى حفل العقيقة وهي حفلة تقام بمناسبة حلق شعر الطفل في اليوم السابع من ميلاده، وذلك بأن يوضع الطفل في المهد ويجتمع حوله الحاضرون ويتغنون بهما. كما ذاعت في حفل مولد النبوي وفي أيام التشريق الثلاثة(35).
ويشتمل البرزنجي على عدة عناصر توافق البردة، ولذلك يروج بجنبها ويلتحمان كالمادة الواحدة حيثما يشتمل البرزنجي على بعض نصوص البردة. ومن هذه العناصر النسيب والتحذير من هوى النفس ومدح النبي والكلام عن مولده ومعجزاته والقرآن والإسراء والمعراج والجهاد ثم التوسل والمناجاة(36).
ومن أسباب ذيوع البردة سهولة قراءتها وحفظها لأنها من أيسر الكلام المنظوم، وكانت تجري على ألسنة الشعب الملايوي بسهولة ويسر بدون عقدة. كما كانت هذه الخاصية للبرزنجي حيث يشتمل على نظام الفواصل المسجوعة التي تجري مجرى القصيدة في التزام القافية، ويضاف إلى هذه المنظومات النثرية منظومات شعرية ينشدها المنشدون بعد كل وصلة، والوصلة تختم بدعاء مكرر، مثل: عطر قبره الكريم بعرف شذى من صلاة وتسليم. وأدى هذا الشكل إلى لفت أنظار الشعب إليه وأقبلوا عليه. كما كان للبردة والبرزنجي معنى لطيف رقيق يدفع إلى الانتشار أوساط الشعب من مدح النبي وذكر فضائله ومعجزاته.
بجانب البردة والبرزنجي ظهر ديوان رباعيات حمزة الفنصوري الملايوي الذي يعد نوعا جديدا من الشعر الملايوى الصوفي، وقد تأثر ناظمه بالنزعة الصوفية من خلال اطلاعه على المؤلفات الصوفية العربية، ويعد أول مؤلف أدبي بالكلام المنظوم. ثم قام تلميذه البارز الشيخ شمس الدين السومطرائي سنة (1611م) بشرحه ويسمى “شرح رباعيات حمزة الفنصوري”، ويتضمن اثنين وأربعين بيتا، وكل بيت يحتوي على أربعة أشطر. ويعد ثمرة من ثمار أفكار مؤلفه وتعاليمه الصوفية.
مما تمتاز به هذه القصيدة من سائرها من أنواع الكلام المنظوم القديم أنها تحتوي على التعاليم الصوفية، وتتحدث عنها، وتتمثل هذه التعاليم في العلاقة بين العبد وربه، فهي تخاطب القلوب والعواطف والأحاسيس والشعور الصادق. ولم تتكلم عن الظواهر المرئية المحسوسة إلا لتجعلها وسيلة أو قناة للوصول إلى المعنى الباطني. وينتقل من غرض إلى غرض بدون أي إحساس أو إشارة.
وبدأ حديثه عن قدرة الله وتنزيهه من سائر مخلوقاته ومدى اتصاله بعبده. وعن التعاليم الصوفية. وعن الطريقة للتعرف على الله للوصول والتقرب إليه. وعن شأن العارف بالله من العشق والحنين والمجاهدة. وعن مدى تجلية الله لمن أحبه واتخذه محبوبا. وعن معرفة الله بطريقة النفي والإثبات حتى تتبين للعبد تجلية الله في قلبه.
ثم تحدث عن الدنيا وشهواتها وعن مدى خطر الدنيا في طريق الوصول إلى الله. وعن القلب المريض من أثر تعلقه بالدنيا وشهواتها.
ثم تكلم عن وجود الله والدلالة على وجوده وعن وحدانية الله والدلالة عليها وعن فضل علم معرفة الله، وعن الأشياء التي لا بد منها للوصول إلى الله. وعن فضل العارف بالله ومميزاته، واختتم قصيدته بالحديث عن التعريف بنفسه ومكانته وطريقته في الوصول إلى الله.
من مميزاتها أيضا أنها تتضمن صورا من التشبيهات والتمثيلات البليغة، فقد عمد الناظم إلى توظيف هذه الصور في قصيدته لإبراز النفحة الصوفية الواضحة، ومن هذه الصور تشبيه العبد بالأولاد في أن العبد يحتاج إلى رعاية الله وأنه لا يستغني عنه، وذلك مثل الأولاد الذين يحتاجون إلى من يقوم برعايتهم. وتشبيه مرتبة تجلي الله وجماله بشأن اختطاف الزهرة والثوب المتنوع ألوانه في اللطف ومنتهى الجمال.
واستطاع حمزة بواسطة هذه التشبيهات التي صورت الصورة الصادقة الرقيقة على إبراز النفحة الصوفية وتجليتها أمام القراء.
مما تمتاز به القصيدة أيضا أنها تحفل بألفاظ عربية وافرة للدلالة على معناها الأصلي، ومن يتصفح صفحات هذه القصيدة يلتقي بالعدد الوفير من الألفاظ العربية، وكانت الأغراض من وراء توظيفها الوصول إلى المرمى الصوفي من وراء دلالة تلك الألفاظ. وكان استخدامها أقرب في الوصول إلى المعنى المراد في الذهن بدلا من استخدام الألفاظ الملايوية. وتصور المعنى الصوفي من وراء الألفاظ العربية أدق للعواطف وأضبط في تحضيره في الذهن الصوفي.
ومن العوامل التي دفعت حمزة إلى استخدام الألفاظ العربية في قصيدته تأثره بالثقافة العربية الإسلامية، كما تأثر بالكلمات العربية في حديثه وكتابته. وهذا بالإضافة إلى انتشار الكلمات العربية كثيرا في اللغة الملايوية في ذلك العصر من خلال الاحتكاك بين اللغتين. وسهولة توضيح المعنى الإسلامي المراد بالكلمات العربية. وقد ساعدته هذه العوامل على التعبير الصوفي المؤثر في قصيدته بنسج الكلمات العربية ومزجها من خلال الكلمات الملايوية.
ومن خصائص اللغة العربية أنها استخدمت كثيرا في المجال الديني حتى أصبحت بعضها مصطلحات دينية، ولم تكن الكلمات الملايوية تؤدي معنى تلك المصطلحات. ويظهر ذلك وضوحا في الكتب الدينية باللغة الملايوية التي ابتدأت بالدعاء والتعبيرات العربية واختتمت كذلك بها، وموضوعات المباحث فيها بالألفاظ العربية، وكذا تسربت هذه الألفاظ إلى صلب المبحث. فلا غرابة للمستمعين بهذه المزاوجة لأن الألفاظ العربية المقترضة في اللغة الملايوية تدل على معنى أدق في قلوب المستمعين.
وفيما يلي بعض الألفاظ التي ترددت كثيرا في قصيدته وأصبحت مصطلحات صوفية لديه: سبحان الله، كامل، إنسان، عالَم، عالِم، جاهل، دائم، واصل، محبوب، عادل، أولاد، سليم، محمد، عاشق، عالي، غير، باطن، ظاهر، عجيب، غرور، نفس، شهوات، أمين، دنيا، آخرة، رب، ميت، حياة، موجود، باقي، جهاد، وهو، أول، آخر، خاتم، حواء، آدم، ساتر، حاضر، أسمى، ساقي، ساكر، مشهور، نادر، إثبات، نفى، فرش، جوهر، راحة، صافي، ذات، بريء، فقير، مسكين، عرياني، شريعة، حقيقة، غافل، معرفة.
يتضح من الدراسة السابقة أن الحركة الصوفية قد وصلت إلى أرخبيل الملايو في وقت مبكر، وساعدت على انتشار الإسلام وتعاليمه فيه، ووصلت إلى ربوعه الجماعات من الصوفية فتوزعوا فيها لنشر تعاليم الإسلام خصوصا التعاليم الصوفية من الزهد في الدنيا والتقرب إلى الله وحده، ومن أثر جهودهم انتشرت تلك التعاليم فيه حتى أدت إلى ظهور الصوفيين المحليين الذين بذلوا جهودهم في بث التعاليم الصوفية التي غرسها السابقون، ومن مهمتهم أن قاموا بترجمة المؤلفات الصوفية العربية، كما قاموا بتأليف المؤلفات الصوفية باللغة الملايوية.
ومن أثر تلك الحركة وصول القصص الصوفية وانتشرت أوساط الشعب، كما وصلت البردة والبرزنجي في المدائح النبوية، ونشأ الشعر الملايوي الصوفي من تأثير الشعر الصوفي العربي في الشاعر الملايوي.
ومن هنا اكتشف أن الأدب الصوفي قد وصل إلى أرخبيل الملايو وقام بدور فعال في التطور، وانتشر فيه بنوعيه النثر والشعر، وأولع الشعب في تناوله. وساعد على ازدهاره جهود الصوفيين المحليين الذين كانوا يواصلون جهود السابقين من العرب والفرس والهند.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى