الأديب الكنجوي والغزل العرفاني
الأديب الكنجوي والغزل العرفاني
نظامي الكنجوي هو عمود آخر من اعمدة الشعر الفارسي، وشاعر كبير من شعراء الشعر القصصي، وركن من اركان الادب الوصفي الذي تتجلى فيه البراعة والمقدرة الفائقة على استعراض الجزئيات، واضفاء الصور والاستعارات الجميلة عليها.
قضى شاعرنا جمال الدين ابو محمد الياس بن يوسف الكنجوي معظم عمره في مسقط رأسه كنجة، وكان على علاقات وثيقة مع اتابكة اذربيجان، والملوك المحليين في ارزنكان وشروان ومراغة، واتابكة الموصل الذين قدم لهم معظم اشعاره القصصية.
وهو صاحب المنظومات الشعرية الخمس، او الكنوز الخمسة كما سماها الايرانيون وهي: مخزن الاسرار، وخسرو وشيرين، وليلى ومجنون، وهَفْت بَيْكَر (اي الافلاك السبعة)، واسكندرنامه، بالاضافة الى ديوان مؤلف من مجموعة من القصائد، واشعار الغزل.
يعد نظامي من الشعراء الايرانيين المشهود لهم بالتميز والنبوغ والذين استطاعوا ان يبتدعوا نهجاً خاصاً بهم ويطوروه.
ومع ان جذور الشعر القصصي كانت ممتدة قبل هذا الاديب الكبير، الا انه الشاعر الوحيد الذي استطاع حتى نهاية القرن السادس الهجري ان يطور هذا النوع من الشعر، ويصل به الى الحد الاعلى من الكمال، ويتفوق على اقرانه في هذا المجال.
تميز النظامي في شعره بابداع المعاني، والمضامين البكر في شتى الاغراض بالاضافة الى قوة خياله ومهارته في تصوير دقائق الامور خلال وصفه للطبيعة والاشخاص مستخدماً الكثير من التشبيهات والاستعارات البديعة.
وجرياً على عادة ادباء فقد اكثر هذا الشاعر من استخدام المصطلحات العلمية، والمفردات، والتراكيب العربية، كما زخرت اشعاره بالمصطلحات الخاصة بمباني، واصول الحكمة والعرفان، والعلوم العقلية، ولذلك جاءت اشعاره في هذا المجال صعبة ومعقدة للغاية لما احتوت عليه من دقة بالغة في المضامين والخيال.وبالرغم من ذلك كله، ونظراً الى مهارته المتميزة في صياغة المعاني الاخاذة، وباعه الطويل في تأليف القصص الشعرية، او الشعر القصصي، فقد اصبحت مؤلفاته انموذجاً يحتذى بعد تأليفها بفترة وجيزة، اي منذ القرن السابع الهجري وحتى يومنا هذا.
وفيما يلي نورد لكم – مستمعينا الاعزة- مقتطفات مترجمة الى العربية شعراً من رائعته الخالدة (خسرو وشيرين) التي اضحت بفضل جمال وروعة اسلوبها، ومضامينها الغزلية الممتزجة بالعرفان، من عيون الشعر الفارسي على مر العصور.
ونختار من منظومته هذه الابيات التي ناجت فيها شيرين خالقها وبارئها لما اشتملت عليه هذه الابيات من مضامين ومعان سامية يتجلى لنا فيها الحبُّ العذري العفيف الممتزج بالمعاني واللمحات العرفانية، حيث يصور لنا الشاعر اللحظات التي دخلت فيها شيرين محراب الدعاء والمناجاة قائلا:
لم تَعُدْ شيرين حيرى
لا، ولا تشكو الضجرْ
عندما لاح صباحٌ
قلب شيرينَ استقرْ
سجدتْ لله شكراً
وجهُها الحلو تَعَفَّرْ
بغبار الارض لمّا
مسَّها الوجهُ المُنضَّرْ
ترى ماذا قالت شيرين في دعائها، وما هي الكلمات والعبارات التي نطقت بها، وكيف اضفت الصور العرفانية على حبها لخسرو، وكيف جعلت من هذا الحب مدعاة الى التطهر، والانصهار في بوتقة المعاناة والآلام واللواعج لكي تخرج وهي ابعد ما تكون عن الحب المادي المغموس بالملاذ والشهوات؟
هكذا يصور لنا نظامي الكنجوي مناجاتها:
ومضتْ تدعو بدعاء القانتاتْ
ياالهي اجعل الليل نهاراً في حياتي
ربّ وانصرني على الدهر وهبْ لي امنياتي
مثلما ينتصر النورُ ويجلو الظلماتِ
فحياتي ليلةٌ أَيْأسها الليل البليدْ
ربّ فاكشفْ ظلمتي بسنا فجر جديدْ
واجعل اللهم وجهي
ساطعاً كالنور دوما
ألفَ رُحماك لقلبي
ياالهي الفَ رُحْمى
وتقسم شيرين التي طهرها العشق الطاهر العفيف، وصفّى نفسها، على الخالق عزوجل، بألوان القسم، وتعزم على صاحب العزة بضروب العزمات في ان ينتشلها من قلقها، ويكشف غمّتها، وينقذها من الاعادي المتربصين بها.
ويحاول الشاعر من خلال هذه الابيات ان يضفي المسحات، واللمسات العرفانية على ذلك الدعاء، والضراعة والتوسل، فيقول على لسان الحبيبة المعذبة شيرين الخائفة على مصير معشوقها الرمزيّ خسرو:
بين جنبيّ أسى يفتك بالفرسان فتكاً
ربّ فانصرني عسى حزني ان يرتدّ ضحكا
بدموع البائسين
من صغار جائعينْ
ومعاناة الثكالى
والعُفاة الطاعنين
مَنْ برى اجسادهم كرُّ الليالي والسنينْ
يا الهي وبحق الاتقياء الطاهرين
وبحق الناظرين
باشتياق وحنينْ
نظرة يرجون من وجهك ربَّ العالمين
يا الهي، وبحق الشهداء الخالدينْ
ويسترسل نظامي – وهو الشاعر الميّال الى خوض بحار العرفان والتصوّف- في ايراد المعاني والمضامين العرفانية والتوحيدية على منظومته، فاذا به يمخر في عباب بحر التوحيد ليصل الى غاية الغايات وهو الحب الالهي الذي يمثل الاساس والمنطلق لكل حب طاهر عفيف في هذا الوجود، فلسنتمع اليه وهو يحدثنا بذلك في ختام هذه المقطوعة على لسان شيرين:
واحدٌ انت الهي
يا الهي وصَمَدْ
دونما ادنى شبيهٍ
او شريكٍ او وَلَدْ
انت يا ربّاه مستورٌ بأستار التفرّدْ
ولك الافلاك تعنو وجميع الخلق تسجدْ
مادرى الخلق جميعاً لك يا ربيّ بدايهْ
والذي تملكهُ ما أدركوا منه النهايهْ
والى عرشك لايُرجى وصولٌ لسواكْ
غير من قد سلّموا طوعاً وعاشوا في هُداك
ربّ اني قد تضرّعتُ أيا ربّي بحبٍّ
جاءك اللهم ياربّاه من اعماق قلبي
حسبُ قلبي انّما نقّاه ياربّاه حُبُّكْ
غايةُ الغايات في قلبي أيا ربّاه قُرْبُكْ.
___________________________________________________