الدراسات والبحوث

مصدر المعرفة العرفانيَّة وكيفيَّة حصولها

د. فادي ناصر

مصدر المعرفة العرفانيَّة وكيفيَّة حصولها

د. فادي ناصر

أستاذ الفلسفة والدراسات الإسلاميَّة في جامعة المعارف – لبنان.

1.   الحقّ مصدر العلم الحقيقي عند العارف:

لا يمكننا أن نعزل نظريّة العارف في المعرفة عن رؤيته الخاصّة للوجود والكون القائمة على أساس الوحدة الشخصيّة للوجود. فالله سبحانه وتعالى في الرؤية العرفانيّة التوحيديّة هو الوجود المطلق الّذي لا وجود ذاتي وحقيقيّ لغيره، بمعنى الوجود المستقلّ القائم بنفسه. بل كلّ شيء في هذا الوجود كان ولا يزال قائمًا به، وهو شعاع من نور وجوده: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ[1]، فغدا كل ما سوى الحق تعالى – بحسب نظريّة التجلّي والظهور عند العرفاء – تعيّنًا من تعيّناته ومظهرًا من مظاهره، وتجلّيًا من تجلّياته.

فلا يخرج عن حيطة وجوده المطلق أيّ موجود، ﴿وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحيطًا[2]، ولا عن سلطان ملكه وكمالات أسمائه وصفاته أيّ مخلوق، فهو المفيض للوجود ولكمالات الوجود على حدّ سواء، ﴿هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى[3]. ومن أعظم التجلّيات الأسمائيّة الإلهيّة تجلّيه باسم العليم، فهو عزّ اسمه أصلُ كلّ علم ومنبع كلّ إفاضة علميّة، كما أنّه أصل كلّ وجود ومنبع كلّ إفاضة وجوديّة ﴿عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ[4]، ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها[5].

هذا على نحو الإجمال، أما تفصيل الكلام في الربط بين نظريّة المعرفة العرفانيّة، وبالتحديد الشقّ المتعلّق بمصدر هذه المعرفة، وبين نظريّة الوحدة الشخصيّة للوجود، فنقول على وجه الاختصار مبيّنين فلسفة العارف في ظهور الوجود ونشأته من لدن الحقّ الواحد، وتنزّله في مراتب التجلّي من مقام الغيب حتّى مقام الشهادة بواسطة الفيض الإلهي؛ أنّه في الرؤية العرفانيّة النظريّة للوجود كما أسلفنا سابقًا، الحق سبحانه وتعالى – من حيث ذاته – هو الوجود المطلق الّذي لا اختلاف فيه ولا تكثّر ولا تركّب، بل هو وجود محض، فلا يمازجه ولا يخالطه شيء على الإطلاق. وبهذا الاعتبار، لا اسم له ولا رسم، والصفات والأسماء والأحكام لا تنسب إليه من جهة إطلاقه الذاتي وبطونه الغيبي، وإنّما تنسب إليه باعتباره تعيّنه وظهوره. فالذات الإلهيّة باعتبار هويّتها الغيبيّة المعبّر عنها بغيب الغيوب، والهوية المطلقة لا تعيّن لها على الإطلاق.

ثمّ إنّ الذات الإلهيّة المقدّسة لمّا شاءت أن تخرج من حيّز الخفاء والكمون إلى نور التعيّن والظهور، فإنّ منشأ التعيّن الأوّل وعلّة الانتقال من مقام اللّاتعيّن إلى مقام التعيّن هو “العلم”، أي علم الحقّ تعالى بذاته. فعلمه بنفسه كان سبب التعيّن الأول، ومن بعده التعيّن الثاني وبقيّة التعيّنات كما يقول السيد “حيدر الآملي”: “أوّل تعيّن تعيّنت به الذات كان من علمه تعالى بذاته “[6]. وأوّل معلوم في مقام غيبه هو صفة “الوحدة الذاتيّة”، ومن هنا كان علم الحق بصفة “الوحدة الذاتيّة” هو منشأ التعيّن والظهور كما يقول صائن الدين بن تركة الأصفهاني: “فأوّل ما اعتبر فيها من المعاني الوصفيّة، هي الوحدة الحقيقيّة الّتي لا يُتصوّر اعتبار الكثرة والمغايرة فيها بوجه من الوجوه، حتّى أنّ الكثرة لا تغاير الوحدة بالنسبة إليها، وكذلك الوحدة لا تغاير الذات”[7]. فالعلم بصفة الوحدة هي أوّل ظهور للذات الإلهيّة، وباعتبار اتّصاف الهويّة الغيبيّة بصفة الوحدة الحقّة يحصل أوّل المراتب المعلومة المسمّاة عند العرفاء بـ “التعيّن الأوّل”، “ثمّ إنّ الذات باعتبار اتّصافها بالوحدة الحقيقيّة، تقتضي تعيّنًا يُسمّى باصطلاح القوم بالتعيّن الأوّل”[8]. والوحدة عند العرفاء على نوعين: وحدة حقيقيّة، وهي الوحدة الذاتيّة المطلقة الّتي ليس فيها أيّ تعدد واثنينيّة بأيّ وجه من الوجوه، وهي الوحدة المقصودة هنا. والنوع الثاني هي الوحدة النسبيّة والإضافيّة، وهي الوحدة التي تقابلها الكثرة.

فالعلم بالذات، وتحديدًا بصفة الوحدة الحقّة الحقيقيّة، كان السبب في تعيّن الهوية المطلقة الغيبيّة تعيّنًا أوّليًّا. والتعيّن في المدرسة العرفانيّة يعني “توجّه الذات من كنه غيب هويّتها وعدم تناهيها إلى حضرة الإحاطة والتناهي، وهو التجلّي والظهور المعبّر عنه بالنسبة العلميّة”[9]، وهو – أي التعيّن – يقتضي التجلّي والظهور دائمًا، فكان ذلك مقتضيًا لتجلّي الذات وظهورها.

فتجلّت الذات الإلهيّة بواسطة التعيّن الأول، وظهرت لنفسها في نفسها، أي في مقام وحدتها الصرفة حيث لا غير ولا كثرة على الإطلاق، فأظهرت ما كان مكنونًا في غيب هويّتها من الشؤون والأحوال، وكان أوّل ما ظهر في مقام الذات بهذا التجلّي الأوّل أربعة أسماء هي مفاتيح غيب الذات الإلهية والأسماء وهي العلم، الوجود، النور، والشهود. فبالعلم تحقّق الظهور، وبالوجود تحقّق الوجدان، وبالنور تحقّق الإظهار، وبالشهود تحقّق الحضور كما يقول صائن الدين بن تركة:  “فالذات بهذا التعيّن (الأوّل) تقتضي أن تتجلّى على نفسها لنفسها ظاهرة لها بما اندمجت فيها من الشؤون والأحوال واعتباراتها، واجدة إيّاها مظهرة لها، ثمّ حاضرة عندها، فحصلت للذات باعتبار نسبتها إلى الشؤون المذكورة أسماء أربعة هي الأسماء الأوَل المسمّاة عندهم بـ: مفاتيح غيب الذات المضافة إلى حضرة الهويّة في قوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُو[10]، وهي العلم الّذي هو الظهور، والوجود الّذي هو الوجدان، والنور الّذي هو الإظهار، والشهود الّذي هو الحضور”[11].

وبحسب الرؤية العرفانيّة، فإنّ لهذه الذات الإلهية المتّصفة بصفة الوحدة والمتعيّنة بالتعيّن الأول، والمتجلّية بالأسماء الأربعة المفتاحيّة؛ طرفين: طرف البطون وهو طرف إسقاط النسب والإضافات. وطرف الظهور وهو طرف إثبات النسب والإضافات. فسمّيت الذات باعتبار طرف البطون بالأحد، فحصلت مرتبة “الأحديّة” الّتي لا يتصوّر فيها الكثرة الأسمائيّة بأيّ نحو من الأنحاء، “ففي الأحديّة ما به وجدان الذات نفسها في نفسها باعتبار اندماج اعتبارات الواحديّة فيها؛ وجدان مجمل مندرج تفصيله منفى الكثرة والتميّز والغيريّة”[12]. وسمّيت الذات باعتبار طرف الظهور بالواحد، فحصلت مرتبة “الواحديّة”، وهي مقام الكثرة الأسمائي.

يقول ابن تركة: “للوحدة المعتبرة ها هنا – التعيّن الأوّل – اعتباران: أحدهما متعلّقه طرف بطون الذات وخفائها، وهو اعتبار إسقاط سائر النسب والإضافات عنها، ويسمّى الذات به أحدًا. ثانيهما: متعلّقه طرف ظهور الذات وانبساطها، واعتبار إثبات النسب والإضافات كلّها ويسمّى الذات به واحدًا، وبهذا الاعتبار يصير منشأ الأسماء والصفات”[13].

وبتبع تجلّي التعيّن الأوّل بصورة البطون في مقام الأحديّة، والظهور في مقام الواحديّة، كان للأسماء الأربعة المتجلّية بالتجلّي الذاتي الإلهي أيضا نحوان من الاعتبار؛ اعتبار اندماجها وعدم تمايزها عن بعضها البعض في مقام الأحديّة، واعتبار تفصيلها وتمايزها عن بعضها البعض في مقام الواحديّة. فالعلم والوجود، والنور والشهود كلّها مندكّة ومستجنّة على نحو اندماجي لا تفصيل فيه، ولا تمايز في الأحديّة. أما في الواحديّة فيظهر التمايز والتفصيل بين هذه الأسماء التي هي أصل كلّ تجلّ وظهور في العوالم النازلة من مقام الواحديّة، من عالم الأرواح والعقول والنفوس والمثال والطبيعة. فلا “مغايرة بالاعتبار الأوّل – الأحديّة – بين الذات وكلُّ واحد من الأسماء الأربعة، كما أنّه لا مغايرة بين كلّ واحد منها مع الآخر. وأما بالاعتبار الثاني – الواحديّة – فبينهما تمايز نسبيّ، فلكلّ واحد من العلم والوجود والنور والشهود ها هنا اعتباران: أحدهما، من حيث البطون، ولا امتياز بهذا الاعتبار بينهما أصلًا، و أما من حيث الظهور، فالوجود متعلِّقه بهذا الاعتبار نفس الشؤون المذكورة من جهة الظهور. وأمّا العلم فمتعلَّقه ذلك أيضًا، إلّا أنّه من حيث أنّها معلومات في عالم المعاني، فبين ظاهرهما تمايز نسبي في هذه الحضرة الواحديَّة”[14].

وكما أنّ علم الحقّ تعالى بذاته، وتحديدًا بصفة الوحدة الحقّة الحقيقيّة، كان سببًا في حصول التعيّن الأوّل، فإنّ علم الحق تعالى بسائر كمالات ذاته المقدّسة وشؤوناتها من أسماءٍ وصفاتٍ، وبلوازم هذه الأسماء والصفات أيضًا، كان منشأ وسببًا لحصول التعيّن الثاني. فكلّ معلومٍ متَعيَّن بحسب الرؤية العرفانية، ولهذا التعيّن الثاني أيضًا كما ذكرنا في مباحث مسائل العرفان النظري، ظهور وبطون أيضًا. فباطن التعيّن الثاني هو حضرة “الأعيان الثابتة”، وهي عبارة عن معلومات الحق أزلًا وأبدًا كما يعرّفها السيّد “حيدر الآملي”: “إنّ حقيقة كلّ موجود عبارة عن نسبة تعيّنه في علم ربّه أزلًا، وتسمّى باصطلاح المحقّقين أعيان ثابتة، وباصطلاح غيرهم ماهيّة”[15]، وهي الّتي تتجلّى بواسطة الفيض الأقدس.

وظاهر التعيّن الثاني هو حضرة “الأعيان الخارجيّة”، أو ما يسمّى أيضًا عندهم بعالم المظاهر الخلقيّة، ويصطلح عليه العارف أيضًا بـ “النفس الرحماني”. وهي الّتي تتجلّى بواسطة الفيض المقدّس. وبظاهر التعيّن الثاني، ظهرت الأعيان الخارجيّة الأربعة على الترتيب المعروف، وهي: عالم العقل ويسمّى عند العرفاء بالعقل الأوّل أيضًا وهو أوّل مراتب الإمكان، وأقرب العوالم نسبة إلى المرتبة الإلهيّة وهو من عالم الأرواح. ثمّ عالم النفس، ويسمّى أيضًا بالنفس الكليّة، والفرق بينه وبين العقل الأوّل من ناحية الإجمال والتفصيل، فما أجمل في العقل الأوّل فصل في النفس الكليّة على نحو جزئي وتفصيلي. ثمّ عالم المثال، وهو عالم ظهور الحقائق بكسوة الصور المثاليّة والبرزخيّة. ثمّ عالم الجسم، وعالم المادة، وبه تمّ ظهور الوجود حيث لا رتبة في الظهور أشدّ من المادّة والمحسوسات، وبه بلغت الكثرة الإمكانيّة الّتي هي مظهر الوحدة الحقّة الحقيقيّة أقصى مراتب التنزّل والظهور. يقول “أبو حامد الأصفهاني”:” ثمّ إنّها اقتضت الظهور والبروز من حدّ الغيب إلى حدّ الشهادة، وحصول تلك الصفات والتعيّنات متمايزة في الأعيان “الخارجيّة” بالفعل، وتعقّلها على وجه التفصيل، فأوجدت عالم الأرواح أي عالم العقول والنفوس، فإنّ ظهور الوجود فيه أتمّ من عالم المعاني، ثمّ في عالم المثال، ثمّ عالم الأجسام”[16].

وعليه، فإنّ عوالم الوجود مقسّمة عند العارف إلى خمسة أو ستة عوالم بحسب هذا التقسيم. ويضيف العارف عوالم أخرى كمقام الإنسان الكامل والكون الجامع، وهو المسمّى بعالم الصغير الإنساني في مقابل العالم الكبير الكياني. ولكن لا مجال لتوسعة البحث هنا أكثر من ذلك، وسوف نقتصر على ما يفيدنا في مبحثنا الأساس وهو مصدر المعرفة العرفانيّة. وهذه العوالم على وجه الاختصار هي الأحديّة والواحديّة في حضرة الغيب، ومقام العقل والنفس والمثال والجسم في حضرة الشهادة.

والغرض من بيان هذه الرؤية العرفانيّة لكيفيّة نشأة العوالم الوجوديّة وتعيّنها أمران: الأوّل مقدّمة للثّاني، وهو إظهار الربط ما بين الوحدة الشخصيّة التوحيديّة للوجود، وكيفيّة انبثاق الكثرة منها، والتي تبيّن معنا بحسب نظرة العارف أنّ منشأها الأساس هو علم الحقّ بذاته وكمالات ذاته. فعلمه بصفة الوحدة الحقّة الحقيقيّة على مستوى الذات كان سببًا للتعيّن الأول، وعلمه تعالى بكمالات ذاته وبقيّة الأسماء والصفات الإلهيّة، كان سببًا لحصول التعيّن الثاني.

فالفيض الإلهي سار في هذا الوجود، والحقّ يتجلّى بالفيض الأقدس، فيصل الفيض من الحضرة الإلهيّة الجامعة للأحديّة والواحديّة إلى الأعيان الثابتة، ثمّ بالفيض المقدّس من الأعيان الثابتة إلى الأعيان الخارجيّة وحضرة الشهادة، فتظهر تلك الأعيان في الخارج، أي في مقام الشهادة وعالم المظاهر الخلقيّة.

وهنا نصل إلى الغرض الثاني، لما للمعرفة بمراتب الغيب – الأحديّة والواحديّة – وعالم الشهادة – العقل، والنفس، والمثال، والجسم- من مدخليّة أساسيّة وضروريّة لفهم أدوات المعرفة العرفانيّة كما سوف نبيّن لاحقًا. بسبب الترابط والتلازم بين مراتب الوجود المنبثقة من التعيّن العلمي للحقّ تعالى، وبين وأدوات المعرفة العلميّة في كلّ مرتبة من المراتب وعالم من العوالم.

وعليه، إذا كان الحقّ سبحانه وتعالى بحسب الرؤية العرفانيّة التوحيديّة هو الوجود الواحد المطلق، وأصل كلّ تحقّق ووجود، ومنشأ كلّ تعيّن وظهور، ومنبع كلّ الكمالات والتجلّيات الأسمائيّة والصفاتيّة، لأنّه عزّ اسمه أساس الوجود وكمالات الوجود؛ إذًا فكلّ شيء في الحقيقة منه وإليه.

فهو المبدأ وهو المنتهى، وهو الباطن وهو الظاهر، وهو الأوّل وهو الآخر، وهو بكلّ شيء عليم، وكلّ ما سواه ظهوره وتجلّيه في مراتب تعيّنه الباطنيّة والظاهريّة: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَليمٌ[17]، ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَع[18]، فتحقّقت المعيّة ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ[19]، والقيوميّة الإلهيّة لكلّ المخلوقات ﴿اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ[20]، فكان عزّ اسمه مع كلّ شيء، وقيّوم على كلّ شيء، وأصل كلّ مدد وجودي وكمالي في هذا الوجود.

فسرّ فيضه في مراتب الوجود من الصقع الربوبي المتمثّل بالأحديّة والواحديّة، إلى عالم المظاهر الخلقيّة حتّى عالم الشهادة. وكان “العلم” أحد هذه التجلّيات والفيوضات الإلهيّة السارية، بل هو أصل التجلّيات والتعيّنات الإلهيّة كما بيّنّا، والّتي لولا تنزّلها من لدنه لما ظهر شيء، ولا حصل العلم والإدراك في الموجودات؛ لأنّ علم الموجودات وإدراكها ما هو في الحقيقة إلا تجلّيًا وظهورًا لعلم الحقّ تعالى بذاته وكمالات ذاته الأسمائيّة والصفاتيّة؛ لأنّ كلّ شيء في المنظار العرفاني النظري هو ظهور تجلّ الحق تعالى ليس إلّا، “وجميع ما يظهر من الموجودات والمخلوقات، قوّة وفعلًا، لا يكون إلا بواسطته. وجميع ما أعطى الله الموجودات من العلوم والحقائق والكمالات والنقائص، لا يكون إلّا على يديه، المعبّر عنهما بصفتَيْ الجلال والجمال لقوله: ﴿بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ[21]، ولقوله: ﴿خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[22][23]. فليس في الوجود إلّا الحق وأسماءه وصفاته كما يقول العارف. ومن أسمائه الحاكمة اسم “العلم”، فكان الحقّ سبحانه وتعالى في الرؤية العرفانيّة هو المعلّم الحقيقي للعلوم الإرثيّة الحقيقيّة. فكما أنّ لأصحاب العلوم الكسبيّة “أستاذًا في علومهم ويعلّمهم، فكذلك هذه الطائفة – من العرفاء – لهم أيضًا أستاذ في علومهم ويعلّمهم، وهو الحقّ تعالى لقوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّه[24] ولقوله: ﴿وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظيمًا[25][26].

ولأنّ المدد والفيض الإلهيَّيْن ساريان في هذه العوالم والمراتب الوجوديّة على الدوام، وكلّ شيء يتنزّل منه تعالى بحكم وحدة الوجود، ووحدة المفيض الّتي يعتقد بها العارف. لذا فإنّ الفيض الإلهي ومنه فيض “العلم” يتنزّل بدوره ويسري في كلّ مراتب وعوالم الوجود أيضًا. فغدا الحق تعالى هو المصدر الأوّل، بل الوحيد للمعرفة والعلم في المنهج المعرفي العرفاني. وإنّ الإدراك الحاصل للإنسان من خلال قواه الباطنيّة والظاهرية، إنّما يكون أيضًا من خلال الإمداد الواصل إليه من العلم الذاتي للحقّ تعالى. فعند العارف، العلم الذاتي للحق ليس مغايرًا للإمداد للإلهي، بل العلم الذاتي هو بعينه الإمداد، والإمداد هو نفسه العلم. فإذا وجد العلم وجد المدد والعكس صحيح.

وللعلم الإلهي الذاتي بطون وظهور، فما يدركه الإنسان بواسطة قواه الباطنيّة إنّما يكون بالإمداد الواصل إليه من باطن علم الحقّ الذاتي، أي من مرتبة الاسم الباطن الجامع للأحديّة الواحديّة. وما يدركه الإنسان بواسطة قواه الظاهريّة، فمن خلال الإمداد الواصل إليه من ظاهر علم الحقّ الذاتي، ومرتبة الاسم الظاهر الجامع لكلّ مراتب الأعيان الخارجيّة والخلقيّة، بدأ من الروح والعقل، مرورًا بالنفس والمثال وانتهاءً بالطبيعة والحسّ، كما يقول “ابن تركة الأصفهاني”:

“ثمَّ، لمّا كان التوجُّه الإيجادي الإلهي من الحقّ المطلق، إنّما يتعيَّن ويتقيَّد، باستعداد المتوجِّه إليه، فيقال: إنَّه مصاحب لكلّ موجود. وبهذا الاعتبار يتصوَّر نسبة معيّة الحقّ للأشياء، وحيثيَّة قيّوميَّة إذ هو سبب وجود ذلك الموجود والمبقي له، المسمّى بالمدد الوجودي فإنّه من حيث ذلك التوجّه والتجلّي يصل إليه المدد من الحق بالوجود المتبقي له، ومن حيث ذلك أيضًا يتشوّق إلى طلب الحقّ ومعرفته والتقرّب إليه، لولاه لم يصحّ ولم يثبت له مناسبة يقتضي الارتباط بين الممكن من حيث هو ممكن، وبين الحق من حيث هو واجب.

وإذا عرفت هذا فافهم، إنّ إدراك الإنسان ما يدرك بقواه الباطنة الروحانيّة لا الجسمانيّات منها، إنَّما هو بالإمداد الواصل إليه من علم الحقِّ الذاتي الّذي لا يغايره من حيثيَّة هذا التجلّي المشار إليه، لكن من مقام الاسم‏ الباطن الّذي هو من صفات التعيُّن الجامع للتعيّنات على ما مرَّ، وأما إدراكه ما يدرك بقواه الجسمانيّات، فمن حيث الإمداد المذكور، لكن من مرتبة الاسم الظاهر”[27]. وللقونوي أيضًا في كتابه “النفحات الإلهيّة” كلامٌ مطابق لما أورده الأصفاني في شرحه لقواعد التوحيد[28].

 

2.    تجلّيات المعرفة العرفانيّة:

إلى الآن تعرّفنا إلى مصدر المعرفة العرفانيّة على نحو الإجمال، حيث تبيّن لنا أنّ الله سبحانه وتعالى هو المصدر الأوّل والوحيد للمعرفة العرفانيّة. أما إذا أردنا أن نبحث عن تجلّيات ومراتب هذه المعرفة، وتفاصيلها، وكيفيّة حصولها من مصدرها الأساس، فعلينا أن نذهب باتجاه مظاهر الذات الإلهيّة، لأنّ الحق سبحانه وتعالى بحسب نظريّة الوحدة الشخصيّة للوجود، وإن كان هو الوجود الحقيقي الواحد المتشخّص بذاته، ولكن هذا الوجود الواحد كما بينّا سابقًا لا يلغي الكثرة، بل الكثرة فيه منسجمة مع الوحدة؛ لأنّها من مظاهر وتجلّيات هذه الوحدة، ولولا الكثرة لما عرفت الوحدة.

فلا يوجد انفكاك وانفصال بين الوحدة الكثرة؛ لأنّ الوحدة هي بطون الكثرة، والكثرة ظهور الوحدة. ومن ناحية أخرى، الوحدة لا يمكن أن تُعرف أو أن تُدرك بذاتها، بل تُعرف بآثارها ولوازمها. بمعنى آخر، بأسمائها وصفاتها وأفعالها؛ لأنّها مظاهر وتجلّيات الأحديّة والواحديّة في رتبة عالم الشهادة والمظاهر الخلقيّة. أمّا في مقام الواحديّة والأحديّة فليس ثمّة غير، بل هو تجلٍّ من الحقّ إلى الحقّ، ولكن تارة في مقام الإجمال فيسمى الأحديّة، وأخرى في مقام التفصيل فيسمّى الواحديّة. وعليه، إذا أردنا أن نعرف الله تعالى فطريق العارف إلى هذه المعرفة تبدأ بالآثار والآيات الآفاقيّة والأنفسيّة: ﴿سَنُريهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفي‏ أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهيد[29]، حتّى إذا تمكّن العارف من العروج إلى ما هو أكثر قربًا ودنوًّا من عالم الوحدة، فإنّ وسائله المعرفيّة ستصبح أكثر خفاء ودقّة: ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى[30].

هذا كله مرتبطٌ بالمعرفة في مرحلة قوس الصعود، أمّا في قوس النزول فإنّ إفاضة العلم والمعرفة هي من الله “لقوله تعالى: ﴿رَبِّ زِدْني‏ عِلْمًا[31]؛ لأنّ منبعه – أي منبع هذا العلم – التجلّيات الإلهيّة والإفاضات الربانيّة، وهي غير منقطعة بالاتّفاق”[32]، كما أسلفنا. فالتجليّات الإلهيّة تبدأ من عالم الألوهيّة والربوبيّة، ثمّ تتنزل منها إلى عالم الأسماء الإلهيّة والأعيان الثابتة، ثمّ إلى عوالم الشهادة بمراتبها المختلفة، ليكون كلّ عالم من هذه العوالم مصدر معرفة حقيقيّة وآية من آيات الإله المتجلّي فيها وعلامة من علاماته الدالّة عليه.

وفيما يلي نذكر بعض تجلّيات مصادر المعرفة عند العارف بناءً لرؤيته التوحيديّة للوجود، مع العلم أنّ آراء ونظريّات العرفاء متفاوتة ومختلفة فيما يرتبط بمظاهر وتجلّيات العلم الإلهي، وهذا الاختلاف مردّه إلى الاختلاف في الرؤية الشهوديّة القلبيّة والإدراكيّة العقليّة الخاصّة بالعارف. وفي بعض الأحيان يكون الاختلاف بينهم اختلافًا لفظيًّا واعتباريًّا وليس حقيقيًّا، وإن كان بإمكان من لديه الخبرة والمعرفة الكافية باصطلاحات القوم أن يستنتج القواسم المشتركة بين هذه الآراء والرؤى؛ ليخلص في النهاية إلى رؤية جامعة تجمع بنحو من الأنحاء بينها، لوجود المشتركات المبنيّة على أسس واحدة في الأصل ومختلفة في الفرع.

ولبيان تجلّيات مصادر المعرفة الإلهيّة، فقد أشرنا سابقًا على نحو الإجمال، أنّ من خصائص المعرفة العرفانيّة أنّها معرفة إرثيّة وليست كسبيّة، وأنّ مصدر العلوم الإرثيّة والحقيقيّة هو اسم الله واسم الرحمن ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى﴾‏[33]. فكما أنّ أصحاب العلوم الكسبيّة لا بدّ لهم من أستاذ يعلّمهم فنون العلم وطرق تحصيله، كذلك لطالب العلوم الإرثيّة، لا بدّ له من أستاذ، وهذا الأستاذ هو الحقّ تعالى من خلال اسم “الله”، واسم “الرحمن”، لقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله[34]، وقوله جلّ ذكره: ﴿الرَّحْمنُ(1)عَلَّمَ الْقُرْآنَ[35].

فالحقّ تعالى في المدرسة المعرفيّة العرفانيّة كما ذكرنا هو المعلّم الأوّل والأقدم والأستاذ الأعظم والأكمل لقوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها[36]، “ولأنّا بينّا أنّ الحقائق كلّها راجعة إلى الوجود المطلق بحسب الحقيقة، فكلّ منها – الحقائق – عين الآخر باعتبار الوجود، وإن كانت متغايرة بالتعيّنات”[37].

وهناك فارق بسيط عند العرفاء بين التعليم الإلهي الحاصل بالاسم “الله” والتعليم الإلهي بواسطة الاسم “الرحمن”، وهو أنّه بالاسم “الله” يحصل لدى الوارث العلم الفرقاني لقوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانًا[38]، وبالاسم الرحمن يحصل العلم القرآني لقوله تعالى: ﴿الرَّحْمنُ(1)عَلَّمَ الْقُرْآنَ[39]، وإن كان بلحاظ آخر الرحمن الحقيقي هو نفسه الله أيضًا لقوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى[40]. والفارق بين التعليم الرحماني والتعليم الإلهي؛ أنّ “الرحمن شأنه أخذ الأشياء من الله إجمالًا، ثمّ إظهارها تفصيلًا… وشأن الله إظهار الأشياء إجمالًا وتفصيلًا”[41].

والغرض من مجموع ما بينّاه أن نثبت أنّ منبع جميع العلوم الإرثيّة عند العارف بالدليل والحجّة القرآنيّة هما الحضرة الإلهيّة، وحضرة الرحمن، وأنّ كل من أراد العلوم الحقيقيّة الإرثيّة الإلهيّة، يتوجّب عليه التوجّه إلى هاتين الحضرتين ليتعلّم منهما على قدر استعداده و استحقاقه. ثمّ يتنزل الفيض العلمي إلى حضرة الشهادة وعالم الأعيان الخارجيّة، وأوّل مظهر للعلم الإلهي في مراتب الشهادة هو العقل الأوّل، ثمّ النفس الكليّة، ومنها إلى جميع المراتب النازلة. “فالعلوم والحقائق كلّها تنزل أولًا من حضرة الربّ الأعلى الّذي هو الحقّ – جلّ جلاله – على حضرة الربّ الأدنى الذي هو العقل الأوّل والإنسان الحقيقي المسمّى بالرحمن، إجمالًا، ومن حضرته تنزل الحقائق على النفس الكاملة – أي الكليّة – المسماة بالرحيم، تفصيلًا، ومن حضرتيْهما إلى ما دونهما تفصيلًا وإجمالًا”[42].

والفرق بينهما، أنّ العلم الثابت في العقل الأوّل هو إدراك إجمالي بالأشياء، أمّا المعرفة الثابتة في النفس الكليّة فهي إدراك تفصيلي بالأشياء. “فالعقل الأوّل، لاشتماله على جميع كلّيّات حقائق‏ العالم وصورها على طريق الإجمال، عالم كلّي يعلم به الاسم الرحمن. والنفس الكلّيّة لاشتمالها على جميع جزئيّات ما اشتمل عليه العقل الأوّل تفصيلًا أيضًا، عالم كلّي يعلم به الاسم الرحيم. والإنسان الكامل الجامع لجميعها إجمالًا في مرتبة روحه وتفصيلًا في مرتبة قلبه، عالم كليّ يعلم به الاسم الله الجامع للأسماء”[43].

وللعقل الأوّل في القرآن الكريم مراتب ودرجات، والعديد من الأسماء منها “القلم” و”أم الكتاب”، بينما يعبّر عن النفس الكليّة في الآيات الشريفة بـ”نون” و”اللّوح المحفوظ” و”الكتاب المبين”. حيث “تقرّر عند أرباب التحقيق أنّ جميع العلوم والحقائق ثابتة في العقل الأوّل، الّذي هو “أمّ الكتاب” و”القلم الأعلى” على سبيل الإجمال ومسطورة في النفس الكلّيّة، الّتي هي “اللّوح المحفوظ” و”الكتاب المبين” على سبيل التفصيل”[44].

إذًا، عند العارف منبع جميع العلوم ومنشؤها كما يقول السيد حيدر الآملي؛ هي حضرة “الرحمن” الّتي يقول تعالى بشأنها: ﴿الرَّحْمنُ(1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2) خَلَقَ الْإِنْسانَ(3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ[45]، وأنّ كلّ من أراد العلوم الحقيقيّة الإرثيّة الإلهيّة، فما عليه إلّا أن يتوجّه إلى هذه الحضرة ليتعلّم منها على قدر استعداده واستحقاقه. فإذا توجّه إليها كان مصداقًا لقوله تعالى: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4)عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ[46]. فعمليّة التعليم إنّما تحدث من خلال القلم أو ما يسمّى أيضًا بالعقل الأوّل، وسبب تسمية العقل الأوّل أو الرحمن بالقلم؛ لأنّه كالقلم في إفاضة العلوم والحقائق على ألواح النفس الكليّة التي هي كاللّوح بالنسبة إليه. فأوّل فيض يصدر من القلم أو ينزل من حضرة الرحمن، إّنما ينتقش ويصوّر في لوح النفس، والّذي يسمّى باللوح المحفوظ، ومن ثمّ بعد ذلك يصل إلى غيره من التعيّنات الوجوديّة.

وهذان المظهران كما يقول الآملي هما الموسومان في القرآن الكريم بـ ﴿ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ[47]؛ لأنّ “النون” هي النفس الكلّيّة بسبب نقوش العلوم كلّها عليها تفصيلًا من القلم. و”القلم” هو العقل الأوّل بسبب نقوش العلوم كلّها عليه إجمالًا من الله تعالى. وأما قوله: ﴿وَما يَسْطُرُون﴾ فهو إشارة إلى ما يقوم هذا القلم بتسطيره على اللّوح والكتاب، وإليه أشار تعالى بقوله: ﴿وَالطُّور(1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ(2) في‏ رَقٍّ مَنْشُورٍ[48].

ثمّ يبيّن الآملي حقيقة مهمّة جدًّا على مستوى آليّات ووسائل تحصيل المعرفة والموانع التي تحول دون حصولها. فأشار إلى أنّ العلائق الماديّة والنفسيّة هي الّتي تمنع من مطالعة ما هو مدوّن في العقل والنفس، وأنّه لولا هذا التعلّق بالجسد والأحوال الدنيويّة، لكانا مطالعَيْن على جميع ما في الكتابَيْن بلا أي مانع؛ كأرواح بعض الأنبياء والأولياء عليهم السلام. وبسبب تعلّق الروح والقلب بهذه التعلّقات والعلائق المادّيّة، “صارت التعلّقات بينهما وبين الكتابَيْن كالسحاب الحائل بين شعاع الشمس والقمر وبين الأرض والبلدان التي هي عليها. فكما أنّ ارتفاع السحاب يكون موجبًا لإضاءة الأرض والبلدان بنور الشمس والقمر، فكذلك يكون قطع التعلّقات الدنيويّة موجبًا لإفاضة العقل والنفس العلوم بأسرها على الروح والقلب”[49]. وهكذا نكون قد بيّنّا أهمّ تجلّيات ومظاهر المعرفة ومصادرها من وجهة نظر العارف ورؤيته الخاصّة، وبعض الموانع التي تحول دون حصولها وتنزّلها.

 

3.   كيفيّة حصول المعرفة عند العارف:

قبل الحديث في خصائص المعرفة العرفانيّة، علينا أن نتوقّف قليلًا عند مسألة مُهمّة، وهي كيفيّة حصول العلم عند العارف، والباعث الحقيقي على طلبه. وهو من الأبحاث المُهمّة الّتي يكشف الغوص فيها عن معانٍ وأبعادٍ جديدة للمعرفة. ومرادنا بالعلم هنا مطلق الإدراك الأعمّ من المعرفة والتعقّل، لذا فإنّه  يشمل بطبيعة الحال المعرفة أيضًا. “فمطلق الإدراك اسم لحقيقة اتّصال المدرِك بالمدرَك وهو كالجنس، والعلم والمعرفة والتعقّل والإحساس بالسمع والبصر وسائر القوى والآلات كلّها ألقاب وصفات لمطلق الإدراك، يحدث ويتعيّن بحسب تقيّده بالآلات المتوسّطة من المدرِك والمدرَك، وبحسب المراتب والمحال التي يقع فيها الإدراك فيتقيّد لديها”[50].

لقد تحدّث العديد من العرفاء عن حقيقة المعرفة والعلم وكيفيّة تحقّقهما، ومن هؤلاء العرفاء الّذين أولوا هذا الموضوع عناية خاصّة “صدر الدين القونوي” في كتابَيْه “النفحات الإلهيّة” و”إعجاز البيان في تفسير أمّ القرآن”، وسوف نحاول بشكل مختصر أن نبيّن وجهة نظر العارف في هذا الخصوص.

بناءً لمشرب المحقّقين من العرفاء، إنّ تحقُّق العلم متوقّف على أمرَيْن أساسيَّيْن: الأوّل وجود جهة اتّحاد ومناسبة بين العالِم والمعلوم، والثاني وجود جهة تمايز ومغايرة بينهما. فعمليّة المعرفة لا يمكن أن تحصل إلّا بوجود هذَيْن الشرطَيْن؛ جهة الاشتراك وجهة الاختلاف بين العالم والمعلوم، ولكنّه ليس اتّحادًا تامًّا ولا تمايزًا تامًّا أيضًا.

فعند العارف لكي يحصل العلم بشيء ما كائنًا ما كان، ينبغي أن يكون بين العالِم والمعلوم نوع من المناسبة تقتضي الشعور بما يراد معرفته من قبل العالم، وتكون هذه المناسبة أيضًا سببًا لإيجاد الأرضيّة الصالحة للاتصال والترابط المعرفي بينهما، لاستحالة إيجاد العلقة بين أمرَيْن متباينَيْن تباينًا كليًّا. فالإنسان إذا طلب معرفة شيء ما فإنّما يطلبه لوجود جهة مناسبة واشتراك بينهما. أمّا إذا انتفت المناسبة بينهما من كلّ وجه استحال الطلب، إذ إنّ المجهول مطلقًا لا يمكن أن يكون مطلوبًا بأيّ شكلٍ من الأشكال لعدم وجود جهة الاتّحاد والاشتراك معه.

كما أنّ جهة الاتّحاد بين العالِم والمعلوم ينبغي أن لا تكون تامّة؛ لأنّ ثبوت المناسبة بينهما من كلّ الوجوه سيكون مانعًا من طلب المعرفة، لاستحالة طلب ما هو حاصل ومتحقّق بسبب الاشتراك التامّ بينهما. لذا من وجهة نظر العارف لكي تكتمل دائرة المعرفة والعلم بالشيء، لا بدّ من وجود مغايرة واختلاف بين العالِم والمعلوم أيضًا بموازاة جهة الاشتراك؛ لأنّ المغايرة هي العامل الّذي يدفع العالِم للبحث عن جهة الفقدان العلمي والمعرفي الّذي يبحث عنه. فحكم المغايرة والتباين الجزئي بينهما لا الكلّي، إشارة إلى الفقد المقتضي للطلب.

يقول “القونوي” في “النفحات الإلهيّة” مبيّنًا حقيقة العلم وكيفيّة حصوله: “اعلم أنّ العلم بالشي‏ء- أيّ شي‏ء كان – بالذوق الصحيح والكشف الكامل الصريح، عبارة عن استجلاء العالِم ذلك المعلوم في نفسه بالقدر المشترك‏ بين العالِم والمعلوم الّذي من جهته يتّحدان فلا يتغايران، وعبارة أيضًا عن استجلائه من حيث الأمر المميّز للمعلوم عن العالِم، القاضي بأن يُسمّى أحدهما معلومًا والآخر عالمًا، إذ لا تسمية في الأحديّة ولا تعداد.

ولا بدّ أيضًا في هذا القسم الثاني القاضي بالتمييز من معنى يقتضي الاشتراك‏ بين العلم والعالِم والمعلوم وهو التمييز، وأمر آخر لازم له لا يجوز إظهاره. فأوّل المراتب التي من جهتها وبحكمها يثبت العلم هو التعدّد والتمييز. وآخرها التي بها يكمل صورة العلم ومرتبته وأحكامه هو الاتّحاد بالمعلوم من حيث الأمر الجامع بينهما، والّذي من جهته تثبت المناسبة الذاتيّة الرافعة حكم المغايرة والتعدّد من البين، فلا يتميّزان بعد إلّا باعتبار الآخر المنبّه عليه في المرتبة الأولى”[51].

ولكن وجود جهة الاشتراك والاختلاف بين العالِم والمعلوم ليست لوحدها السبب الحقيقي والكافي لحصول العلم، بل هما في الحقيقة جزء من العلّة. فلكي يتحقّق العلم ويصبح واقعيًّا، لا بدّ من تحقّق إضافة مهمّة مع الشرطَيْن الآنفَيْ الذكر. وهذه الإضافة هي غلبة جهة الاتّحاد والاشتراك على جهة التمايز والاختلاف. بمعنى أنّ حصول العلم ليس متوقّفًا فقط على وجود جهة الفقدان والوجدان بين العالِم والمعلوم، فهذا لوحده ليس كافيًا، بل لا بدّ من غلبة أحدهما على الآخر حتّى يتحقّق العلم بالشيء أو الجهل به. فإذا رجّحت كفّة الاتّحاد والاشتراك على كفّة التمايز والاختلاف بين العالم والمعلوم؛ تحقّق العلم به، وإذا كانت الغلبة لجهة التمايز، تحقّق الجهل به. وتختلف درجات العلم بالشيء والجهل به شدّة وضعفًا بحسب قوّة غلبة كلّ من الجهتين على بعضهما البعض، كما يقول “القونوي” أيضًا:

“وإذا عرفت هذا فاعلم أنّ علّة جهل الإنسان بموجود ما إنّما هي غلبة أحكام ما به يتميّزان من الأوصاف والمراتب والخصوصيّات ونحو ذلك، فمتى ظهرت غلبة ما به يتّحدان وتزول أحكام التمايز؛ علم الطالب للمعرفة منهما- بعد توجهه وقصده- ما رام معرفته من ذلك الأمر كان ما كان. ثمّ إنّ أحكام ما به الامتياز بين الشيئين إن ارتفعت بالكليّة كملت المعرفة وصحت، وإن ارتفع بعضها دون البعض، صار ذلك الشي‏ء عند الطالب معرفته؛ معلومًا من وجه أو وجوه، مجهولًا به من حيث ما سوى الوجوه الزائلة أحكامها الظاهرة غلبة حكم ما يقتضي الاتحاد والاشتراك من حيث هي”[52].

 

 

 

 

[1] – سورة النور، الآية 35.

[2] – سورة النساء، الآية 126.

[3] – سورة الحشر، الآية 24.

[4] – سورة العلق، الآية5.

[5] – سورة البقرة، الآية31.

 [6]- الآملي، حيدر: رسالة نقد النقود في معرفة الوجود، مرجع مذكور، ص685.

[7]– الأصفهاني، صائن الدين: تمهيد القواعد، مرجع مذكور، ص270.

[8]– المرجع نفسه، ص 272.

[9]– الأصفهاني، صائن الدين: تمهيد القواعد، مرجع مذكور، ص272.

[10]– سورة الأنعام، الآية59.

[11]– الأصفهاني، صائن الدين: تمهيد القواعد، مرجع سابق، ص273.

[12]– الفناري، حمزة: مصباح الأنس، مرجع مذكور، ص191.

[13]– الأصفهاني، صائن الدين: تمهيد القواعد، مرجع مذكور، ص271.

[14]– المرجع نفسه، ص273-274.

[15]– الآملي، حيدر: جامع الأسرار ومنبع الأنوار، مرجع مذكور، ص198.

[16]– الأصفهاني، صائن الدين: تمهيد القواعد، مرجع مذكور، ص288 و290.

[17]– سورة الحديد، الآية3.

[18]– سورة هود، الآية123.

[19]– سورة الحديد، الآية4.

[20]– سورة آل عمران، الآية2.

[21]– سورة المائدة، الآية64.

[22]– سورة ص، الآية75.

[23]– الآملي، حيدر: جامع الأسرار ومنبع الأنوار، مرجع مذكور، ص547.

[24]– سورة البقرة، الآية282.

[25]– سورة النساء، الآية113.

[26]– الآملي، حيدر: جامع الأسرار ومنبع الأنوار، مرجع مذكور، ص538.

[27]– الأصفهاني، صائن الدين: تمهيد القواعد، مرجع مذكور، ص315-316.

[28]– انظر: القونوي، صدر الدين: النفحات الإلهيّة، مرجع مذكور، ص258.

[29]– سورة فصلت، الآية 53.

[30]– سرة طه، الآية7.

[31]– سورة طه، الآية114.

[32]– الآملي، حيدر: جامع الأسرار ومنبع الأنوار، مرجع مذكور، ص518.

[33]– سورة الإسراء، الآية110.

[34]– سورة البقرة، الآية282.

[35]– سورة الرحمن، الآيتان1-2.

[36]– سورة البقرة، الآية31.

[37]– القيصري، داود: شرح فصوص الحكم، مرجع مذكور، ج1، ص114.

[38]– سورة الأنفال، الآية29.

39- سورة الرحمن، الآيتان1-2.

[40]– سورة الإسراء، الآية110.

[41]– الآملي، حيدر: جامع الأسرار ومنبع الأنوار، مرجع مذكور، ص546.

[42]– المرجع نفسه، ص568.

[43]– القيصري، داود: شرح فصوص الحكم، مرجع مذكور، ج1، ص109.

[44]– الآملي، حيدر: جامع الأسرار ومنبع الأنوار، مرجع مذكور، ص534. انظر أيضاً: القيصري، داود: شرح فصوص الحكم، مرجع مذكور، ج1، ص52 و 112.

[45]– سورة الرحمن، الآيات1 إلى4.

[46]– سورة العلق، الآيات3 إلى 5.

[47]– سورة القلم، الآية1.

[48]– سورة الطور، الآيات1إلى3.

[49]– الآملي، حيدر: جامع الأسرار ومنبع الأنوار، مرجع مذكور، ص535.

[50]– القونوي، صدر الدين: النفحات الإلهيّة، تصحيح وتقديم: محمد خواجوي، منشورات مولى، طهران، 1384ش/ 1426ق، ط2، ص133-134.

[51]– القونوي، صدر الدين: النفحات الإلهيّة، مرجع مذكور، ص133-134.

[52]– المرجع نفسه، ص32.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى