الدراسات والبحوث

هل نستطيع أن نعرِّف الحياة بموضوعية ونحن جزء منها؟

مشير باسيل عون

هل نستطيع أن نعرِّف الحياة بموضوعية ونحن جزء منها؟

مشير باسيل عون

(مفكِّر لبناني)

 

الحياة كما تخيلها الرسام مارك شاغال (متحف شاغال))

 

 

هل نستطيع أن نتكلم على الحياة ونحن جزء منها؟ هل الحياة موضوع قابل للتحليل والشرح والتفسير؟ هل يمكننا أن نخرج من الحياة حتى نصفها وصفاً موضوعياً؟ لا ريب في أن جميع هذه الأسئلة تؤرقنا وتربكنا وتجعلنا نستعظم المهمة الفلسفية العسيرة. من الفطنة أن نصغي إلى ما تقوله العلوم في شأن طبيعة الحياة ووظيفتها، قبل أن نسترسل في تصويرها أدبياً أو فنياً أو حتى فلسفياً. في بعض الأحيان يسبق الحدس الفني الخلاصة العلمية، ويتقدم التفكير الفلسفي على المعاينة المختبرية. ولكن فضيلة الاتضاع العلمي تفرض علينا أن نثق بما تبينه لنا العلوم الفيزيائية والبيولوجية والكيماوية، لا سيما بعد أن قطعت أشواطاً بعيدةً في تحليل بنية الكائنات الحية على تنوع تجلياتها وانتظاماتها.

التمييز بين الكائن الحي والحياة

من أوضح الأمور القول إن الحي ليس المادة التي يمكن أن تكون جامدة أو متحركة بآلة تزرع فيها. كذلك ليس الحي الوجود الإنساني الذي يفترض نشاط الوعي. الحي غير الواقع المعيش الذي يختبره الوعي الإنساني. الحي مجموع الكائنات المتحركة في الحياة من غير أن تستمر في التحرك إلى ما لا نهاية. ثمة نماذج تحليلية تساعدنا في تفسير بنية الحي، منها النموذج الآلي والنموذج الحيوي والنموذج الغائي. بيد أن علم الحي نشأ نشأةً متأخرةً بسبب الصفة المقدسة التي نسبتها الأديان إلى الحياة.

كتاب “منطق الحي” (دار غاليمار)

 

لا بد إذاً من التمييز بين الحي والحياة التي تشتمل عليه وتتجاوزه. ذلك بأنها تحتوي على كل الكائنات الحية والجامدة، الطبيعية والمصطنعة، الخارجية الظاهرة والداخلية المنحجبة. ومن ثم، يستفسر المرء عن الحياة في أرحب معانيها، ولو أن العالم البيولوجي الفرنسي فرانسوا جاكوب (1920-2013) كان يصرح في كتابه “منطق الحي” (La logique du vivant) بأننا “لم نعد نسائل الحياة في المختبرات”. أما الفلاسفة فكانوا من أوائل الذين اجتهدوا في تعريف الحياة.

ارتباط الحياة بالنفس الحية

في كتاب “النفس”، حدد أرسطو الحياة بأفعال التغذية والنمو والتلاشي الذاتي. وأفرد للنفس مقاماً جليلاً، إذ أسند إليها مهمة إحياء الجسد ومنحه الصورة التي تلائم وضعيته. فإذا بالحياة تتحد بالنفس اتحاداً وثيقاً، وترسم للجسد الطبيعي هيئته الزمنية العابرة. من جراء ربط الحياة بالنفس، أكب علماء الحياة في القرن التاسع عشر على تعريفها تعريفاً يضعها في مواجهة قوى الموت. في هذا السياق، رسم العالم الفيزيولوجي الفرنسي ماري-فرانسوا كزاڤييه بيشا (1771-1802) في كتابه “أبحاث فيزيولوجية في الحياة والموت” (Recherches physiologiques sur la vie et la mort) أن “الحياة مجموع الوظائف التي تقاوم الموت”. يرسم لنا هذا التعريف مشهد التعارض أو التنابذ بين الأجسام المؤلفة من أنسجة شتى، وقوى الحركة المبثوثة في تضاعيف هذه الأنسجة والخاضعة لأحكام النمو والتطور والتحلل والتلاشي. ذلك بأن الموت حاضر في صلب الحياة حضوراً يشبه السلك الحاكم والغاية الضاغطة التي تؤول إليها جميع كيفيات الوجود.

كتاب فوكو “الكلمات والأشياء” (دار غاليمار)

 

من جراء تعاظم الاهتمام بمسألة الحياة، عكف علماء الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا في القرن العشرين على استنطاق معانيها استنطاقاً جعلها محور القضايا الفلسفية الأساسية، بحيث أتاح لنا الفيلسوف الفرنسي ميشل فوكو (1926-1984)، في الفصل الثامن من كتابه “الكلمات والأشياء” (Les mots et les choses)، أن ندرك مقدار التطور المعرفي الذي طرأ على معالجتها.

مأزق معرفة الحياة معرفةً موضوعية

ما برح سؤال المعرفة الموضوعية يؤرق أذهان المعنيين بقضية الحياة، إذ إن الإنسان الحي الذي يروم أن يعرف الحياة يصطدم بضرورة الإعراض عن كل ما هو حي، أي عن كل الوضعيات الوجودية المعطلة والاختبارات التشويشية والتحيزات القاطعة، والأحكام الاقصائية، حتى يستطيع أن يفوز بمعرفته المنشودة. حين يحيا الإنسان، لا بد له من أن يعظم قيمة الأغراض والوضعيات التي يستند إليها في اختباره الحياتي. فالحياة التزام، والالتزام يخالف مبدأ الحياد الموضوعي. أما المعرفة العلمية فترفض مثل هذا التعظيم ولا تعترف بما يفرضه الإنسان من تفضيلات وإيثارات واختيارات ذاتية. ولا تلبث أن تقيس الأشياء بالاستناد إلى الارتباطات الموضوعية الناشئة بينها، من دون الرجوع إلى اختبارات الإنسان الشخصية. أفضل مثال على نجاح المعرفة الموضوعية علوم الحركة الآلية أو الميكانيك، وقد نشأت على فرضية عزل الأشياء عن فعل الحياة وحركتها وأثرها في الكائنات. حاول الفيلسوف الفرنسي جورج كانغيلم (1904-1995) أن يعرف الحياة بالاستناد إلى أربعة مفاهيم أساسية تنطوي على عناصر شتى من الإصابة يمكنها أن تساعدنا في إدراك غنى الحياة المتجلية في الكون الأرحب.

مفهوم الإحياء

يشتمل المفهوم الأول على معنى الإحياء الذاتي المرتبط بالروح الكامنة أو الطاقة الجوانية التي تختزنها الكائنات. معظم فلاسفة الإغريق، وعلى رأسهم أرسطو، توسعوا في مسألة طبيعة الجوهر النفسي أو العنصر الإحيائي هذا، فأرسلوا أقوالهم الشهيرة التي ما برح تأثيرها ناشطاً حتى القرن العشرين. فحوى القول إن الحياة إحياء المادة وتحريكها وتنشيطها من الداخل. لا يشير هذا الوصف إلى طبيعة هذا الإحياء، مع أن الأطباء وعلماء البيولوجيا اجتهدوا في ربط الطاقة الإحيائية هذه بمجموع الحاجات والميول التي تؤهل الكائن الفرد والجماعة للبقاء والاستمرار في التواصل الناشط وسائر الكائنات الحية. من اللافت أن ينبري عالم الأمراض ومؤسس كلية ليون الطبية الطبيب الفرنسي بول-إميل شوفار (1823-1879) ليعلن في كتابه “في الفلسفة الموصوفة بالوضعية وارتباطاتها بالطب” (De la philosophie dite positive dans ses rapports avec la médecine) أن أسمى مراتب الحكمة البيولوجية أن تقترن العلوم الطبية بالفلسفة بحيث يؤسس الكائن الحي الواقعي على العقل البشري الذي يدرك نفسه علةً منشئةً وقوةً دافعةً.

مفهوم الحركة الميكانيكية

شجرة الحياة بريشة بريا (صفحة الرسامة – فيسبوك)

 

يرتكز المفهوم الثاني على مبدأ الحركة الآلية الميكانيكية التي تجعل أعضاء الكائن تتحرك تحركاً انتظامياً لا تفترض فيه أي طاقة روحية إحيائية. في كتاب “مقالة في الإنسان” (Traité de l’homme)، وقد تأخر نشره خوفاً من المواجهة الخاسرة، كان الفيلسوف الفرنسي ديكارت (1596-1650) يحرض العقلاء على تصوير الكائن الحي، سواء الحيواني أو الإنساني، في هيئة الآلة التي ينتظم عملها وتنضبط حركتها بفعل القانون البنائي الذي تخضع له جميع الوظائف الطبيعية. بيد أن العلماء انتقدوا نظرية ديكارت الميكانيكية، إذ إنها تكتفي بوصف وظيفة الآلة التي سبق أن نشأت وتكونت وانتظمت. أما تفسير نشوء الآلة وتكونها وانتظامها على هذا النحو أو ذاك، فإن هذه النظرية تعجز عن إقناعنا بالدليل الدامغ، لا سيما في حال علوم تكون الجنين الذي يخضع ظهوره لعوامل تتجاوز مجرد الانتظام الآلي المحض. قد يكون اكتشاف الميكروسكوب والتصوير الفائق الدقة من الأسباب العلمية التي جعلت العلماء يتجاوزون النظرية المكانيكية، إذ إنهم أخذوا يكتشفون عوالم منحجبة لامتناهية الصغر تحتوي على حقول مذهلة من الطاقة اللطيفة المبثوثة في أدق الخلايا رقة ونحافة. في كتاب “المونادولوجيا”، خالف الفيلسوف الألماني لايبنتيس نظرية الأجسام الآلية معلناً أن كل جسم عضوي في الكائن الحي نوع من الآلة الإلهية يتجاوز جميع أصناف الآلات الاصطناعية. فآلات الطبيعة غير الآلات الفنية التي يبتدعها الإنسان المندفع إلى البعد اللامتناهي في الحياة.

مفهوم الانتظام الانسجامي

الحياة كما يراها فيغان دانكان (صفحة الرسام – فيسبوك)

 

يستند المفهوم الثالث إلى مبدأ الانتظام التناغمي في الكائن الحي الذي يخصع لقانون من الأحكام الناظمة (organon) المؤتلفة في جسم عضوي (organisme) متجانس الوظائف والحركات. ذلك بأن الجسم، بفضل ائتلافه الانتظامي هذا، يهب النفس، بحسب تصور أرسطو، الوسائل الضرورية التي تتيح لها أن تمارس نفوذها التدبيري. من المفيد التذكير بما قاله الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت (1798-1857) في شأن الانتظام الناشط في الكائن الحي. في كتابه “دروس في الفلسفة الوضعية” (Cours de philosophie positive)، أكد أن فكرة الحياة لا تنفصل عن فكرة الانتظام الذي يعبر عن الائتلاف الناشط في وظائف الجسم كلها. يدل الائتلاف في معجم كونت الفلسفي على التعاطف التضامني (sympathie) الذي يبلغ أسمى مراتبه في بنية الكائن الإنساني نفسه وبين الكائنات الإنسانية المتفاعلة. بما أن نظريات الانتظام هذا تصور الكائن الحي في شبه معمل أو مصنع تتعاون على إدارته عناصر متضامنة من العوامل الناشطة، فإن مراتب التقدم والكمال في الكائنات الحية ترتبط بالتكثف والتعقد اللذين تتميز بهما بنى الاختصاص الوظيفي في كل طور من أطوار الصناعة والإنتاج. لا ريب في أن مثل هذا التصور ساعد في إدراك البنية النشاطية الخاصة بالخلية الحية، بحيث يمكن تشبيه الكائن الحي بمجتمع من الخلايا المستقلة والمنتظمة انتظاماً تراتبياً بحسب اختصاصها الدقيق. بفضل هذا الانتظام، تنشأ بيئة داخلية تلتئم فيها الشروط الفيزيائية والكيماوية الضرورية في استمرار الحياة وترسيخ مناعتها.

في هذا السياق، يشير الطبيب عالم الإبيستمولوجيا الفيزيولوجية الفرنسي كلود برنار إلى خصوبة مقولة المرونة التمددية (élasticité) في بناء الكائن الحي الذي يشبه الآلة العضوية المتحركة تحركاً خاضعاً لقوانين الفيزياء والكيمياء والميكانيك.

مفهوم الإبلاغ التواصلي

أما المفهوم الرابع الذي يستعين به العلماء من أجل تعريف الحياة، فيفترض الإبلاغ أو قل التواصل الإعلامي بين العناصر التي يتألف منها الكائن الحي. استناداً إلى هذه المقاربة، يمكن القول إن الأعضاء الحية تعمل عمل الإشارة القابلة الإبلاغ، عوضاً عن أن تنفرد بقوة الفعل والتأثير، بحيث يتحول الإبلاغ إلى بنية ناشطة تجعل الكائن العضوي الحي أشبه بأنظومة بيولوجية دينامية تجتهد في صون اتزانها الداخلي وقوامها الذاتي في كل تفاعل يربطها بالبيئة الخارجية. ومن ثم، تساعدنا نظريات التواصل في فهم الرسائل التي تبثها الكائنات الحية الحريصة على معاندة اعتداءات المرض والاعتلال والتفكك والانحلال. ذلك بأن الكون في حال تبعثر وتشرذم وتنازع بحيث يستحيل على الكائنات الحية أن تصمد وتستمر إلى حين في الحياة، من غير أن تصون انتظامها بواسطة إتقان مضامين الرسائل التي تنبعث من معاناتها الكيانية. يبدو أن العمل التواصلي هذا يفسر انعقاد الكائن الحي على بنية راسخة ووظيفة منتظمة وتطورية تنوعية خاضعة لقانون الاصطفاء الطبيعي.

أصل الحياة

تنوعت سبل إدراك طبيعة الحياة من غير أن يحسم العلماء أصلها. ذلك بأن النماذج الأربعة الإحيائية والآلية والانتظامية والإبلاغية لا تدلنا على أصل النموذج أو مسار النمذجة عينه. كثير من العلماء يذهبون إلى أن الحياة البيولوجية لا يمكن أن تنبثق إلا من صميم الحياة البيولوجية. يعتقد فيلسوف البيولوجيا والمعلوماتية الفرنسي ريمون ريير (1902-1987) أن “المصادفة لا تستطيع أن تعلل ما يخالفها (anti-hasard). فالتواصل المكانيكي الإبلاغي بواسطة الآلة لا يعلل الإبلاغ عينه، إذ إن الآلة لا يسعها إلا أن تحط من قدر مضمون الإبلاغ، أو في أفضل الأحوال، أن تحافظ عليه” (R. Ruyer, La cybernétique et l’origine de l’information). لا عجب، والحال هذه، من أن يتناول علماء البيولوجيا مسألة أصل الحياة في سياق التطور الكيماوي الذاتي الذي اختبرته الكائنات الحية. أما أغرب النظريات فتلك التي قال بها عالم الفيزياء البيولوجية الفيلسوف الفرنسي هنري أتلن (1931-….) الذي اعتمد مبدأ النظام المستند إلى الضجة (bruit) أو الصخب أو التشوش، وفي اعتقاده أن البنى الذاتية الانتظام تستخدم الضجة أو الاختلالات والاضطرابات الطارئة لكي تتطور تطوراً يفضي بها في نهاية المطاف إلى الموت.

الموت راحة الحياة

وعليه، لا بد من ربط الحياة بالموت، إذ إن ما يميز الكائن الحي إنما هو الإرهاق الكياني والاستنزاف الإنهاكي الذي يبلغ حد التعطل والإلغاء. الموت يكتنفنا في الكون الفسيح هذا من كل حدب وصوب. لا نقوى على الانعتاق من سطوته، لا بل نسعى إلى استلقاط الإشارات الموتية المنبعثة من اضطراباتنا واعتلالاتنا وأمراضنا، حتى إن البحث عن دلائل الموت يتحول إلى بحث عن استنقاذ الحياة. على مستوى الأفراد الحية، يظهر الموت منغرساً في البنية الوراثية انغراساً طبيعياً يجعل النهاية غاية الحياة، أي الحد الأقصى الذي يبلغه الكائن في تحقيق القابليات المنطوية فيه. وعلاوةً على ذلك، يحرر الموت المكان ويوسع السبل من أجل ظهور أشكال جديدة من الحياة لم نعهدها من ذي قبل.

لا غرابة، والحال هذه، من أن تصح في وجه من الوجوه نظرية فرويد (1856-1939) القائلة باندفاعية الموت المنغرسة في الحياة، وقد توسع فيها وأيدها بالأدلة النفسية التحليلية في كتابه “ما وراء مبدأ اللذة” (Jenseits des Lustprinzips). ذلك بأن هذه النظرية ترتبط بتصور الحياة طاقةً متوثبةً لا تكف عن طلب التوازن الداخلي بالاستناد إلى روافد البيئة الخارجية بحيث يختبر الكائن الحي على الدوام توتر مواجهة الجمودية التي تضغط عليه. فإذا به يتوق إلى الانعتاق من هذا التوتر من خلال التخفيف من حدة المواجهة حتى تقتنع غريزته بقبول التسوية والتخلي عن الحياة المقاومة والانسلاك الرضي في جمودية الموت. يعني هذا الكلام أن مشروع الكائنات الحية الوحيد هو الموت. ولكن من أين تأتينا رغبة الخلود إذا كان كياننا الحي لا يرتاح إلا في الجمودية التي تبطل المواجهة الحادة مع تحديات البيئة الضاغطة؟ كل الكائنات تموت من غير نحيب مأسوي، ما عدا الكائن الإنساني العاقل الذي ابتلي بوعي حاد يستثمر استحقاق الموت من أجل تعظيم قيمة الحياة.

الحياة في شطحات الفكر

هذا على وجه الاقتضاب، ما تزودنا إياه العلوم الفيزيائية والبيولوجية والكيماوية. ولكن الحياة لا تقتصر على التناول العلمي، بل تستثير فينا من المشاعر والخواطر والأفكار والتصورات ما لا طاقة لنا على استيعابه في وحدة ائتلافية. للأدب رأيه في الحياة، وللفن تصوره، ولعلوم النفس تحليلها، وللعلوم الاجتماعية رؤيتها. أما الفلسفة فتنظر في الحياة نظرةً تستند إلى المفاهيم الأربعة هذه الإحيائية والميكانيكية الآلية والانتظامية والإبلاغية التواصلية، وقد عاينت فيها سبيلاً إلى الغوص على المعاني الوجودية الأساسية.

لا شك في أن سؤال الحياة الفلسفي ما برح من أصعب الأسئلة طراً، إذ إن السائل منغمس في تجربة الحياة لا يقوى على الخروج منها حتى ينظر فيها من على بعد. لا يمكننا أن نطلب الموضوعية الفلسفية في تصور معنى الحياة. من البديهي أن يتناولها الفكر الفلسفي من حيث قوامها، وطبيعتها، ودعوتها، ووظيفتها، وأثرها، وعلاقتها بالوعي والكون والوجود والزمن. غير أن الأقوال تتباين بتباين القائلين. قد يشبه قوام الحياة فلسفياً، على سبيل المثال، الاندفاق العفوي، أو السيلان الفيضاني، أو الانوهاب المجاني. وقد يستشرف بعضهم في دعوة الحياة تفجر الإمكانات العطائية، وتكثف العلاقات الإغنائية، ونمو المواهب الابتكارية. وقد يذهب بعضهم إلى تسفيه هذه المقولات كلها، ونعت الحياة بالعبث الجارف الذي يغلف كل مسالك الحياة بضباب الغموض الكوني.

اعتنقت حقائق متدافعة شتى في شأن معنى الحياة. أعتقد أن في تضاعيفها بعضاً من الإصابة، إذ إن ما قيل إنما يعبر عن انغماس الإنسان في اختبارات جليلة لا يجوز أن يعطلها التناقض السطحي الناشب بينها. أبسط الحقائق أن من يشعر بالحياة سبق أن كتبت عليه قبل أن يختارها. فالحياة تختارنا من غير استئذان، وتغادرنا من غير إنباء. ومن ثم، لنا أن نحياها إما في فورة المضطرب المنتفض الثائر، وإما في هدوء العاقل القانع الحكيم. هذا في فضائل الانخراط في الحياة. أما إذا أردنا أن نصفها وصفاً يريحنا، قلنا في صحبة الفيلسوف الفرنسي ڤولتير (1694-1778) إنها “عراك دائم، وما الفلسفة سوى اللصقة الطبية الوحيدة التي يمكننا أن نضعها على الجراح التي تصيبنا من كل حدب وصوب”.

_____________________________

*نقلًا عن موقع (INDEPENDENT  عربية ).

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى