الدعوة إلى الله تعالى معالم روحيَّة وأخلاقيَّة
د. مصطفى بو زغيبة
مراحل الدعوة الإسلامية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم منذ بعثته إلى انتقاله إلى جوار ربه:
قسم العلماء مراحل الدعوة إلى أربعة مراحل وهي:
- المرحلة الأولى: الدعوة سرًا، منذ مبعثه إلى الأمر بالجهر بالدعوة، واستمرت ما يقرب ثلاث سنوات.
- المرحلة الثانية: الدعوة جهرًا، مع الكف عن القتال، واستمرت إلى الهجرة.
- المرحلة الثالثة: الدعوة جهرًا مع قتال المعتدين والبادئين بالقتال، واستمرت هذه المرحلة إلى عام صلح الحديبية.
- المرحلة الرابعة: الدعوة جهرًا مع قتال كل من يمنعون نشر الدعوة، بعد إعلامهم والدعوة لهم من المشركين أو الوثنيين أو الملاحدة.
بدأت الدعوة الإسلامية في المرحلة الأولى سرًا، إلى أن أسلم العديد من الناس، واستمرت هذه المرحلة ثلاث سنوات، ثم أعقبتها مرحلة ثانية وهي التي أمر فيها الله عز وجل نبيه الكريم بالجهر بالدعوة، عن عبد الله بن عبيدة قال: “ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيًا حتى نزلت: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) فخرج هو وأصحابه”، [1] ثم أمر الله سبحانه وتعالى أن يخص قرابته بالدعوة إلى الاسلام، وإنذارهم خاصة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) [الشعراء/214]، دعا رسول الله ﷺ قريشاً فاجتمعوا. فعمّ وخصّ. فقال: يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة، أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئًا، غير أن لكم رحمًا سَأَبُلُّها بِبِلالِها). [2]
يستفاد من الأمر بالدعوة وإظهارها للناس أن أمر إظهار الدعوة ما يكون سببا في هداية الناس إلى طريق الحق، وإخراجهم من شرك الجهل والكفر إلى نور التوحيد والهداية، بالتدريج حتى يستقر الايمان في القلوب، يقول الشيخ إسماعيل حقي: “كان عليه الصلاة والسلام مأمورا بإظهار ما كان من قبيل الشرائع والأحكام لا ما كان من قبيل المعارف والحقائق فإنه كان مأمورا بإخفائه إلا لأهله من خواص الأمة وقد توارثه العلماء بالله”، [3] كما يؤكد على عدم إظهار ما يمكن أن يكون سببا في تفرق كلمة الناس وتمزيق وحدتهم واختلافهم في الدين.
ومما يتميز به التصوف بالمغرب هو غلبة الجانب العملي الأخلاقي على الجانب الإشراقي، مما جعله مدرسة لها أسسها ومنهجها، وكل ذلك مستمد من الهدي السيري، الذي يتسم بالبساطة والوضوح وعدم التعمق والتوغل فيما ليس تحته عمل، والالتزام بحدود النص الشرعي وعدم الإغراق وإطلاق الحقائق، بل يعتبرون ذلك استدراجا وامتحانا فيتعوذون مما ينكشف لهم “ويفرون منه، ويرون أنه من العوائق والمحن” [4] وهذا ينسجم مع المحيط العام السائد في المغرب.
بالإضافة إلى ذلك يرى العلامة علال الفاسي سبب هذا التميز في كون معظم الصوفية من “أهل العلم بأصول الدين وفروعه، ولذلك فهم يعرفون كيف يُكيِّفون آراءهم، وقلَّما تجدهم مصطدمين مع العلماء”. [5]
كما يمكن أن نرجعه لسبب آخر وهو: أن دعوة الصوفية عامة، بمعنى أنها تهدف إلى نشر المبادئ الروحية وتبسيط أمور الدين للعامة، من غير تكلف ولا تعقيد ولا تشويش، وهذا الأمر يذكرنا بما وقع للإمام مالك حين سأله “رجل عن شيء من علم الباطن، فغضب وقال: إن علم الباطن لا يعرفه إلا من عرف علم الظاهر، فمتى عرف علم الظاهر وعمل به فتح الله عليه علم الباطن، ولا يكون ذلك إلا مع فتح قلبه وتنويره”. [6]
فطريقتهم طريقة عملية سلوكية واقعية، تراعي ظروف وواقع الناس، فالذي يدعو إلى الله يجب أن يكون عارفا بأحوال الناس وسياق معيشتهم وحياتهم، وكذا نفسياتهم وأمزجتهم حتى تكون لدعوته وقعا على عقول الناس وقلوبهم، فيأخذهم شيئا فشيئا إلى حد التمام.
كما نستنبط أهمية التدرج في الدعوة إلى الله تعالى، ومن حكمة الامام البخاري أنه خص بابا في كتاب العلم سماه: باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا، فما يصلح لقوم قد لا يصلح لآخرين، ومن تم وجب تفييء الناس حسب قدراتهم واستعداداتهم، وذلك لا يكون إلا عن طريق دراستهم من نواحي متعددة حتى يتكون لدى الداعي معطيات يمكن أن يبني عليها طريقة تعامله مع كل صنف، لتعطي الفعالية المرجوة من دعوته، لذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتم الوحي إليه حتى سن الأربعين، وهي مرحلة عمرية تنم عن التجربة الواسعة والخبرة الكبيرة في معرفة المجتمع والناس وعقلياتهم وتفكيرهم وسلوكياتهم وغيرها من المعطيات التي ستساعده في نشر دعوته المباركة.
من الدروس المستفادة من الجهر بالدعوة أن الداعي إلى الله تعالى لابد له من الاهتمام بالأقربين من محيطه، وهم عائلته وأهله وأحبابه، فلا يجمل به أن يدعو الناس، ويجتهد في أعمال الخير والبر والاحسان إليهم ناسيا أو غير مهتم بمن هم الأقرب إليه ومن هم أولى بالمعروف، قال الله تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء/214] قال اسماعيل حقي: “وإنما أمر بإنذار الأقربين لأن الاهتمام بشأنهم أهم، فالبداية بهم في الإنذار أولى، كما أن البداية بهم في البر والصلة وغيرهما أولى”، [7]كما أن إنذار الأقربين يأتي في سياق عدم الاتكال على النسب وأنه لا ينفع في هذا الشأن، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلاها)، [8]ومن المعاني المستفادة من تخصيص الإنذار بالأقربين “نفي التهمة؛ إذ الانسان يساهل قرابته، وليعلموا أنه لا يغني عنهم من الله شيئا؛ إذ النجاة في اتباعه، لا في قربه منهم”. [9]
الهوامــــــــــــــــــــــــــــــــــــش :
[1] تفسير الطبري، 17/246. [1] رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب: في قوله تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) [1] روح البيان في تفسير القرآن، إسماعيل حقي بن مصطفى الحنفي الخلوتي البروسوي، ضبطه وصححه وخرج آياته: عبد اللطيف حسن عبد الرحمن، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1430هـ/2009م، 4/519. [1] مقدمة ابن خلدون، 3/1002 [1] التصوف الإسلامي في المغرب، ص: 21. [1] ترتيب المدارك، القاضي عياض، تحقيق: علي عمر، مكتبة الثقافة الدينية، ط1، 1430هـ/2009م، 1/188. [1] روح البيان في تفسير القرآن، إسماعيل حقي، 6/332. [1] سبق تخريجه. [1] البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، ابن عجيبة، 5/191.
_____________________
*نقلًا عن موقع “الرابطة المحمدية للعلماء”-المملكة المغربية.