أعلام وأقطاب

ابن عباد الرندي الصوفي الأندلسي

ابن عباد الرندي الصوفي الأندلسي

ابن عباد الرندي صوفي أندلسي عظيم، ولد في مدينة رُندة قرب قرطبة في جنوب أسبانيا سنة 733 هجرية _ سنة 1371م، ومدينة رندة حصينة، ولهذا بقيت في أيدي المسلمين حتى قبيل نهاية الحكم الإسلامي في أسبانيا، فلم تستسلم إلا سنة 1485 ميلادية، بعد أن استلظت بلواء الإسلام طوال ثمانية قرون.
وكان ابن عباد من أسرة نبيلة في المدينة جمعت بين جلالة الجاه الاجتماعي وبين التقوى والفقه في الدين. فأبوه، أبو اسحق إبراهيم، كان قاضياً وخطيباً دينيا مفوها، يعظ الناس في مسجد رندة. وعن أبيه هذا، أخذ ابن عباد القرآن ومبادىء العربية. وعن خاله الشيخ الفقيه القاضي عبد الله الفريسي أخذ العربية، وعن الشيخ الفقيه الخطيب أبي الحسن على بن أبي الحسن الرندي علم القراءات. ثم ارتحل الصبي إلى بلاد المغرب وتلقى العلم في بلاد كثيرة من أهمها: فاس وتلمسان وسلا وطنجه.
“وأخذ في طريق الصوفية والمباحثة على الأسرار الإلهية حتى أشير إليه، وتكلم في علم الأحوال والمقامات والعلل والآفات” كما قال المقرى (“نفح الطيب” ج3 ص 175، القاهرة سنة 1302)، وقد أخذ التصوف خصوصاً على الشيخ الصالح الورع احمد بن عمر بن محمد بن عاشر، وأقام معه ومع أصحابه في مدينة سلا سنين عديدة، “لوجدان السلامة معهم” على حد تعبيره (“المقرى”: “نفح الطيب” ج3 _ 176)، كما لقى في طنجه الشيخ الصوفي ابا مروان عبد الملك ولازمه كثيراً. وقرأ خصوصاً كتاب “قوت القلوب” لأبي طالب المكي، وهو إلى جانب “إحياء علوم الدين” للغزالي أعظم كتب التصوف الإسلامي. وبعد أن أقام في سلا سنين عديدة إنتقل إلى مدينة فاس بعد وفاة أستاذه احمد بن عاشر، وعين خطيباً بجامع القرويين في مدينة فاس، وبقى في هذا المنصب خمس عشرة سنة خطيباً، إلى أن توفاه الله في فاس رابع رجب سنة أثنتين وتسعين وسبعماية (سنة 1389م).
وكان ابن عباد، كما قال عنه الذين ترجموا له، “أمة وحده” (المقرى، ج3 ص 178) حسن السمت طويل الصمت، كثير الوقار والحياء، “وكان الغالب عليه الحياء من الله تعالى والتنزل بين يدي عظمته، وتنزيله نفسه منزلة أقل الحشرات، لا يرى لنفسه مزية على مخلوق لما غلب عليه من هيبة الجلال وعظمة الملك وشهود المنة، نظّاراً إلى جميع عباد الله تعالى بعين الرحمة والشفقة والنصيحة العامة، مع توفية المراتب حقها والوقوف مع الحدود الشرعية” (ج3 ص 187).
وأشهر مؤلفاته هو شرحه لمتن كتاب “الحكم” لاحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله السكندري المتوفى سنة 709 هجرية، وهو كتاب يتضمن جملاً قصيرة فيها خلاصة التصوف، وإن لم يكن مرتباً ترتيباً منطقياً.
وكان ابن عباد من اتباع الطريقة الشاذلية التي أسسها أبو الحسن الشاذلي ثم تلميذه أبو العباس المرسي، لكنه في شرحه على “الحكم العطائية” لا يقتصر على الشاذلية، بل يورد أقوال أعلام التصوف دون استثناء.
والنقطة البارزة في هذا الشرح، والتي أثرت في يوحنا الصليبي، هي فكرة “البسط” و “القبض”. والبسط والقبض كما يقول ابن عباد: “من الحالات التي يتلون بها العارفون، وهما بمنزلة الخوف والرجاء للمريدين المبتدئين، وسببهما الواردات التي ترد على باطن العبد، وقوتهما وضعفهما بحسب قوة الواردات وضعفها” (شرح الحكم العطائية، ص 72 المطبعة الأدبية بالقاهرة سنة 1317ه‍) على أن القبض والبسط وصفان ناقصان بالنسبة إلى ما فوقهما. وكان الجنيد _الصوفي الكبير _ يقول:
“الخوف يقبضني والرجاء يبسطني. والحقيقة تجمعني والحق يفرقني، إذا قبضني بالخوف افناني عني، وإذا بسطني بالرجاء ردني عليّ، وإذا جمعني بالحقيقة احضرني، وإذا فرقني بالحق أشهدني غيري فغطاني عنه، فهو في ذلك محركي غير مسكني، وموحشي غير مؤنسي، فحضوري لذوق طعم وجودي، فليته أفناني عني فمتعني، أو غيبني عني فروحني”.
والعارفون يخافون في البسط أكثر من خوفهم في القبض لأن البسط مزلة أقدام الرجال، فهو موجب لمزيد خورهم، وكثرة لجئهم، والقبض أقرب إلى وجود السلامة لأنه وطن العبد، إذ هو في أسر قبضة الله.
ومسألة القبض والبسط من المسائل التي عنى بها الصوفية المسلمون من عهد مبكر جداً، لكن الشاذلية كما يقول ابن عباد هم الذين تعمقوا فيها واوضحوها تمام الإيضاح. وكان مؤسس الطريقة، أبو الحسن الشاذلي، يشبههما بالليل والنهار. وهو تشبيه أخذه يوحنا الصليبي وتوسع فيه في كلامه عن “الليلة الظلماء” للروح. أن يوحنا الصليبي يميز بين نوعين من الليلة الظلماء: الليلة الحسية، والليلة الروحية. والليلة الحسية مرة رهيبة للحواس، أما الليلة الروحية فأرفع شأناً وهي للصفوة المختارة من الكاملين. وفي الأولى تحاول النفس أن تتطهر من الشهوات ولكنها تسير في طريق مظلم فلا تدري أين تتجه، وتنبو عن الرياضة والمجاهدات والتأملات، حتى إذا ما القى الله بصيصاً من النور في قلب المريد، بدأ يدخل في الليلة الروحية فيظهر من الجهالات والنقائص، ويلهم الله النفس التقوى: ويلهمها محبته ويصفيها من أدران الحواس، حتى تصبح مستعدة لقبول الفيوضات النورانية، من الذات العلية.
وابن عباد يفصل أنواع المجاهدات التي يجب على السالك أن يمر بها، وهذا التفصيل نجده بعينه عند القديس يوحنا الصليبي (“مجموع مؤلفاته” ج1 ص89، طليطلة سنة 1912). كذلك يتفق الأصطلاح الفني عند ابن عباد وعند يوحنا الصليبي. فكلمة “قبض” يستعمل لها يوحنا كلمة anchura وكلمة “بسط” يستعمل لها كلمة salirde las cosas وكلمة “تجريد” يقابلها عنده كلمة desnudez… الخ.
فكيف نفسر كل هذا التشابه الدقيق بين مذهب ولغة ابن عباد، ومذهب ولغة يوحنا؟
إن ابن عباد يسبق يوحنا بمائتي سنة. فلا شك أنه هو الذي أثر في يوحنا، وأن كان الدليل المادي الكتابي على هذا التأثير ليس لدينا الآن، فإن من الممكن تفسيره _كما يقول اسين بلاثيوس (آثار الإسلام ص 264 وما يليها) بأن نقول: أن الطريقة الشاذلية كانت كما هي الحال اليوم في مصر وبلاد المغرب كله _واسعة الانتشار في الأندلس في القرنين الرابع عشر والخامس عشر. ولابد انها ظلت عميقة التأثير والانتشار أيضاً بين الذين غلبوا على أمرهم من المسلمين وبقوا في أسبانيا بعد زوال الحكم الإسلامي سنة 1492، وعن هؤلاء تلقى يوحنا الصليبي علمه بالطريقة الشاذلية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى