الإمام الشاطبي حياته ومؤلفاته
د. حسن سلمان
العلامة الشاطبي من القلائل الذين برعوا وأبدعوا في مقاصد الشريعة تأصيلا وتفريعا وتجديدا وصياغة في لحظة تاريخية عصيبة كانت تعصف بالأمة هجمات الخارج ويهددها الجمود الفكري والتقليد المذهبي الأعمى وكانت الأمة بحاجة ماسة للتجديد العلمي والمعرفي من أهله الراسخين ومنهم الإمام الشاطبي المالكي الأندلسي وكأنما كانت لحظة ظهوره ميلادا جديدا وخاصة في علم أصول الفقه والمقاصد تحديدا وفي هذه اللحظات التاريخية من عمر الأمة المسلمة تكثر الحاجة لمعرفة الأصول الضابطة للتفكير المنهجي والنظر العلمي المنضبط والقائم على الاتباع الواعي والتجديد الراشد وتعد مؤلفات العلامة الشاطبي من أهم ما يحتاجه طلبة العلم رعاية للنص لفظا ومعنى وهنا لا يفوتني التنبيه بأن الشاطبي وجهة مقصودة للكثيرين ممن أرادوا تحوير وتحريف علم المقاصد عن حقيقته الأساسية القائمة على أساس رعاية النص الشرعي لفظا ومعنى وليس اسقاط النص بحجة المقصد والمعنى لأن المعنى يكتسب مشروعيته من النص فإذا أسقط النص فقط سقط المعنى بالتبع لأننا لم نتعرف على مقاصد الشارع إلا بالنصوص الشرعية المعبرة عن مراد الله تعالى وهي نصوص في كتاب محفوظ وبالتالي الأمة (أمة كتاب) تستنطقه في حياتها الخاصة والعامة طلبا للهداية والرشد وتراعي حروفه وحدوده ولفظه ومعناه وروحه وفي السطور التالية نتناول تعريفا مختصرا عن العلامة الشاطبي ليكون محفزا لطلبة العلم على الاستفادة من علومه ومنهجه المعرفي والإصلاحي.
1/ اسم ونسب ومكان وزمان ميلاد الإمام الشاطبي:
هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي، أبو إسحاق الشهير بالشاطبي ، ولم يذكر أحد ممن ترجم له زمان ولادته ولا مكانها أما عام ولادته فقد اجتهد الأستاذ/ أبو الأجفان في تقديرها بعام 720هـ، وأما مكان ولادته فقد تحاشى الأستاذ أبو الأجفان التعرض لها ـ ربما لعدم توفر معلومات كافية عن الموضوع ـ حيث قال: (وبغرناطة نشأ الشاطبي وترعرع).
وقال: أحمد الريسوني صاحب نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي: (والذي جعلني أتساءل عن مكان ولادته، هو اسمه المشهور الشاطبي نسبة إلى شاطبة فلم ينسب إليها؟ وعلى كلٍ فالأظهر أنه ولد بغرناطة) وأما كونه نشأ بها وقضى فيها كل حياته فأمرٌ لا يذكر غيره؛ فلا تذكر له أسفار ولا رحلات، ولا يذكر هو أيضاً شيئاً من هذا القبيل. بل حتى الرحلة المعتادة للعلماء ولغيرهم ـ وهي رحلة الحج ـ لا نجد لها ذكراً!).
2/عصره:
عاش أبوإسحاق إبراهيم الشاطبي في القرن الثامن بغرناطة وهي عاصمة الدولة النصرية التي آل إليها حكم الأندلس في الربع الثاني من القرن السابع وكان ملوك بني نصر في صراع مع العدو الإسباني الذى تفاقمت أطماعه في الاستيلاء على المراكز الأندلسية وقد تم له الاستيلاء على جيان وشاطبة وأشبيلية قبل أن يحل منتصف القرن السابع ولم تفتأ محاولته تتكرر لإسقاط الحصون والمواقع والاستحواذ على المدن الإسلامية ولم يكن يحترم ما يعقده من حين لآخر من معاهدات سلم مع أمراء بني الأحمر وقد تواصلت الاضطرابات والفتن بالمملكة الغرناطية حتى مهدت لسقوط غرناطة آخر المعاقل الأندلسية في أواخر القرن التاسع وكانت هذه المملكة في عصر الشاطبي ملاذاً لكثير من المسلمين الذين سقطت مدنهم بأيدي النصارى ، حيث يهاجرون إليها محافظة على دينهم وعقيدتهم وكان المناخ الثقافي في غرناطة في حياة الشاطبي مزدهراً نسبياً إذ تتواصل فيه ظاهرة الاهتمام العلمي ويقبل فيه العلماء على إثراء رصيد المعرفة بمؤلفاتهم وأبحاثهم ويستمر سند الحديث ورواية كتب العلم وتدوين برنامج الشيوخ ومن أشهر المؤسسات العلمية في غرناطة آنذاك الجامع الأعظم والمدرسة النصرية وهناك من السلاطين والأمراء في دولة بني الأحمر ممن شغف بالفنون وولع بالأدب كأبي الحجاج يوسف بن إسماعيل المتوفى سنة 755هـ .
وكان لعلماء الأندلس ومفكريها في هذا العهد المضطرب محاولات للإصلاح ورأباً للصدع ودعوة للجهاد وبثا لروح العزم في النفوس وتبصيراً بالخطر المحدق ومن ذلك مواقف الشاطبي في تجديد الفكر ومحاربة البدع والمحدثات.
3/ مشايخه:
فرق الأستاذ أبو الأجفان بين شيوخه الغرناطيين وشيوخه الوافدين على غرناطة، وهو تمييز له فائدة فمن جهة، يؤكد لنا أن الشاطبي لم يتتلمذ خارج غرناطة، ومن جهة أخرى ينبهنا إلى الجهات التي تلقى منها الشاطبي علومه إلى جانب غرناطة نفسها.
** فمن شيوخه الغرناطيين:
أبو عبد الله محمد بن فخار البيري، المتوفى سنة (754هـ) يقول عنه تلميذه ابن الخطيب (الإمام المجمع على إمامته في فن العربية المفتوح عليه من الله تعالى فيها حفظاً واطلاعاً ونقداً وتوجيهاً لما لا مطمع فيه لسواه). وكان من أحسن قراء الأندلس تلاوةً وأداءً قرأ عليه الشاطبي بالقراءات السبع في سبع ختمات وأكثر عليه في التفقه في العربية وغيرها ولازمه حتى الممات، وكان الشاطبي يحلي شيخه هذا (شيخنا الأستاذ الكبير العلم الكبير).
أبو جعفر أحمد الشقوري: الفقيه النحوي الفرضي الذي كان يدرس بغرناطة كتاب (سيبويه) و(قوانين ابن أبي الربيع)، و(تلخيص ابن البناء)، و(ألفية ابن مالك) و(فرائض التلقين) و(المدونة الكبرى).
أبو سعيد فرج بن قاسم بن أحمد بن لب التغلبي المتوفى سنة 782هـ مفتي غرناطة وخطيب جامعها والمدرس بمدرستها النصرية، وقد نقل عنه الشاطبي بعض الفوائد النحوية وغيرها ونعته بـ (الأستاذ الكبير الشهير) وكان له أثر في رسم تجاهه في الفتوى.
أبو عبد الله محمد بن على البلنسي الأوسي المتوفى سنة (782هـ) وهو مؤلف تفسير كتاب (في مبهمات القرآن).
أبو عبد الله محمد بن أبي الحجاج يوسف بن عبد الله بن محمد اليحصبي المعروف باللوشي، نشأ هذا الشيخ باللوشي، وقرأ بها، واشتهر بالأدب الجيد، وأخذ عن أبي جعفر أحمد بن الزبير، وأبي عبد الله محمد بن رشد الفهري، وأبي الحسن القيجاطي وأبي عبد الله محمد بن سلمون الكناني، ومن تلاميذه: يحيى السراج والذي ترجمه في فهرسته وذكر أن ولادته سنة (692هـ)، أنه توفي بغرناطة.
ومن شيوخه الوافدين على غرناطة:
أبو عبد الله الشريف التلمساني: الإمام المحقق أعلم أهل وقته.
أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد المقري (الجد) المعروف بالمقري الكبير المتوفى سنة (759هـ).
أبو القاسم محمد بن أحمد الشريف الحسن السبتي قاضي الجماعة المتوفى بغرناطة سنة 760هـ، وصفه التنبكتي بأنه رئيس العلوم اللسانية.
أبو علي منصور بن محمد الزواوي: المحقق المدرس الأصولي درس ببجايا وتلمسان وهو شيخ الشاطبي في الأصول. قال الشاطبي: (حدثنا شيخنا الأصولي أبو على الزواوي …).
شمس الدين أبوعبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق الخطيب التلمساني المتوفى في القاهرة سنة (781هـ). وقد أشار أحمد بابا التنبكتي إلى استفادة الشاطبي من بعض العلماء الذين اجتمع معهم. وذكر منهم الحافظ الفقيه أبا العباس أحمد القباب توفي سنة (779هـ)، والمفتي المحدث أبا عبد الله الحفارإلى غير ذلك من العلماء.
4/ تلاميذه:
وقد ذكر منهم التنبكتي ثلاثة وهم:
1ـ أبو يحيى بن عاصم، العلامة الشهيد في ساحة المعركة يوصف بأنه (صاحب الإمام الشاطبي ووارث طريقته).
2ـ أخوه القاضي الفقيه أبو بكر بن عاصم صاحب المنظومة الفقهية الشهيرة (تحفة الحكام).
3ـ الشيخ الفقيه أبو عبد الله البياني.
وأضاف الأستاذ أبو الأجفان إلى هؤلاء الثلاثة تلميذين آخرين هما:
1ـ أبو جعفر القصار الذي يذكر أن الشاطبي كان أثناء تأليفه لكتاب (الموافقات) يعرض عليه بعض مسائله ويباحثه فيها ثم يدونها.
2ـ أبو عبد الله المجاري.
5/ مؤلفاته:
ألف الشاطبي تآليف نفيسة اشتملت على تحريرات للقواعد وتحقيقات لمهمات الفوائد منها:
ـ شرحه الجليل على الخلاصة في النحو. في أسفار أربعة كبار قال التنبكتي لم يؤلف عليها مثله بحثاً وتحقيقاً فيما أعلم.
ـ كتاب الموافقات: وهو من أهم مؤلفات الإمام الشاطبي ذكر في مقدمته أنه كان قد اختار له اسم (عنوان التعريف بأسرار التكليف) نظراً لما تضمنه من الأسرار التكليفية المتعلقة بهذه الشريعة الحنيفية، ثم عدل عن هذا الاسم إلى اسم الموافقات بناءً على رؤيا رآها أحد الشيوخ من ذوي الحظوة والاحترام عنده.
– كتاب الاعتصام: وهو من أهم ما ألف في تعريف البدعة والتحذير منها، ومناهج أهل البدع في الاستدلال والتفريق بين البدعة وغيرها من المصالح المرسلة والاستحسان.
ـ كتاب المجالس شرح فيه كتاب البيوع من صحيح البخاري فيه كثير من الفوائد والتحقيقات وهو من الكتب المفقودة.
ـ شرح الرجز لابن مالك في النحو [الألفية].
ـ (عنوان الاتفاق في علم الاشتقاق) وكتاب (أصول النحو) قال التنبكتي: (وقد ذكرهما معاً في شرح الألفية ورأيت في موضعٍ آخر أنه أتلف الأول في حياته وأن الثاني أتلف أيضاً ).
ـ الإفادات والإنشادات، حققه الأستاذ الدكتور محمد أبو الأجفان، وهو مطبوع، يقول عنه أحمد بابا التنبكتي: [كتاب (الإفادات والإنشادات) في كراسين، فيه طرف وتحف وملح ، أدبيات وإنشادات].
6/ مكانته العلمية وثناءالعلماء عليه:
كان إبراهيم الشاطبي من ألمع أعلام عصره بالأندلس تبوأ مكانة علمية سامية ويمتاز بتعمقه في علوم العربية وعلوم الشريعة مما خول له استكناه أسرارها وإبراز مقاصدها وضبط قواعدها وربط فروعها بأصولها.
وقد حدثنا عن شغفه المبكر بالعلم وتدرجه في تلقيه وفهم مقاصد الدين إلى أن أدرك كماله وتحقيقه للسعادة فقال: (لم أزل منذ فتق للفهم عقلي ووجه شطر العلم طلبي أنظر في عقلياته وشرعياته وأصوله وفروعه لم اقتصر منه على علم دون علم ولا أفردت عن أنواعه نوعاً دون آخر حسب ما اقتضاه الزمان والإمكان وأعطته المنة المخلوقة في أصل فطرتي، بل خضت في لججه خوض المحسن للسباحة وأقدمت في ميادينه إقدام الجريء حتى كدت أتلف في بعض أعماقه أو انقطع في رفقتي التي بالأنس بها تجاسرت على ما قدر لي، غائباً عن مقال القائل وعذل العاذل، ومعرضاً عن صد الصاد ولوم اللائم إلى أن منَّ عليَّ الرب الكريم الرؤوف الرحيم فشرح لي من معاني الشريعة مالم يكن في حسابي، وألقى في نفسي القاصرة أن كتاب الله وسنة نبيه لم يتركا في سبيل الهداية لقائل ما يقول ولا أبقيا لغيرهما مجالاً يعتد به فيه، وأن الدين قد كمل، والسعادة الكبرى فيما وضع والطلبة فيما شرع وما سوى ذلك فضلال وبهتان وإفك وخسران).
وقد شهد كثير من العلماء بفضل الشاطبي ونوهوا بجهوده ووصفوه وحلوه بما يستحق من الصفات المصورة لمكانه.
قال عنه تلميذه أبو عبد الله محمد بن محمد بن علي المجاري الأندلسي: (الشيخ الإمام العلامة الشهير نسيج وحده وفريد عصره).
وقال في حقه الإمام بن مرزوق الحفيد: (الشيخ الأستاذ الفقيه الإمام المحقق العلامة الصالح).
وقال أحمد بابا السوداني في ترجمته: (الإمام العلامة المحقق القدوة الحافظ الجليل المجتهد، كان أصولياً مفسراً فقيهاً محدثاً لغوياً بيانياً نظاراً ثبتاً ورعاً صالحاً زاهداً سنياً إماماً مطلقاً بحاثاً مدققاً جدلياً بارعاً في العلوم، من أفراد العلماء المحققين الأثبات وأكابر الأئمة المتفننين الثقاة، له القدم الراسخ والإمامة العظمى في الفنون فقهاً وأصولاً وتفسيراً وحديثاً وعربية وغيرها مع التحري والتحقيق… على قدم راسخ من الصلاح والعفة والتحري والورع).
ويدل على استحقاقه لهذه التحلية مؤلفاته وما ذاع له من صيت طيب.
7/ وفاته:
كانت وفاته رحمه الله تعالى بغرناطة عام (790هـ).
المراجع:
1/ الموافقات تحقيق مشهور سلمان [ج6/7ـ 53].
2/ فتاوى الإمام الشاطبي تحقيق أبو الأجفان [21ـ63].
3/ الشاطبي ومقاصد الشريعة ـ حمادي العبيدي- [11/116 ].
4/ نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي للريسوني [89 ـ122].