أعلام وأقطاب

الإمام سِيدَ أعْمر الشيخ الكُنتي: محيي الطريقة القادرية في الصحراء

د. وديع أكونين

الإمام سِيدَ أعْمر الشيخ الكُنتي:

محيي الطريقة القادرية في الصحراء

د. وديع أكونين

 

اسمه ونسبه:

الإمام الكبير والعلم الشهير، البركة المعمّر، محيي الطريقة القادرية بالصحراء في القرن الحادي عشر سيدي اعْمر الشيخ، بن الشيخ أحمد البكاي (بودمعة) بن محمد الكنتي الكبير، بن علي، بن يحيى، بن عثمان بن عبد الله الملقب بـ يهس، بن عمر الملقب بـ دومان، بن وريد الملقب بـ شاكر، بن عمر العاقب، بن عقبة المستجاب بن نافع بن عامر الفهري[1].

وينطق اسمه إذا حلّي بالسيادة بفتح الدال من “سيدَ”، وفتح الألف وسكون العين من “اَعمر”، [سِيدَ اَعْمَر]، كما يسند إليه لقب المشيخة فيقال: سِيدَ اعْمر الشّيخ الكنتي. أحد الأجداد الثلاثة الذين تفرعت عنهم كنته الكبرى، فمن ذريته فروع الرقاقدة والمخاتير وأولاد الوافي[2].

ولادته ومتعلمه:

ولد سيدا عمَر حوالي سنة 865ه[3]، في ولاتة فأخذ عن والده الشيخ الكبير سيدي أحمد البكاي[4] حتى كان عجبا في الحفظ، حكى الشيخ محمد المختار الكنتي في الطرائف والتلائد ابتداءَ أمره فقال: “قال شيخنا في الإرشاد معرفا به: ومن الأولياء المشهورين بالعلم والولاية جدنا سيدا عمر الملقب بالشيخ، تواتر عنه أنه حفظ قبل بلوغه ألف مجلّد[5] في أنواع فنون العلم، وأنه رحل إلى الغرب الجواني برسم الاستفادة بعد ما عمره أبوه وشيخه سيدي أحمد البكاي، فطاف جميع بلاد الغرب فلم يجد من يفيده بمسألة من جميع فنون العلم، فعمل الرحلة إلى إقليم الشام فلم يظفر بما يفيده كذلك ولا من يتعلم عليه، بل كانوا يأخذون فيه العلوم عنه”[6].

بين يدي الشيخ المغيلي والإمام السيوطي:

كان الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني المتوفى حوالي 909ه[7] من أعلام التصوف وشيوخه المشهورين، سخر حياته للدعوة إلى الله، فكان يجول البلاد ويهدي العباد حتى ساقه القدر إلى سيدَا عْمر الذي سيصير بعد هذا اللقاء مريدا له ووارثا لسرّه، قال الشيخ محمد المختار: “ثم حج ورجع إلى المغرب فجال في بلاد التكرور فلقي بها الشيخ الجليل والقطب الكامل سيدي محمد بن عبد الكريم المغيلي وقد أقبل من بلاد هوص، يريد التكرور والمغرب الأقصى برسم دعوى الناس إلى الإسلام والهدى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحمل الناس على السنة والحجاب، فتفاوضا في العلم وقال: من أين أقبلت يا فتى؟ قال: من المغرب الأقصى وهو مسقط رأسي ومحل إقامتي ونشأتي، فقال: إن أرضا يأتي فيها مثلك في حداثة سنك لا تحتاج إلى مثلي. ثم تفاوضا في علم الباطن فبرز عليه فيه الشيخ ابن عبد الكريم فانخلع له من جميع ما بيده ولازمه برسم الصحبة ثلاثين سنة”[8].

كانت صحبة الشيخ المغيلي حلقة هامة لاستمرار سيدا عمر في التواصل العلمي والمعرفي بأرجاء العالم الإسلامي، والذي شهد أبرز محطاته في رحلتهما إلى الحج، ولقائهما بالإمام السيوطي (ت911ه)، قال في الطرائف والتلائد: “وفي تلك المدة توجها إلى المشرق… فسارا إلى وجهتهما حتى بلغا قرية أسيوطة وهي على شاطئ بحر الروم من جهة برقة فوجدا فيها الشيخ الكامل سيدي عبد الرحمن الأسيوطي.”[9] وقد استفاض مؤلف الطرائف رحمه الله في خبر هذا اللقاء، وساق ما كان من خبر الإمام السيوطي، وخبر زيارة الحجرة النبوية الشريفة وارتجال الشيخ المغيلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيدته المشهورة التي مطلعها:

بشراكَ يا قلبي هذا سيدُ الأممِ   ***   وهذِه حضرةُ المختارِ في حرَم

وهذه الـروضـة الغـرّاء ظاهرةٌ    ***   وهذه القبة الخضـراء كالـعلـم

على رأس المشيخة القادرية

عندما توفي الشيخ المغيلي انتقل مشعل القادرية بالسند منه إلى سيدا عمر الكنتي، فتقلد مشيخة الطريقة في تلك البلاد وأسس الزاوية الكنتية، وجاهد في نشر فضيلة الذكر والتذكير وهداية الخلق، مستمرا في رسالة والده الشيخ أحمد البكاي الذي شكلت دعوته فارقا قيميا وأخلاقيا واضحا في الصحراء، فارقٌ أكدته الرحلتان المدونتان حول ولاتة أولاهما رحلة ابن بطوطة وكانت قبل قدوم الشيخ البكاي إليها، والثانية رحلة الحسن الوزان ما بين (926ه و932) بعدما ترك الشيخ البكاي أثره في المجتمع الولاتي[10]، فضمن هذا السياق اندرجت جهود الشيخ سيدا عمر الكنتي.

 

وفاته وتحقيق في مدفنه:

توفي سيدا عمر مقتولا على يد بعض قطاع الطرق وهو يصلي على رأس جبل من جبال سوس، قال في الطرائف والتلائد: “بينما هو يصلي إذ مر به بعض قطاع البربر فرموه ببندقة، فلما جرح وخرج دمه خالط نوره العنان ففزعوا من ذلك وأتوا قرية يقال لها أق، فقالوا لهم قد رأينا هذه الليلة عجبا، وجدنا رجلا يصلي على الجبل فرميناه ببندقة فلما خرج دمه خرج معه نوره وخالط السماء، ففررنا إليكم لنخبركم بذلك، فذهب إليه أهل القرية فجهزوه وحملوه”[11].

وقال: “توفي في حدود الستين بعد تسع مائة، عن مائة وأربعين سنة وأربع وأربعين يوما، وما مات حتى بلغ القطبانية العظمى”[12].

ويظهر من نص الطرائف والتلائد أن الموضع هو قرية أقا المعروفة، وإنما تضاربت بعض النقول في تسمية مكان ضريحه نظرا لتوارد أسماء “سوس”، “أقا”، “تمقلشت”، “وادنون”، و”واد درعة” عند الباحثين على جهة واحدة، فصاحب أعلام الشناقطة في الحجاز والمشرق يقول: “توفي بمنطقة السوس في حدود سنة 960ه، عن مائة وأربعين سنة وأربعة وأربعين يوما، ودفن بواد نون رحمه الله تعالى”[13]، وعبد الباقي مفتاح ولد الشيخ ينقل عن الرسالة الغلاوية لمحمد الخليفة بن المختار الوافي أن الشيخ أحمد الرقاد ولد في سنة 968ه بواد نون مقر أسلافه وأنه عاد إلى بلده تمقلشت بواد نون قريبا من قبر جده عمر الشيخ[14].

وأما حماه الله ولد السالم فيقول: “ودفن في أقا إحدى الحواضر المحيطة بالنهر المسمى بأقا وهو من روافد وادي درعة…”[15].

وفي الفرقد النائر نص آخر فيه: “مات شهيدا عندما ضربه بعض اللصوص البربر عام 960 ه – 1552م، قبره موجود بوادنون ببلدة تمقلشت”[16].

وهذه النصوص عند التحقيق متقاربة بل متطابقة في تحديد منطقة أقا موضعا لوفاته ومدفنه، وقد أفادني د. الوافي نوحي من منطقة أقا أن ضريحه معروف هناك عند السوسيين في بسيدي عمارة، وتحديدا في موضع المعدر[17] على بعد حوالي 30 كيلومترا من مدينة أقا، وهو سهل فيضي يسقى بمياه وادي درعة، ويقام عند ضريح سيدي عمارة أو سيدا عمر موسم سنوي قديم صار الآن يعرف بموسم أولياء الله الصالحين.

 

الهوامش:

[1] هذا النسب المرفوع إلى الصحابي عقبة بن نافع ذكره صاحب الوسيط في ترجمة الشيخ محمد المختار بن أبي بكر الكنتي، (ص: 361)، انظر أيضا الكوكب الوقاد في ذكر فضائل المشايخ وحقائق الأوراد للشيخ المختار بن أحمد الكنتي، تقديم وتحقيق محمد الدمناتي، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 2019 (ص: 33).

[2] أما العلمان الآخران اللذان تفرعت عنهما فروع كنته فهما: الشيخ محمد الكنتي الصغير بن سيدي أحمد البكاي بودمعة بن سيدي محمد الكنتي الكبير. ثم الشيخ الطالب بوبكر بن سيدي أحمد البكاي بودمعة بن سيدي محمد الكنتي الكبير.

[3] انظر: محمد الخليفة الكنتيّ [1179-1242ه / 1765-1826م] حياته وآثاره التاريخية، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في التاريخ والحضارة الإسلامية، الباحثة حناني فردوس، السنة الجامعية 2008-2009، كلية العلوم الإنسانية والحضارة الإسلامية، جامعة وهران، الجزائر (ص 167).

[4] ترجم له البرتلي في فتح الشكور، وقال هو جد كنتة كلها، وقبره بجبل ولاتة الغربي قريبا جدا من الديار، انظر فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور (ص 30).

[5] قال حماه الله ولد السالم: ألْف ورقة في الاصطلاح القديم. حجاج ومهاجرون (ص: 83). ولعله غير مفهوم، بل الظاهر أن المجلد يطلق على المخطوط مهما كانت عدد أوراقه، وتأمل قولة عصريّ الشيخ سيدا عمر، العلامةَ أحمد بابا التمبكتي (ت 963ه): أنا أقل عشيرتي كتبا وذهبت لي ست عشر مائة مجلد”. تاريخ المكتبات الإسلامية ومن ألف في الكتب لمحمد بن عبد الحي الكتاني، منشورات مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث للرابطة المحمدية للعلماء (ص2015).

[6] الطرائف والتلائد، لمحمد المختار الكنتي، مخطوط مكتبة أهل فال، شنقيط، رقم 064. اللوحة 74.

[7] انظر أخباره في الطرائف والتلائد، 74 وما بعدها.

[8] الطرائف والتلائد مخطوط. اللوحة: 74.

[9] نفسه 47.

[10] انظر مقالة مهمة في هذا الباب للباحث الحسين بن محنض بعنوان: “الشيخ سيدي أحمد البكاي في ولاته، أو ما بين الرحلتين: رحلة ابن بطوطة ورحلة الوزان”.

[11] الطرائف والتلائد، اللوحة: 74.

[12] الطرائف والتلائد، اللوحة: 74.

[13] أعلام الشناقطة في الحجاز والمشرق، بحيد بن الشيخ يربان القلقمي الإدريسي، دار النشر الدولي، الطبعة الأولى 2009. (ص: 440)

[14] أضواء على الشيخ عبد القادر الجيلاني وانتشار طريقته، دار الكتب العلمية. ص 378.

[15] حجاج ومهاجرون، علماء بلاد شنقيط (موريتانيا) في البلاد العربية وتركيا من القرن التاسع إلى القرن 14ه، حماه الله ولد السالم. دار الكتب العلمية، ط1/2012 ص: 82 و 83.

[16] الفرقد النائر في تراجم علماء أدرار المالكية الأكابر محفوظ بن ساعد بوكراع السطيفي تحقيق أبو بكر بلقاسم ضيف الجزائري دار الكتب العلمية 2016 ص: 331

[17] أشار المختار السوسي إلى أن المعدر موضع بعيد عن ضعفاء الناس في الحرث هناك، لذلك أنشأت الحكومة ساقية لجر المياه من السيول إلى بسيط قريب من تامدولت”، انظر خلال جزولة ففيه أخبار عن أقا (3/87-88). وانظر أيضا وصف إفريقيا للحسن الوزان (2/117).

 

______________________________

* نقلًا عن موقع “الرابطة المحمدية للعلماء”- المملكة المغربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى