الدراسات والبحوث

تاريخ التصوُّف الإصلاحي في شبه القارة الهندية ونماذج من المصلحين من المتصوِّفة

د. أحمد جان الأزهري

تاريخ التصوُّف الإصلاحي في شبه القارة الهندية ونماذج من المصلحين من المتصوِّفة

د. أحمد جان الأزهري

رئيس قسم الدعوة والثقافة الإسلامية في  الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد – باكستان.

 

الحمد لله ربّ العالمين الذي أنعم على المؤمنين بنعمـة القرآن ونعمة السلوك المستقيم والصلاة والسلام على رسولنا الصادق الأمين المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين.

المدخل: إن التصوف الإسلام والسلوك الصوفي له جذرور تاريخـية عبر التاريخ الإسلامي. وكان له أكبر الأثر في توجيهات المسلمين الفكرية والعملية والتعبدية والأخلاقية، والتصوف الإسلامي ليس غريباً عن الإسلام، فقد اجتهد علماء التصوف مشائخه في إصلاح النفوس والقلوب علمياً وعملياً ودونوا لذلك معارفهم وعلومهم في مجال العبادات والأخلاق وكما وضعوا مناهجهم في السلوك ومعالجة أمراض القلوب وعلل النفوس ونوازع الخير والشر وأنوار الذكر والطاعة، مستهدفين برسالتهم القلب والروح والوجدان وسلوك الإنسان وفي طريقه إلى الله وفي طريقة إلى الحياة قاموا بالمحافظة على روح الإسلام.

قاموا ليجعلوا من المثاليات العليا معراجاً رمانياً ومنهجاً إنسانياً، يصنع الإنسان الكامل ويصوغ المؤمن القوي العزيز الصالح للبقاء وللحياة ولخلافة الأرض الذي خلقه الله تعالى عليها ليكون جديراً به سبحانه وجديراً بما أصبغ عليه من قوة هائلة سخـرت لها ما في السماوات وما في الأرضيين. ويقول الشيخ الأكبر الإمام محي الدين بن عربي لقد أجمع رجال التصوف جميعاً على أنه لا تحليل ولا تحريم بعد شريعة رسول الله وخاتم النبيين، وإنما هو فهم يعطى في القرآن لرجال الله وكما حفظ علماء الظاهر حدود الشريعة، كذلك يحفظ علماء التصوف آدابها وروحها، وقد تعددت طرق الصوفية ومناهجها في الإصلاح حسب الزمان والمكان، وهذه الطرق التي هيئت الجماهير واحتفظت بإيمانها وأخلاقها وصانتها من التفكك والإنهـار وأصبحت هذه الطرق مصابيح مضيئة وشعل متوهجة المحجة الهادة والواحة الحصببة الضليلة التي تمنع الأمان والإباة والإطمئنان للحيارى والضالين والمتبعين فالتصوف الإسلامي هو الذي احتفظ بالعلم الإسلامي والخلق القرآني والهدى النبوىء وأسس في كل مكان المساجد والملاجئ والمعاهد والزوايا لطلاب العلم ولطلاب الحياة. والتصوف هو الذي قام بنشر الإسلام وجمل رايته إلى كل مكان وكسب له الملائين، وأسس الدول المرابطين والموحدين لنجدة الأندلس ولحماية المغرب العربي، وفتكات القراصنة النائبين. ([1])

يقول المستشرق ماكس مللر وفي جبال الهند وغابات أندونيسيا وفوق الرمال الذهبية في البلاد العربية وفي أحراش أفريقيا وذرى جبال الأطلس وجفاف الأنهر وفي أعماق القرى وفي كل مكان هنا وهناك في القارات الإسلامية يشاهد الإنسان أينما اتجه أبناء الطرق الصوفية بسمتهم وشعائرها وحماسهم وفناءهم العجيب في الإيمان بدينهم.

تعريف التصوف:

إذن فالتصوف إتجاه ديني من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، كما يقول ابن خلدون وقد وصف الجنيد البغدادي بأن التصوف ذكر مع إجتماع ووجد مع إستماع وعمل مع إتباع، وعرفه الجزيري بأن التصوف مراقبة الأحوال، ولزوم الآداب، إذن التصوف هو بذل الجهد في تهذيب النفس للإرتقاء بها إلى مستوى الأكمل ويقول الإمام السراج الطوسي في اللمع “فإذا قيل لك الصوفية، من هم؟ في الحقيقة؟ هم العلماء بالله وبأحكام الله العاملون بما علمهم الله المتحققون بما استعملهم الله – الواجدون بما تحققوا- فإن سألني سائل قد نسبت أهل الحديث إلى الحديث ونسبت الفقهاء إلى الفقه فَلِمَ قلت الصوفية من تنسبهم إلى حال ولا إلى علم، قلت بأن الصوفية لم ينفردوا بعلم من العلوم. أو بنوع دون نوع بأنهم معدن لجميع العلوم ومحل جميع أحوال المحمود والأخلاق الشريفة. ([2])

إذن التصوف من حيث هو ظاهرة سلوكية تعبدية أصيلة في الإسلام وغاية من غايات المبادئ الإسلامية التي أرادت أن تصوغ الإنسان صياغة زمانية متوازنة، ولذلك نجد آثار التصوف الإسلامي في كل مكان، وهؤلاء الصوفية وأتباعهم خدموا الإسلام والمسلمين في كل مكان، وأصلحوا البلاد والعباد بأخلاقهم النبيلة وصدق اللهجة والتود دمع مريديهم والإخلاص مع المترددين عليه وشيدوا المساجد والزوايا والملاجئ والمستودعات للغلال وإيواء  للمهتدين والمدارس التعليمية والتربوية لتكوين شخصياتهم وتثقيفهم بالثقافة الإسلامية وأصبحت هذه الزوايا منارات لنشر الدعوة الإسلامية والمثل العليا والسلوك والتعامل، ولذلك بدأ الناس يهرعون إلى التكايا والزوايا الصوفية للبحث عن شفاء أمراضهم الروحية والجسدية. وهذا الذي جعلني أن أتحدث عن العنصر الصوفى في الإصلاح في شبه القارة الهندية كما أضرب مثالاً كنماذج من المصلحين المتصوفة وخدماتهم في هذا البقاع.

تاريخ التصوف في الإصلاح في شبه الهندية ونماذج المصلحين المتصوفة:

لم يكن الصوفية الأوائل رهبانا، وأنما اندمجوا في الحياة اندماجاً قوياً أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وقاومو الفساد ودعوا إلى الجهاد ووقفوا أمام الجبابرة، بصمود وكانت صرخات الزهاد الأوائل ثورات إسلامية عارمة على الإنحراف، والزيغ، والإستبداد، والطغيان، فكانوا في ذلك يمثلون القوة الملهمة للفداء والتضحية والدرع الذي يحمل الأخلاق والعقائد والإيمان والوطن واستطاع التصوف الإسلامي في أيام إزدهاره أن ينشر الدعوة الإسلامية ويجعلها عالمية بدون سلاح وغزو، فهو الذي حمل نورها وهداها إلى أرخبيل ملاموا والفلبين والصين وقلب أفريقيا وغربها إضافة إلى شبه القارة الهندية والسيلان، وكان بغداد في أواخر القرن السابع الميلادي والثاني الهجري في عصر الخليفة هارون الرشيد العباسي المتوفي 193هـ مركزاً تجارياً عظيماً، وسوقاً تجارياً رائجا تنهال عليها البضائع رائجة، تنهال عليها البضائع والأموال من ثوب. ([3])

فكان التجار من الفرس والخراسان والهند يترددون على بغداد كما كان تجار العرب يتوجهون بقوافل التجارية إلى الهند وجزر الهند الصينية. حتى إنهم قد سيطروا على تجارة بحر الهند في قرن التاسع الميلادي الثالث الهجري، فانتشر الإسلام في الهند عبر الطرق التجارية، وانتقلت على الأيديهـم الآراء التنسكيه (الصوفية) مع البضائع التجارية إلى جنوب الهند، كما وصل الإسلام من خلال الفاتحين العرب فقد فتحت غربي الهند على يد القائد الإسلامي محمد بن قاسم الثقفي عام 93هـ، وأصبح جزءاً من الخلافة الإسلامية وبنو عاصمه إسلامية باسم منصورة في سنده وانتشر الإسلام على أيدي دعاة الإسلام وتبعهم أصحاب السلوك والطريقة وكانت لهم أيادى بيضا على أهل سنده، حيث جذبوهم إلى الإسلام رضا واقتناعاً، وهذه الجهود كانت فردية ومتقطعة حتى جاء الفاتح الإسلامي محمود الغزنوي من البوابة الشمالية للهند وأغار عليها سبعة عشـر مرة تلو أخرى حتى وصل إلى العاصمه دلهي فواصل فتوحاته حتى تم له النصر وقضى على ملوك الهند وحطمهم الأصنام والمعابد الهندوسية، وبنى مكانها مساجد يذكر فيها اسم الله تعالى وتوفى في صفر س 422هـ. ([4])

وجلب محمود الغزنوي معه جماً غفيراً من العلماء والفقهاء وأهل التصوف والعرفان للهند حيث كان محباً للعلم وكان في طليعة الذين جاءوا للهند والبيروني والفارابي والبيهي والثعالبي، وكان من بينهم كبار علماء الطريقة من تلاميذ النساك الأفغان الذين لهم الفضل في الإصلاح ونشر الدعوة الإسلامية في خراسان وماوراء النهر أمثال إبراهيم بن أدهـم البلخي المتوفي سنة 61هـ ومن تلاميذ شقيق البلخي م194هـ ومن تلاميذ حاتم الأصم البلخي م237هـ وفضيل بن عياض الخراساني م س187هـ ومن تلاميذ عبدالله بن مبارك المروزي م ص 181هـ ومن تلاميذ أبو علي جوزجاني وأبو اليزيد البسطامي م س 319هـ ومحمد بن فضيل البلخي م 113هـ ومن تلاميذ معروف الكرخي المتوفي 161هـ وقد نزح تلاميذ وأتباع هؤلاء النساك أصحاب الطريق إلى الهند ضمن الجيوش الإسلامية أو القوافل التجارية فمكثوا وانتشروا في البلاد وحملوا لواء الإصلاح والدعوة الإسلامية في ربوع الهند والخلاصة أن الإسلام والدعوة الإسلام تقدمت وتخللت في الهند عن ثلاثة مجاور، عن الغرب عن طريق الفتوحات الإسلامية العربية بقيادة محمد بن قاسم المتوفي 98هـ ومن شمال بيد محمود الغزنوي ومن الجنوب بجهود تجار المسلمين، غير أن فتوحات محمود الغزنوي للهند كانت حدثاً تاريخياً هاماً، كان له الأثر الفعال في دفع عجلة الدعوة الإسلامية إلى لإمام في الهند والملائو. وقد وجدت الدعوة الإسلامية طاقة بشيطة اعطت لها قوة للإندفاع إلى الأمام وهذه الطاقة هي طاقة التصوف الذي بدأ ينموا في الهند بظهور الصوفية المحليين الكبار المسلحين بالعلم والصلاح الباطن والتربية والطريقة والسلوك وقد انتشر الإسلام على أيديهم في حين بدأ الحكام والأمراء يبذلون جهودهم في توسيع رقعه دولتهم ونفوذهم. يولون ظهرهم إلى الدعوة الإسلامية وفي كثير من الأحيان كانوا يقفون في طريق بنشر الإسلام طمعاً في تأييد الهندوس لكيان دولتهم، فقد أخذ هؤلاء العلماء الصوفية والزهاد والنساك من دعاة المسلمين نشر الدعوة الأمية وإصلاح الناس على عاتقهم خلقياً وتربوياً لأهالي الهند على حد سواء وتأثر بأخلاقهم وصفاتهم الحميدة وتعاملهم الإسلامي القائم على العدل والمساوات بين الناس تطبيقاً لقول الله تعالى، ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا” وتمثيلاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم كلكم من آدم وآدم من تراب، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم “لا فضل لعربي على عجمي ولأبيض على أسود إلا بالتقوى، فهذا المبدأ الإسلامي العظيم طبقها العلماء الصوفية عملياً في الهند فأصبح زواياهم متكدسة بالمسلمين والهندوس والمنبوذين باحثين لديهم الرشد والفلاح والنجاة إلى حياة أفضل في الدنيا والآخرة، ومن بين هؤلاء النساك الزاهدين الذين لهم الجهود الجبارة في إصلاح المجتمع الهندي المشكل من المسلمين والهندوس والبوذيين والمنبوذين، فأصبحت هذه الزوايا إشعار نور أنارت به أرجاء الهند.

نماذج من المصلحين الزاهدين المتصوفة:

ومن أبرز هؤلاء الزهاد:

أولاً: الشيخ علي بن عثمان الهجويري م 49:

دفن في مدينة لاهور في باكستان الحالية، وكان عالماً وفقيهاً وزاهداً من كبار رحال العلم والمعرفة والصلاح حمل لواء الدعوة في ربوع الهند، وكان يرد على المتصوفين الذين ينخذون من التصوف ذريعة لارتكاب البدع والمنكرات وله كتاب شهير في ذلك باسم “الكشف المحجوب” وترجم إلى اللغة العربية وإلى اللغات العالمية أخرى، وقد اهتدى إلى الإسلام آلاف مؤلفة من الناس فانخرطوا في بوطقة الإسلام زاهدين أتقياء وصلحاء القائمين بإصلاح المجتمع الهندي وأخذهم إلى بر الأمان.

ثانياً: الشيخ خواجة معين الدين الششتي بن غياث الدين السنجرى الأجـميري:

قدم من أفغانستان ضمن جيوش سلطان شهاب الدين الغوري في القرن السادس الهجري. ثم انتقل إلى مدينة أجـمير بولايات راجستان غربي الهند، وبدأ عن طريق التصوف والأخلاق الإسلامية ونشر الدعوة الإسلامية بين الهندوس، وأسلم على يديه مئات الآلاف من الهندوس وأصبح له شعبية كبيرة بين أوساط الفقراء والقطعات المستضعفة من المجتمع وتوفى سنة 628هـ وأصبح ضريحة مركزاً لزيارة المسلمين والهندوس على حد سواء، وكان الشيخ معين الدين يحب الفقراء حيث كان زاهداً في الدنيا، ووزع ماله على الفقراء وعاش حياة النساك وجال البلاد، ثمرقند، وبخارى في طلب العلم كما زار المدينة ثم عاد إلى الهند واستقر في أجـمير، وكانت رسالته تتركز على عالمية الحب وضرورة أن يسود السلام البشرية من دون نظر إلى عقيدة وجنس أو طائفة، وكان الحكام والملوك سواء المسلمون والهندوس يداومون على زيارة شيخ معين الدين يلجئون إليه لحل خلافاتهم وقضاياهم. وعندما توفى الشيخ معين الدين عن عمر يناهض 97 سنة شيد الضريح فوق مدفنه ويقام فيه التجـمع السنوي في 10 سبتمبر يحضر الملائين من أتباعيه بغض النظر عن معتقدات الدينية، ويحتفلون به سنوياً، إن دلَّ على شىء فإنما يدل على أن المنهج الصوفى أقصر الطريق إلى قلوب غير المسلمين وإهتدانهم إلى الإسلام كما فعل أسلافنا الكرام.

وبعد وفاته تبعة تلميذه الخاص هو.

ثالثاً: قطب الدين بختار كاكي:

ولد قطب الدين بختيار كاكي في فرغانه في ماوراء النهر وتتلمذ على يد الشيخ الأجمير وهاجر معه إلى الهند واستقر في دلهي، وعم فيضه ونما فضله وكثر خيره، للأمير والفقير على حد سواء وتوفى هناك. ([5])

رابعاً: فريد الدين كنج شكر:

ولد في مدينة لاهور سنة 569هـ وتتلمذ على يد الشيخ قطب بن بختيار الكعكي ثم انتقل إلى “ملتان” وكان صوفياً زاهداً تقياً ورعاً قام بنشر الدعوة الإسلامية في الهند وتتلمذ على يديه نخبة ممتازة من الدعاة وأهل الطريقة أمثال مخدوم علاء الدين صابر وقطب الدين بانسوي والشيخ خواجة بهاء الدين ملتاني والشيخ منتخب الحق وكانوا جـميعاً من دعاة الإسلام ومن كبار الصوفية آنذاك.

خامساً: الشيخ بهاء الدين زكريا ملتاني:

توفي 666هـ – وعاش مائة سنة عارفاً وعالماً وزاهداً وداعياً في “ملتان” والهند حتى ألقى عليه لقب سلطان الأولياء في الهند وله ضريح في ملتان وأقيمت جامعة حكومية باسمه تقديراً لجهوده في مجال الدعوة والتبليغ.

 

سادساً: نظام الدين أولياء البدايوني:

ولد في سنة 636هـ – وكان من كبار النساك وأهل المعرفة والدعوة وكان يجمع بين الفقراء والأغنياء والعصاة والمذنبيين والعلماء المتقيين في مجلس واحد ويلقنهم دروس التوحيد والتزكية وجهز قوافل الدعاة حملوا لواء الدعوة الإسلامية في ربوع الهند ومن أبرز هؤلاء – شمس الدين يحيى، نصير الدين محمود، قطب الدين بائسوى – وحسام الدين ملتاني، والشيخ فخر الدين زرادي، وعلاء الدين فيلي، والشيخ برهان الدين غريب، وسراج الدين آخر، والشيخ شهاب الدين، والشيخ نصر الدين شراغ. ([6])

سابعاً: شاه كليم الله جهان آبادي:

ولد سنة 1650م وكان عصره عصر الانحطاط والخمول والطوائف الملوكية وقد تضاءلت شموع الدعوة الإسلامية وانتشر البدع في الصوفية فقام وأخذ العلوم، والطريقة من الشيخ يحيى المدني في المدينة المنورة، وعاد إلى الهند وحمل راية الدعوة الإسلامية والسلوك وتصدى للبدع والتقاليد الوافدة على التصوف حتى أزاح الشبهات عن ساحته وتوفى سنة 1739م.

ثامناً: الشيخ شرف الدين يحيى المنيري:

قام بإصلاح التصوف من غلو الغالين وتحريف المنتحلين والتزم الشريعة والطريقة في دعوته وسلوكه وقرر أن من خالف الشريعة فهو ملعون توفى سنة 787هـ.

تاسعاً: خواجة باقي بالله:

ولد في أفغانستان سنة (197هـ – 1564م) ثم هاجر إلى الهند وأخذ الطريقة والسلوك من الشيخ قطب العالم ثم بعثه إلى بخارى فعاد مـرة أخرى وأخذ على عاتقه إحياء السنة وأماتته البدع وكان يتصدى لأعداد الإسلام بكل قوة وعزم، وتتلمذ على يديه جماعة من العلماء والأمراء وطلبة العلم قاموا بدفع عجلة الدعوة إلى الأمام – توفى سنة 1603م.

عاشراً: الشيخ عبدالحق المحـدث الدهلوي:

ولد سنة 1551م وترعرع في أسرة علمية حتى نمَّ فضله وأصبح من كبار علماء الحديث والتصوف في الهند وهو الذى أحيا علوم الحديث بالهند وربط الصلة بين علوم القرآن والسنة وتصدى للفرق الباطنية الضالة والمتصوفة المنحرفين عن الخط الإسلامي الصحيح ودرس علوم أكثر من نصف قرن وتخرج على يديه كبار علماء الحديث، مثال الإمام حسن بن محـمد الصاعاني صاحب كنـز العمـال وله عدة مؤلفات في التفسير والحديث والتصوف اشهرها أشِعّة اللمعـات شرح المشكاة – ومدارج النبوة توفى بعد عمر حافل بالجهد والاجتهاد سنة 1640م. ([7])

حادي عشر: الشيخ قطب الدين أحمد شاه ولي الله الدهلوي (1703م-1793م)

أنه حمل لواء الدعوة والجهاد وهو إمام النهضة الإسلامية في الهند ومؤسس الحركة الإسلامية وورثها عنه ابناؤه واحفاده ومنهم علماء مدرسة ديوبند وجرت على أيدي هؤلاء الأفذاذ عيون العلم والمعرفة في الهند والباكستان وحولهما – ومسح من جبين التصوف آثار الماضى ونفنى عن كاهله أثقاله وأحماله ومزق قيده وحطم الأسوار، والاغلال التي فرضتها عليه عهود الجمود والضعف والانحلال وبرزوا إلى ميادين الجهاد والحياة المشرقة فكانوا بحق رهباناً في الليل وفرساناً في النهار.

وبعد هذا العرض من أعلام التصوف الإسلامي ومناهجهم في التصوف وصلنا إلى هذه النتيجة أن مهجهم توفيقي يجمع بين التصوف الإسلامي الذي يدعو إلى التزكية النفس وتطهير الجنان من شوائب الأدران والآثام في ضوء القرآن والسنة وبين الحياة الاجتماعية والسنة الجارية في الكون وهي وجود السبب مع المسبب وأهمية السعى والعمل والإتيان إلى بيوت من أبوابها وطلب الأشياء من معدنها كما كان عليه السلف الصالح أمثال جلال الدين الرومي وبختيار كعكي وجنيد بغدادي وعلى هجويري ومعين الدين أجميري وقد شهدت الهند والباكستان خلال القرن العشرين معارك فكرية ضارية بين بعض الطوائف الدينية وحاول كل فريق أن يجهز عن الآخر ويجعله خارجاً عن الإسلام، وهذا طور آخر من التصوف حيث دخلته الأوهام والخرافات على أيدي بعض الطالبين للشهرة والمكافة وتلمساً لأسباب الرزق لإحداث العقائد المنسوبة إلى التصوف وهذا نوع من الصراع أحدث جروحاً لن تندمل في كيان الدعوة أما السلفية فهي تجعل التصوف كالدخيل في الإسلام بأنها فكرة فلسفية ظهرت في الهند في الهندوسية والبوذية وغيرهما حتى توافدت على الإسلام لتشويهُ العقيدة الإسلامية الخالصة. بينما تعتبر الصوفية البريلوية بأن كل ما نتمسك به ونقوم به باسم التصوف مشروع ومن صميم الإسلام وأن السلفية طائفة خارجة عن الإسلام، غير أن هناك مدرسة ثالثة، منسوبة إلى مدرسة ديوبند التـزمت بموقف وسط بين المنكرين للتصوف واللاعبين به واتخذ من التصوف ما يصلح ويفيد لتزكية النفس وتذكيرها ومعظمهم مرتبطين بطريقة صوفية نقشبندية أو قادرية بعيدين كل البعد عن البدعات والشطحات والتقاليد السيئة التي ترتكب باسم التصوف وانكروا على التصوف ما يفعله البعض من المغرضين من البدع والضلالات والتواكل وأكل أموال الناس السذج بالباطل.

الصوفية في ميزان الشرع:

أولاً:   إن الشرع ميزان يوزن به الرجال، وبه يتيقن الربح من الخسران فمن رجح في ميزان الشرع كان من أولياء الله وتختلف مراتب الرجحان ومن نقص في ميزان الشرع فأولئك أهل الخسران، تتفاوت خفتهم في الميزان فإذا رأيت إنساناً يطير في الهواء ويمشى على الماء ويخبر المغيبات ويخالف الشرع بإرتكاب الحركات بغير سبب محلل ويترك الواجبات بغير سبب مجوّز فاعلم أنه شيطان نصبه الله فتنة للجهلة([8]) وهذا النوع من التصوف هو الذي يُذَمّ ويقام على صاحبه نكير وكذلك كما أحدثوه في التصوف من الرقص واللذة والأصوات والأنغام والوجد وغير ذلك مستحدثات في الدين بقول سهل بن عبدالله كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فباطل ويقول الجنيد: كل من زاد عليك في خُلقه زاد عليك في تصوفه والتصوف عظمة نفيسة شاملة لا تعرف الكبرياء والغرور ويقول أبويزيد البسطامي فإذا أحب الله عبداً أسبغ عليه صفات ثلاثة دليلاً على حبه سخاء كسخاء البحر، إحسان كإحسان المس، وتواضع كتواضع الأرض. ([9])

ثانياً:   الاقتصاد على الجانب الروحي وأهمى الجوانب الأخرى إنحراف كبير في الفهم والمنهج التربوى لأن الإسلام ليس نظاماً تعبدياً ولا شعائر تعبدية فقط بل نظام للحياة البشرية في شتى مظاهرها – يقول تعالى “وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ”([10])

ثالثاً:   إن المتصوفة ما زالوا بعيدين عن كتاب الله وسنة رسوله دراسة وعلماً في إطار ضوابطها الصحيحة وعلوم الأصول والفروع فهم لا يدرسونها ولا يستفيدون من كنوزها ويبالغون في فهم المعاني الباطنية فلقرآن الكريم فهذه المبالغات قادت كثير منهم إلى إحداث البدع والمنكرات والضلالات الخطيرة التي وصلت ببعضهم إلى حد الزندقة والإلحاد والقول بالحلول والاتحاد وفكرة الاخلاء والإملاء متخذين في ذلك “من الفلسفات الوثنية الهندية  قديماً واسبينوزا حديثاً ومن الغنوصية المنحدرة من المسيحية والباطنية” نبراساً لتفكيرهم ومن هذا المنطلق يبدو واضحاً عجـز الجماعات الصوفية عن مواجهة الجاهلية الحديثة ودحرها والصمود أمامها وبالتالي عدم أهليتها لتكون هي الجماعة التي يؤمل أن يرد الله بها كيداً أعداء الإسلام كما كان إسلافهم علماء ربانيين صادقين في الزوايا، ومجاهدين في ساحة المعارك دفاعاً عن الدين والوطن يبنى ويشيد ويبعث الطاقات المدخرة، ويحرك الهمم الفاترة للنهوض إلى فجر جديد وهذا الصنف من التصوف لا يد أن يعود مرة أخرى ليرفع راية الشريعة مع الطريقة عالية خفاقة في ربوع العالم.

 

المصادر والمراجع:

1-  تاريخ الدعوة والعزيمة للشيخ أبو الحسن الندوي، ط دارالتبشير القاهرة وباكستان.

2-  تاريخ فيروز شاهي، ضياء برني، ط لاهور باكستان.

3-  تاريخ الفكر الفلسفي د. ريان، ط دار النهضة بيروت.

4-  تاريخ مشائخ جشت خليق نظامي، ط دار القلم لاهور.

5-  تاريخ الدعوة والجهاد، عبدالله الله فهد فلاحي، ط تعمير إنسانيت لاهور.

6-  تذكرة شيخ عبدالحق الدهلوي أحمد قادري، ط مكتبة إسلامية لاهور.

7-  حياة شيخ عبدالخالق خليق نظامي، ط مكتبة إسلامية لاهور.

8-  تاريخ المسلمين في الهند د. عبدالمنعم النمر، ط القاهرة.

9-  التصوف الإسلامي رسالته ومبادئه ماضية رجالخرة مشخية عموم طرق الصوفية، ط دار الكتب العربي القاهرة.

10- سير الأوليا، لأمير خورد، ط دلهي.

11- المذاهب والأفكار المعاصرة في التصوف الإسلامي، محمد حسن، دار التبشير طنطا مصر.

12- موسوعية التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، د أحمد شلبي، دار النهضة القاهرة.

13- تأثر الكرام في آثار هندوستان، آزاد بلجرامي، ط دلهي.

14- نزهة الخواطر، عبدالحي لكهنوي، ط دهلي وحيدر آباد.

15- قواعد الأحكام، لعز بن عبدالسلام، ط دار الشروق القاهرة.

16- الكامل لابن أثير، ط بولاق القاهرة.

 

 

[1] – التصوف الإسلامي رسالته ومبادئه ماضيه وحاضره مشيخة عموم طرق الصوفية، طبع دار الكتب العربي قاهرة مصر، ص25-28.

[2] – المذاهب والأفكار المعاصرة في التصوف الإسلامي لمحمد حسن، ص53، ط دار البشير طنطا بمصر.

[3] – موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، د. أحمد شبلي، ص147، ج 3.

[4] – والتفصيل في نزهة الخواطر لعبد الحي الكهنوي ص90 ج 1 وما بعده، والكامل لابن الأثير ص54 ج9 ط بولاق وتاريخ المسلمين في الهند ص88 د. عبدالمنعم النمر.

[5] – مآثر الكرام في آثار هندوستان، ص7 وما بعد لآزاد بلجرامي وسير الأولياء لأمير خودر، ص27،

وراجع تاريخ الدعوة والعزيمة، ص30 ج3 للشيخ أبي الحسن الندوي.

[6] – انظر تاريخ فيروز شاهي ضياء برني، ص46، وتاريخ مشائخ جشت (خليق نظامي وتاريخ الدعوة للندوي، ص169، ج3)

[7] – انظر التفصيل تاريخ الدعوة بالجهاد عبدالله فهد فلاحي ص93 وتذكرة شيخ عبدالحق دهلوي أحمد قادري ط الهند ص139 وحياة الشيخ عبدالحق محدث دهلوي (خليق أحمد نظامي، ص302، ط لاهور.

[8] – انظر قواعد الأحكام لمعز بن عبدالسلام ط دار الشروق بالقاهرة، ص229 ج 2.

[9] – تاريخ الفكر الفلسفي للدكتور محمد أبو ريان، ط1970م دار النهضة ببيروت، الجـزء الأول ص287.

[10] – سورة القصص، الآية: 77.

____________________________

*نقلًا عن موقع ” أهل الصفا “.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى