هرمنوطيقا النص الأدبي بين هيدجر وجادامر
هرمنوطيقا النص الأدبي بين هيدجر وجادامر
شاع في واقع ثقافتنا العربية خصام عنيف وجدال غير خصب بين أنصار الحداثة وأنصار التقليد حول مفهوم وخصائص الشكل في الفن والأدب على السواء. وقد بلغ النزاع بين الطرفين ذروته على ساحة الشكل في النص الشعري بوجه خاص . وفي كل موقعة يخرج الطرفان المتنازعان خاسرين دائما دون تحقيق مكاسب حقيقية ، ودون أن يحاول أي منهما تجاوز موقفه الدوجماطيقي إزاء الأدب (الذي يعد امتدادا لموقفهما إزاء الفن على وجه العموم): فالحداثيون يضعون التقليديين في مأزق الرجعية والتخلف وعدم القدرة على إبداع النص المفتوح المتحرر من قواعد الشكل التقليدية ، ولكنهم -من ناحية أخرى – يخسرون دائما على المستوى الإبداعي حينما يتسلل الى صفوفهم أشباه من الشعراء والأدباء عموما ، ممن يجدون في دعوى التحرر من الشكل التقليدي “ستارا أو قناعا يخفون وراءه عجزا حقيقيا عن تقديم رؤية للعالم والحياة والوجود الإنساني . والطرفان المتنازعان يخسران دائما لأنهما يتورطان في أزمة أو معركة غير حقيقية حينما يتناسيان ان الشكل في النهاية ماهر إلا أسلوب الفنان او الأديب في رؤية العالم : فقوانين المنظور أو الشكل الفني -كما علمنا ميرلوبونتي Merleau-Ponty(1) هي أساليب في رؤية العالم ، أما العالم نفسه فلا يتشبث بأي واحد منها ، وليس من طبيعته أن ينطوي على قوانين . والأسلوب ليس غاية في حد ذاته ، وإنما هو وسيلة يمارسها ويكتسبها الفنان أو الأديب من خلال محاولاته الدؤوبة لاكتشاف العالم الذي يحيا فيه .
وليس هدفنا هنا أن نخوض في المساجلات والمناظرات الخاصة بواقعنا الثقافي لحساب فريق في مقابل فريق آخر. وإنما هدفنا ان نكشف عن الأزمة المعرفية الكامنة وراء موقف الحداثة على مستوى نظرية الأدب والنقد، لأن هذا سيمثل نقطة انطلاقنا نحو فهم موقف الهرمنوطيقا المعاصرة من النص الأدبي.
لاشك ان الموقف الحداثي على المستوى الإبداعي قد خلق أشكالا تعبيرية جديدة في سعيه نحو التحرر من الأشكال التقليدية . ولكن المأزق الحقيقي للموقف الحداثي عل مستوى التنظير يكمن في تصور مفهوم “الشكل” بوصفه غاية وإطارا مرجعيا مطلقا وبذلك فإن الموقف الحداثي يضع نفسه في نفس المأزق الذي اراد أن يضع فيه شتى المواقف التقليدية . وهذا يعني في النهاية ان الموقف الحداثي يظل واقعا في شرك مفهوم “الشكل الجمالي ” أو “الصورة الفنية ” كمعيار للفن والأدب على السواء.
ومع ذلك ، فإن اتجاهات التنظير الأدبي الحداثي التي شاعت في واقعنا الثقافي هي تلك الاتجاهات التي تتعامل مع الشكل الفني وتبقى واقعة في شراكه ، كالبنيوية Structuralism, والسميوطيقا Semiotics بوجه خاص . ذلك ان مفهوم الشكل الفني اصبح يمثل في نظر هذه الاتجاهات جزءا من نطاق اهتمامها بمسألة البناء او الشكل المجرد الذي تحكمه مجموعة من العلاقات . وغالبا ما نجد هذا التوجه البحثي في الدراسات التي تتناول علم النص أو مايسمى “بتحليل الخطاب ” discourse analysis إذ تكتب هذه الدراسات غالبا من منظور بنيوي أو سيميوطيقى ، على أساس ان “مهمة علم بناء النص تتمثل في وصف العلاقات الداخلية والخارجية للابنية بمستوياتها المختلفة ، وشرح المظاهر العديدة لأشكال التواصل واستخدام اللغة كما يتم تحليلها في العلوم المتنوعة ” وكأن التحليل البنيوي هو الأسلوب الوحيد للاقتراب من النص والغاية التي ينبغى ان تلتزم بها سائر العلوم والاتجاهات المعرفية المتنوعة .
وعلى نحو مشابه تفهم السيميوطيقا النص الأدبي من خلال دراسة الأبنية العامة للنصوص الأدبية باعتبارها نسقا من العلامات مفلقا على نفسه ولا يشير الى شي ء خارجه سواء كان هو الواقع الاجتماعي او الوجود الانساني بوجه عام فالسيميوطيقا – أو علم العلامات – يدرس العلامة اللفظية باعتبارها جزءا داخلا في نظام العلامات ولذلك فإن هذا العلم الذي يمتد الى دراسة كافة دلالات العلامات االفظية وغير اللفظية : كالبيارق والأزياء والألقاب .. يهدف في النهاية إلى التوصل للقواعد العامة التي تحكم العلاقات بين العلامات وجنسها ورموزها ودلالاتها. وهذا التصور السيميوطيقى للغة الوثيق الصلة بالتصور البنيسوي من حيث توجهاته العامة ، يفضي في النهاية الى ضياع هوية اللغة ، ومن ثم ضياع هوية النص الادبي ذاته واختزاله داخل نسق من العلاقات الرمزية تتواري فيا خصوصية النص أو العمل الأدبي وامكاناته التعبيرية عن واقع الحياة الانسانية الذي يصبح هو الآخر مختزلا داخل النسق الرمزي. ولقد مس شكري عياد تلك الازمة مسا عابرا في النص التالي الذي يستحق الاقتباس لما له من صلة ما – وان كانت غير مباشرة – بموضوع بحثنا.
“ومع ان موضوع السيميوطيقا – وهو نظم العلامات المتعارف عليها اجتماعيا – يشعر بعودة النقد الى افق الدلالة الاجتماعية ، فقد نظرت السيميوطيقا ( على الاقل في العالم الغربي/ الى هذه النظم على انها هي نفسها الواقع ، ومن ثم فان العلامة لا تفسرا لا بعلامة مثلها . وهكذا أسلمت السيميوطيقا النقد الى “التفكيكية ” التى لا ترى في “النص ” بمعناه المعروف … الا كفة في شبكة لا نهائية من العلامات او قطرة في بحرا لعلامات الذي لا تدرك حدوده وبذلك اتسع مفهوم “النص ” لديهم بحيث اصبح يطلق على النوع الادبي كله ، في اقرب الاستعمالات الى الاقتصاد آو على الأدب في عمومه عند الاكثر ين الذين يسقطون الحدود بين الانواع الادبية ، واحيانا يراد به معنى اوسع من ذلك إذ يشمل نظم العلامات بمختلف انواعها او الحياة لا باعتبارها وجودا خارجيا بل نظما مترابطة من العلامات (3).
وقصارى القول هنا ان النتيجة التي افضت اليها اتجاهات الحداثة الشائعة في مجال الأدب والنقد هي ما يمكن ان نسميه “باغتراب النص في الشكل المجرد” وبالتالي ضياع هوية وخصوصية النص الأدبي وفقدان بعده الأونطولجى ودوره التاريخي . وعلى الرغم من ذلك ، فلا زلنا نجد الكتابات الداعية والمتحمسة الى السيميوطيقا تؤكد على فكرة الشكل والعلاقات المجردة كفاية بحثية ، دونما التفات الى حقيقة الأزمة الكامنة وراءها إذ يقال صراحة أن “السيميوطيقى يقوم بالربط بين العلامات مثلما يقوم الفيلسوف بالربط بين المفاهيم والفلسفة تنطلق من المضمون بينما تنطلق السيميوطيقا من الشكل في فهم الإنسان . وبينما تطمح الفلسفة الى العثور على مفتاح الوجود لا تطمح السيميوطيقا الى اكثر من رسم خارطة الوجود”(4).
وخاصية العمومية او التعميم التي تتشبث بها اتجاهات الحداثة في مجال التنظير الأدبي التي تريد ان تضفى على نفسها طابع العلمية من خلال الاهتمام بالمبادىء النظرية العامة والعلاقات الشكلية المجردة ، هذه الخاصية تقودنا الى صورة أخرى لأزمة الحداثة على مستوى نظرية الأدب والنقد وهى : ازمة المنهج فأزمة الشكل تقودنا بالضرورة الى ازمة المنهج ، ونحن نعني بأزمة المنهج تلك العملية التي يتم من خلالها “تأطير النص” وتأطير النص يعنى عملية اخضاع النص لمبادىء وقواعد عامة نظرية يراد من خلالها الاستحواذ على البنيات العامة للنصوص الأدبية وتسكين النص الأدبي المراد فحصه داخلها. وبذلك يتم اخضاع النص لقواعد تحكم لعبة الشكل والتشكيل او البنية اللغوية .
وعملية “تأطير النص” هذه نجدها ايضا معلنة في الكتابات الدائرة حول السيميوطيقا والبنيوية، دونما انتباه الى ازهتها المنهجية إذ نجد دائما تأكيدا على ان السيميوطيقا تدرس النص الأدبي باعتباره “ظاهرة أو مادة تجريبية ” تخضع لقوانين عامة تحكم تداخلها وتقاطعها مع الانساق الاخرى فى المحيط العام الذي تظهر فيه . أي أنها تهدف الى دراسة البنيات العامة للنصوص الأدبية “من خلال طرح تصور عام مجرد للبنيات الكامنة وراء صياغة النص الادبي ، ثم من خلال تطبيق هذا التصور على النص الادبي أو مجموع النصوص الادبية . وهذه الخطوة الاجرائية هي التي يمكن ان تدفع بمعرفة آليات صياغة النصوص الأدبية قدما”(5). ونفس هذا التصور المنهجي نجده شائعا ومعلنا في الكتابات التي تتناول مفهوم النص من منظور بنيوي ، إذ نجد هناك دائما تعريفا لعلم النص باعتباره : علما يهدف الى دراسة الابنية الصفري والكبرى للنصوص – بما في ذلك النصوص الادبية ، اي دراسة الوحدات البنيوية الشاملة للنص وما يوجد بينها من ابنية متتالية جزئية ، على اساس ان هناك دائما أبنية نظرية وتجريدية ذات مبادىء عامة كلية معرفية (6).
ولا شك أن معاملة النص الأدبي كمادة تجريبية يمكن اخضاعها دائما لقوانين او قواعد عامة تحكم النصوص اللغوية ، هي عملية لا تؤدي فحسب الى اغفال هوية النص الادبي وضياع خصوصية النص المعين المراد فحصه ، بل انها كذلك عملية تسمح بإمكانية ان يكون اي نص ادبي موضوعا او مادة تجريبية للنقد وان كان ضئيل القيمة طالما ان الهدف لم يعد هو النص في ذاته وانما التناول المنهجي او التأطير المنهجي للنص . وبذلك فإن اتجاهات الحداثة على المستوى التنظيري تسهم في تكريس صورة من صور ازمة الحداثة على المستوى الابداعي.
وأزمة المنهج الذي يقوم عل عملية تأطير النص هي ازمة منهج يكون مدفوعا بوهم الموضوعية ائزي يخفي شخصية النص بإدخاله في قوالب وأطر جاهزة يقاس عليها، ووهم الموضوعية هو وهم من أوهام النزعة العلمية – أو على الأدق : النزعة التعالمية Scientism العلوم الإنسانية التي تريد أن تحتذي نموذج العلم الطبيعي ، في حين أن العلم الطبيعي نفسا قد تخلى عن نموذجه التقليدي الذي يتوخى الموضوعية المطلقة واليقين ، حتى إن فلاسفة العلم المعاصرين -من امثال فيرابند P. Feyerabend – راحوا ينظرون إلى المعرفة العلمية باعتبارها معرفة ليست لها نموذج واحد يقاس عليه ، وإلى فكرة المنهج الذي ينطوي على مبادىء ثابتة ويقينية مطلقة باعتبارها فكرة لا وجود لها (7).
قد يبدو مما سبق أننا بعيدون عن موضوع بحثنا وأننا منشغلون بنقد البنوية والسيميوطيقا لا بإبراز الهرمنوطيقا ودورها كاتجاه في مجال النقد ونظرية الأدب . ولكننا في الحقيقة لسنا منشغلين بنقد البنيوية والسيميوطيقا في ذاتهما ، وإنما منشغلون بإظهار أزمة الحداثة على نحو ما تبلورت في هذين الاتجاهين على وجه الخصوص اللذ ين يعدان تتويجا لمحاولات سابقة كانت تسير في نفس الاتجاه ولكنها وصلت في النهاية لطريق مسدود. ولأن الهرمنوطيقا تنطلق على وجه التحديد من خلال الوعي بهذه الازمة ومحاولة تجاوزها لذا كانت هذه المقدمة ضرورية لفهم منطلقات الهرمنوطيقا ودورها في مجال نظرية الأدب والنقد. فقد آن الأوان لكي نسمع نداء الهرمنوطيقا الذي يتردد صداه الان في العالم الغربي، لا في مجال التنظير الأدبي وحده وإنما في سائر العلوم الإنسانية التي تمر الأن بثورة تراجع من خلالها مناهجها وتعيد النظر في مدى فاعليتها، والحقيقة ان الهرمنوطيقا المعاصرة التي أرسى هيدجر Heidegger دعائهما لم يتردد صوتها في العالم الأنجلوساكسونى إلا منذ السبعينيات فقط ، حينما بدأت الماعات هيدجر تلوح في الأفق كإشارات مضيئة لتجاوز عصر الحداثة ، فكانت هي المصدر الأساسي الذي استلهم منه التيار النقدي الذي يعرف باسم “مابعد الحداثة ” postmodern critism أو “مابعد البنوية tural criticism ولن نجانب الصواب اذا قلنا مع بعض الباحثين بأن هذه الكتابات التي تكتب بروح هيدجرية هي كتابات “تشعر بان الأدب الغربي او على الاقل نظرية الادب الغربي ، أن لم تكن قد بلفت أجلها . فانها تتجه نحو النهاية “(8).
الهرمنوطيقا المعاصرة فيما وراء الشكل والمنهج
مصطلح الهرمنوطيقا Hermeneutics
في أصوله البعيدة مصطلح مدرسي لاهوتي ، كان يدل على ذلك العلم المنهجي الذي يهدف ال تفسير نصوص الكتاب المقدس التي تتطلب فهما والتي يشعر المتلقى لذلك باغتراب ازاء معناها. والحقيقة ان دلالة هذا المصطلح قد اتسعت بعد ذلك مع الهرمنوطيقا الكلامية (التقليدية) لدى شليرماخر Schleiermacher ودلتاى Dilthey لتتجاوز النصوص الدينية بل والنصوص اللغوية بإطلاق ، لتصبح علما عاما في الفهم ومنهجا لتفسير ظواهر العلوم الانسانية . ومن الانصاف كذلك القول بأن هذه الهرمنوطيقا الكلامية قد حاولت منذ البداية ان تنفذ الى باطن الوجود والروح الانساني، ومن ثم لم تتورط في مفهوم الشكل أو البناء اللغوى المنغلق على ذاته في عملية تفسيرها للنصوص ذاتها حتى ان دلتاي قد ذهب في مؤلفه “نشأة الهرمنوطيقا” Entestehung der Hermeneutic الى القول بأن أدفن الفهم يتمركز حول تفسير بقايا الوجود الانساني المحفوظة في الكتابة ” (9).
ومع ذلك ، فقد ظلت الهرمنوطيقا الكلامية أسيرة المنهج وبالتالي لم تستطع ان تتخلص من النزعة الموضوعية في تفسير النص ، وهي النزعة التي ارتبطت بنموذج المنهج السائد في العلم الطبيعي الحديث : فشليرماخر ينظر الى النص باعتباره وسيطا لفريا موضوعيا ينتقل من خلاله فكر المؤلف الى القارىء أو المفسر، وهذا الوسيط اللغوي يكون موضوعيا لأنه يمثل الجانب المشترك الذي يجعل عملية الفهم ممكنة . وعلى نحو مشابه ينظر دلتاي الى العلامات اللغوية باعتبارها اساسا عاما تتموضع من خلاله ار تتخارج الحياة والاحداث الباطنية ، وبذلك يمكن فهم عمل اي شاعر او مبدع عظيم او عبقرية دينية أو فيلسوف حقيقي باعتباره تعبيرا حقيقيا عن حياته الروحية او الباطنية من خلال رموز وشفرات على هيئة علامات حسية قابلة للإدراك .
وهكذا يمكن القول بأن هرمنوطيقا النص المعاصرة لدى هيدجر وجادامر على وجه الخصوص، قد رأت ان الهرمنوطيقا الكلامية او الموضوعية لدى شليرماخر ودلتاي لم تستطع ان تتخلص من أسلوب التفكير التقليدي زي النزعة الموضوعية في تفسير وفهم ظواهر الوجود الانساني كالفن واللغة ، وبالتالي النص الادبي ذاته . ومن ثم فان نقد هيدجر وجادامر هنا هو في حقيقته نقد لأسلوب من التفكير والفهم ظل سائدا في الفكر الغربي وامتد فيما بعد الهرمنوطيقا الكلامية الى اتجاهات النقد والتنظير الأدبي المعاصر. .
والهرمنوطيقا الهيدجرية تعرف باسم ددالهرمنوطيقا الفينومينولوجية (أو الظاهراتية) phenomenological hermeneutics وهي فينومينولوجية لأن التفسير فيها يكون منشغلا بماهية او معنى ظواهر الوجود الانساني في صلته الحميمة بظواهر الوجود ذاته .. ومن بين هذه الظواهر الانسانية التي انشغل بها هيدجر : الفن والشعر، ولقد وجد الطريق الى فهم معناهما من خلال فهم ما – اللغة ذاتها . أما الهرمنوطيقا الجاد مرية التي تعرف باسم “الهرمنوطيقا الفلسفية ” philosophical hermeneutics والتي تمتد لتشمل فهم وتفسرا كل ما يكون قابلا للفهم والتعقل ، فإنها وان لم تكن تكرارا لهرمنوطيقا هيدجر فقد كانت امتدادا لمنطلقاتها وتوسيعا لافاقها ، وهي بهذا الاعتبار تعد ايضا فينومينولوجية الطابع .
وهناك خاصيتان اساسيتان تميزان هرمنوطيقا هيدجر في تعاملها مع النص ، قد تردد صداهما في هرمنوطيقا جادا مر، والخاصية الأول هي ان النص يكشف عن الوجود وينطوي على حقيقة أو معنى يتجاوز إطار بنيته الشكلية . والثانية ان تفسير النص – وبالتالى فهمه – يقتضى تجاوز إطار الذاتية والموضوعية معا. وهاتان الخاصيتان هما في نفس الوقت خاصيتان للغة ذاتها عند هيدجر، وهذا يعنى ان الطريق الى فهم النص يفترض فهم ماهية اللغة ذاتها.
ومن خلال فهمنا لهاتين الخاصيتين في مجال اللغة – وبالتالي في مجال النص – يمكن ان نفهم كيف تتجاوز هرمنوطيقا النص المعاصرة الشكل والمنهج معًا :
أولًا-هريمنوطيقا النص في ما وراء الشكل:
ان اهتمام هيدجر باللغة يرجع الى فترة مبكرة من فكره حينما ابدع عمله الخالد “الوجود والزمانSein und Zeit (Being and Time) ولكن هذا الاهتمام أصبح يشكل كل أو جل مجال فكره المتأخر.
وكتابات هيدجر عن اللغة تقدم لنا رؤية ساخرة إزاء التصور التقليدي للغة السائد في علم اللسانيات Linguistics والسيميوطيقا وفلسفة تحليل اللغة ، وهو التصور الذي يقوم على طرح اللغة على بساط البحث النظري المنهجي وتعرية البنية الأساسية او العميقة لجملها، أو تأسيس نماذج لنسق من القواعد أو العلاقات التي تجعل التحدث باللغة امرا ممكنا . فمثل هذا التصور الذي يقوم على منطقة اللغة (اي صياغتها منطقيا) ، وعلى ما أسماه هيدجر في “الوجود والزمان “بعملية ” تأطير اللغة Ge – stell(enframing) (أو التفكير الإحصائي التمثلي للغة هو التصور الذي يدعونا هيدجر الى التحرر منه حينما نفكر في اللغة او نتعامل معها. وهذه الدعوة الى تحرير اللغة او تخليصها من المنطق ومن قواعد وصيا غات التشكيل اللغوي هي – كما يبين لنا جيرالد برونز G. Brun (10) نفس الدعوة التي تشغل اهتمام هيدجر في مقاله المعنون باسم “الطريق الى اللغة ” The Way to Language الذي يرجع تاريخه الى سنة 1959 فعندما يتحدث هيدجر هنا عن عملية جلب اللغة الى اللغة من حيث هي لغة Die sprach als die sprache zur Sprache bringen (bringin language as a language to language) فإنه لا يتحدث عن جلب اللغة الى محل نظرنا ودراستنا او تعرية بنياتها العميقة او بناء لغة شارحة جديدة (أي نظام لغوي شارح للغة ) وانما هو يتحدث عن المجال المحدد مسبقا الذي تحيا فيه اللغة التي نكون واقعين في شراكها بدلا من ان نوقعها في شراكنا. ولذلك فان “الطريق الى اللغة ” عند هيدجر لا يفيد – فيما يرى برونز(11) -ذلك المعني المسطح الذي يشير الى طريق ما لمعرفة اللغة ، أي طريق آخر لتمثل اللغة من خلال قواعد وتشكيلات نحوية وصيا غات منطقية (أو استراتيجية أخرى للاستحواذ على اللغة ) فهيدجر يعني “بالطريق الى اللغة ” فهم اللغة من خلال اللغة ، أي من خلال فهم ما ينتمي الي اللغة أي فهم ماهيتها.
وفهم ماهية اللغة عند هيدجر هو الاساس الذي يقوم عليه فهم النص الادبي والشعر على وجه الخصوص بل وفهم الفن ذاته . فعندما يقول هيدجر : أدان طبيعة الفن هي الشعر (12)” فانه يعني بذلك ان كل فن من حيث ماهيته يشارك في ماهية الشعر” الذي يكون – بدوره – تأسيسا للحقيقة ” (13) فكل فن يكون شعرا بالمعني الماهري للشعر، أي ممارسة لماهية الشعر poetizing باعتباره أسلوبا لاسقاط ضوء الحقيقة في شكل . واذا كان اسقاط ضوء الحقيقة في الكلمات فإننا نكون حينئذ امام شكل من اشكال الفن وهو الشعر بمعناه الضيق الذي يعني قرض الشعر Poesy وأولية هذا الشكل الفني لا تكمن في ان ماهية الشعر تتجلى فيه (فأشكال الفن الاخري تشاركه في ذلك ) وانما تكمن في انه يحفظ لنا ماهية الشعر ويتيح لنا ان نتعرف عليها عبر اللغة ومن خلالها “.. فقرض الشعر يحدث في اللغة لان اللغة تحفظ الطبيعة الاصلية للشعر (14) واذا كان كل فن هو شعر بالمعنى الماهري ، وإذا كانت ماهية الشعر تتحقق او تتجلى من خلال اللغة حيث يحدث تأسيس للحقيقة وكشف للو جود ، فإن هذا يعني أن كل فن يكون في النهاية ضربا من اللغة بهذا المعنى الكشفي ، ففن اي شعب مايكشف عن “لغة ” هذا الشعب في التعبير عن عالمه ، وبذلك يكون للفن واللغة طابع تاريخي. وكل هذا يجعلنا نتساءل من جديد عن ماهية اللغة.
ان ماهية اللغة عند هيدجر تكمن في كونها كشفا او اظهارا للو جود ،. واللغة تكشف الوجود عندما تظهر الوجود الانساني والموجودات الفردية من خلال تحجبها . فكيف يتكشف الوجود على هذا النحو في اللغة ؟ لنستمع الى هيدجر :
“ان اللغة في النظرة الدارجة ينظر اليها على انها نوع من الاتصال . فهي تقوم بوظيفة التبا،ل اللفظي والاتفاق ، وبوجه عام :. التوصيل . ولكز اللغة ليست فحسب ولا في المقام الاول تعبيرات مسموعة ومكتوبة عما يراد توصيله .. فاللغة وحدها تجلب ما يكون – باعتباره شيئا ما يكون لم اي تجلب ماهية شي ء ما/ الى المجال المفتوح لاول مرة . فحيث لا تكون هناك لغة ، كما هوا لحال في وجو« الحجر والنبات والحيوان لا يكون هناك ايضا انفتاح لما يكون ل أي لماهية شيء ما/.. ومن خلال تسمية الموجودات لأول مرة تجلب اللغة الموجودات ابتداء الى الكلمة والى الظهور”(15).
وعندما يردد هيدجر دائما ان اللغة “تنطق والوجود” فانه يعني بذلك ان اللغة “تسمى” لاشياء الموجودات الفردية وتمنحها ماهيتها او اسلوبها في الوجود وبذلك فان العالم يكشف عن ذاته او يتكشف من خلال اللغة وهناك فحسب حيث توجد لغة يوجد عالم ، والعالم عند هيدجر هو المجال او الافق المفتوح الذي تتكشف فيه حقيقة الموجودات او اسلوبها في الوجود ولذلك فان العالم يكون دائما محا لما انسانيا ، فاللغة اذن ملك للانسان وتنتمي الى محا لمه ، وهي وسيلته في كشف الوجود المتحجب الذي يحيا فيه ، وهي بذلك تكون هبة او نعمة ، بل هي على حد قول هيلدرلن Holderlin اخطر النعم (16). فاللغة ليست وسيلة او اداة يستخدمها الانسان على نحو ما يستخدم الادوات بل ان اللغة ليست هي ما ينطقه الانسان : فليس الانسان هو الذي ينطق اق يتحدث اللغة بل ان اللغة “تنطق وتتحدث ” من خلاله ولما كانت اللغة هي مجال الفهم والتفسير فان ذلك يعنى ان الانسان يفهم ويفسر من خلال اللغة .
ومن الواضح ان اللغة التي يقصدها هيدجر هي لغة النص الادبي وخاصة النص الشعري الذي تتحقق فيه ماهية اللغة على الاصالة اما اللغة ا لمنطقية والرمزية والمعجمية فهي اللغة التي تستخدم على نحو تحجب فيه ماهية اللغة من خلال رموز وعلامات او الفاظ اشارية اي تحجب فيه “أبداعية اللغة ” في الكشف عن عالم ما أو عن أسلوب ما من أساليب الوجود . وابداعية اللغة لا تعني “ابداعا” للغة وانما تعني ان نتيح للغة ان تمارس ابداعيتها وبالمثل فإن موقف المفسر ازاء النص سوف يعنى فهم ابداعية اللغة في كشف وإظهار الوجود بل ان الطابع الرمزي للغة نفسه لا يمكن اختزاله الى عالم من العلامات مكتف بذاته من خلال مجموعة من العلاقات المتبادلة ، كما لو كان يشكل عالما مستقلا عن العالم والوجود وبول ريكير P. Ricour – المنتمي الى تيار الهرمنوطيقا الفينومينولوجية – يبين لنا هذه الحقيقة بالتأكيد على ان التحليل السيمانطيقى (الدلالي ) البنيوي حينما يقوم باختزال الوحدات الكتلوية للنصوص ، الى وحدات ذرية تصبح بمثابة بنيات اولية للدلالة ، فانه بذلك يغفل عن طبيعة الرمزية من حيث هي كشف واظهار للوجود : ،دفا لاختزال الى الابسط يؤدي الى حذف وظيفة هامة للرمزية والتي لا يمكن لها ان تظهر الا على مستوى أعلى من التجلى ، وهي الوظيفة التي تدخل الرمزية مع الواقع مع التجربة مع العالم مع الوجود (وأنا أترك عن قصد الخيار مفتوحا بين الكلمات ) وباختصار فأنا اسعي الى اثبات ان طريقة التحليل وطريقة التركيب لا تتطابقان ولا تتساويان ففي طريقة التحليل تنكشف عناصر الدلالة قبل ان تكون لها علاقة بما يقال ، وفى طريقة التركيب تتكشف وظيفة الدلالة التي هي (البلاغ ) وفي آخر الأمر (الكشف ) (17)” والحقيقة اننا نجد هذه النبرات الهيدجرية شائعة في كتابات بول ريكير عن اللغة والنص الادبي ، فلقد تابع ريكير هيدجر في نقد التصور السيميوطيقي البنيوي الذي ينظر الى اللغة على انها عالم من العلامات مغلق على ذاته او نسق من العلاقات الباطنية لا خارج له ، باعتباره تصورا قد افتقد خبرة اللغة والحق ضررا بها . وهو مثل هيدجر قد رأى أن ددمستوى صوتيات اللغة والمستوى المعجمي والمستوى الخاص بالتراكيب اللغوية .. هذه المستويات هي الجانب الميت من اللغة “(18).
والحقيقة ان موقف هيدجر من اللغة – فيما يرى ماجليولا Ropert Magliola يتجاوز موقف البنيويين structualists (19) وموقف الاصطلاحيين conventionalists معا فبالنسبة للبنيويين تشير الكلمات المنطوقة او المكتوبة الى بعضها بعضا فحسب ، وهي تفعل ذلك من خلال تزاوج الصوت والمعنى الذي يتحدد بواسطة قواعد ومعجم لغة شعب ما . وفي مقابل ذلك فان الاصطلاحيين ينظرون الى اللغة على انها اشارات او رموز أو شفرات متجهة نحو الخارج . اما هيدجر فيتجاوز الموقفين معا لانه بخلاف البنيويين الباريسيين لا يستبعد الطابع الاشاري للغة بالمعنى الواسع له ، أي بالمعنى الذي تشير. فيه اللغة الى عالم سابق على اللغة والى الوجود نفسه ولكنه في نفس الوقت لا يجعل اللغة تشير بأن تتجه نحو الخارج ، وانما تشير الى الوجود بأن تجعله ددحاضرادد داخل الكلمات ، وتجلب الخارج الى داخل بيت اللغة، فاللغة عند ميدجر هي “بيت الوجود” او كما يقول الاب ريتشاردسون Richardsonفي معرض شرحه لهيدجر هنا : “اننا لا يمكن ان نقترب من الموجودات الا من خلال المرور ببيت اللغة فالوجود (يسكن) في الكلمات التي بها تسمى الموجودات ” (20).
وعلى هذا الاساس لم يعد النص عند هيدجر ذد بنية موضوعية تجعله منغلقا على ذاته لا يفصح عن شيء بخلاف تراكبيه اللفظية كما هو الحال عند البنيويين . وفي نفس الوقت لم يعد النص متجها الى الخارج على نحو تصبح فيه الكلمات بمثابة اشارات تفقد هويتها في الدلالات الخارجية : فالكلمات ليست مجرد ادوات اصطلاحية نشير بها الى موجودات خارجية ، بل هي نفسها تسمى الاشياء والموجودات جميعا وتنطق الوجود او يتجلى فيها العالم والوجود.
الكلمات عند هيدجر إذن ليست الفاظا او رموزا اصطلاحية وهي تشير من خلال فعل الاظهار والتلميح مثلما “تشير” نبوءة الكهنة في معبد دلفي بأن “تلمح” على حد قول هيراقليطس .
والاظهار من خلال التلميح يعنى انه يبقى هناك دائما شيء ما مظلم ومتحجب او لا منطوق اي لا مقول وهذا هو معنى قول هيدجر :” ان كل ما يكون منطوقا ينبثق على انحاء عديدة مما يكون لا منطوقا” (21).
واللامنطوق ليس مجرد شي ء ما ينقصه الصوت ، وانما هو مايقيم في التحجب ويبقى مسكوتا عنه لانه لا يمكن ان يقال unsayable انه يبقى سرا وبذلك فان لغة النص الادبي تكشف الوجود وتظهر العالم من خلال التحجب الذي يسكن داخل لغة النص الأدبي ذاته .
* * *
وهذه النداءات الهيدجرية لحانت منطلقات لهرمنوطيقا النص الأدبي عند جادامر ، ولكن جادامر-مثل هيدجر- يرى ان فهم وتفسير النص الادبي يستند الى فهم ماهية اللغة ذاتها ، لا من حيث هي نص مكتوب فحسب وانما ايضا من حيث هي كلام منطوق . وفهم ماهية اللغة يعنى ان الهرمنوطيقا-بخلاف السيمانطيقا Semantics – تركز على الجانب الباطني لاستخدامنا للعلامات او بمعنى ادق لعملية الكلام :
ان اللغة عند جادامر ليست الفاظا او تعبيرات لفظية يمكن ان تحل احداها محل الاخرى على اساس افتراض نوع من التكافؤ القائم بينها بل هي كيان متفرد من التركيب اللغوي والاسلوب التعبيري او القدرة على الخطاب والايحاء . وهذا يبدو لنا بوضوح عندما نلاحظ الاختلاف الذي يوجد دائما بين اللغة الاصطلاحية واللغة الحية .
والطابع التفردي التشخصي للغة الذي يقاوم فكرة الاحلال هو طابع يبدو بوضوح – فيما يرى جادامر (22) -في حالة ابداع النص الشعري ، ويبلغ ذررته في الشعر الغنائي الذي لا يقبل الترجمة حتى انه لا يمكن رده الى لغة أخرى دون ان يفقد تعبيريته الشعرية ، وهذا يبرهن صراحة على اخفاق فكرة الاحلال كأساس لتعريف مفهوم المعنى بالنسبة لتعبير لغوي ما. بل
ان هذا يصدق بوجه عام على اللغة بصرف النظر عن خصوصية اللغة الشعرية عالية التفرد والتشخيص : فنحن عندما نتحدث اللغة كلغة . قد نقوم بتصحيح موقفنا اثناء الكلام باحلال تعبيرات محل أخرى او بعدها ولكن حتى في هذه الحالات نجد ان المقصود مما يقال ينبثت داخل متصل التعبيرات اللغوية التي تحل محل بعضها بشكل لا ينفصل عن التدفق الخاص بهذا الموقف او الحدث .
ومثلما يرفض جادامر فكرة الاحلال اللغوي ، فانه يرفض ايضا التصور السيمانطيقى الاداتي للغة المرتبط بهذه الفكرة السابقة ، فاللغة -وفقا لهذا التصور – توضع موضع الاستخدام تبعا لرغبة المرء ثم تلقى جانبا مثل سائر الوسائل الاخرى التي تستخدم لاجل غايات النشاط الانساني . ومن هنا يقال ان المرء يسيطر على لفته مثلما يقال ان المرء يسيطر على ادواته ، ولكن الحقيقة – فيما يرى جادامر (23) ان المرء يسيطر على لفته فقط عندما يحيا داخلها وعندما يتيح للغة ان تنطق موضوعها وتجعله حاضرا كما في فعل الكلام الحر الذي يتدفق الى الامام وهذا يصدق ايضا على فهم الحوار المكتوب وعلى فهم النصوص ، لأن النصوص هنا تكون ممتزجة ايضا بحركة المعنى في فعل الكلام . ولذلك فان هرمنوطيقا اللغة -فيما يرى جادامر- تصبح (باعتبارها بحثا عن المعنى) اسلوبا من البحث مغايرا تماما لمجال البحث الذي يعتمد على تحليل الشكل اللغوي للنص وفحص بنيته السييمانطيقية : فاللغة تضمر دائما معنى يتخفي وراء الدلالات القصدية او المعاني الاشارية للعلا مات اللفظية . ولايضاح تلك الحقيقة فان جادامر يميز هنا بين شكلين او ضربين من الكلام يمتد فيهما الكلام وراء ذاته : أولهما هو ذلك الكلام الذي لا يقال ومع ذلك يكون حاضرا بواسطة الكلام ، وثانيهما هو ذلك الكلام الذي يحجب بواسطة الكلام بناء على أغراض عملية .
ومع أننا يمكن ان نستفيد من هذا ان معنى الكلام -عند جادامر- لا يكون مكافئا للمعني الفعلي للتعبير اللغوي او العلامات اللفظية حتى على مستوى الاستخدام الأداتي للغة وفقا لاغراض عملية مع ذلك فان ماهية اللغة عند جادا مر يتم حجبها في الاستخدام الاداتي الاستراتيجي للغة: ففي مثل هذا الاستخدام نجد ان اللغة إما ان تخلو من اي معنى كشفي وتقوم على فكرة احلال الكلمات التي تفترض تكافؤ ا لمعاني كما هو الحال في عملية الاتصال اللغوي بهدف تبادل المعلومات واما ان تحجب اللغة المنطوقة او ا لمكتوبة معنى الكلام الذي يراد ان يقال او المسكوت عنه . وفي مقابل ذلك فان ماهية اللغة عند جادامر – ونحن هنا نفسر جادامر ولا نردد عباراته – تكمن في الكشف : كشف المعنى الذي يتخفى وراء الكلام وبنيته الشكلية اللفظية . ولكن ينبغى ان نلاحظ ان المعنى الذي يتكشف هنا ليس معنى منطقيا وانما هو اسلوب في فهم العالم والاشياء يكون حاضرا في استخدامنا للغة ولذلك فان الاستخدام الاداتي للغة يهمل ماهيتها باعتبارها اسلوبا في فهم العالم واكتشافه فنحن نفهم العالم ونكتشفه من خلال اللغة : “ففي مجمل معرفتنا بأنفسنا ، وفي مجمل معرفتنا بالعالم ، نكون دائما واقعين في شرك اللغة التي هي لغتنا . فنحن ننضج ونصبح على معرفة بالناس ، وفي آخر الامر على معرفة بانفسنا حينما نتعلم ان نتحدث . فتعلم الكلام لا يعنى تعلم استخدام اداة معدة سلفا لتعيين عالم يكون مألوفا لنا على نحو ما ، وانما يعنى اكتساب الغة ومعرفة بالعالم نفسه وأسلوب مواجهته لنا” ( 24).
وهذه الخصائص التي تميز ماهية اللغة هي نفسها الخصائص التي تميز النص الأدبي ولذلك فان النتيجة التي تهمنا مما سبق هي ان النص الادبي – الذي تتحقق فيه ماهية اللغة – يضمر دائما معنى او يقول دائما شيئا ، وهو اسلوب من اساليب معرفتنا بالعالم والناس والاشياء : أي أسلوب في كشف الحقيقة او الوجود.
وجاد امر يفهم النص الادبي بالمعنى الواسع وليس بالمعنى الضيق الذي ينحصر في اطار العمل الفني الادبي فالنصوص الأدبية جميعا – من حيث هي نصوص لغوية – تشترك في انها تقول لنا شيئا من حيث مضمونها . وعلى ذلك فان فهمنا للنص الادبي الذي يكون في نفس الوقت عملا فنيا ، لا ينبغى ان يكون مهتما في المقام الاول بتحقق الشكل الذي ينتمى اليه النص بوصفه عملا فنيا – وانما بما يقوله لنا (25) ولا شك -فيما يؤكد جادا مر -ان هناك اختلافا بين لغة الشعر ولغة النثر ، وبين لغة النثر الشعري والنثر الادبي ، وهي اختلافات يمكن بحثها من جهة الشكل الادبي داولكن الاختلافات الجوهرية لهذه “اللغات” المتنوعة تكمن في موضع ما آخر : اعني في التمييز بين الحقيقة التي تدعيها كل منها. فكل الاعمال الادبية لها أساس مشترك عميق يكمن في ان الشكل اللغوي يضفي فاعلية على اهمية المضمون الذي تريد ان تعبر عنه ” (26).
وينبغى ان نلاحظ ان جادا مر هنا لا يسقط التمايز بين الانواع الادبية ، بل انه قد افرد دراسات خاصة لهرمنوطيقا الانواع الادبية كالدراما والشعر بأنواعه .. الخ . ويكفي هنا ان نسترجع على سبيل المثال مقال جادامر عن “مساهمة الشعر في البحث عن الحقيقة ” . الذي يبين لنا فيه كيف يعضد الشكل اللغوي المضمون الشعري الذي يقال ويحفظه : فإذا كانت ماهية اللغة كلغة -أي من حيث هي عملية اتصال حقيقي يقوم على الحوار وليس على توصيل المعلومات -تكمن في انها تقول لنا دائما شيئا من خلال الحوار فان هذه الخاصية المميزة للغة تبلغ أعلى صورة مكثفة لها في الشعر الذي يقول لنا ما يقوله في كلمات “تبقى مكتوبة ” ولا يمكن استبدالها (27) . فجادا مر إذن لا يسقط ماهية الانواع الادبية فالإسقاط الحقيقي لماهية الانواع الادبية بل ولتفرد الاعمال الادبية ذاتها يكو ن في اغترابها داخل الشكل ونسيان الحقيقة التي يقولها لنا كل عمل أدبي.
ان مشكلة الشكل الجمال عند جادامر هي مشكلة الوعى الجمال الحديث الذي اغفل الحقيقة التي يقولها لنا الفن والادب على السواء وبذلك اصبح الأدب مثل الفن مغتربا عن عالمنا ، أي غير مفهوم بالنسبة لنا . وأصبحنا بالتالي غير قادرين على الدخول معه في حوار حقيقي . وهذا الاغتراب يصدق على أدب المامي الذي اسقطت حقيقته التاريخية المنحدرة عبر النص وعلى ادب الحاضر حينما يصبح مستغرقا في تجربة ذاتية خاصة بالشكل الجمال ، فأدب القدماء -مثل فنهم -كان يكشف عن اسلوبهم في التعبير عن عالمهم الاسطوري والديني والاجتماعي . أو لم يخبرنا هيردوت بان “هوميروس وهزيود قد منحا اليونان ألهتهم ” (28) ولكن هذا الدور التاريخي الذي كان يقوم به الادب والفن في عالم القدماء لم يعد مفهوما بالنسبة لنا، بالضبط لان ادبنا وفننا المعاصر لم يعد يتمثل دورا تاريخيا في عالمنا الذي نحيا فيه . ولذلك فإن الشعر المعاصر-على سبيل المثال -حينما يتحول الى شعر لا موضوعي ويغترب في الشكل المجرد، أي حينما يسقط ماهية اللغة باعتبارها تقول دائما شيئا ولا يمكن أن تتخلص تماما من المعنى ، فإنه على حد قول جادامر “سيكون مجرد طنطنة ” (29).
وعلى هذا فان جعل النص الأدبي مستغرقا في الشكل سوف يعنى بالضرورة اسقاط تاريخية النص ، كما لو كان النص يخاطب قارئا لازمانيا من خلال الشكل الأعبي . فالنص ليس شكلا مجردا يخاطب قارئا مجردا ، فمثل هذا التصور للنص يخلق صورة تعميمية للقارىء ويضفي معنى مطلقا على النص ، في حين ان النص تكون له طبيعة زمانية ويخاطب قارئا زمانيا، اي قارئا يحيا في اطار تاريخي قد يكون مغايرا لتاريخية النص ، مما يسمح بإمكانية تعدد تفسير النص بناء على دور القارىء في فهمه وتمثله للنص . وهكذا يمكن القول بأن تاريخية النص تعني : “أن النص قد كتب بواسطة شخص ما ، عن شىء ما، كيما يقرؤه شخص ما … ومن المستحيل ان نستبعد تاريخية النص دون ان نختزله بذلك الى ظاهرة طبيعية من قبيل الاعواج في البحار، لأنه حتى الصخور يكون لها تاريخ جيولوجي” (30).
وهنا نجد انفسنا امام تساؤلات عديدة تتداعى على أذهاننا. والسؤال الاساسي الذي يفرض نفسه علينا ابتداء هو : كيف نبقى على مفهوم الهوية داخل مفهوم الاختلاف او النسبية التاريخية ؟ فاذا كانت هوية العمل أو النص الأدبي عموما تتحدد في وجوده التاريخي، اي داخل سياقه التاريخي ، فكيف يمكن فهم وتفسير النص من منظور سياق تاريخي آخر يحيا فيه القارىء او المفسر ؟ وهل يمكن لهذا الفهم والتفسير حيئنذ ان يبقى على هوية النص او حقيقته ؟ هل الحقيقة التي يقولها النص او العمل الادبي يجب ان تكون حقيقة موضوعية حتى يمكن تواصلها تاريخيا؟
ان هذه التساؤلات وأشباهها التي تتعلق بعملية التفسير والفهم ذاتها ، تبدو وكأنها تجرنا الى فكرة المنهج . ولكن الحقيقة ان العملية الهرمنوطيقية تتجاوز مقولة المنهج ، فهي توجه معرفي يتخذ طابع الخبرة ويحدث فيها وليست موقفا معرفيا يستند الى المنهج . ووصف هيدجر وجاد امر لهذه الخبرة الهرمنوطيقية بالنص يقدم لنا رؤية متكاملة كافية للاجابة عن تساؤلاتنا السابقة.
ثانياً : هرمنوطيقا النص فيما وراء المنهج :
نقطة الانطلاق الاساسية في التوجه المعرفي للهرمنوطيقا هي ذلك المبدأ الفينومينولوجي الشهير الذي يطالبنا بضرورة فهم الخبرة الانسانية على اساس من تجاوز القسمة الثنائية التقليدية الى ذات في مقابل موضوع . ففهم الخبرة – كما أظهر لنا هوسرل E. Husserl يكشف عن فكرة بسيطة هي “أن كل وعي هو وعي بشي ء أو موضوع ما”. وهذه الفكرة البسيطة التي تنطوي على بداهة قد تجاهلتها او اسقطتها نظرية المعرفة التقليدية ، وأهلكت نفسها في مناوشات عقيمة لحساب الذات او لحساب الموضوع . فالفكرة تعني ببساطة ان عالم الاشياء او الموضوعات ليس من خلق وعينا او تصوراتنا ، ولا وعينا يكون من خلق هذا العالم : فالوعي والعالم يوجدان في وقت واحد، لا أحد منهما من خلق الآخر ، فالوعي ليس سوى توجه نحو عالم الاشياء أو الموضوعات يهدف الى الاقتراب منها ومحاولة التعرف عليها وفهمها من خلال خبرتنا بها ، لا الاستحواذ عليها او تملكها واخضاعها لتصوراتنا التي يمكن ان تحجبها عنا . ورغم أن مهمة الفهم هذه ملقاة على عاتق كل منا ، فان روح التفلسف الحق من شأنه ان يعيننا عل هذا الفهم .
وقد يبدو لأول وهلة ان هذه الفكرة لا علاقة لها بالنص الأدبي وعملية تفسيره ، ولكننا سنرى شيئا فشيئا أنها تضعنا في قلب قضيتنا التي سوف ننشغل بها فيما يلى من خلال فكرتين اساسيتين هما : تجاوز الهرمنوطيقا للنزعة الموضوعية المنهجية في تفسير النص ، وبيان الهرمنوطيقا لدور الذات في عملية التفسير باعتبارها حوارا بين الذات والنص :
ا- وهم الموضوعية .. وهم المنهج :
ان النص الادبي – بل واي عمل فني – هو كأي ظاهرة من ظواهر العالم الخارجي يمثل كيانا موضوعيا يقوم خارجنا ولا يكون من خلق تصوراتنا عنه ، ولكنه في نفس الوقت لا يكون بمثابة حقيقة موضوعية يمكن ان يتأسس معناها بشكل مستقل عنا ، كما لو كان هناك معنى موضوعي واحد يمكن قياسه واحصاؤه ولا نملك سوى ان نتفق عليه ونقر به .
لقد أنكر كل من هيدجر وجاد امر وجود تلك الحقيقة الموضوعية المزعومة ، أي تلك الحقيقة اللازمانية فالحقيقة تنتمي الى عالم انساني يتكشف فيه الوجود في لحظة تاريخية ما ، والفن بوجه عام هو تكشف للحقيقة التي تعبر عن حالة او لحظة تاريخية معينة . ولان الحقيقة التي يكشف عنها العمل – أو نداء الوجود الذي يتردد فيه ليست بمثابة معنى موضوعي مجرد فانها بالتالي لا يمكن فهمها من خلال مقولات وقوالب مجردة تريد الذات فرضها على العمل ، فهي معنى يتكشف فقط عندما تدخل الذات في حوار أصيل مع النداء الذي يتردد صداه في العمل وعلى نفس النحو ينبغى ان ننظر الى النص الادبي ذاته . فالنص الادبي لا يكون له معنى واحد لازماني ، بحيث يمكن تفسيره موضوعيا او اخضاعه لقواعد قياسية واجراءات منهجية . فمثل هذا التصور الذي يرى عملية فهم وتفسير النص على انها إعادة انتاج فوتوغرافي لمعنى النص ، هو وهم من أوهام النزعة الموضوعية التي لم تستطع ان تتخلص منها الهرمنوطيقا الكلامية (والتي تسمى لذلك ايضا بالهرمنبوطيقا الموضوعية) حتى ان شليرماخر قد رأي عملية الفهم على انها تعني فهم الآخر (والآخر هنا هو الكلمة أو النص ) على نفس النحو -وربما على نحو أفضل -من فهم الآخر لنفسه .
ووهم النزعة الموضوعية هو أيضا نفس الوهم الذي سيطر بصورة ما على اتجاهات النقد الحديث التي تتبنى مناهج تنشد الموضوعية من خلال الوصف والقياس والتحليل . فمثل هذه الاتجاهات الاخيرة قد تبنت النزعة الموضوعية باسم العملية واقتداء بنموذج المنهج في العلوم الطبيعية ، رغم ان العلم الطبيعي نفسه قد تخلى عن هذا النموذج ، وأصبح يفسح مجالا كبيرا للمعني والتفسير والكشف أكثر مما يعول على تحليل ووصف الوقائع وصفا موضوعيا محايدا يختفى فيه دور المفسر ، لأن مثل هذا الوصف لا يصنع بذاته علما ولا يكشف لنا عن معنى.
ولذلك فإن الدرس الاول الذي يمكن ان نتعلمه من هرمنوطيقا النص الفينومينولوجية المعاصرة على نحو ما وضع هيدجر دعائمها، هو السعى الدءوب نحو التحرر من نمط الثقافة التحليلية الذي تمارس من خلاله الأنظمة المعرفية في عملية تفسير النص والتعامل معه .
ومن هنا فان هرمنوطيقا هيدجر تنأى بأذهاننا عن ذلك التصور الشائع لأستاذ الأدب باعتباره محللا للنص او قارئا منهجيا . فأسلوب هيدجر – فيما يرى برونز – هو التحرر من الأسلوبية، ومن فهم النص الأدبي بتطبيق نظرية معينة في القراءة او منهج في التحليل او اسلوب معين في التلقى يراد منه ان ينافس النظريات والمناهج السائدة في مجال النقد والدراسة الأدبية ، وفي ذلك يقول برونز في دراسة قيمة عن هيدجر : “ان ميدجر يقوض فكرة الدراسة الادبية في مجملها باعتبارها تطبيقا او استجابة للمها رات الفنية في قراءة النصوص التي ينظر اليها على انها بنى أو أنساق سواء كانت صورية خالصة او لغوية خالصة ، أو أنساقا نصية ، أو كانت أشكالا وتشكيلات متواصلة مع الأنساق الاجتماعية والإيديولوجية التي تصاغ فيها الحياة الانسانية فهيدجر يأخذك بعيدا عن مفردات النظرية والمنهج والشكل والتشكيل والبنية والنسق “(31) . والحقيقة أن هذا الطابع لا يميز فكر هيدجر على مستوى قراءة النصوص فحسب ، وإنما يميز فكر هيدجر بإطلاق لأن هيدجر هو القائل : “لا أحد يفكر لي كما أن لا أحد يموت بالنيابة عنى” ففكر هيدجر هو دعوة لتحرر الفكر على اي مستوى ليدخل في لقاء وخبرة حميمة مع الأشياء والموجودات ، وفي النهاية مع الوجود نفسه.
وهكذا يمكن القول بأن الهرمنوطيقا الهيدجرية مثلما كانت دعوة الى تحرير اللغة من المنطق والقواعد ، فانها ايضا دعوة الى تحرير فهمنا وتفسيرنا للنص من التأطير النظري والتفكير الإحصائي المنهجي الذي يتبنى نزعة موضوعية باسم العلمية .
* * *
وهذا الطابع التحرري في عملية الفهم والتفسير عند هيدجر، هو ما أصبح جادامر ينظر اليه -مثل استاذه -على انه يمثل الطابع السلبي الضروري في الخبرة الهرمنوطيقية hermeneutical experience فالفهم الذي يحدث في الخبرة الهرمنوطيقية باعتباره انفتاحا على آخر (او النص) يهدف الى الكشف او الإظهار هو فهم لا يمكن أن يبدأ إلا حينما أعي أن الآخر لا يمكن احتواؤه داخل مفاهيمي الايديولوجية أو تصوراتي المنهجية . وهذا يعني زعزعة الأساس الذي يستند اليه موقفي الخاص بتخليص الفكر من ارضية التصورات التي يستند اليها . وهذه العملية هي ما يعرف باسم التقويض او التفكيك الهرمنوطيقي hermeneutical deconstruction والتفكيك هنا ليس نظرية او منهجا في القراءة وإنما هو تعرية لمفاهيمنا وتصوراتنا التقليدية بحيث نبقى في مجال الانفتاح الذي ينتشلنا او يختطفنا بعيدا عن مجال الفكر الاحصائي والتمثل الذي يدرس النص بهدف الوصول الى معرفة تصورية ثابتة . وهذه العملية السلبية في الفهم تشبه – فيما يرى جادا مر – حالة السلب التي يصل فيها المرء.الى حيرة ازاء الكلمات ، هي في نفس الوقت ما يطلق سراح الفكر ، وعندئذ فقط يبدأ الفهم (32).
وهكذا يمكن القول بأن الخبرة الهرمنوطيقية عند جادا مر هي نوع من التوجه المعرفي يقوم كبديل للمعرفة التصورية التي يتم تحصيلها واكتسابها من خلال المنهج . وهذا التوجه المعرفي – المستمد اساسا من هيدجر – هو ما عمل جادا مر على تعضيده بإتقانه وتبريره في عمله الأكاديمي الضخم الذي صدر سنة 1960 بعنوان الحقيقة والمنهج )Wahrheit Und Methode (Truth and Method) كما افصح عنه بأن مارسه عمليا في سائر اعماله ومقالاته التي توالت بعد ذلك حتى عهدنا هذا ولقد اراد جادامر ان يبين لنا من خلال هذا المنحى المعرفي ان هناك الكثير مما يمكن ان نعرفه عن طريق آخر غير المنهج . والفن – مع الأعمال والنصوص الأدبية عموما-يقدم لنا مثالا على الحقيقة التي لا تكتسب عن طريق المنهج ، وهذا يعني ان منهج العلم الطبيعي او نموذج المعرفة التصورية والتجريدية ليس هو الوسيلة الوحيدة لبلوغ الحقيقة .
والرأى عند جادا مر أن المنهج هو نوع من التفكير الاستراتيجي الذي ساهم في تعميق اغتراب الانسان المعاصر : فعلى الرغم مز. ان فكرة المنهج التي تنامت مع العلم الحديث وتبنتها العلوم الانسانية كانت محاولة لتجاوز اغتراب الانسان ازاء العالم ، فإنها قد ردت على هذا الاغتراب باغتراب مماثل . فالمنهج هو قواعد وأدوات استراتيجية تفرضها الذات على الموضوع وبذلك فإن الذات لا تفهم الموضوع كما هو معطى لها في خبرة مباشرة ، وإنما تفسر الموضوع وفقا لتصوراتها بالأمن أن تلتحم به في خبرة حميمة .
كيف نفهم هذا الكلام النظري العام بتخصيصه على عملية تفسير النص الأدبي؟
ان اتجاهات النقد الادبي الحديث قد تورطت في نفس المأزق حينما ساهمت في تكريس الاغتراب بدلا من الفهم في عملية التفسير وحتى الهرمنوطيقا الكلامية التي اثارت مشكلة الفهم لأول مرة كمشكلة عامة ، لم تستطع بسبب نزعتها الموضوعية ان تتخلص من هذا المأزق الاغترابي.
والهرمنوطيقا من حيث هي تفسير يقوم على الحوار تختلف كلية -فيما يرى جادامر (33)- عن صورتين اساسيتين من التفسير الاغترابي وهما : التفسير الذي يتحدث speaking about عن نص ما والتفسير الذي يتحدث لاجل نص speaking for ما والتفسير في الحالة الأولى – أي عندها يتحدث عن النص -هو تفسير يحاول فهم النص “تجريبيا” بجعله موضوعا يمكن السيطرة عليه واخضاعه لقواعد ودعاوي عامة يراد تطبيقها على النص ، وفي هذه الحالة يصبح التفسير “حوارا ذاتيا” monologue لا يتاح فيه للنص ان يتحدث عن ذاته أو لأجل ذاته itself أما التفسير في الحالة الثانية -اي عندما يتحدث لاجل النص – فهو تفسير يحاول فهم النص بطريقة مثالية ، ويدعي فيه المفسر “امكانية فهم الآخر (النص) على نفس النحو-وربما على نحو أفضل من فهم الآخر (النص) لنفسه والتفسير في هذه الحالة وان لم يكن حوارا ذاتيا الا انه يظل حوارا من جانب واحد one sided conversation لا يسمح فيه للنص ان يتحدث الينا بذاته فالمفسر يجعل «النص » اشبه بموضوع يتحاور مع نفسه وبالتالي تختفي هنا ماهية الحوار الذي يقوم على الاخذ والرد وهكذا نرى ان التفسير في الحالة الأولى لا يجعل النص ابدا مادة داخل حوار اي ان المفسر يطرح النص ذاته خارج عملية الحوار اما التفسير في الحالة الثانية فهو وان كان يجعل النص مادة للحوار الا انه لا يجعل الحوار حوارا حقيقيا لان المادة هنا تكون محكومة بالمفسر . وفي كلتا الحالتين يتم – بصورتين مختلفتين -تأكيد سلطة المفسر ونص التفسير text of interpretation على النص المراد تفسيره، وبذلك يمكن ان نخلص هنا الى القول بأن النزعة الموضوعية المنهجية تقودنا الى نوع من الوهم في الفهم والتفسير وهم الاعتقاد في السيطرة عل النص (اي سيطرة الذات او المفسر على النص موضوع التفسير) . ولكننا نجد أن النص يفلت منا عندئذ باستمرار وننتهي الى حالة من الاغتراب ناتجة عن عدم فهم الذات للموضوع او النص من خلال خبرة حميمة بينهما ، ونجد انفسنا في النهاية امام نص التفسير لا النص المراد تفسيره .
وهذه النتيجة تفضى بنا الى القضية التالية التي تعد على أهمية قصوى في العملية الهرمنوطيقية وهي : فهم دور الذات (المفسر) في عملية التفسير بوصفها حوارا حقيقيا بين ذات وموضوع .
2- دورا لذات في عملية التفسير:
(معنى التفسير كحوار مع النص )
ان ما يسمى بالتفسير الحواري او . الحوار التفسيري في الهرمنوطيقا المعاصرة هو تفسير يهدف الى تجاوز”ثنائية الذات / الموضوع “التى يتم فيها تأكيد احد طرفيها على حساب الطرف الآخر , وهذا التفسير الحواري كما فهمه جادا مر يتميز – فيما يرى بعض الباحثين (34) – بالانتاجية المخلصة
faithful productivity للنص الأصلى المراد تفسيره فالانصياع للنص والثقة فيه هما المفهومان الموجهان لما يمكن تسميته بأخلاق الهرمنوطيقا الجادمرية ومع ذلك فإننا لا ينبغى ان نفهم الانصياع (أو الثقة) في النص على انه يعنى ان المفسر يكون سلبيا تماما ازاء النص طالما ان التفسير يكون انتاجياproductive وليس معيدا لانتاج النص reproductive وان كان لا يوصف في نفس الوقت بانه ابداعي فجادا مر يتحاشى استخدام كلمتى “ابداعى” creative و ابداعية creativity لانهما تغاليان في أضفاء سلطة المفسر او نص التفسير على النص الأصلى.
فالتفسير اذن ينبغى ان يكون متواضعا أمام النص فلا هو ينبغى ان يهدف الى ابداع نص جديد ولا ان يعيد انتاج النص . لانه في كلتا الحالتين لا يقيم حوارا مع النص والحوار مع النص ينبغى ان يفهم على انه علاقة تبادلية بين الذات والموضوع او بين الانا والآخر ولذلك تقول كاثلين رايت K. Wright “ان استخدام جادا مر لمصطلح حوار ينبغى ان ينبهنا الى ان العلاقة بين المفسر والنص هي علاقة انا بآخر an – I – other relation حيث تقوم الانا مقام المفسر ويقوم الآخر مقام النص وجاد امر لا يعني بالاخر مؤلف النص وانما النص نفسه وبالتالي فان النص يكون اكثر من مجرد مادة الحوار التفسيري فهو مادة داخل الحوار التفسيري. ولهذا فان جادامر يزعم ان “النص يعبر عن ذاته على نحو يشبه الأنت “(35).
ومن هذا يتضح لنا أن دور الذات في عملية الحوار مع النص يتميز بخاصيتين رئيسيتين مرتبطتين ارتباطا وثيقا : والخاصية الأولى هي العلاقة التبادلية بين الذات والموضوع او بين الانا والآخر والخاصية الثانية هي ان الاخر هو النص لا المؤلف وقيما يلي سنحاول القاء مزيد من الضوء على هاتين الخاصيتين المميزتين للحوار مع النص :
أ . الحوار بوصفه علاقة تبادلية بين الأنا والآخر .
الحوار – بما هو حوار – يقتضى نوعا من العلاقة التبادلية بين طرفين : ذات وموضوع او-بمعنى أدق -بين أنا وآخر (مع فهم هذا الآخر باعتباره «أنت» اي شخص مخاطب قادر بذاته على ان يتحدث وان يشارك في الحوار) ذلك ان العلاقة التبادلية هنا تعني ان عملية الفهم والتفسير من خلال الحوار لا يمكن ان تحدث في اتجاه واحد يسير من الانا الى الاخر ، فهذه العملية ينبغى ان تسير ايضا من الآخر الى الأنا. والأنا هنا هي التي تملك زمام المبادرة لتحقق هذه العملية على نحوها الصحيح ، عندما تنفتح على الاخر وتسمح له ان يتحدث اليها مثلما تتيح لنفسها ان تنصت اليها وكأنها بذلك تتبادل معه المواقع : فلا تتعامل معه كمجرد موضوع تسعي للسيطرة عليه ولا تعامل نغمسها كما لو كانت ذاتا محايدة او “كوجيتو ديكارتي” اعني ذاتا مفكرة تتعامل مع الاخر باعتبارها كيانا منفصلا عنه لا يتردد صداه فيها ولذلك فان النزوع المنهجي الحديث نحو «تأطير النص» والسيطرة عليه ومحاولة اخضاعه لنوع من التفكير الموضوعي الذي يستند الى القواعد والاحصاءات والتحليلات ، هو نزوع نحو الوجهة الخاطئة فهو نزوع نحو نوع من “التفكير” الاستراتيجي “تفكير يختفي فيه الانفتاح على النص ، ويختفي فيه – كما يؤكد جادامر دائما – الحوار الحقيقي الذي يكون بين الاصدقاء والذي يتحقق من خلاله نوع من اللغة – لا الاغتراب -نتيجة وجود شيء مشترك يؤسسه الحوار بينهم ويلتقون عنده . ولذلك يمكن القول بان الذات او الانا -في هذه الحالة من النزوع المنهجي نحو النص -تريد ان تتخذ صورة محايدة لا تصبح معها ذاتا حقيقية ، وإنما تصبح ذاتا مرتدية أقنعة هي بمثابة تلك الأدوات (أو الاستراتيجية) التي تتعامل من خلالها مع الآخر الذي تريد ان تحيله الى مجرد موضوع للاستخدام ضمن ما تستخدمه الذات من أدوات في عالمها التكنولوجي المعاصر أو-بمعنى أدق -في عالمها الاغترابي الذي لم تعد تسمع فيه نداء الأشياء والموجودات التي تحيه بينها .
والحقيقة ان هذه الفكرة -أعني فكرة الحوار المتبادل الذي يكاد يختفى من عالمنا المعاصر -لا نجدها ماثلة في الهرمنوطيقا الجادمرية فحسب ، بل اننا نجد جذورها العميقة لدى هيدجر.
في مقال هيدجر المعنون باسم “هيلدرلن وماهية الشعر” يلتقط هيدجر أبياتا لهيلدرلن – شاعر الشعراء الأثير لديه -يتحدث فيها عن معنى الحوار المفتقد في عالمنا – وهيدجر يتوقف عند هذه الأبيات ليتحاور مع نص هيلدرلن عن معنى الحوار ، أي يحاول تفسيره تفسيرا حواريا.
فلنستمع أولا الى هيلدرلن :
“تعلم الإنسان كثيرا
ومن السماوات سمى الكثير
مذ كنا حوارا
وكنا قادرين على ان يستمع بعضنا الى بعض “.
ولنستمع الى بعض ما يقوله هيدجر في حواره مع هذه الابيات :
“… مذ كنا حوارا” : إننا معشر البشر ، حوار وكينونة الانسان مؤسسة على اللغة . ولكن اللغة إنما تتحقق تاريخيا في “الحوار” . على ان الحوار ليس وجها من وجوه استعمالنا للغة فحسب بل ان اللغة لا تكون اصيلة إلا من حيث هي حوار . فإن مانعنيه باللغة عادة -وهو نسق من الكلمات وقواعد تركيب الكلام -ما هو الا الجانب الخارجي للغة واذن فما معنى “الحوار” ؟ بالبداهة هو ا لتكلم مع الآخرين عن شي والكلام عندئذ هو الوسيط بيننا الى جمع الشمل والالتقاء لكن هيدرلن يقول : “كنا حوارا ، وكنا قادرين على ان يستمع بعضنا الى بعض ” ان القدرة على الاستماع ليست نتيجة لتكلم بعضنا مع بعض بل انها مفترضة في قبل في عملت التكلم ولكن القدرة على الاستماع نفسها هي ايضا قائمة على إمكان الكلمة محتاجة اليها إننا حوار وهذا معناه اننا نستطيع نستمع بعضنا الى بعض .. ولكن هيدرلن لا يقول فقط : اننا حوار بل يقول : ” مذ كنا حوارا” فمنذ متى كنا حوارا؟” (36)”.
وليس في وسعنا هنا ان نواصل حوار هيدجر مع هيلدرلن حول المعنى المتضمن في المقطع “مذ .. كنا حواراه الذي يعنى – فيما يعنى لدى هيدجر (37) – منذ أن اصبحنا وجودا تاريخيا متزامنا اي وجودا له ماض وحاضر ومستقبل حيث تعلم الانسان كثيرا وسمى كثيرا … فما يهمنا هنا هو ان نتوقف عند تلك الخاصية العميقة المميزة لمعنى الحوار كما يفهمه هيدجر ، وهي ان الحوار لا يحدث الا من خلال تبادل لنعلى الكلام والانصات : فالكلام وحده لا يؤسس الحوار فالكلمة – لكي تكون كلمة – تحتاج الى قدرة على الانصات . ولكن الانصات ال اللغة – او الانصات ال الكلام الذي يقال – هو بدوره نوع من الكلام إذ يكون الكلام مفترضا ومتضمنا فيه : فنحن في فعل الانصات “نقول مرة أخرى الكلام الذي سمعناه ” (38) على حد قول هيدجر في مقاله “الطريق الى اللغة “.
ويبدوان أسلوب الانصات Listening -فيما يرى برونز (39) هو أسلوب هيدجر في تجاوز البنوية فأسلوب ب الانصات مختلف عن اسلوب التملك والاستحواذ وهذا هو مايميز الانصات عن الرؤية والعلاقات المكانية : فالأنصات يعنى التورط والاستغراق والوقوع في الشرك ، حيث نكون مأخوذين ومسلوبين . وفي حين ان العين تبقى نفسها دائما على مسافة مما تشاهده فان الاذن تمنح الآخر اقترابا منا وتتيح له ان يدخل الينا ويتملكنا ولذلك فاننا نقول في التعبير الشائع : “أعطنى أذنك ” lend me your ears.
فعل الانصات إذن يعنى ان نتيح لشي ء ما ان يقال لنا في عملية الحوار. غير ان تناوب الانصات والكلام لا يكون فعلا متصورا على الذات او الانا بل انه ايضا يكون سمة مميزة للنص حينما ننظر الى النص باعتباره الآخر او “الأنت ” في عملية الحوار.
فالنص يتحدث حينا ويصمت حينا ، يتكشف ويتخفي ومهمة الفهم والتفسير الحواري هي كشف المتحجب والمستتر من خلال اللامتحجب والمتجلى اي اكتشاف مالم يقله النص من خلال ما يقوله بالفعل . ومن خلال ذلك التوتر بين التكشف والتحجب بين الكلام والصمت على مستوى النص وعلى مستوى المفسر تنكشف الحقيقة التي يقولها النص .
ويمكن الان ان ننتقل الى الخاصية الثانية المرتبطة والمميزة للعلاقة بين الانا والآخر في عملية الحوار مع النص وهى : أن الآخر في فعل الحوار هو النص نفسه .
ب -الحوار مع الآخر بوصفه حوارا مع النص :
إذا كان مفهوم الحوار الحقيقي الذي يقوم على علاقة تبادلية بين أنا وآخر ، يرتبط ارتباطا وثيقا-كما نوهنا – بمفهوم الحوار باعتباره حوارا مع النص . فعلى اي اساس نفهم هذا الارتباط ؟ وهنا لابد ان نلاحظ ابتداء تلك الحقيقة المنطوية على بداهة ، وهي ان ما يكون هاما في اي حوار حقيقي هو ان هناك موضوعا ما يدور حوله الحوار ويكون بمثابة قضية مشتركة بين المتحاورين تشغل اهتمامهم وتؤلف بينهم . فعلى حد قول جادامر : “إن الطريقة الوحيدة التي نبلغ بها امكانية التحدث مع بعضنا بعضا ، هي ان يكون لدينا شيء لنقوله لبعضنا بعضا” (40) . وهذه العملية -فيما يرى جادامر- مختلفة عن طريقة نقل المعلومات (من خلال الرموز على سبيل المثال ) تلك الطريقة التي يكفي فيها وجود مستقبل ليتلقى المعلومات إذ لا يكفى في الحوار الحقيقي وجود شخص مستقبل بل يجب بالاضافة الى ذلك أدان يكون لدينا استعداد يتيح لشىء ما ان يقال لنا فبهذه الطريقة وحدها تصبح الكلمة رابطة كما لو كانت تربط موجودا بشريا بموجود بشري اخر (41) . وغاية الحوار في النهاية -كما بين لنا هيدجر من قبل -هي اظهار ددمايكون موضوعا للكلام فالكلمة باعتبارها حوارا حقيقيا هي “مايتيح لشيء ما ان يشاهد ، أي يتيح مشاهدة ما يكون عنه الكلام ” (42) … ما الذي يمكن ان نستفيده من مجمل هذا؟
لقد تكشفت لنا الآن فكرة اساسية ، وهى : أن اللغة أو الكلام في عملية الحوار ليس أداة لتوصيل معلومات فما يكون هاما في الحوار الحقيقي هو ما يقال من خلال الكلام فكل حوار هو حوار عن شىء ما وإذا كنا نعلم من قبل ان كل نص – من حيث هو لغة -يقول لنا شيئا ما، فإن هذا يعنى ان حوارنا مع النص – باعتباره حوارا بين أنا وآخر – لا ينبغى ان يتجاوز ما يقوله النص الى شيء ما وراءه . وهنا يظهر لنا على الفور -فيما يبين لنا بعض الباحثين (43) -اختلاف هرمنوطيقا جادا مر عن الهرمنوطيقا الكلامية لدى شليرماخر ودلتاي ؟ إذ كان ينظر هذان الاخيران الى لغة النص باعتبارها شفرة لشىء ما آخر يقع وراء النص (من قبيل : الشخصية الابداعية للمؤلف او رؤيته للعالم .. الخ ) ، في حين ان جادامر يركز انتباهه كلية في مادة النص ذاته ، أي فيما يقوله لأجيال متتالية من المفسرين .
إن النموذج التقليدي لعملية الاتصال التي تنتقل من المؤلف الى النص الى القارىء والتي يبدو فيها النص كوسيط موضوعي يحمل رسائل المؤلف الى القارىء – هو نموذج لا يعامل النص باعتباره الآخر أو “الأنت ” الذي يكون طرفا في عملية الحوار ، وانما يعامله كوسيط للحوار مع ا لمؤلف . وليس جادا مر وحده هو الذي يرفض هذا النموذج بل ان الهرمنوطيقا الفينومينولجية عموما – كما يبين بعض الباحثين ( 44) – ترفضه ايضا . فعلاقة المؤلف / النص / القارىء يتم فصلها لتنحل الى فئتين هما : علاقة “المؤلف / النص” وعلاقة “القارىء / النص ” وعلاقة المؤلف بالنص هي عملية ابداعية ينتج فيها جهد انساني عملا فريدا له شخصية متميزة ، أي عملية تتعلق بأسلوب إبداع النص . ولكن ما ان يبدع النصر او العمل حتى تنتهي علاقته با لمؤلف ولا تكون هنان امكانية لإعادة السيطرة على النص المبدع . فمنذ اللحظة التي يصبح فيها النص مكتملا ومعطى للقارىء يكون المعنى النصي قد انفصل عن قصديات المؤلف : يلقي كل منهما قدره بمنأى عن الآخر . ولهذا يتمسك الباحث بفكرة جادا مر في أن المعنى النصي لا يتطابق مع ما قصده المؤلف فالقصديات السيكولوجية للمؤلف تخصه وحده . أما القصديات النصية (قصديات النص) فيجب النظر اليها باعتبارها جزءا من خبرة القارىء . ولكي يفهم القارىء معنى نص ادعبي ما ، يجب ان يكون قادرا على ادراك فرديته باعتباره تأليف مؤلف ، أي باعتباره أسلوبا ابداعيا لمؤلف ما (وليس لتاريخية المؤلف).
وهنا ينبغى ان نميز بين تاريخية المؤلف وتاريخية النص: فتاريخية المؤلف هي ظروفه وخبراته الثقافية والاجتماعية والنفسية الخاصة به ، أما تاريخية النص فهي الحقيقة التاريخية التي يقولها النص باعتبار ان ما يقوله النص يكون موجها دائما لأناس يعيشون في عصر ما بكل اشكاله الثقافية والاجتماعية والدينية .
ومن خلال علاقة النص بالقارىء يدخل النص في سياق ثقافي -اجتماعي غريب عليه : سياق قارىء يحيا في زمان ومكان ما آخر.
ومهمة الهرمنوطيقا في تعاملها مع النص هي تجاوز الاغتراب التاريخي للنص عندما يدخل النص في إطار أو سياق غريب عليه ولا يستوعب فيه ، وتجاوز الاغتراب هنا يقتضى عملية مواءمة Aneigung (appropriation) وهو مصطلح يعني أن يجعل المر0ما كان غريبا عليه ملكا له ودلالة هذا المصطلح في سياق تفسير النص الأدبي سوف تعني ان يجعل المفسر النص منتميا الى ما اسماه هوسرل “العالم المعاش ” life-word أو الى ما اسماه هوسرل “الوجود في العالم ” being-in-world وعملية المواءمة هذه لا يمكن ان تتم الا من خلال الحوار الذي يسعى الى الفهم : فهم تاريخية النص وما يقوله لنا.
وعلى ذلك ، فإن فهم معنى النص عند جادا مر يقتضى تطبيقه على موقفنا او وضعنا والتطبيق والفهم هنا هما عملية هرمنوطيقية واحدة ، فليس هناك فهم يتم اولا ثم تطبيق لما يتم فهمه وفهم معنى نص من المامي يعنى السماح له بأن يتحددنا اليوم ووضع القضية بطريقة سالبة يعنى ان عدم القدرة على تطبيق النص على موقفنا وعدم امكانية ربطه بعالمنا ، هو عدم فهم لأي شيء من النص
على أننا من خلال عملية المواءمة عند جادامر لا نفهم الآخر أو النص فحسب ، وإنما نفهم انفسنا ونتعرف على ذواتنا ايضا . فنحن نعرف الذات على أفضل وجه من خلال السمات الانسانية التي طالما تجلت في الاعمال الثقافية ، وهذا هو ما عبر عنه ريكير ايضا بقوله : “فما الذي كنا سنعرفه عن الحب والكراهية ، والمشاعر الاخلاقية وبوجه عام عن كل مانسميه الذات، ما لم يتم التعبير عن كل هذا في اللغة والإفصاح عنه من خلال الأدب :؟ وهكذا فإن ما يبدو مضادا تماما للذاتية ، وما يظهره التحليل البنيوي على أنه نسيج للنص ، انما هو نفس الوسيط الذي يمكن أن نفهم أنفسنا من خلاله ”
أفلا ننتهي من مجمل هذا الى ان هرمنوطيقا النص المعاصرة تحاول رأب الصدع الذي احدثه وعينا الجمال الحداثي نتيجة إغفاله أو نسيانه لفهم ما يقوله لنا الأدب والفن على وجه العموم ، مما ترتب عليه ان اصبح ما يقال لنا لا يتردد صداه فينا ؟
الهوامش:
(1) Maurice MERLEAU-PONTY, Signs,
Translated By Richard McCleary (Evanstion
Nothwerstern Unversity Press, 1973), Pp 49ff.
انظر ايضا كتابانا: الخبرة الجمالية دراسة في فلسفة الجمال
الظاهراتية “بيروت:المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر،سنة
1992″،ص 220 وما بعدها.
(2) صلاحل فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص”الكويت:سلسلة
علم المعرفة،المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب، العدد
164،سنة 1992) ص 274.
(3) شكرى عياد،دائرة الابداع:مقدمة في اصول النقد(القاهرة
دار الياس العصرية،سنة 1986)ص 122.
(4) انظمة المعلومات في اللغة والادب والثقافة :مدخل الى
السيموطيقا، اشراف سيزا قاسم ونصر ابو يزيد (القاهرة:دار
الياس العصرية سنة 1986) انظر مقدمة فريال جبوري غزول،
ص 14.
(5) سيزا قاسم السيموطقيا: حول بعض المفاهيم والابعاد
“ضمن الكتاب السابق” ،ص 18.
(6) صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص،ص 253.
(7) انظر في ذلك كتابنا: جدل حول علمية علم الجمال دراسات
على حدود مناهج البحث العلمي (القاهرة:دار الثقافة للنشر
والتوزيع سنة 1995) ص 37 وما بعدها.
P-Feyerrabend, Against Method(London
Verso, 1980, P. 23 and Passim.
(8) willam V. Spanos, Martin Heisegger and
the Question of Literature…toward a postmodern
Literary criticism (Blooming, London,
Indiana University Press, 1970)
Sixteen. x v
(9) Qouted in Riner Wiehl “Schleiermachers
Hermeneutics” in Festival of Interpretation:
Essays on Hans George Gadamer’s Wotk, ed
by Kathleen Wright (State University Press
1990), P.28.
(10) Gerald L. Bruns “Disappeared Heidegger
and the Emancicpation of language” In Lanquages
of the Unsayable, the play of Nefativity in Literature
and Literary theory, ed by Sanford Budick and
Wolfgang lser (New York Columbia University Press,
1989), Pp 118-119.
(11) ibid., Pp 133 – 134.
(12) Martin Herdegger, “The Orgin of the
work of Art” in Poetry, Language and thoght,
trains. And introd. By Albert Hofstadter (New
York Harper and row Publoshers, 1975)P.75.
(13) Ibid, Loc cit.
(14) Ibid, P. 74
(15) Ibid, P 73
ملحوظة: العبارات الواردة بين هذه الاقواس ( ) في النص
ليست جزءا من النص الاصلي وانما هي اضافة شارحة
من جانبنا،وفقا لمعنى الماهية عن هيدجر الذى يدل على
ما يكونه شىء ما والاسلوب الذي عليه يكون.
(16) مارتن هيجدر،ما الفلسفة؟ ما الميتافيزيقا، هيلدرلن
وماهية الشعر, ترجمة محمود رجب وفؤاد كامل، مراجعة:
عبدالرحمن بدوي (القاهرة دار الثقافة للنشر والتوزيع سنة
1974)ص 140.
انر ايضا: مارتن هيدجر في الفلسفة واشعر، ترجمة عثمان
امين (القاهرة:الدار القومية للطباعة والنشر،سنة 1963)
ص75.
(17) بول ريكير، اشكالية ثنائية المعنى بوصفها اشكالية
هرمنوطيقية وبوصفها اشكالية سيمانطيقية، ترجمة فريال
جبوري غزول، ضمن كتاب الهرمنوطيقا والتأويل”مجلة
الف العدد الثامن ربيع سنة 1988) ص 138.
(18) From a lecture delivered by Ricour in English at Wheaton College. 1969,Qouted in Robert Magliola Phenomenology and Literature(Indiana purue University press,1978) p.81.
(19) Robert Magliola, op.cit,p.69
انظر ايضا كتابنا: الخبرة الجمالية،دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية ص 123-122
(18) From a lecture delivered by Ricour in English at Wheaton College, 1969, Qouted in Robert Magiola Phenomenology and Literature (Indiana purue University press, 1978) p. 81.
انظر ايضا كتابنا: الخبرة الجمالية، دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية 123-122.
(20) William J Richardson, Heidegger through Phenomenology to Thought (Nether-lands the Hague, Martinus Nijhoff, 1976), p. 528.
(21) Qouted in Gerald Bruns, “Disappeared: Heidegger and the Emancipation of Language in languages of the Unsayable, p. 125.
(22) Hans- georg gadamer, “Semantics and Hermeneutics (1972)”, in Philosophical hermeneutics, trans. and ed. by David E. Linge (Berkely: University of California Press, 1976), p. 87-88.
(23) Ibid, Pp. 87-88.
(24) H-G Gadameer, “Man and Language (1996)” in ibid, Pp. 62-63.
(25) H-G Gadameer, Truth and Method, the English translation (New york: Continuum, 1975) Pp. 144-145.
(26) Ibid, P. 145.
(27) H-G Gadameer, “On the Contribution of poerty to the Search for Truth” in the Relevance of the Beautiful and other Essays, trans by Nicholes Walker, ed by Robert Bernasconi (Cambride University press 1988) Pp 106-109.
(28) Ibid, P. 105.
(29) H-G Gadameer, “Composition and Interpretation” in the Relevance of the Beautiful ……, P. 68.
(30) Mario J. Valdes, Phenomenological Hermeutics and the study of Literature )Toronto: University of Totonto press, 1987) P.33.
(31) Gerald Bruns, Heidegger’s Estrangements Language truth and poetry in Later Writing (Yale University of Toronto Press, 1989) P.6.
(33) Ibid, see Pp 7-9.
(33) H-G Gadameer, Truth and Method, Pp. 322 2 430, also see Kathleen Wright “Literature and Philosophy at the Crossroads” in festivals of Interpretation … P. 64.
(35) Kathleen Wright “Literature and philosophy at the Crossroads” in ibid., P. 237.
(36) مارتن هيجدر: في الفلسفة والشعر، ترجمة وتقديم عثمان أمين، ص 88-87 (انظر ايضا: ما الفلسفة ؟ ما الميتافيزيقا ؟ هيلدرلن وماهية الشعر، ترجمة محمود رجب وفؤاد كامل، ص 147/146)
(37) المصدر السابق ص 89 وما بعدها.
(38) Quoted Gerald Bruns “Heidegger and the Emancipation of Language” in Languages of the Unsayble….., P 127.
(39) Ibid, Pp 127 – 128.
(40) H-G Gadameer, “On the Contribution of poetry to the search for truth “in Festivals of Interpretation……, P 106
(41) Ibid.. loc cit.
(42) Martin Heidegger, Being and time, trans by Jon Maqurrie and Edwards Robinson (New York Harper and Row Publishers 1976) sec. 31, p 56.
(43) David E Ling (translator and editor), Hans George Gadamer Philosophical Hermeneutices (University of California Press, 1976) see the introduction, P. xx.
(44) Mario J. Valdes Phenomenological Hermeneutics, Pp. 38 and 60-61.
وجدير بالذكر هنا ان كافة اقطاب الاتجاه الفينومينولوجي متفقون على ان خبرات المؤلف او المبدع لا تعد جزءا من بنية العمل الادبي (او العمل الفني بوجه عام) ولا تدخل “او لا ينبغي لها ان تدخل” كجزء في سياق خبرة المتلقي او الناقد بهذا العمل من حيث هو موضوع لخبرة جمالية (انظر في ذلك كتابنا الخبرة الجمالية دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية مواضع عديدة متفرقة).
*نقلًا عن موقع مجلة “نزوى”- سلطنة عمان.