“العباسيَّة” ومذهب الجود في الثقافة الشعبيَّة المغربيَّة
رشيد أمديون
(كاتب مغربي)
ليس في المغاربة من لا يعرف «العباسية»! أو من لا يعرف دلالتها التي ترتبط بتقليد عرفي يتبعه كل من فتح محلا للمأكولات أو المشروبات أو غير ذلك.. فيستفتح باب الرزق بالمبادرة إلى البذل والعطاء. هذه الممارسة تُضمر قيمة الجود كمفهوم كان – وما زال- المجتمع المغربي التقليدي حريصا على تكريسه، أو قد يعبر (في الزمن الحاضر) عن فتح باب الرزق لتعم البركة، أو هو دعاية تجارية قصد استدراج الزبائن بإظهار الكرم والعطاء والسخاء… لأن كل تقليد قد يفقد مع مرور الزمن بعض خصوصياته ودلالاته. هذا لا شك فيه!
لكن السؤال هو: من أين جاءت كلمة «العباسية» إلى الثقافة الشعبية المغربية؟
تذكرنا هذه التسمية بشخصية صوفية تسمى أبو العباس السبتي. عاش هذا الرجل في عهد الدولة الموحدية، فعاصر السلطان يعقوب المنصور الموحدي. انتقل من بلده سبتة إلى مراكش حيث استقر بها، ثم دفن بأرضها بباب تاغزوت. ويعتبر أحد رجالات مراكش السبعة، ويعرف بسيدي بلعباس، ولقبه «مول السحابة» أي صاحب السحابة. فما هي العلاقة بين العباسية كممارسة تقليدية، واسم أبو العباس السبتي كأحد أعلام التصوف في المغرب؟
يخبرنا ابن الزيات التادلي في كتابه «التشوف إلى رجال التصوف»، أن أبا القاسم عبد الرحمن بن إبراهيم الخزرجي، قال: «بعثني أبو الوليد بن رشد من قرطبة، وقال لي: إذا رأيت أبا العباس السبتي في مراكش فانظر مذهبه وأعلمني به».
ابن رشد الفيلسوف الأندلسي أشغله أمر فقيه صوفي مغربي، ومن المرجح أنه سمع عنه، فأراد أن يعرف سر طريقته. وسيتضح ذلك بعد عودة مبعوثه. هذه العودة التي لم تتم بسرعة، لأن معرفة الرجل وسرّ مذهبه، يحتاج إلى صحبة. لهذا جلس مع السبتي كثيرا إلى أن فهم مذهبه، فعاد إلى ابن رشد في قرطبة، فأعلمه بمذهبه، فقال له ابن رشد، حسبما جاء في «التشوف»: «هذا رجل مذهبه أن الوجود ينفعل بالجود، وهو مذهب فلان من قدماء الفلاسفة». لماذا أرجعَ ابن رشد أصل مذهب السبتي إلى فيلسوف قديم ـ مجهول- لم يذكر اسمه؟ أو لعله ذكر اسمه ولكن لم ينقله إلينا ابن الزيات. رغم أن أصل مذهبه قائم على مرجعية التصوف الإسلامي، الذي يعتبر التوكل أحد أسس العبادة الخالصة لله وحده، وقد أورد له ابن الزيات قوله: «كان ابتداء أمري أنني كنت صغيرا فسمعت أقوال الناس في التوكل، فتفكرت في حقيقته إلى أن رأيت أن التوكل لا يصح إلا بترك كل شيء».
ابن رشد الفيلسوف الأندلسي أشغله أمر فقيه صوفي مغربي، ومن المرجح أنه سمع عنه، فأراد أن يعرف سر طريقته.
ربما هذا راجع إلى أن ما كان يُشغل فكر ابن رشد هو قضية السببية، كمسألة فلسفية، وهو غير ما يشغل السبتي الذي سلك طريق الصوفية المتجردين من الدنيا عبر التوكل واليقين الصوفي. لنتوقف عند قوله: «هذا رجل مذهبه أن الوجود ينفعل بالجود»، لنعرف حقيقة العبارة الجامعة التي خلص إليها الفيلسوف لتعبر عن مذهب السبتي.
نقرأ ما كتبه ابن الزيات وهو يتحدث عن أبي العباس: «حضرت مجلسه مرات فرأيت مذهبه يدور على الصدقة، وكان يرد سائر أصول الشرع إليها، وكان يقول: سرُّ الصوم أن تجوع، فإذا جعت تذكرت الجائع، وقد علمت قدر ما يقاسيه من نار الجوع فتتصدق عليه، فإذا صمت ولم تتعطف على الجياع، ولا أحدث عندك الصوم هذا المعنى ما صمت ولا فهمت المعنى المراد بالصوم، وكان إذا أتاه أحد يطلب منه شيئا، يأمره بالصدقة ويقول له: تصدق ويتفق لك كل ما تريد». مذهب السبتي لم يكن مذهب جدل فكري أو فلسفي، إنما مذهب علم وعمل ويقين وتوكل. وعنده أن الجود يؤثر في المجتمع وفي الناس، بإرشادهم إلى ما فيه صلاحهم وصلاح علاقاتهم الاجتماعية، اعتمادا على مبدأ التضامن والتكافل وتجسيد مفهوم الجسد الواحد. بذلك أثَّر الرجل في عصره باعتماده على العطاء والبذل والإيثار، فرّد جميع أمور الشرع إلى الصدقة. وكان «الغرباء الواردون على مراكش من طلبة العلم يأوون إليه فينفق عليهم جميع ما يكون عنده».
يرتبط الجود والعطاء عند السبتي بالغيب، فكان يقول: «أصل الخير في الدنيا والآخرة الإحسان، وأصل الشر في الدنيا والآخرة البخل»، وعلى هذا كان ينفق ويتوكل على الله. وكأن المقولة المشهورة «أنفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب» تنطبق على مفهومه للإنفاق، لهذا فلا غرابة أن تكثر حكاياته، وكلها تتفق على هذا الأمر. فمثلا يحكي ابن الزيات أن يتيما جاء إلى رجل فسأله شيئا فأعطاه نصف درهم، فقال له أبو العباس: أعطه درهما كاملا، فأخذ منه الرجل نصف الدرهم ودفع له درهما كاملا، «فقال أبو العباس: رد إليه نصف الدرهم يفتح الله عليك في أربعة دراهم ونصف درهم».
فهل تردد الرجل؟
لعله كان واثقا مما قاله الشيخ. وهذا يبين مكانة السبتي في قلوب عامة الناس في عصره.
فماذا حدث بعد أن استجاب الرجل لكلام الشيخ؟ يقول ابن الزيات: لم يبرحا مكانهما حتى وقفت على الرجل «امرأة من الخدماء، فقالت له: أتعرفني؟ فقال لها: لا أعرفك، فمن أنت؟ فقالت له: كنت قد اشتريت منك نطعا ببلد داي بأربعة دراهم ونصف درهم ثم طرأ على أهل داي ما طرأ من الجلاء عن بلدهم وافتراقهم في البلاد عام تسعة وخمسين وخمسمئة، فافترقنا وبقي لك عندي ثمن النطع إلى الآن فخذه، فأخذ منها تلك الدراهم». الأمر لا يتعلق بقضية علم الغيب، أو الاطلاع على اللوح المحفوظ، كما هو عند الصوفية، بل الأمر متعلق باليقين والتوكل على الله، مؤمنا أن كل شيء ينفعل بالعمل. لهذا حين سأله شخص قائلا: بم تنفعل لك الأشياء، أجاب: «هذا لا يُعرف إلا بالعمل». أما يقينه فيتجلى في جوابه عن سؤال طرحه أحدهم عليه: لماذا يكرهك العلماء ويعادونك، قال: «لأنني موقن بخير الله تعالى حيث قال: «وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين». كما ينطلق من تفسير نظام الطبيعة على مبدأ العطاء والجود. «فالسماوات أعطت ما عندها من الماء وهو المطر، والأرض ما عندها من النبات، وغير ذلك مما فيها، والجبال أعطت ما عندها من المياه فأنبتت الأرض وأبرزت ثمارها وما فيها من الأرزاق وأبت من إمساكها فصار الإنسان خازنا لما يجتمع عنده فيمنع منه المساكين، إنه كان ظلوما جهولا». وهذا كما يقول الناصري في الاستقصا: «مبْنَى أمره على انفعال العالم عن الجود، وكونه حكمة في تأثر الوجود».
استطاع أبا العباس السبتي التأثير في مجتمعه عبر سلوكه التضامني ومذهبه الأخلاقي، فتمظهر في سيرته حرص شديد على فعل الخير وتكريس مفهوم العطاء داخل النظام الاجتماعي، بل الأبعد من ذلك هو التأصيل له من الناحية الشرعية.
بهذا نرى أن أبا العباس السبتي استطاع التأثير في مجتمعه عبر سلوكه التضامني ومذهبه الأخلاقي، فتمظهر في سيرته حرص شديد على فعل الخير وتكريس مفهوم العطاء داخل النظام الاجتماعي، بل الأبعد من ذلك هو التأصيل له من الناحية الشرعية، ومن الناحية السلوكية/الصوفية (لأنه مجاهدة النفس). فتمثلت شخصيته كمصلح اجتماعي لا يقتصر على إسداء النصح والدعوة إلى فعل الخير والعمل الصالح، وإنما على المبادرة إلى تكريس هذه القيم في المجتمع، حتى صار عنده الاحسان خلقا وسلوكا طبيعيا يجانس وجدانه وحواسه وأفكاره، بل وفراسته. هذا ما دفع ابن رشد في قرطبة إلى إرسال من يأتيه بالخبر اليقين عن سر مذهب السبتي. وربما توجس منه أو أقلقه أمره، خصوصا أن الخليفة يعقوب المنصور خصّ أبا العباس بمعاملة حسنة (وأنزله من جبل كيليز وأدخله المدينة وحبس عليه مدرسة للعلم والتدريس..)، وقد عُرف عن المنصور تعظيم الصالحين وأهل العلم، وكان يميل إلى الزهد، إضافة إلى أن ابن رشد كانت لديه نزعة إلى معرفة أخبار رجال التصوف، والتيار الصوفي الذي عرف نشاطا في بداية تلك المرحلة من تاريخ المنطقة، إضافة إلى دوره الروحي الذي غلب على البيئة الاجتماعية والثقافية في الغرب الإسلامي. ويتضح هذا حين بادر ابن رشد (الشيخ) إلى لقاء ابن عربي (الشاب)، وكان لقاء تاريخيا، توقف عنده الباحثون كثيرا لاعتبار دلالاته. فهو لقاء التصوف بالفلسفة كحقلين معرفيين مختلفين. لم يكن لقاءً عاديا، لما يُضمره من رؤية عميقة إلى مسائل مُختلفٍ عليها بين التيارين. ومن المفارقات الغريبة أن قبر ابن رشد في مراكش ظل مفتوحا ستة أعوام بعد ترحيل جثمانه إلى قرطبة، حتى دفن به أبو العباس السبتي. إن تأثير أبو العباس في المجتمع كان قويا انطلاقا من تكريسه لمفهوم الجود والعطاء، وترجمته إلى فعل وعمل، فساهم في وعي وجودي، إذ يرى الجود هو الأمانة التي حمَّلها الله للإنسان.
بهــــذا فلا غرابة أن نجد هذا التأثـــــير مازالت آثاره بـــارزة في الثقافة الشعبــية المغـــربية، من خـــــلال ممارسة التقليـــد المعروف بـ«العباسية»، (نسبة إلى أبو العباس). والممارسة تكرست في المجتمع على شكل الاستفتاح بالعطاء في بداية العمل، كي يبارك الله الرزق ويزكيه. استجلابا للخير وإبعادا للشر. وفي هذا أثر من اتباع سيرة الرجل ومذهبه في البذل والإنفاق والعطاء.
________________________________
*نقلًا عن موقع “القدس العربي”.