الإسلام الكوني تصوُّف بلا قلاع مذهبيَّة!
جعفر نجم نصر
(إن الفقهاء كالصخرة الواقعة على فم النهر، لا هي تشرب الماء، ولا تترك الماء يخلص إلى الزرع).
أبو طالب المكي |
(إذا لم يحرّر العلمُ النفس من النفس فإن الجهل خير من علمٍ كهذا).
سنائي |
ان روح الاسلام الحقيقية التي صدح بها النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وصدحت بها الآيات القرآنية هي قضية التوحيد والتسليم المطلق لله، وهي الجوهر المشترك بين الاديان والانبياء جميعاً، ذلك ان المراد من عبادة الاسلام التي وردت بصيغ متعددة انما هو التوحيد لله سبحانه وتعالى ولقد وردت الآيات القرآنية حول ذلك (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (سورة الشورى: 13)، (قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (سورة البقرة: 136)، (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (سورة البقرة:133) (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (سورة الانعام: 161) (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (سورة النحل: 123).
ان جميع الانبياء والاديان الموحى بها أتفقت على ان المرتكز الرئيس والجوهري هو التوحيد ونبذ الشرك، وبذلك فأن كل الرسالات سعيها الجامع لجهودها يسير في مجرى واحد لا غير وهو حقيقة التعبد القائم على التوحيد.
وبهذا الصدد قال الاستاذ محمود محمد طه: و(لا اله الا الله) هي اصل الدين، أصل الاسلام وهي مركز القرآن… والقرآن كله يلف حول (لا اله الا الله).. كل آيات القرآن موظفة لتجذب كل إنسان ينحرف عن التوحيد، بالوعد او بالوعيد لتجيبه لتحقيق التوحيد.. مركز القرآن (لا اله الا الله) ولأنها اصل الدين قامت عليها كل الرسالات… والحديث النبوي: “خير ما جئت بهِ، أنا والنبيون من قبلي، (لا اله الا الله)” قالها آدم، وكل المرسلين، الى نبينا و(لا اله الا الله) تظهر سير الخلائق… الابدي… الازلي… السرمدي، الى الله… ([1]).
وحول الآية القرآنية (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ…) يرى الاستاذ طه: وشرع لكم من الدين، هنا، ليس الشريعة!! وانما (لا اله الا الله) واردة في قرآننا… (فأعلم ان لا اله الا الله، واستغفر لذنبك، وللمؤمنين والمؤمنات، والله يعلم متقلبكم ومثواكم)([2]).
أما بخصوص الآية القرآنية (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) (المائدة: 48)، انما تشير الى الاختلافات التشريعية بأنماط او ظواهر العبادات لأن جوهرها الرئيس (التوحيد)، وهي خلافات فرضتها اختلافات البيئات الاجتماعية وشروطها الثقافية، وبهذا الصدد يطل علينا رأي الشيخ محي الدين بن عربي: تتابعت الرسل على اختلاف الازمان والاحوال، وكل واحد منهم يصدق صاحبه. وما اختلفوا قط في الأصول التي استندوا اليها وعبروا عنها، وان اختلفت الاحكام، فتنزلت الشرائع ونزلت الاحكام، وكان الحكم بحسب الزمان والحال،…، وفرقوا بين هذه السياسات النبوية المشروعة من عند الله وبين ما وضعت الحكماء من السياسات الحكمية التي اقتضاها نظرهم، وعلموا ان هذا الامر أتم وانه من عند الله بلا شك([3]).
واختلاف السياسات الحكمية عند ابن عربي هو يراد به الجهود العقلية الفقهية التي تتعدد وتتنوع ولكن مردها او مصدرها هو التسديد الالهي، وهذه اشارة مهمة على ضرورة اختلاف الفقهاء وتعدد رؤاهم الفقهية بين بعضهم البعض، وبعبارة أخرى، فالمعرفة التشريعية الالهية التي كانت على ايدي الانبياء والرسل بالنسبة للشيخ هي كالمعرفة التشريعية، الوضعية التي يصوغها الحكماء والفلاسفة لأنها بنظره كلها من الله تعالى، وعليه فالتنويعات التشريعية الالهية او الوضعية هي الهام رباني بنظره.
وبحسب رأي الاستاذ طه: (الشريعة) ما واحدة… شريعة آدم وشريعة نوح، وشريعة ابراهيم، شريعة موسى، شريعة عيسى كلها تختلف، والسبب في الاختلاف هو ان الشرائع بتنزل لتنظيم الناس.. والشرائع بتنزل في مستوى ادراك الناس… ومستوى حل مشاكلهم… ([4]).
ان خلف تنوع الديانات في العالم من سماوية وحتى غير سماوية، يسري خلف تنوعها وخلافاتها بل وحتى صراعاتها التي تنشأ لأسباب سياسية في حقيقة الامر، نهراً عميقاً من الروحانيات الذي يوحد بينها، ولعل هذا الامر يمثل مفارقة واضحة بين ظاهر الشرائع والسنن وبين بواطنها، تلك البواطن المتفقة على التوجه نحو إله مطلق واحد، ولقد بينت الباحثة في مجال التصوف الاسلامي “آنا ماري شيمل” تلك الصلات والجسور القائمة بين الاديان، إذ تقول: “ان التصوف هو ذلك النهر الروحي العميق الذي ينساب خلف الديانات الظاهرة، أي انه كالماء يجري تحت رسوم الاديان وأشكالها” ([5]).
ولكن اذا كان الانبياء والرسل والاولياء والقديسين يؤكدون على كونهم يمثلون كينونة كونية واحدة (جوهرها التوحيد) تجلت بأشكال وصيغ شرائعية وروحية تعبدية مختلفة ومتعددة، وذلك لأختلاف المحيط الطبيعي والاجتماعي (البنى الحضارية لأشكال التجمعات الانسانية)، إذن لماذا تتصارع هذه الاديان، بل تتصارع المذاهب داخلها كحالة (الاسلام)، والذي كلٌ يدعي انه يمثل الاسلام وحقائقه، وانه طريق الحق لا يوجد من عداه، ولعل السؤال الذي يطرح هنا: اذا كانت الاديان جوهرها التوحيد ومظهرها هذا الاختلاف بين الشرائع؟ والمسلمون جوهرهم التوحيد وشريعتهم واحدة، فلماذا تتصارع الاديان من جهة ولماذا تتصارع وتتنافر المذاهب من جهة أخرى؟ على الرغم من روح الاديان هو التسليم المطلق لله تعالى والذي مدخله ومفتاحه الاهم هو التوحيد (لا اله الا الله)؟.
ان هذه المقالة لا يمكن لها ان تدعي ان تحيط بأسباب ذلك وكيفية معالجته، ولكنها ستولي لزاوية نظر محددة الاهمية لكي تكون هي المدخل، بعد ان نكرر قول حقيقة جوهرية وهي: ان الاديان بمجموعها والمذاهب الاسلامية بتعددها كلها تلتقي في منظور التصوف الذي هو ظاهرة كونية لأنه يمثل الحقيقة العملية حسبما نرى ويرى الكثير من الباحثين في مجال التصوف، وذلك لأنه من انه التعبير الحقيقي والفعلي عن جوهر (التوحيد) و(التسليم المطلق لله تعالى).
ان ممثلي الديانات السماوية (الفقهاء، القساوسة، الحاخامات) يتصارعون فيما بينهم لأعتقاد كل واحد منهم انه قد امتلك الحقيقة المطلقة وادراك الله تعالى بالوجه الصحيح، وهذا الاعتقاد يبتنى لديهم ليس على تجارب روحية، ذوقية كحالة المتصوفة، بل يبتنى من خلال وصايتهم ورعايتهم للتجارب الدينية لأنبيائهم ورسلهم، أي على (النصوص الدينية)، وبأختلاف النصوص لديهم اعتقد هؤلاء الممثلون الدينيون المنضوون تحت الدين الرسمي، وتحت المؤسسة الدينية الرسمية (للفتيا وتنفيذ الاحكام)، أعتقد هؤلاء بأن هنالك بوناً شاسعاً بين تجارب الانبياء (الايمانية)، وهم يجهلون اختلاف النصوص (نتاجات التجربة) ما هو الا أختلاف على اساس البيئة والمحددات الاجتماعية والثقافية للشعوب أو الجماعات وليس على اساس الجواهر والمرتكزات الرئيسة (التوحيد)، فأختلافهم الظاهري هنا هو اختلاف انثروبولوجي تعددي صرف.
وهذ الامر ينسحب على المذاهب الاسلامية فالأختلاف بينهم على الشريعة أي على مجموعة الاحكام والاوامر والنواهي الالهية المستنبطة من النصوص الدينية (القرآن والسنة)، وليس الخلاف على التجارب الذوقية، القلبية، الباطنية، المعرفية المتحصلة جراء التواصل مع الحق سبحانه، أي ليس على (الحقيقة) فكل المذاهب الاسلامية متفقة ان لا حقيقة بلا شريعة.
ولكن كيف غطت الشريعة على الحقيقة واستولت على معانيها ودلالاتها على وفق اسس مذهبية؟ بعبارة أخرى كيف تلون التصوف الاسلامي الذي هو سلوك اخلاقي/ ذوقي بين كافة المذاهب الاسلامية، بحسب القواعد الفقهية لهذا المذهب أو ذاك؟ أو لنقل: كيف ابتلع علماء الظاهر (الفقهاء) مسارات علماء الباطن (العرفاء) لصالح طرائق أو اجتهادات فقهية خاصة، على الرغم من اتفاقهم جميعاً هؤلاء المتصوفة أو العرفاء على ان الشريعة وسيلة للوصول إلى الغاية (الحقيقة) عبر وسائطية (الطريقة)، فكيف اصبحت الشريعة هي الغاية بدلاً عن الحقيقة ويتصارعون على تفسيراتها وأحكامها التي أقترنت بالبعد السياسي (الإمامة)؟.
ان اعتراضنا هنا بطبيعة الحال ليس على المذاهب، إذ انها تعبر عن القراءات المتعددة للتجربة الاسلامية المؤسسة (القرآن والسنة) انما اعتراضنا ان يُمذهب التصوف، بل ان تُمذهب (الحقيقة العرفانية) لصالح الوسائلية (الشريعة)، ومن ثم تغدو منطلقاً للتنابذ والتصارع والعداء وسوء الظن، بل وحتى التكفير!!؟، وهذا الامر يعني ان البوصلة قد انحرفت عن مسار (التوحيد) وعن مسار (النبي محمد) وهما مطلبان جوهريان لدى المتصوفة والعرفاء (السنة والشيعة على حدٍ سواء).
ان مرد هذه الاشكاليات بحسب اعتقادنا ترجع إلى أمرين جوهريين هما:
1) مسألة الخلافة أو الامامة التي بدأت من سقيفة بني ساعدة واستمرت إلى يومنا هذا.
2) مسألة نشأة المذاهب الاسلامية وتقعيد قواعدها واحكامها الفقهية وقراءتها الشخصانية (نسبة لمؤسسي المذاهب).
من الواضح ان هذين الامرين بكل حمولاتهما السلبية خصوصاً بعدما دخلا المعترك السياسي في ظل السلطات السياسية المتعاقبة والتي فعلت مفاعليها في تقطيع الصلات بين المسلمين الموحدين جميعهم والأدهى والأمر انها قطعت الصلات بين المتصوفة والعرفاء (السنة والشيعة) فيما بعد!؟، إذ أسهمت السلطتين الاموية والعباسية في عزل الشيعة وإقصاءهم عن المشهدية الدينية والثقافية بوصفهم خارج الجماعة الدينية مرةً وخارج النظام الاجتماعي العام لأنهم معارضون مرةً أخرى ولكن حصلت بعض الاستثناءات في القرن الثالث الهجري واستلم الشيعة بعض المناصب السياسية آبان الحكم العباسي.
وبهذا الصدد يقول الاستاذ محمود محمد طه: “عندما انتشر الاسلام وساد حياة الناس، كان النبي هو أمامهم ووسيلتهم إلى الله، ولم تكن الدنيا اكبر همهم، بل كانت الدنيا عندهم مطية الآخرة كما علمهم النبي ، ثم لما لحق النبي بربه سار الامر على ذلك خلافة الشيخين وصدراً من خلافة عثمان، وفي أخريات خلافة عثمان بدأ حب الدنيا يشغل قلوب الناس، حتى اذا جاء علي عقب مقتل عثمان، وأراد ان يرد الامر إلى ما كان عليه على عهد الشيخين، دفع حب الدنيا الناس على خذلانه ونصرة معاوية عليه، وأصبح أمر الدنيا بذلك عالياً على أمر الدين، وصارت الخلافة على يدي معاوية ملكاً عضوضاً، كما أخبر بذلك النبي، وقد عهد معاوية بأمر المؤمنين إلى ابنه يزيد، وجعل الامر وراثة في عقبه من بعده، ولقد قتل علي بن ابي طالب في زمن معاوية، ولقد قتل الحسن بن علي وعلى يدي رجال يزيد بن معاوية، قتل الحسين بن علي وقتل من ابناء علي عدد كبير”([6]).
ثم يستمر الاستاذ طه بتفصيل مآلات الامور وكيف ان التصوف الاسلامي ينبع من تلك الاحوال والاهوال التي عصفت بالمجتمع الاسلامي آنذاك، وان أهل البيت كانوا الملهمين الاوائل لكل انصار الدين، إذ يقول: ثم لم يزل أمر الدنيا عالياً، وأمر الدين منحطاً بين الناس، كلما قام لنصرته قائم من ابناء علي خذله الناس ونصروا عليه اعداءه من الامويين ثم من العباسيين، حتى أستيأس أنصار الدين من صلاح امر الناس، ففروا بدينهم إلى المغاور، والكهوف، والفلوات يقيمونه في انفسهم، وينشرونه بين الراغبين فيه ممن حولهم، من غير ان يتعرضوا إلى منازعة السلطة الزمنية، فنشأ بذلك التصوف الاسلامي، وظهر مشايخه ممن اخذوا انفسهم بتقليد سيرة النبي،… ([7]).
وبإشارة خطيرة ومهمة للغاية يحدد الاستاذ طه زمن الصراع والخلاف بين انصار عالم (الحقيقة) وأنصار عالم (الشريعة) إذ يقول: هذا ما كان من أمر أصحاب الدين أصحاب علي بن ابي طالب وابنائه من بعده. وأما ما كان من اصحاب الدنيا –أصحاب معاوية- الذي بدأ عهدهم بإنتصار معاوية، وهزيمة علي، فأنهم أخذوا ينظمون دنياهم وفق الشريعة الاسلامية، حتى اذا اتسعت وزاد اقبالهم عليها وتشعبت حاجاتهم فيها، نشأ الفقه الاسلامي، وأخذ يستنبط ويقيس ويجتهد حتى اسرف على الناس في أخريات الايام وبعد بهم عن المعين وأهتم بالقشور وفرط في اللب فأصبح صوراً تحكي الدين بلا دين وجاء الفقهاء الذين يعيشون للدنيا ويأكلونها بأسم الدين ([8]).
لعل الجيل الثاني بعد الفقهاء الكبار والمؤسسين للمذاهب الاسلامية، أو الاصح الذين عُدت اشتغالاتهم الفقهية بمثابة حقول نظر في الشريعة مختلفة فيما بينهم، ومن ثم عدت بوصفها مذاهب اتبعها هذا الجيل الثاني هم من انشئ القطيعة أو شبه القطيعة في كثير من الاحيان مع اهل البيت والخط الفقهي المنبثق منهم الذي بدأ يصنع لنفسه قلعة فقهية بمعزلٍ تام عن سائر المذاهب الاسلامية، على الرغم من انه قد تأثر بكثير من معالجات واستدلالات وأقيسة ابناء المذاهب الاخرى.
ولكن هؤلاء الفقهاء الكبار كانوا على صلات قوية بأهل البيت، بل تتلمذوا على ايديهم كحالة الامام ابو حنيفة النعمان مع الامام جعفر الصادق، وقد ناصر النعمان آل البيت عبر نصرته لثورة الامام محمد ذو النفس الزكية، ابان عصر ابو جعفر المنصور، وناصر قبل ذلك ثورة زيد بن علي زين العابدين([9])، وكان الامام مالك بن انس معروف عنه تعظيمه وتبجيله الكبيرين للامام الصادق، وقد ناصر ثورة محمد ذو النفس الزكية كذلك ([10])، أما الامام الشافعي فكان يذوب ولهاً وحباً بآل البيت، ويمكن مراجعة ديوانه الشعري ([11]).
ولا يقف الامر عند هذا الحد فهذا الامام احمد ابن حنبل قد جمع في مسنده من فضائل آل البيت العدد الكبير من المرويات التي تبين مقامهم الديني العالي.
وعلى صعيد آخر كان المتصوفة على صلات مستمرة مع أهل البيت من دون الحاجة إلى استئذان المنظومة الفقهية في ذلك؟! فمن المتفق عليه وتأكيداً للرأي آنف الذكر للأستاذ محمود محمد طه؛ نجد ان المتصوفة والعرفاء إلى يومنا هذا ينسبون أنفسهم وسلسلة تتلمذهم إلى الامام الحسن البصري الذي كان تلميذاً للأمام علي بن ابي طالب، بل ان كبار العرفاء كانوا تلامذةً عند ائمة اهل البيت، فعلى سبيل المثال: بشر الحافي كان تلميذاً عند الامام موسى بن جعفر، ومعروف الكرخي كان تلميذاً عند الامام علي بن موسى الرضا، بل ان الكثير والكثير من كبار العرفاء والمتصوفة يرجع نسبهم إلى آل البيت وعلى رأسهم الشيخ المُعظم عبد القادر الكيلاني.
وتؤكد الباحثة شيمل على انه قد جاء في الاثر ان الحكمة المحمدية انتقلت من بعد النبي (صلى الله عليه واله وسلم) إلى ابن عمه الامام علي بن ابي طالب، وترى كذلك انه قد نسب آخرين من اهل بيته واصحابه انهم كانوا موهوبين في الكشف الصوفي ([12]).
ولكن لا نطيل المقام بأيراد هذه الصلات والاشارات الهائلة والعميقة الدلالة بين المتصوفة وأهل البيت، فأنني أحيل القارئ إلى ما بذله الاستاذ المتبحر والمتخصص مصطفى الشيبي الذي جمع كل ذلك في عمل ضخم معنون (الصلة بين التصوف والتشيع) ([13])، والذي اعتمد على مصادر كبار المتصوفة والعرفاء، فكل باحث منصف يبحث عن الحقيقة، يستطيع التحقق من مصادره ودقتها ورصانتها.
ان هؤلاء العرفاء والمتصوفة، لم يكونوا يأبهون للأختلافات الفقهية ان وجدت مع مسارات اهل البيت التي تجسدت بعدئذ بإشتغالات الفقهاء، لأنهم كانوا يعدونها أموراً ظاهرية (قشور) وليس هي حقيقة الاسلام (لباب التوحيد)، ولهذا نستطيع القول ان جوهر التشيع الذي قال به اهل البيت ودعوا الناس له هو عينه جوهر التصوف والعرفان، انه (التوحيد) مقام الاسلام الاعلى والاسمى.
لكن الامر لا يتوقف عن هذا الحد، إذ ان تأويل الشريعة وأحكامها يمثل العامل الذي يعيق اقامة الجسور الرابطة والدائمة بين الشريعة والحقيقة، ذلك لأن الفهم الصوفي أو العرفاني للشريعة مختلف ومفارق كلياً في كثير من عناصره للفهم الفقهي، فعلى سبيل المثال اذا كان الفقهاء ينظرون إلى الشريعة بوصفها المآل والمنتهى الجوهري لحقيقة الاسلام، وان احكامها سارية المفعول دائماً ولا تخضع لجدل الزمان والمكان، فإن العرفاء والمتصوفة يعتقدون بأن المآل الحقيقي للشريعة هو الحقيقية وان لم تحقق ذلك عند الفرد فأنها تصبح أمراً حركياً/ظاهرياً/قشرياً لا طائل منه، فضلاً عن اعتقادهم انها اي الشريعة تخضع لجدلية الزمان والمكان، لأنها اداة أو جسراً أو وسيلة لغيرها وليس لذاتها، وان الجوهر الرئيس للشريعة جعل الفرد سائراً في طريق التوحيد.
إذن اين تكمن المشكلة، لعل هنالك سوء فهم ينبغي طرحه في هذا المجال، هل اراد ائمة اهل البيت ان يكونوا اوصياء على الامة، ومن ثم يكونوا وسائط بين المسلمين (لاسيما شيعتهم) وبين الله تعالى؟ وانهم هم الفرقة الناجية وما عداهم الاخسرين أعمالاً؟ لا أظن ذلك يستقيم مع اخلاقياتهم التي هي روح القرآن، التي مدارها طلب (التوحيد الخالص) فحسب، وان الناس مسؤولين عن سعيهم وعن تهذيب اخلاقهم وطلب السلوك إلى الله تعالى.
ولكن هناك جناح لوجود قراءة فقهية شيعية منغلقة ، هي التي جعلت من ائمة اهل البيت وسائط إلى الله تعالى لأجل السلوك ولعل المغالون هم من سطروا ذلك وأثبتوه في بعض المدونات الشيعية عموماً.
قبالة ذلك تقف الانغلاقية الفقهية السنية التي أغلقت باب الاجتهاد تارةً، وسيجت جهود فقهائها بالاسيجة العالية الشائكة، ونصبت نفسها وصية على كافة افراد الامة ومن ضمنهم المتصوفة والعرفاء، ونحن نتكلم هنا عن عصور الظلام التي بدأت سلطة الفقهاء تكون غطاءً للأنظمة الغاشمة ودويلات الحكم المتعددة بدءً من سقوط الخلافة العباسية إلى يومنا هذا.
ومع الاسف فقد استمال كلا الفريقين بعضاً من المتصوفة أو العرفاء الذين وقعوا في فخ السلطة السياسية تارةً وفي فخ الاختلاف الظاهري (الفقهي) تارة أخرى، على الرغم من أن كل المتصوفة والعرفاء يشتركون بذات المدارات (الحقيقة)!؟.
وبحسب مراجعات الباحث ايريك جوفروا، فأن الامور آلت إلى الآتي: وبصفة عامة، فإن المتصوفة المنتمين عادة إلى طبقة علماء السنة، يظهرون الكراهية للشيعة، ويقرون قتل (غلاتهم) الذين فاحت رائحة بدعهم، ومنذ القرن 11 تقريباً، أي منذ أن أصبح التشيع يمثل خطراً سياسياً على التسنن، دعم أغلب الطرق الصوفية الانظمة السنية في صراعها ضد الشيعة،…، ولم يقصر الشيعة بدورهم، فالمرجعية الوحيدة في أعينهم هي الإمام، الذي يملك وحده سلطة تأويل النصوص والتوسط لصالح الاتباع، وكل مرجعيات الحكم مثل مرجعيته مشايخ الصوفية، يُنظر إليها بإعتبارها اغتصاب للحق ([14]).
من الواضح انه بمرور الوقت وتحت تأثير الابوانية الفقهية لدى الطرفين في ظل تزاحم الايديولوجيات السياسية للسلطة، فأنهما تكورا على نفسيهما وأنعزلا ثم حدث الانفصال الكلي بينهما (ظاهرياً)، الا ان شريان دم (الحقيقة) قبالة التمظهر الفقهي بينهما، ما زال ينبض بالحياة بتشابه سلوكي/ذوقي لا حد له.
فلنتوقف عندما قال العارف الشيعي الكبير حيدر الآملي: أعلم ان الشريعة والطريقة والحقيقة وان كانت بحسب الحقيقة واحدة، لكن الحقيقة اعلى من الطريقة، والطريقة من الشريعة، وكذلك أهلها؛ لأن الشريعة مرتبة أولية، والطريقة مرتبة وسطية، والحقيقة مرتبة منتهائية([15])، ثم يذهب ليقابل كل مرتبة بفئة ذات سمات معرفية خاصة قائلاً: “…، فأن أهل الشريعة بإزاء الفقهاء ومن في مرتبهم، وأهل الطريقة بإزاء العلماء والحكماء ومن في مقامهم، وأهل الحقيقة بإزاء العارفين ومن في منازلهم”([16]).
ولنقارنه بما قاله الإمام القشيري: “الشريعة أمر بالتزام العبودية والحقيقة مشاهدة الربوبية، فكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير مقبول، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصول، فالشريعة جاءت بتكليف الخلق والحقيقة إنباء عن تصريف الحق، فالشريعة أن تعبده والحقيقة أن تشهده، والشريعة قيام بما أمر والحقيقة شهود لما قضى وقدر وأخفى وأظهر…” ([17]).
أن آملي يتحدث عن جوانية/ باطنية مشتركة واحدة بين كل العرفاء والمتصوفة السنة والشيعة، ولكن من الملاحظ ان العبث السياسي والفقهي المستمر للمذاهب حال دون الالتقاء الكلي، إذ أن التمظهرات الفقهية – السياسية السنية، دفعت لتشكيل (اتجاه التوحيد) ضمن الخط العام للتصوف، أما التمظهرات الفقهية – السياسية الشيعية دفعت لتشكيل (اتجاه الولاية)، وفي الحقيقة هما متداخلان سلوكياً واصطلاحياً، وهذا الامر تحدث عنهُ الاستاذ كامل مصطفى الشيبي ([18]).
وإزاء هذا الامر وبحسب مراجعات الباحث كولن تيرنر، أستقرت جوانيتين اماميتين/شيعيتين هما:
– الجوانية الامامية آلهية – المركز: هذه تماثل الجوانب السنية بكل معانيها واهدافها: البؤرة هي الايمان بالله ونبوة محمد والمعاد وفقاً للقرآن. لا يتوفر الايمان الا عبر معرفة الله الظاهر في آياته في الافاق والانفس. وكان التصوف هو السبيل الرئيس هنا.
– الجواني الامامية إمامية المركز: تدور هذهِ حول معرفة أئمة البيت الاثني عشر والايمان بهم، بدون هذا العنصر الحاسم الذي يلي التوحيد في اصول الدين عند الشيعة، فإن منزلة الانسان كمؤمن بالله تصبح مثار شك!؟ ([19]).
وتأسيساً على كل ما تقدم، نتسأل اذا كانت الصورة قاتمة على حد ما، إذ انتصر الفقهاء على العرفاء عبر تلوين التصوف بحسب المذاهب الاسلامية، وكما ظلت المذاهب الاسلامية متمسكة برؤاها العقدية حول موضوعة الامامة، ولاسيما المذهب الشيعي الذي ينظر للآخرين من منظار الولاية لأهل البيت من عدمه، على الرغم من انهم كلهم يحبون ويوقرون آل البيت، فما العمل وما الطريق الذي يجمع هؤلاء المتصوفة والعرفاء، والسنة الذين استقروا في طرق صوفية خاصة نظمت سلوكهم، قبالة متصوفة الشيعة وعرفاءها الذين ما زالت الجوانب الجوانية الامامية (إمامية المركز) هي التي تحركهم.
فبين الامام المعصوم من آل البيت بالنظر الشيعي والقطب الرباني من المتصوفة المتسننين، ضاعت (الحقيقة) التي كان ينبغي لها ان توحدهم، لأنهم متساوون ومتشابهون بها، فلهم ذات اللغة الصوفية الاصطلاحية – السلوكية، ولكن منطلق (الشريعة) فعل فعلته واثار الضغائن بينهم ظاهرياً فإذا كان العرفاء السنة يحبون آل البيت بوله وشغف وتقديس لا حد له، فإن العرفاء الشيعة إلى يومنا هذا ينظرون بعين المحبة والتقديس لإعلام التصوف كـ(محي الدين بن عربي، وجلال الدين الرومي، ومعروف الكرخي، وابن الفارض، وغيرهم الكثير)، وهذا ما نجده في سير حياة كبار العرفاء الشيعة في الزمن القريب (علي القاضي وهاشم الحداد)([20]) على سبيل المثال لا الحصر.
ان المدخل لإقامة تصوف بلا أسوار مذهبية/عدائية/متقاطعة هو الاسلام الكوني الذي يعبر عن المرتكز الرئيس الجامع بينهم الا وهو (التوحيد).
والطريق الموصل إلى ذلك هو ما اسماه الاستاذ محمود محمد طه (طريق محمد) اي العودة إلى سيرة النبي وسنته في خاصة نفسه كيما تكون هي الطريق الموحد للسالكين من أبناء المذاهب الاسلامية، يقول الاستاذ بهذا الصدد: لقد خدمت الطرق الصوفية غرضاً جليلاً في نشر الدين الحق، ولقد ربت رجالاً أفذاذاً كانوا منارات هدى، ومثابات رشد للأمة، عبر تاريخها الطويل، في ارتفاعه وانخفاضه، عندهم التمست دينها وخلقها وتربيتها… ولكن اليوم!! فإن تحديات العصر اكبر من الطرق واكبر من المشايخ، وليس لها غير محمد. ونحن ندعو جميع اصحاب الطرق إلى العودة إلى طريقة الطرق –طريقة محمد- إذ بتقليد محمد تتوحد الامة ويتجدد الدين، ونحن إذ نخرج هذا النموذج من طريقة محمد، انما نفعل ذلك على سبيل المثال، لا على سبيل الاستقصاء، وهو نموذج قد يعني كثيراً من السالكين، ريثما تتفتح لهم آفاق الحقيقة المحمدية([21]).
ان طريق النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) الذي يدعو له الاستاذ طه هنا، ما هو الا جوهر الاسلام الا وهو (التوحيد) والسلوك إلى الحقيقة بنفس مطمئنة بعيداً عن أثقال مفسري (الشريعة) التي شتتت الامة الاسلامية ومزقتها، فلا توجد وسيلة غير نبيه، ومثلما يقول الاستاذ: ان محمداً هو الوسيلة إلى الله وليس غيره وسيلة منذ اليوم… فمن كان يبتغى إلى الله الوسيلة التي توسله وتوصله اليه ولا تحجبه عنه أو تنقطع به دونه فليترك كل عبادته هو عليها اليوم وليقلد محمداً في اسلوب عبادته وفيما يطيق من اسلوبه عادته تقليداً واعياً وليطمئن حين يفعل ذلك أنه اسلم نفسه لقيادة نفس هادية ومهتدية([22]).
وفي الختام ينبغي القول ان كل ما دون من افكار فيما تقدم ذكره ما هو الا محاولة أو مدخل لرؤية اعمق نحاول استكمال عناصرها لأجل الوصول إلى [الاسلام الكوني] وحقيقته (التوحيد)، حتى نعيش في ظل تصوف اسلامي بلا قلاع مذهبية تحرف المطلب الاسمى الا وهو السير الدائم إلى الحق سبحانه.
المراجع:
([1]) محمود محمد طه، لا اله الا الله، ط2، 1970، د.م، ط، ص17.
([3]) نصر حامد ابو زيد، هكذا تكلم ابن عربي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط2، 2004، ص259.
([4]) محمود محمد طه، المصدر نفسه، ص19.
([5]) آنا ماري شيمل، التصوف كجسر بين الاديان والحضارات، مجلة قضايا اسلامية معاصرة، بغداد، ع(74)، 2004، ص165-184.
([6]) محمود محمد طه، طريق محمد، مطبعة مصر سودان ليمتد، السودان، ط3، اكتوبر، 1969، ص24.
([9]) ينظر: محمد ابو زهرة، ابو حنيفة حياته وعصره وآراؤه الفقهية، دار الفكر العربي، القاهرة، د.ت، ص38-44-45-58.
([10]) ينظر: ابن الاثير، الكامل في التاريخ، المجلد (5)، دار الكتاب العربي، بيروت، 2010، ص111.
([11]) ينظر: مجاهد مصطفى بهجت، (جمعاً وتحقيقاً ودراسةً) شعر الشافعي: الامام الفقيه ابو عبد الله بن ادريس الشافعي، مديرية دار الكتب، جامعة الموصل، 1986.
([12]) آنا ماري شيمل، المصدر نفسه، ص35.
([13]) كامل مصطف الشيبي، الصلة بين التصوف والتشيع، 1/2 منشورات الجمل، بيروت، بغداد، ط1، 2011.
([14]) إيريك جوفروا، التصوف: طريق الاسلام الجوانية، ت: عبد الحق الزموري، دار الكلمة، ابو ظبي، 2010، ص31.
([15]) حيدر الآملي، أسرار الشريعة، اطوار الطريقة، وأنوار الحقيقة، تقديم وتنقيح: رضا محمد حدرج، دار المجتمع البيضاء، بيروت، ط1، 2012، ص74.
([17]) الإمام أبو القاسم القشيري، الرسالة القشيرية في علم التصوف، دار التربية للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد، د.ت، ص72.
([18]) ينظر: المصدر السابق نفسه، ص373-413.
([19]) ينظر: كولن تيرنر، التشيع والتحول في العصر الصفوي، ت: حسين علي عبد الساتر، منشورات الجمل، كولونيا – بغداد، ط1، 2008، ص213-215.
([20]) ينظر للأستزادة: محمد حسين الحسيني، الروح المجردة (في ذكرة الموحد العظيم والعارف الكبير السيد هاشم الحداد)، ت: عبد الرحيم مبارك، المحجة البيضاء، بيروت، ط2، 2002، ص.
وعلي القاضي، العطش العرفاني، ت: عبد الرحيم الحمراني، طريق المعرفة، العراق/ النجف، د.ت، ص .