متى ينكشف سرُّ القدر للعارف؟
د. فادي ناصر
أستاذ الفلسفة والدراسات الإسلامية في جامعة المعارف – لبنان.
إن العلم بالعين الثابتة حال ثبوتها في عدمها الذي هو سر القدر لا يحصل للسالك إلا بعد أن يقطع مرحلة متقدمة جداً من السلوك يصطلح عليها العرفاء بالفناء في الله. فالسالك لكي ينكشف له سر القدر، ويعاين الأشياء على حقيقتها، ويشاهد قابليات الموجودات واستعداداتها، لا بد من أن يتحقق بالفناء الذي هو عبارة عن اضمحلال كل ما سوى الحق وظهور الملك الإلهي المطلق:﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار﴾([1]) فلا يكون في الوجود غيره تعالى.
ويعرّف القاساني في شرح منازل السائرين الفناء فيقول:
“الفناء اضمحلال ما دون الحق علماً، ثم جحداً، ثم حقاً”([2]). ومقصوده من الفناء علماً أي” أن يعلم أن الحق هو عين الوجود من حيث هو وجود، فيكون ما عداه العدم المطلق”([3]). ومن الفناء جحداً أي أن “يعاين ذلك فيجحد (بـ) ما دون الحق لشهود الحق عين الحق”([4]). ومن الفناء حقاً أي “بالوجود، يعني (انه) يجد حقيقة الحق بالحق عند فناء رسمه بالكلية، فيجد الحق بالحق عين الكل، فلا يبقى لغير الحق رسم، فلا موجود إلا هو وحده”([5]).
فإذا فنى العبد في الحق صار الحق سمع العبد وبصره و… كما في الحديث القدسي:
“ما تقرب إليّ عبد من عبادي بشيئ أحب إليّ مما افترضت عليه، وإنه يتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه، فإذا احببته كنت إذا سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التى يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته“([6]).
وإذا اصبح الحق سمع العبد وبصره ولسانه ويده انكشف له سر القدر وصار من أهله لكونه صار فانياً في الحق بالكامل. وفناؤه فيه يعني أن المتصرّف هو الحق تعالى فيكون بصره بصر الحق فيشاهد ما في الحضرة العلمية ويرى ما قدّر له كما هو ثابت في علم الله تعالى. لذا يقول ابن عربي في الفتوحات في جوابه على سؤال: متى ينكشف للعارف سر القدر؟ :
“سر القدر غير القدر وسره عين تحكمه في الخلائق وإنه لا ينكشف لهم هذا السر حتى يكون الحق بصرهم فإذا كان بصرهم بصر الحق ونظروا للأشياء ببصر الحق حينئذ انكشف لهم علم ما جهلوه إذ كان بصر الحق لا يخفى عليه شيء”([7]).
إذاً، فسرّ القدر لا يدرك إلا بعد الفناء، ومن أهم خصائص الفناء انه يورث صاحبه الكشف، فإذا فنى انكشف له لوح الواقع وعاين الأشياء على حقيقتها. وهذا الكشف عطاء واختصاص إلهي لا يهبه الحق تعالى إلا من ارتضى. فنبي الله عزير(ع) كان قد سأل الله تعالى عن القدر ولكن الله تعالى ما أعطاه سؤله بل أراه كيفية إحياء الموتى كما يقول القيصري في شرح الفصوص:
“سأل (عزير عليه السلام) الله أن يطلعه على سر القدر الذي هو العلم بالأعيان في حال ثبوتها في عدمها، وكيفية تعلق القدرة بالمقدور، فما أعطي ذلك، فإنه مخصوص بالله وبمن أراد أن يطلعه، كما قال: ﴿ولا يحيطون بشيئ من علمه إلا بما شاء﴾، بل أراه كيفية الإحياء في نفسه، وما أراه الأعيان لا عين نفسه ولا عين غيره من أهل قريته”([8]).
كما أن الفناء الذي يورث الكشف لا يحصل للسالك إلا في السفر الثاني من الأسفار الأربعة، وهو السفر من الحق إلى الحق بالحق. ففي هذا السفر تفنى ذات السالك وصفاته وأفعاله في ذات الحق وصفاته وأفعاله، فيتجلى له الحق بمقام الوحدانية فلا يرى سوى الحق.
يقول القيصري أيضاً في شرح الفصوص:
“وهذه المشاهدة (لسر القدر) لا تحصل إلا بعد الفناء التام في الحق والبقاء بعده ببقائه وتجليه له بالصفة العلمية ليكون من الراسخين في العلم، كما قال تعالى ﴿ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء﴾ وهذا اختصاص من الحق للعبد بحسب العناية السابقة، ولا تحصل هذه المرتبة إلا في السفر الثاني من «الأسفار الأربعة» التي تحصل لأهل الله، وهو السفر في الحق بالحق، فهم الواقفون على سرّ القدر”([9]).
[1] – سورة غافر: الآية آية 16.
[3] – المصدر السابق: ص 575.
[4] – المصدر السابق.
[5] – المصدر السابق.
[6] – اصول الكافي: ج2 كتاب الايمان والكفر باب من آذى المسلمين ح8.
[7] – الفتوحات المكية :ج2،ص 65.
[8] – فصوص الحكم:ج2،ص885.
[9] – المصدر السابق :ج1، ص333.