الدراسات والبحوث

ختم الولاية في المصطلح الصوفيّْ

د. رضوان محمد سعيد إيزولي الكردي

ختم الولاية في المصطلح الصوفيّْ

د. رضوان محمد سعيد إيزولي الكردي

مقدِّمة:

الختم مصطلح صوفيٌّ استحدثه الحكيم الترمذيُّ[1] في القرن الثالث الهجريِّ، وكتب فيه ابن عربي[2] وعبدالغني النابلسيُّ[3] والفاسيُّ في “تاريخه”، والشعرانيُّ في “طبقات الأولياء”، والنبهانيُّ في “جواهر البحار” وغيرهم.

وقد استوحى الترمذيُّ هذا المصطلح من قوله تعالى:” مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا” (سورة الأحزاب، الآية 40). وخاتم الأنبياء هو الجامع لجميع مشارب الأنبياء والرُّسل، مع انفراده بمشربه، وعليه فنبوَّة سيِّدنا محمد أصل وغيرها فرع، لما جاء في الحديث “إِنِّي عِنْدَ الله فِي أُمِّ الكِتابِ لَخاتَمُ النَّبِييِّنَ، وإِنَّ آدّمَ لّمُنجَدِلٌ في طِينَتِهِ”[4] . وانساق هذا المعنى على خاتم الأولياء فهو الجامع لجميع مشارب الأولياء، وولايته أصل لكلِّ ولاية، وهو على أقسام: وليٌّ جامع ووليٌّ غير جامع كلٌّ حسب استمداده، فمن استمدَّ من روحانيَّة الرسول محمد فهو الوارث الجامع، ومن كان مشربه مُستَمدَّاً من نبيٍّ من الأنبياء غير رسول الله فهو غير الجامع كأن يكون موسويَّاً محمديَّاً، أو عيسويَّاً محمديَّاً، أو ابراهيميَّاً محمديَّاً. وكلُّ وراثة لنبيٍّ لها خاتم، فهناك الختم النوحيُّ المحمديُّ، والختم الابراهيميُّ المحمديّْ.

ومقام الختم ادَّعاه كثير من مشايخ الصوفيَّة وعلمائهم كالعيدوس الحبشيِّ اليمنيِّ ومحمد المرغني، وادَّعاه علي وفا لأبيه محمد وفا والشيخ مصطفى البكري، وكذلك الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي الذي قال:

بنا ختم الله الولاية فانتهت        إلينا فلا ختم يكون لها بعدي

            وما فاز بالختمِ الذي لمحمدٍّ         من أمته والعلمِ ألاَّ أنا وحدي

فنُوديَ بأن ليس لك مما ظننت وتمنَّيت، إنَّما هي لوليٍّ آخر الزمان الذي جمعه الله به روحيَّاً، والإشارة تدلُّ على أنَّه الشيخ أحمد التجاني أبوالعباس الذي قبَّل يده ورأى خاتم الولاية، والذي هو، كما وصفه، مكتوم الاسم والمقام، وسيُبتلى بالإنكار، ونتيجة للقراءات التي تابعها العلماء وجدوها تنطبق على الشيخ أحمد التجاني[5].

ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ البحث في هذا الموضوع من أعقد الموضوعات التي يتناولها الباحث، خصوصاً أنَّه مصطلح غامض لا يلجُهُ إلاَّ خاصَّة الخاصَّة، وسرٌّ مكتومٌ توهَّمه الكثير من أكابر العلماء، وادَّعاه لنفسه، ومن ثمَّ رجع عنه. كما نجد في هذا المصطلح جدلاً كبيراً بين المعتقدين والمنتقدين وصل إلى حدِّ تكفير القائلين به لما فهموه من أنَّ مقام الختم يفوق مقام النبوَّة، بل إنَّ الخاتم ممدٌّ لجميع الأنبياء والأولياء من لدُن آدم.

وبناء على هذه المعطيات رتَّبتُ بحثي هذا كما يلي:

 

 

 

أوَّلاً: الولاية والختميَّة لغة واصطلاحاً:

*تعريف الولاية:

الولاية لغةً، لها معنيان:

  • المعنى الأول: القُرب (قال ابن فارس: الواو واللاَّم والياء أصل صحيح يدلُّ على قرب. من ذلك الولْي: القرب. يُقال: تباعُد بعد وَلْي، أي: بعد قرب )[6].
  • المعنى الثاني: النصرة (والوَلاية: النصرة ، والوِلاية: تولي الأمر).[7]

الولاية اصطلاحاً: علاقة مضمونها القرب والنصرة، بين طرفين هما العبد وربُّه، فهي من جهة العبد التزام بشروطها الذاتيَّة (التي عبَّر القرآن عن جملتها بالإيمان)، والموضوعيَّة (التي عبَّر القرآن عن جملتها بالتَّقوى). ومن جهة الله تعالى وعد بنفي الخوف والحزن، والبشرى في الدنيا والآخرة. قال تعالى “أَلا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ” (سورة يونس: الآيتان 62 – 64).

 

*أقسام الولاية:

للولاية قسمان: خاصَّة وعامَّة.

الولاية الخاصَّة: هي علاقة قرب ونصرة بين الله تعالى وفرد معيَّن، تكون بواسطة الوحي، وتستلزم العصمة، وهي مقصورة على الأنبياء والرُّسل، وبالتالي فقد انتهت بختم النبوَّة وانقطاع الوحي بوفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم).

الولاية العامَّة: هي علاقة قرب ونصرة بين الله تعالى. ويقول ابن كثير في تفسير الآية ” يُخْبِر تَعَالَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ هُمْ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ كَمَا فَسَّرَهُمْ رَبّهمْ فَكُلّ مَنْ كَانَ تَقِيًّا كَانَ لِلَّهِ وَلِيًّا”. أمَّ الطبري فيقول: “وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَال: الْوَلِيُّ، أَعْنِي وَلِيّ اللَّه، هُوَ مَنْ كَانَ بِالصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَهُ اللَّه بِهَا، وَهُوَ الَّذِي آمَنَ وَاتَّقَى، كَمَا قَالَ اللَّه “الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ”.

وهذا القسم من أقسام الولاية لا يكون بواسطة الوحي بل بالالتزام به، ولا يستلزم العصمة إنَّما  العدالة، لأنَّ الوحي والعصمة مقصوران على الرُّسل والأنبياء.

وتتفاوت درجات الولاية العامَّة مع اختصاص الصحابة (رضي الله عنهم)  في الأمَّة المحمَّديَّة بأعلى هذه الدرجات لقربهم من الرَّسول(ص)، ولشهادة القرآن لهم بالولاية.

وقد اختلف العلماء في من تنطبق عليه صفة هذه الولاية، حيث  يقول الإمام الطبري: “وَاخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِيمَنْ يَسْتَحِقّ هَذَا الِاسْم، فَقَالَ بَعْضهمْ: هُمْ قَوْم يُذْكَر اللَّه لِرُؤْيَتِهِمْ لِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ سِيمَا الْخَيْر وَالْإِخْبَات”. وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا حَدَّثَنَا أَبُو هَاشِم الرِّفَاعِيُّ: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ عِبَادًا يَغْبِطُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ”. قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُول اللَّه، فَلَعَلَّنَا نُحِبّهُمْ ؟ قَالَ : هُمْ قَوْم تَحَابُّوا فِي اللَّه مِنْ غَيْر أَمْوَال وَلَا أَنْسَاب، وُجُوههمْ مِنْ نُور، عَلَى مَنَابِر مِنْ نُور، لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاس، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاس…”.

ويمكن رفع هذا الاختلاف بتقرير أنَّ للولاية  العامَّة أقساماً متعدِّدة، فهناك ولاية العلم، وولاية الحكمة، وولاية الحقِّ، وولاية العدل.

 

الختم في اللُّغة:

ختم: خَتَم الشيء من باب ضرب، فهو مَخْتُومٌ ومُخَتَّم شدِّد للمبالغة، وخَتَمَ الله له بخير، وختم القرآن بلغ آخره، واخْتَتَمَ الشيء ضدَّ افتتحه، والخَاتَمُ بفتح التاء وكسرها، والخَيْتامُ والخَاتَامُ كلُّه بمعنى، والجمع الخَوَاتِيمُ، وتَخَتَّمَ لبس الخاتم، وخاتِمةُ الشيء آخره ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والخِتَامُ الطين الذي يختم به، وقوله تعالى “ختامه مسك” أي آخره، لأنَّ آخر ما يجدونه رائحة المسك. المعجم: مختار الصحاح ختَمَ الشيءَ، وعليه: طَبَعَهُ وأثَّرَ فيه بنقش الخاتَم. يُقال: ختم الكتابَ ونحوه، وختَمَ الشيءَ: أتمَّهُ وبلغَ آخِرَهُ وفَرَغَ منه .والختم: أثر طبع الخاتم.

1- في التفسير: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ (سورة الأحزاب: الآية 40) ليس بعده نبيٌّ حتى قيام الساعة,

  • ختمالختم، والطبع يُقال على وجهين: الأول، مصدر ختمت وطبعت، وهو تأثير كنقش الخاتم والطابع. والثاني، الأثر الحاصل عن النقش، ويتجوَّز بذلك تارة في الاستيثاق من الشيء، والمنع منه اعتباراً بما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأبواب، نحو:”ختم الله على قلوبهم” (سورة البقرة: الآية7)، “ختم على سمعه وقلبه” (سورة الجاثية: الآية23)، وتارة في تحصيل أثر عن شيء اعتباراً بالنقش الحاصل، وتارة يعتبر منه بلوغ الآخر، ومنه قيل: ختمت القرآن، أي: انتهيت إلى آخره، فقوله:“ختم الله على قلوبهم” (سورة البقرة: الآية7)، وقوله تعالى: “قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم” (سورة الأنعام: الآية 46)، إشارة إلى ما أجرى الله به العادة أنَّ الإنسان إذا تناهى في اعتقاد باطل، أو ارتكاب محظور – ولا يكون منه تلُّفت بوجه إلى الحقِّ – يورثه ذلك هيئة تمرِّنه على استحسان المعاصي، وكأنَّما يختم بذلك على قلبه، وعلى ذلك قوله تعالى:”أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم” (سورة النحل: الآية 108)، وعلى هذا النحو استعارة الإغفال في قوله عزَّ وجل: “ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا” (سورة الكهف: الآية 28)، واستعارة الكن في قوله تعالى: “وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه” (سورة الأنعام: الآية 25)، واستعارة القساوة في قوله تعالى: “وجعلنا قلوبهم قاسية” (سورة المائدة: الآية 13).

في السياق عينه قال الجبائي:[8] “يجعل الله ختماً على قلوب الكفَّار؛ ليكون دلالة للملائكة على كفرهم فلا يدعون لهم (وهذا أيضاً قول القاضي عبد الجبَّار من المعتزلة، وقول الحسن البصري)[9]. وليس ذلك بشيء، فإنَّ هذه الكتابة إن كانت محسوسة فمن حقِّها أن يدركها أصحاب التشريح، وإن كانت معقولة غير محسوسة فالملائكة باطِّلاعهم على اعتقاداتهم مستغنية عن الاستدلال. وقال بعضهم: ختمه شهادته تعالى عليه أنَّه لا يؤمن، وقوله تعالى:“اليوم نختم على أفواههم” “س/65″، أي: نمنعهم من الكلام.

  • تفسير الجلالين: “ولكن رسول الله وخاتِم النبيين”، فلا يكون له ابن رجل بعده يكون نبيَّاً. وفي قراءة بفتح التاء كآلة الختم: أي به ختموا “وكان الله بكل شيءٍ عليما” منه بأن لا نبيَّ بعده وإذا نزل السيد عيسى يحكم بشريعته.
  • تفسير الميسر: ما كان محمد أبًا لأحد من رجالكم، ولكنه رسول الله وخاتم النبيين، فلا نبوَّة بعده إلى يوم القيامة. وكان الله بكلِّ شيء من أعمالكم عليمًا، لا يخفى عليه شيء.
  • تفسير روح البيان:“وخاتم النبيين” قرأ عاصم بفتح التاء وهو آلة الختم بمعنى ما يختم به كالطابع بمعنى ما يطبع به والمعنى وكان آخرهم الذي ختموا به، وقرأ الباقون بكسر التاء أي كان خاتمهم أي فاعل الختم، وهو بالمعنى الأول أيضاً وفي المفردات لأنَّه ختم النبوَّة أي تمِّمت بمجيئه وأيَّاً ما كان فلو كان له ابن بالغ لكان نبيَّاً، ولو لم يكن هو عليه السلام خاتم النبيين كما يروى أنَّه قال في ابنه ابراهيم لو عاش لكان نبيَّاً وذلك لأنَّ أولاد الرُّسل كانوا يرثون النبوَّة قبله من آبائهم، وكان ذلك من امتنان الله عليه، فكان علماء أمته ورثته عليه السلام من جهة الولاية، وانقطع إرث النبوَّة بختميَّته، ولا يقدح في كونه خاتم النبيين نزول عيسى بعده لأنَّ معنى كونه خاتم النبيين أنَّه لا يُنبَّأ أحد بعده كما قال لعليٍّ رضي الله عنه “أنت مني بمنزلة هارون من موسى ألا إنَّه لانبي بعدي”. وعيسى ممَّن تنبأ قبله، وحين ينزل إنَّما ينزل على شريعة محمد عليه السلام مصلِّياً إلى قبلته كأنه بعض أمَّته فلا يكون إليه وحي ولا نصب أحكام، بل يكون خليفة رسول الله، فإن قلت قد رُوي أنَّ عيسى عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويزيد في الحلال، ويرفع الجزية عن الكفَرة، فلا يقبل إلا الإسلام قلت هذه أحكام الشريعة المحمديَّة لكن ظهورها موقَّت بظهور زمان عيسى، وبالجملة قوله وخاتم النبيين يفيد زيادة الشفقة من جانبه والتعظيم من جهتهم، لأنّ النبيَّ الذي بعده نبيٌّ يجوز أن يترك شيئاً من النصيحة والبيان لأنَّها مستدركة من بعده، وأمَّا من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وأهدى بهم من كلِّ الوجوه[10].

ويقول في “روح البيان”:” وقد وقع لأبي يزيد البسطاميِّ في مقام النبيِّ قد خرم إبرة تجلِّياً لا دخولاً فاحترق”. وفي “الفصوص” …لا نبيَّ بعده مشرِّعاً أو مشرَّعاً له، والأول هو الآتي بالأحكام الشرعيَّة من غير متابعة لنبيٍّ آخر قبله كموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، والثاني هو المتَّبع لما شرَّعه له النبي المقدَّم من أنبياء بني إسرائيل إذ كانوا كلُّهم داعين إلى شريعة موسى، فالنبوَّة والرِّسالة منقطعتان عن هذا الموطن بانقطاع الرسول الخاتم، فلم يبقَ إلاَّ النبوَّة اللُّغويَّة التي هي الإنباء عن الحقِّ وأسمائه وصفاته، وأسرار الملكوت والجبروت، وعجائب الغيب. ويُقال لها الولاية، وهي من الجهة التي تلي الحقَّ، كما أنَّ النبوة هي الجهة التي تلي الحقَّ. فالولاية باقية دائمة إلى قيام الساعة، بقول الفقير: كان له عليه السلام نوران نور النبوَّة ونور الولاية فلما انتقل من هذا الموطن بقي نور النبوَّة في الشريعة المطهَّرة وهي باقية، فكان صاحب الشريعة حيَّاً بيننا لم يمت، وانتقل نور الولاية إلى باطن قطب الأقطاب، يعني ظهر فيه ظهوراً تامَّاً، فكان له مرآة، وهو واحد في كلِّ عصر. ويُقال قطب الوجود وهو مظهر التجلِّي الخفيِّ، وأمَّا قطب الإرشاد فكثير وهم مظاهر التجلِّي العينيِّ . وقال عليه السلام:” كلُّ حسب ونسب ينقطع إلاَّ حسبي ونسبي أي أنَّه يختم باب التناسل برجل من أهل البيت من نسب المهديِّ خاتم الخلافة العامَّة وخاتم الخلافة الخاصَّة، ولا يلزم أن يكون منهم أنبياء، ولو جاء بعده نبيٌّ لجاء عليٌّ رضي الله عنه”.[11]  

وقال في “حلُّ الرموز”:”الختم إذا كان على الكتاب لا يقدر أحد على فكِّه كذلك لا يقدر أحد أن يحيط بحقيقة علوم القرآن دون الخاتم، وما دام خاتم الملك على الخزانة لايجسر أحد على فتحها، ولا شكَّ أنَّ القرآن خزانة جميع الكتب الإلهيَّة المنزلة من عند الله ومجمع جواهر العلوم الإلهيَّة والحقائق اللَّدُنيَّة، فلذلك خصَّ خاتم النبيين محمد عليه السلام، ولهذا السرِّ كان خاتم النبوَّة على ظهره بين كتفيه لأن خزانة الملك تختم خارج الباب لعصمة الباطن، وما في الخزانة وفي الخبر القدسيِّ :”كنت كنزاً مخفيَّاً فلا بدَّ للكنز من المفتاح والخاتم”، فسُمِّي عليه السلام بالخاتم لأنَّه خاتمه على خزانة كنز الوجود، وسُمِّي بالفاتح لأنه مفتاح الكنز الأزليِّ به فتح وبه ختم، ولا يُعرف ما في الكنز إلاَّ بالخاتم الذي هو المفتاح. فقال تعالى فأحببت أن أعرف فحصل العرفان بالفيض الحبِّيِّ على لسان الحبيب، ولذلك سُمِّي الخاتم حبيب الله لأنَّ أثر الختم على كنز الملك صورة الحبِّ لما في الكنز”.[12] 

  • وخاتم النبيين كما في الخازن:” خاتَمَ النَّبِيِّينَ” أي: آخرهم الذي ختمهم، أو: ختموا به على قراءة عاصم. بفتح التاء، بمعنى: الطابع، كأنَّه طبع وختم على مقامات النبوَّة، كما يختم على الكتاب لئلاَّ يلحقه شيء. فلا نبيَّ بعده. وعيسى ممَّن نبَأ قبله، وحين ينزل ينزل عاملاً على شريعته صلى الله عليه وسلم، كأنَّه بعض أمته. ومَن قرأ بكسر التاء، فمعناه: فاعل الختم، كما قال- عليه الصلاة والسلام-: «أنا خاتم النبيين فلا نبيَّ بعدي». ويصحُّ أن يكون بمعنى الطابع أيضاً إذ فيه لغات خاتِم- بالفتح والكسر-، وخاتام، وخَيْتام. وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً، فيعلم مَن يليق بأن يختم به النبوَّة، وكيف ينبغي شأنه.
  • الإشارة: كان صلى الله عليه وسلم أبا الأرواح حقيقة إذ الوجود كلُّه ممتدٌّ من نوره، وأبا الأشباح باعتبار أنَّه السابق نوره. فأول ما ظهر نوره- عليه الصلاة والسلام-، ومنه امتدَّت الكائنات، فهو بذرة الوجود. وسيأتي في قوله: فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ”.[13]
  • وقال الجرجاني في “التعريفات”:” الإلهيَّة أحديَّة جمع جميع الحقائق الوجوديَّة، كما أنَّ آدم عليه الصلاة والسلام أحديَّة لجمع جميع الصور البشريَّة إذ للأحديَّة الجمعيَّة الكماليَّة مرتبتان إحداهما قبل التفصيل لكون كلِّ كثرة مسبوقة بواحد هي فيه بالقوَّة هو. وتذكر قوله تعالى:” وإذ أخذ ربك من بني ىدم من ظهورهم ذريَّتهم وأشهدهم على أنفسهم”(سورة الأعراف:الآية171)، فإنَّه لسان من ألسنة شهود المفصَّل بالجمل مفصلاً كشهود العالم من الخلق في النواة الواحدة النخيل الكامنة فيه بالقوَّة، فإنَّه شهود المفصَّل في المجمل مجملاً لا مفصلاً، وشهود المفصل في المجمل مفصلاً يختصُّ بالحقِّ وبمن جاء بالحقِّ أن يشهده من الكمَّل، وهو خاتم الأنبياء وخاتم الأولياء”.[14].

والإمامان عنده: “الشخصان اللذان أحدهما عن يمين الغوث، أي القطب، ونظره في الملكوت، وهو مرآة ما يتوجَّه من المركز القطبيِّ إلى العالم الروحانيِّ من الإمدادات، التي هي مادَّة الوجود والبقاء، وهذا الإمام مرآته لا محالة، والآخر عن يساره، ونظره في الملك، وهو مرآة ما يتوجَّه منه إلى المحسوسات من المادَّة الحيوانيَّة، وهذا مرآته ومحلُّه، وهو أعلى من صاحبه، وهو الذي يخلف القطب إذا مات”.[15].

الغوث: هو القطب حينما يُلتجأ إليه، ولا يسمَّى في غير ذلك الوقت غوثاً”.[16].   القطب:” وقد يسمَّى غوثاً باعتبار التجاء الملهوف إليه، وهو عبارة عن الواحد الذي هو موضوع نظر الله في كلِّ زمان أعطاه الطلسم الأعظم من لدُنه، وهو يسري في الكون وأعيانه الباطنة والظاهرة سرَيان الروح في الجسد، بيده قسطاس الفيض الأعمُّ، وزنه يتبع علمه، وعلمه يتبع علم الحقِّ، وعلم الحقِّ يتبع الماهيَّات الغير المجعولة، فهو يفيض روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل، وهو على قلب إسرافيل من حيث حصَّته الملكيَّة الحامل مادَّة الحياة والإحساس لا من حيث إنسانيَّته، وحكم جبرائيل فيه كحكم النفس الناطقة في النشأة الإنسانيَّة، وحكم ميكائيل فيه كحكم القوَّة الجاذبة فيها، وحكم عزرائيل فيه كحكم القوَّة الدافعة فيها”[17].

القطبيَّة الكبرى: هي مرتبة قطب الأقطاب، وهو باطن نبوَّة محمد عليه السلام، فلا يكون إلاَّ لورثته، لاختصاصه عليه بالأكمليَّة، فلا يكون خاتم الولاية، وقطب الأقطاب الأعلى باطن خاتم النبوَّة[18].

المِخدَع “بكسر الميم، موضع ستر القطب عن الأفراد الواصلين، فإنهم خارجون عن دائرة تصرُّفه، فإنَّه في الأصل واحد منهم متحقِّق بما تحقَّقوا به في البساط، غير أنَّه اختير من بينهم للتصرُّف والتدبير”.[19].

الولاية هي قيام العبد بالحقِّ عند الفناء عن نفسه وذلك بتولِّي الحقِّ إيَّاه حتى يبلغه غاية مقام القرب والتمكين. والوليُّ من تولَّى الحقُّ أمره، وحفظه من العصيان ولم يخلِّه ونفسه بالخذلان حتى يبلغه في الكمال مبلغ الرجال.[20]

“معنى الختميَّة في هذا المقام هو ألاَّ يظهرَفيه أحدٌ بالكمال الذي ظهر به فيه هذا الختم ، و ليس المراد أنَّه لا وليَّ بعدَه لأنَّ ذلك إنَّما هو معنى الختميَّة في مقام النبوَّة و الرِّسالة، فإنَّه ختم على نبيِّنا صلَّى الله عليه و سلَّم فلا نبيَّ و لا رسول بعده، و معنى الختميَّة فيه هو ألاَّ يظهر أحد في ذلك المقام بعده أصلاً.

وأمَّا معنى الختميَّة في مقام الولاية الظاهرة والباطنة بقسميها فهو أنَّ معناه ألاَّ يظهر أحد في ذلك المقام قبله ولا بعده بالظهور الذي ظهر به فيه من الكمال”.

 

ثانياً: مقام الختميَّة والقائلين به من علماء الصوفيَّة:

مقام الختميَّة ذكره كثير من علماء الصوفيَّة منهم: الحكيم الترمذي في القرن الثالث الهجريِّ حيث ألَّف كتابه “خاتم الأولياء”، وابن عربي[21]، وعبدالغني النابلسي[22]، والفاسيُّ في “تاريخه” والشعرانيُّ في “طبقات الأولياء”، والنبهانيُّ في “جواهر البحار” ومحمد قنون والشيخ العياشي في “رحلته”، وغيرهم.

فهو عند الحكيم الترمذيِّ وليٌّ أتى بجميع نصاب الولاية وختمها، فلم يكن له حظُّ نفسٍ فيها فصار حجَّة على الأولياء في الحشر، كما يكون سيِّدنا محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم حجَّة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .

قال له قائل: وما صفة ذلك الوليِّ، الذي له إمامة الولاية ورياستها، وختم الولاية؟ قال: ذلك من الأنبياء قريب، يكاد يلحقهم. قال: فأين مقامه؟ قال: في أعلى منازل الأولياء، في ملك الفردانيَّة، وقد انفرد في وحدانيَّته ومناجاته كفاحاً في مجالس الملك، وهداياه من خزائن السعي. قال: وما خزائن السعي؟ قال: إنَّما هي ثلاث خزائن: المنن للأولياء، وخزائن السعي لهذا الإمام القائد؛ وخزائن القرب للأنبياء عليهم السلام. فهذا (خاتم الأولياء) مقامه من خزائن المنن، ومتناوله من خزائن القرب: فهو في السعي أبداً. فمرتبته ههنا ومتناوله من خزائن الأنبياء، عليهم السلام، قد انكشف له الغطاء عن مقام الأنبياء ومراتبهم وعطاياهم وتحفهم”[23].

قال (له) القائل: صف لنا هذا المجذوب، الذي وجبت له الإمامة على الأولياء، وأنَّ لواء الولاية بيده، وأنَّ الأولياء كلُّهم محتاجون إليه في الشفاعة، كما يحتاج الأنبياء إلى نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم . قال: (أمَّا) صفته فهو الذي أعلمتك. قال: فبمَ تقدَّم الأولياء فاحتاجوا إليه؟ قال: بأنَّه أعطى ختم الولاية: فبالختم تقدّمهم، فصار حجَّة الله على أوليائه. وقد ذكرت في أول الكتاب سبب الختم: (وهو) أنَّ النبوة أُعطِيت الأنبياء، عليهم السلام، ولم يُعطوا الختم. فلم تخلُ تلك الحظوظ من هنَّات النفس ومشاركتها. وأعطي نبيُّنا وخُتِمت له نبوَّته، كالعهد الذي يكتب ثمَّ يختم، فلا يصل أحد إلى أن يزيد فيه ولا أن ينقص منه، وقد وصفت شأنه في ما تقدَّم.

وكذلك هذا الوليُّ يسير به (الله تعالى) على طريق محمد صلى الله عليه وسلم بنبوَّته، مختوماً بختم الله. فكما كان محمد صلى الله عليه وسلم حجَّة على الأنبياء، فكذلك يصير هذا الوليُّ حجَّة على الأولياء: بأن يقول (الله تعالى) لهم: معاشر الأولياء، أعطيتكم ولايتي فلم تصونوها من مشاركة النفس. وهذا أضعفكم وأقلَّكم عمراً قد أتى بجميع الولاية صدقاً، فلم يجعل للنفس فيها نصيباً ولا تلبيساً كان ذلك في الغيب من منَّة الله تعالى على هذا العبد، حيث أعطاه الختم لتقرَّ به عين محمد صلى الله عليه وسلم في الموقف. حتى قعد الشيطان بمعزل، وأيست النفس فبقيت محجوبة.- فيقرُّ له الأولياء يومئذٍ بالفضل عليهم. فإذا جاءت تلك الأهوال لم يك مقصِّراً. وجاء محمد صلى الله عليه وسلم ، بالختم فيكون أماناً لهم من ذلك الهول. وجاء هذا الوليُّ بختمه فيكون أماناً لهم بصدق الولاية، فاحتاج إلى الأولياء.

وللختم شأن عجيب! ولله في ولد آدم عجائب، وخلقهم لأمر عظيم.- ولما عرف العاقل أنَّ الله وليُّ خلق آدم بيده علم أنَّ هذه خطة فيها أمور عظام. ولما عرف أنَّه سمَّاه ((خليفة)) علم أنَّ ههنا عجائب: فإنَّ الخليفة له شعبة من ملك المستخلف.”[24].

وهو عند الشيخ الأكبر: مَقامٌ لِوليٍّ تحقَّق فيه معنى الولاية في ركنين أساسيين هما :الإمامة والخلافة .فهو إمام ظاهر متبوع مسموع، وهو خليفة لله تحقَّقت فيه معنى الخلافة الكاملة: باطنة وظاهرة، كما كانت لسيِّدنا آدم.

ويرى ابن عربي أنَّ الختم لا يعني أن ليس بعد الخاتم خاتم، بل فالإمام المهدي هو خاتم الولاية العامَّة، ولا يستطيع أحد أن يحدِّد مدد الله على خلقه، وكذلك يبعث الله سيِّدنا عيسى وليَّاً يحكم بشرع نبيِّنا محمد وتُختَم به الولاية المطلقة.

والأولياء صنفان: وليٌّ جامع، ووليٌّ غير جامع[25]. فالجامع لابدَّ من أن يكون محمَّديَّاً لجمعيَّته جميع مشارب الأنبياء والمرسلين وكلُّهم مستمدٌّ من مشكاة سيِّدنا محمد بوجه غير الوجه الذي يستمدُّ منه الأنبياء، فهم يستمدُّون منه صلى الله عليه وسلم عن طريق خاتم ختم الأولياء، إذ تفيض الأنوار على حضرة النبيِّ محمد فيتلقَّاها من حضرته الأنبياء والمرسلون والختم[26]، ثمَّ تفيض على الورثة الجامعين وغير الجامعين حيث يتلقَّى الختم الجامع ما فاض على الأنبياء والمرسلين. فالأولياء الجامعون يتلقَّون الفيض ويطبقونه بواسطة الختم الجامع لجميع مشارب الأولياء وأذواقهم، أمَّا غير الجامعين فيتلقُّونه من نبيٍّ هم على قلبه.  هنا يقول ابن عربي في “الفتوحات”: رأيت فيما يرى النائم حائط الكعبة قد تمَّ إلاَّ موضع لبنتين وإذا أنا هاتان اللبنتان، وتمَّ بي بناء الحائط وقال:

بنا ختم الله الولاية فانتهت        إلينا فلا ختم يكون لها بعدي

وما فاز بالختم الذي لمحمَّد        من أمته والعلم إلاَّ أنا وحدي

وإذا بمنادٍ يقول ليس لك ما ظننت وتمنيت، إنما هو الوليُّ في آخر الزمان ليس وليٌّ أكرم على الله منه، فعند ذلك سلَّمت الأمور إلى خالقها ومكوِّنها، ولطالما جُلتُ ببصيرتي في الغيوب؛ لأطلع عليه وعلى مقامه واسمه ونسبه وبلده، وكيف حاله،  فما أطلعني الله على شيء منه، ولا شممت له رائحة[27].

وفي عنقاء مغرب يقول: “سألت الله أن أجتمع بخاتم الأولياء فأجابني، واجتمعت به اجتماعاً روحانيَّاً منزَّهاً عن الزمان، وكان بمدينة فاس ورأيت العلامة التي أخفاها الله فيه عن عباده وكشفها لي، حتى رأيت خاتم الولاية المحمَّدية منه، ورأيته يُبتلى بالإنكار عليه لما يتحقَّق به في سرِّه من العلوم اللَّدنيَّة، وكان ذلك سنة 595هـ وكنيته أبو العباس، وأنه مكتوم الاسم عنهم، ثمَّ قبَّلت يده الكريمة، وسألته الدعاء، وانصرفت. وهذا لا يعني أنَّ الشيخ الأكبر غير جامع لمقام القطبانيَّة بل كان قطب زمانه لكنه لم يدرك مقام الختم كما صرَّح في فتوحاته بقوله:

في كلِّ عصر واحد يسمُّونه                     وأنا لباقي العصر ذاك الواحدُ[28]

وهو مقام لا يبلغه إلاَّ المحمَّديُّ الجامع كالشيخ أبي الحسن الشاذلي والشيخ عبدالقادر الجيلاني وغيرهما من الأقطاب المحمَّديين.

ومقام الختم لا يقتضي الأفضليَّة على الصحابة والأنبياء كما ادَّعى المدَّعون بل هي مزية يختصُّها الله بمن يشاء من عباده، فبعض الصحابة مُنحوا مزايا لم تُمنح لمن هم أعلى منزلة كالصحابيِّ أسيد بن حضير الذي كان يرى الملائكة، ولم تكن تلك المزية لكبار الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم رضي الله عنهم “ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء”.

الختميَّة والمقامات:

يجدر القول أنَّ جميع المقامات الشفعيَّة مستمَّدة من مقام الختميَّة المستمدِّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. أمَّا المقامات الوتريَّة فاستمدادها من رسول الله التفصيل لكون كل كثرة مسبوقة بواحد هي فيه بالقوَّة، وتذكر قوله تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريَّتهم وأشهدهم على أنفسهم” (سورة الأعراف: الآية١٧١)، فإنَّه لسان من ألسنة شهود المفصل في اﻟﻤﺠمل مفصلاً ليس كشهود العالم من الخلق في النواة الواحدة النخيل الكامنة فيه بالقوة، فإنه شهود المفضل في اﻟﻤﺠمل مجملا لا مفصلا، وشهود المفصل في اﻟﻤﺠمل مفصلا يختصُّ بالحقِّ وبمن جاء بالحقِّ أن يشهده من الكمل، وهو خاتم الأنبياء وخاتم الأولياء.

الشيخ أحمد التجاني:

تقول المصادر إنَّ الشيخ أحمد التجاني بلغ مقام الختميَّة والكتميَّة. وقد صرَّح بذلك في مواطن عديدة منها: قوله للشيخ محمد الغالي: قدماي هاتان على رقبة كلِّ وليٍّ لله تعالى. وكان الغالي لا يخافه لأنَّه من أكابر أحبابه وأمرائهم، فقال له: ياسيِّدي أنت في الصحو والبقاء أم في السكر والفناء؟ فقال الشيخ التجاني: أنا في الصحو والبقاء وكمال العقل ولله الحمد. وقال: قلت ما تقول بقول سيدي عبد القادر رضي الله عنه قدمي هذه على رقبة كلِّ وليٍّ لله تعالى؟ فقال: صدق رضي الله عنه، يعني أهل عصره وأمَّا أنا فأقول قدماي هاتان على رقبة كلِّ وليٍّ لله تعالى من لدُن آدم إلى النفخ في الصور. قال: فقلت له ياسيدي فكيف تقول إذا قال أحد بعدك مثل ما قلت؟ فقال: لا يقوله أحد بعدي. قال: فقلت له يا سيدي، قد حجرت على الله تعالى واسعاً ألم يكن الله تعالى قادراً على أن يفتح على وليٍّ فيعطيه من الفيوضات والتجلِّيات والمِنح والمقامات والمعارف والعلوم والأسرار والترقيات والأحوال أكثر ممَّا أعطاك؟ فقال: بلى قادر على ذلك وأكثر منه لكن لا يفعله لأنه لم يرده، ألم يكن قادراً على أن ينبىء أحداً ويرسله إلى الخلق ويعطيه أكثر ممَّا أعطى محمداً صلى الله عليه وسلم؟ قال: قلت بلى لكنه تعالى لا يفعله لأنه ما أراده في الأزل. فقال: وهذا مثل ذلك، ما أراد في الأزل ولم يسبق به علمه تعالى.

وقال العلاَّمة سكيرج: وقد أعرب الشيخ التجاني عن ولايته المحمَّديَّة وقطبانيَّته وختميَّته وكتميَّته فلم يبق إلاَّ تصديق المعتقد لما أخبر به عن نفسه اقتداءً بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم في قوله: أنا النبيُّ لا كذب حيث أعرب عن نفسه فصدَّقه من أراد الله سعادتهم، وأمَّا المنتقد المكذِّب فلا كلام لنا معه. وممَّا صرح به قوله: منذ خلق الله الأرواح والروح الشريفة تمدُّ الأنبياء والرُّسل وروحي تمدُّ تمدُّ، وروحي الأقطاب والأولياء . ومن ذلك قول الشيخ أحمد التجاني: طريقتنا تنسخ جميع الطرق وتبطلها، ولا تدخل طريقة إلاَّ عن طريقتنا. وكذا قوله:إنَّ جميع الأولياء يدخلون زمرتنا، ويأخذون أورادنا، ويتمسَّكون بطريقتنا، حتى الإمام المهدي إذا قام آخر الزمان يأخذ عنَّا ويدخل زمرتنا بعد مماتنا وانتقالنا إلى دار البقاء. وكذلك قوله:” أنا سيِّد الأولياء كما كان النبي صلى الله عليه وسلم سيِّد الأنبياء، فلا يشرب وليٌّ ولا يُسقى إلاَّ من  بحرنا، من نشأة العالم إلى النفخ في الصور”. وقال أيضاً: أنا الذي إذا كان يوم القيامة ينادي منادٍ في الموقف: يا أهل الموقف هذا إمامكم، الذي مددُكم منه من نشأة العالم إلى الآن”.[29].

ويقول صاحب “الرحيق المختوم”:”وسيِّدي أحمد التجاني هو لمدد جميع الأولياء حتى الصحابة”(ص 84). كما أنَّ بعضهم ادَّعى أنَّ الشيخ التجاني نال درجة الصحبة برؤيته رسول الله يقظة، وقد نال مرتبة ختم الولاية، ثمَّ إنَّه من آل البيت، فاجتمعت له ثلاث مناقب لم تجتمع لغيره. ويرى بعضهم أنَّ هناك فضلاً من الله يعطيه لمن يشاء من عباده فلا يخصُّ به الصحابة من دون غيرهم، ولكنَّه قد يعطيه لرجل في آخر الزمان حتى يصير من أعالي الناس، وهو ليس محجوراً على الصحابة. كما يرون أنَّ القطب المكتوم هو الواسطة بين الأنبياء والأولياء ، مكتوم مشربه حتى عن الأنبياء والملائكة، وكذلك طريقته ورجالها مكتومة مقاماتهم وراثة أحمديَّة.

ويقول في “الرحيق المختوم”: بلغ مقام الاجتماع برسول الله وذلك سنة1196ه وسنة1200ه وقد بلغ مرتبة القطبانيَّة العظمى –التي هي الختميَّة-أول المحرَّم سنة1214ه، وبلغ مقام الكتميَّة في 18صفر1214ه، وعمره 50 سنة”[30].

إلى ذلك، بنى الدارسون ختميَّة وكتميَّة الشيخ أحمد التجاني على ما استنتجوه من رؤيا الشيخ الأكبر ابن عربي كما رواها في كتابه “عنقاء مغرب في ختم الأولياء والمغرب”، وكان قد سأل الله أن يجمعه بخاتم الأولياء بعد إبلاغه بأنَّ هذا المقام ليس مقامه فجمعه الله به روحانيَّاً لا جسمانيَّاً منزَّهاً عن الوقت والزمان، وكان ذلك بمدينة فاس، قال: ورأيت العلامة التي أخفاها الله عن عباده، وكشفها لي حتى رأيت خاتم الولاية المحمديَّة منه، ورأيته مُبتلى بالإنكار عليه لما يتحقَّق به في سرِّه من العلوم اللَّدُنيَّة، وكان ذلك سنة 595ه وكنيته أبو العباس، وإنَّه مكتوم الاسم، ثمّ قبَّلت يده الكريمة وسألته الدعاء وانصرفت. ثمَّ قال:”إنِّه سيِّد الأولياء كما أنَّ سيِّدنا محمَّداً سيِّد الأنبياء”.[31]

 

 

الخاتمة:

في الختام، وبعد هذه الرحلة في بحار الولاية المطلقة ومع خاتم الأولياء، وبعد البحث، والتمحيص والنظر في كتب القوم، نخرج بالنتائج التالية:

1-غموض هذا المصطلح، وعدم القدرة على الوصول إلى حقيقته وكنههِ. فهو الختم والكتم، وكيف نصل إلى مفتاح ما أغلقه الله تعالى عن الكُمَّل من العارفين والذين خاضوا التجربة الصوفيَّة، وكتبوا فيها بطلاقة، وبالتالي اعترفوا بعدم وصولهم إلى مقام الختم ولا معرفة الوليِّ الخاتم؟

2-إنَّ ادِّعاء هذا المقام ممَّن شهد لهم بالوصول إلى المقامات المتقدِّمة في التصوُّف والرُّجوع عن ذلك الادِّعاء لدليل على أنَّ الخوض في هذا الموضوع “الختم والكتم” يزيده غموضاً.

3-لم يبقَ أمام الباحث في الختم إلاَّ التصديق والتسليم بما يقرِّره علماء التصوُّف كابن عربي وعبد الغني النابلسي والشعراني وغيرهم من كبار العلماء المعتمَدين لدى دارسي التصوُّف، خصوصاً أنَّ الإيمان بالختم ومقامات التصوُّف”القطب الفرد، والأقطاب الأربعة”، ومن هم هؤلاء الأقطاب “ليس عقيدة حتميَّة، ولا هو شرط في صحَّة الدين، ولكنَّه مذهب ثابت بدليله شرعاً وعقلاً عند أهله، وهو فضيلة يحصِّلها من شاء ويدعها من شاء”.[32].

4-بعد الولوغ في مقام الختم خلصنا إلى أنَّا في مواجهة إشكاليَّة الختم والكتم، فهي مصطلحات يكتنفها الغموض والسرِّيَّة التامَّة ولا يمكن الدارس إلاَّ أن يقف عاجزاً عن الخوض فيها، ومقام الختم خصوصاً مقام شائك  بل هو إشكاليَّة المصطلحات الصوفيَّة كونه لا يقوم على حقائق علميَّة واضحة، بل إنَّما هي تعبيرات عبَّر عنها أصحابها من خلال رؤى مناميَّة رأوها، وأذواق قلبيَّة عاشوها، ممَّا أوقع الباحثين في مهامة غيبها وغموضها، بل حيَّر أكابر العلماء الخائضين للتجربة الصوفيَّة، واستشكل الأمر على علي وفا وابن عربي والبكري …

5-لا أرى البحث جلى غموضاً، ولا وصل إلى حقيقة، ولكنَّه درس ظاهرة ومصطلحاً، وكما قيل التصوُّف علم إذا أردت أن توضحه زدته غموضاً لأنَّه قائم على الذوق والأحوال والمكاشفات والأسرار التي يعايشها من خاض التجربة الصوفيَّة، وفيها من القواطع والموانع ما يزيد غموضها غموضاً. فلغز الختم الذي لا نستطيع فكَّه كيف لا يكون إشكالاً، وقد رأينا أنَّه سرٌّ مكتوم فيه ما يثير الفضول خصوصاً أنَّ مكتوم على الأنبياء وممدٌّ للصحابة والأولياء منذ النشأة، وحتى النفخ في الصور وهو الممدُّ للعالم. “فهي خصائص يختصُّ الله بها من يشاء والخصائص فضائل وزيادات، من أخذ بها أفاد، ولعلَّ من تركها لم يفته الخير كلُّه.

[1]– في كتابه “خاتم الأولياء”.

[2]– ذكره في “الفتوحات” ج3، وعنقاء مغرب في “ختم الأولياء وشمس المغرب”.

[3]– ألَّف فيه كتابه “الرد المتين على منتقص العارف محي الدين”.

[4]– رواه البخاريُّ في “التاريخ”، وابن سعد في “الطبقات”، وأحمد والبيهقيُّ والطبرانيُّ في “الكبير”، وابن أبي حاتم في “تفسيره”، وأبو نعيم في “الدلائل”.

[5]– انظر الرحيق المختوم لصلاح الدين التيجاني “مقام الختميَّة والكتميَّة”،ج1، مطبوعات الزاوية التجانيَّة، أمبابة-القاهرة، ص79.

[6]–  معجم مقاييس اللُّغة: ج6، ص141.

[7]–  مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، ص 885.

 

    [8]- (أبو علي الجبائي) شيخ المعتزلة في زمانه توفي سنة 303 ه. انظر: ترجمته في طبقات المفسِّرين، 2/191.

[9]–  انظر الرازي، 2/51.

[10]– تفسير روح البيان، اسماعيل حقي أفندي، طبعه المطبعه العامرة-مصر، سنة 1287هـ ،ج3،  ص122-123.

[11]– المصدر نفسه، ص124.

[12]– المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

[13]– “البحر المديد في تفسير القرآن المجيد”، أبو العباس أحمد بن محمد بن المهدي بن عجيبة الحسني الأنجري الفاسي الصوفي (المتوفَّى: 1224هـ)، تحقيق: أحمد عبد الله القرشي رسلان، الناشر: الدكتور حسن عباس زكي – القاهرة، الطبعة: 1419 هـ، ص439.

[14]– الجرجاني علي بن محمد بن علي، التعريفات، التعريف 202، ص13-14.

[15]– المصدر نفسه، التعريف 209، ص14.

[16]– المصدر نفسه، التعريف 1052، ص69.

[17]– المصدر نفسه، التعريف1144، ص75.

[18]  التعريفات التعريف 1145، ص75

[19] السابق،التعريف 1310، ص88

[20]– معجم اصطلاحات الصوفيَّة، عبدالرزاق الكاشاني، تحقيق عبدالعال شاهين، ص79.

[21]– ذكره في الفتوحات ج3 وعنقاء مغرب في ختم الأولياء وشمس المغرب.

[22]– ألف فيه كتابه “الرد المتين على منتقص العارف محي الدين”.

[23]– ختم الأولياء للحكيم الترمذي، الحكيم الترمذي أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن (متوفَّى بعد 318 هـ) ، المحقِّق: الشيخ عبد الوارث محمد علي، الناشر: دار الكتب العلميَّة، الطبعة: الأولى 1420 هـ – 1999 م، ص45.

 24-ختم الأولياء للحكيم الترمذي، الحكيم الترمذي، ص77-78.

[25]– هو الوليُّ الذي يستمدُّ علوم الولاية من جهة نبي من الأنبياء وفيهم المحمَّديُّ وغير المحمديِّ، فالمحمديُّ غير الجامع هو من كان في أمة محمد، وهناك أولياء غير جامعين قبل بعثته صلى الله عليه وسلم.

[26]– ودليل ذلك حديث جابر:”كنت نبياً آدم أن الله خلق قبل كلِّ الأشياء نور نبيك من نوره فجعل ذاك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله تعالى، ولم يكن في ذلك الوقت لوح، ولا قلم، ولا جنَّة، ولا نار، ولا ملك، ولا سماء، ولا أرض، ولا شمس، ولا قمر، ولا جنٌّ، ولا أنس…”. القسطلاني في المواهب اللَّدنيَّة 9/1.

[27]– الفتوحات المكيَّة الباب الخامس والستون “معرفة الجنة ومنازلها ودرجاتها”.

[28]– الفتوحات ج3 ، ص46.

[29]– انظر هذه الأقوال في كتاب “الرحيق المختوم” لصلاح الدين التجاني، ص84.

[30]– المصدر نفسه، ص88.

[31]– “عنقاء في ختم الأولياء وشمس المغرب”، ابن عربي، ص158.

 

 

 

 

 

 

[32] محمد زكي ابراهيم، كلمة الرَّائد،ج3 ، ط1، 1426هـ ، مطبوعات ورسائل العشيرة المحمديَّة، القاهرة، ص87.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى