ماهيَّة العرفان ووعلاقته بالتصوُّف
د. فادي ناصر
أستاذ الفلسفة والدراسات الإسلاميَّة في جامعة المعارف – لبنان.
1. العرفان لغةً واصطلاحًا
- العرفان لغةً:
العرفان في اللّغة يُطلق على العلم، كما أشار أرباب اللّغة، فقالوا: “العرفان” مشتقٌّ من مادّة “عرف”، فهو و”المعرفة” بمعنى واحد، ومعناه العلم. ويقول “الفيروزآبادي” في “القاموس المحيط”: “عرفه، يعرفه معرفة، وعرفانًا، وعرفةً وعِرِفّانًا، بكسرتيْن مشدّدة الفاء: عَلِمَه، فهو عارف…”[1]. وقال “ابن منظور” في معنى كلمة “عرف” أنّها “العرفان: العلم”[2].
وفي كون المعرفة والعلم متمايزين أو لا كلامًا بين أهل اللّغة. فمنهم من ذهب إلى أنّ المعرفة في رتبة العلم وهي مساويةٌ له، كما في تعريف “ابن منظور” و”الفيروز آبادي”، وكما يظهر في بعض تعليلات “أبو هلال العسكري” في الفروق اللغوية؛ حيث يقول إنّه “قد يُستفاد من كلام الشيخ الرئيس في بعض مصنّفاته أنّهما – أي العلم والمعرفة – مترادفان. وإليه ذهبت جماعةٌ من أهل اللّغة وأرباب الأصول. ويشهد لذلك قول سيّد الساجدين في الصحيفة الكاملة: “وقد أحصيتهم بمعرفتك”. فإنّه أطلق المعرفة عليه – سبحانه – ويمكن أن يُراد بها العلم هنا تجوّزًّا”[3].
ومنهم من ذهب إلى أنّ المعرفة أخصّ من العلم، كما قال “الرّاغِبُ”: “المَعرِفةُ والعِرْفان: إدراكُ الشيء بتفكُّرٍ وتدبُّرٍ لأَثَرِهِ، فهي أَخصُّ من العلم، ويُضادُّه الإِنكارُ. ويقال: فلانٌ يعرِفُ الله ورسوله، ولا يُقال: يعلم الله، متَعدِّيًا إلى مفعولٍ واحد لمّا كانت مَعرِفةُ البشر لله تعالى هي تَدبُّر آثاره دون إدراك ذاته. ويُقال: الله يعلم كذا، ولا يقال: يَعرِفُ كذا؛ لما كانت المَعرِفة تُستعمَل في العلم القاصر المُتَوَصَّل إليه بتفكُّر، وأصله من عَرَفْتُهُ، أَي: أصبت عَرْفه: أَي رائِحَته، أَو من أَصَبتُ عَرْفَه أي خَدِّهُ فهو عارِفٌ”[4].
ومنهم من ذهب إلى أنّ المعرفة أعظمُ شأنًا ورتبةً من العلم؛ “لأنّ الشيء ما لم يُعرف لم تُطلب ماهيّته. فعلى هذا، كلّ عارفٍ عالمٌ من دون عكس. ولذلك كان الرجل لا يُسمّى عارفًا إلّا إذا توغّل في بحار العلوم ومبادئها، وترقّى من مطالعها إلى مقاطعها، ومن مبادئها إلى غاياتها بحسب الطاقة البشريّة”[5].
وفي المحصّلة النهائيّة، سواء أكانت المعرفة في رتبة العلم أو تدوّنه أو أعلى منه، فإنّ العرفان في اللّغة مشتقٌّ من المعرفة، والمعرفة هي الإدراك والعلم بالشيء، كما يقول “الجرجاني”: “المعرفة إدراك الشيء على ما هو عليه”[6]، وإن كان نوعًا خاصًّا من العلم والإدراك، وهو الإدراك الحاصل بالوحي والإلهام، كما سوف يتبيّن في المعنى الاصطلاحي للكلمة.
- العرفان اصطلاحًا:
إذًا العرفان لغةً مشتقٌّ من “المعرفة” ويعني العلم، أمّا اصطلاحًا وبحسب ما ورد في نصوص وكلمات أعلام هذه المدرسة، فيُطلق على لونٍ خاصٍّ من المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاته، وبالوجود، وهي المعرفة الحاصلة عن طريق المشاهدة القلبيّة، لا بواسطة العقل، ولا بواسطة التجربة الحسيّة. فهي معرفةٌ مباشرةٌ تتجاوز الحسّ، وهي أبعد من العقل، وتحصل من خلال رفع الموانع وكشف الحجب عن القلب، من خلال السير والسلوك، والجذبة القلبيّة.
بمعنى آخر، العرفان اصطلاحًا؛ حركةٌ فكريّةٌ وسلوكيّةٌ معنويّةٌ قائمةٌ على المعرفة. فهي رؤيةٌ فكريّةٌ، وعلميّةٌ، ودينيّةٌ عميقةٌ، تسعى إلى معرفةٍ مباشرةٍ وتفصيليّةٍ بالله تبارك وتعالى، وبحقائق وأسرار عالم الوجود الكوني والإنساني معًا، وفق منهجٍ وبناءٍ معرفيٍّ، أساسه الإشراق الباطني والكشف والشهود القلبي.
يسعى العارف من خلال الكشف والشهود القلبي للوصول إلى المعرفة بالحقّ تعالى وبأسمائه وصفاته، وتجليّاته ومظاهره، وبحقائق الوجود الكوني والإنساني. وعلى هذا النحو، يقف العارف على باطن الحقائق وغيب العوالم، محاولًا معرفة واكتناه الوحدة الأصيلة الكامنة وراء ظواهر الوجود المتكثّرة. وطريقه إلى هذه المعرفة ومنهجه هو طهارة الباطن وتخليته من الحجب والموانع الأنفسيّة والأهوائيّة والدنيويّة، حتّى يصبح هذا الباطن أهلًا للإشراقات والفيوضات الغيبيّة الإلهيّة.
فالمعرفة عند العارف “صفةُ من عرف الحقّ بأسمائه وصفاته، ثمّ صدق الله في معاملاته، ثمّ تنقّى من أخلاقه الرديئة وآفاقه، ثمّ طال بالباب وقوفه، ودام بالقلب اعتكافه، فحظي من الله بجميل إقباله، وصدّق الله في جميع أحواله، وقطع عنه هواجس نفسه، ولم يصغ بقلبه إلى خاطرٍ يدعوه إلى غيره، فإذا صار عن الخلق أجنبيًّا، ومن آفات نفسه بريئًا، ومن المساكنات والملاحظات نقيًّا، وداوم في السرّ مع الله مناجاته، وحقّق في كلّ لحظةٍ إليه رجوعه، وصار محدّثًا من قبل الحقّ، بتعريف أسراره، وممّا يحويه من تصاريف أقداره، تسمّى عند ذلك عارفًا، وتُسمّى حالته معرفة”[7].
- نبذة من أقوال العرفاء حول معنى العرفان:
فيما يلي، نذكر نبذة من أقوال العرفاء حول معنى العارف والعرفان.
يعرّف عبد الرزّاق الكاشاني[8] “العارف” في اصطلاحاته فيقول: “العارف من أشهده الله ذاته وصفاته وأسماءه وأفعاله، فالمعرفة حالٌ تحدث من شهوده”[9].
ويعرّفه ابن عربي[10] أيضًا فيقول:
“من أشهده الربّ – لا اسم غيره – نفسه فظهرت عليه الأحوال، والمعرفة حاله”[11].
وفي موضوعٍ آخر من الفتوحات المكيّة، يصف ابن عربي أحوال قلب العارف، وما يكتنزه من معرفةٍ وعلمٍ بالحقّ فيقول:
“جعل الله في قلب العارف كنز العلم بالله، فشهد لله بما شهد به الحقّ لنفسه من أنّه لا إله إلّا الله، ونفى هذه المرتبة عن كلّ ما سواه فقال: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ﴾[12] فجعلها كنزًا في قلوب العلماء بالله”[13].
ويعرّف ابن سينا العارف أيضًا فيقول:
“المُعرِض عن متاع الدنيا وطيّباتها يخصّ باسم الزاهد، والمُواظب على فِعل العبادات من القيام والصيام ونحوهما يخصّ باسم العابد، والمُتصرّف بفكره إلى قدس الجبروت مستديمًا لشروق نور الحقّ في سرّه يخصّ باسم العارف”[14].
وفي تعليقته على كتاب “فصوص الحكم”، يحصر “أبو العلاء العفيفي” إمكانيّة معرفة الله تعالى بفئةٍ من النّاس يُطلق عليها تسمية العرفاء، فيقول:
“لا يُعرف الحقّ سبحانه من حيث ذاته، فهي الكنز المخفيّ الّذي أشرنا إليه مرارًا، وإنّما يُعرف من حيث صفاته وأسمائه متجلّية في صفحة الوجود، فلا يعرف أحدٌ من الله إلّا بقدر ما يعرف من الوجود، ويجهل كلّ واحدٍ من الله بقدر ما يجهل من الوجود. فمعرفة الحقّ إذًا متوقّفةٌ على العارف، ووجود العارف متوقفٌ على الحقّ”[15].
ويذكر “الجامي”[16] في “نفحات الإنس” ماهيّة العارف الحقيقيّ، ويبيّن الهدف الأساس من المعرفة والعرفان ويحدّده بتوحيد الله تعالى ومعرفة ذاته عزّ وجلّ، ومعرفة صفاته وأفعاله على نحوٍ تفصيليٍّ وعينيٍّ لا فقط إجماليٍّ وكليٍّ. قال: “المعرفة عبارةٌ عن أن يعرف المجمل في صور التفاصيل… فمعرفة الله عبارةٌ عن أن يعرف ذاته وصفاته في صورة التفاصيل والأحوال، والحوادث، والنوازل بعد معرفة الإجمال، وهي ألّا موجود حقيقةً، ولا فاعل مطلقًا إلّا هو ليصير توحيده الإجماليّ توحيدًا تفصيليًّا عينيًّا”[17]. ثمّ يبيّن الجامي أيضًا حدود هذه المعرفة الإلهيّة عند العارف، ومراتبها، ويحدّدها بأربع مراتب أساسيّة:
“أوّلها: أن يعرف كلّ أثرٍ من الفاعل المطلق بالذوق والوجدان.
وثانيها: أن يعرف أنّ جميع الآثار من الفاعل المطلق جلّ ذكره، وينسب باليقين إلى الصفة المؤثّرة.
وثالثها: أن يعرف مراد الحقّ من التجلّي في جميع صفاته تعالى.
ورابعها: أن يعرف وصف العلم في ذاته، وينفي نفسه من دائرة العلم والمعرفة، بل الوجود جميعًا”[18].
النتيجة: إذًا، كلمتا “العرفان” و”المعرفة” من الناحية اللّغويّة لهما معنى واحد هو العلم، والعارف لغة مصدر “عرف”. وهذه المعرفة يمكن أن تكون حاصلةً عن طريق الحسّ، أو العقل، أو النقل، أو القلب. أما العرفان اصطلاحًا فهو نوعٌ من المعرفة الحضوريّة واللّدنيّة الخاصّة بالله تعالى وصفاته وأفعاله. وهي لا تحصل عن طريق الحسّ والتجربة والعقل، بل من خلال الإدراك القلبي والكشف والتلقين الباطني. فالعرفان اصطلاحًا يختصّ بمعرفة خاصّة لا تتأتّى عن طريق الحسّ والتجربة، أو العقل والنقل، بل تحصل عن طريق الكشف والشهود القلبي، وهو نحو من المعرفة الحاصلة من دون توسّط أي واسطة، بل المعلوم يكون حاضرًا مباشرة وبذاته، ويُسمّى هذا النحو من العلم بالعلم الحضوري. بخلاف العلم الحصولي الّذي يحصل عن طريق المفاهيم الذهنيّة بواسطة الاستدلال والبرهان العقلي.
والمعارف والعلوم الحضوريّة عديدة، فلا يُقال لكلّ علمٍ حضوريٍّ عرفاناً، بل العرفان عبارةٌ عن معرفة الله تعالى، صفاته وأفعاله، معرفةً الّتي لا تحصل عن طريق الفكر والاستدلال، بل تحصل عن طريق الإدراك القلبي والتلقّي الباطني. بمعنى آخر، العرفان يعني معرفة الله، ولكن ليس حسًّا ولا عن طريق العقل والبرهان، بل عن طريق القلب، ومعاينة حضوره في عمق الروح.
2. معنى التصوّف ومنشؤه
اختلفوا في معنى التصوّف، أصله، ومنشؤه، اختلافًا واسعًا، فلا نجد تعريفًا واحدًا جامعًا متّفقًا عليه على كلا المستوييْن اللّغوي والاصطلاحي[19]. فمنهم من قال إنّ التصوّف مشتقٌّ من لباس الصوف، ومنهم من قال إنّه مأخوذٌ من الصفاء، والصفاء هو خلوص القلب والباطن من الشهوات والأخلاق الذميمة. ومنهم من قال إنّهم سُمّوا بالصوفيّة لأنّهم في الصفّ الأوّل. ومنهم من قال إنّهم سُمّوا بالصوفيّة لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفة؛ وهم فقراء المسلمين من المهاجرين في الصدر الأوّل الإسلامي، الّذين اختصّوا بالسكنى في صفّ مسجد رسول الله (ص). وهنالك رأيٌ يقول إنّ هذه التسمية مشتقّة من اسم رجلٍ يُدعى “الغوث بن بركان”، يرجع إلى العصر الجاهلي، أي قبل الإسلام بقرون عدّة؛ حيث كان منقطعًا إلى العبادة، وخدمة الكعبة، وقد أطلق عليه “صوفي” وعرف بهذا اللّقب طوال حياته. وحاول البعض أن يربط بين كلمة “صوفي” العربيّة وكلمة “صوفيا” اليونانيّة، والّتي تعني الحكمة، وأن يقارن بين الكلمتيْن.
وقد تتبّعنا أمّهات الكتب والمراجع الصوفيّة الّتي قامت عليها هذه المدرسة، والتي اعتبرها الدكتور “عبد الحليم محمود” في مقدّمته على كتاب “اللّمع” لـأبي نصر السراج الطوسي[20]، حيث قال: “إنّ مدرسة المعرفة الصوفيّة النقيّة، حمل اللواء فيها، السراج، والقشيري، والهجويري، والسلمي، والكلاباذي”[21]، بالإضافة إلى كتبٍ أخرى كتبت حول التصوّف، ولكن لم نجد فيها تعريفًا محدّدًا للتصوّف شاملًا ومانعًا، بل تعاريف متنوّعة ومختلفة فيما بينها.
وقد حاول الأستاذ “نيكلسون” أن يجمع ما يربو على مئة تعريف للتصوّف، ورجا من ذلك أن تدلّه التعاريف – بعد ترتيبها الزمني – على تطورات التصوّف الإسلامي، فلم يأت عمله بنتيجة قيّمة، وقد أحسّ هو نفسه بعقم الاتّجاه الّذي اتّجهه. فعاد وصرّح فيما بعد: “إنّ التعاريف المتعدّدة للصوفيّة الّتي وردت في الكتب العربيّة والفارسيّة، وإن كانت ذات فائدةٍ تاريخيّة، فإنّ أهمّيتها الرئيسيّة في أنّها تعرض الصوفيّة على أنّه غير ممكنٍ تحديدها”[22].
وسوف نستعرض أهمّ ما ورد من تعريفات للتصوّف، دون الدخول في المناقشات التفصيليّة لكلّ تعريف منعًا للإطالة، لكونه يخرجنا عن مجال البحث. بل سنكتفي بعرضٍ مجملٍ لما ذكر حول كلمة التصوّف من تعريفاتٍ، وسبب إطلاق هذه التسمية عليها. فعلى الرغم من صعوبة عرض تعريفٍ علميٍّ واحدٍ وشاملٍ للتصوّف يستوعب كلّ صوره، لكن من المفيد أن نتعرّض لجملةٍ منها:
أوّلًا: بهدف الوصول إلى تفسيرٍ منطقي لهذا الاختلاف الواسع لماهيّة هذا العلم.
ثانيًا: من أجل استكشاف أقرب التعاريف الّتي يمكن أن توضح لنا معنى التصوّف، وتحدّد لنا غايته.
قال “معروف الكرخي”[23] (ت 200ه) في تعريف التصوّف: “التصوّف هو الأخذ بالحقائق
واليأس ممّا في أيدي الخلائق”[24].
وسُئل “الجنيد”[25] (ت297ه) عن التصوّف فقال: “تصفية القلب عن موافقة البريّة، ومفارقة الأخلاق الطبيعيّة، وإخماد الصفات البشريّة، ومجانبة الدواعي النفسانيّة، ومنازلة الصفات الروحانيّة، والتعلّق بالعلوم الحقيقيّة، واستعمال ما هو أولى على الأبديّة، والنصح لجميع الأمّة، والوفاء لله على الحقيقة، واتّباع الرسول (ص) في الشريعة”[26].
وقال “أبو نصر السرّاج الطوسي” في كتابه “اللّمع” (ت 387ه): “أمّا التصوّف ونعته وماهيّته فقد سُئل محمّد بن علي القصّاب، وهو أستاذ الجنيد (رحمه الله) عن التصوّف: ما هو؟ قال: أخلاقٌ كريمة ظهرت في زمانٍ كريمٍ من رجلٍ كريمٍ مع قومٍ كرام”[27]. ولبعض المشايخ أيضًا في التصوّف ثلاثة أجوبة كما قال الطوسي: “جواب بشرط العلم، وهو تصفية القلوب من الأكدار، واستعمال الخلق مع الخليفة، واتّباع الرسول في الشريعة. وجواب بلسان الحقيقة، وهو عدم الأملاك، والخروج من رقّ الصفات والاستغناء بخالق السماوات. وجوابٌ بلسان الحقّ، أصفاهم بالصفاء عن صفاتهم، وصفاهم من صفاتهم، فسمّوا صوفيّة”[28].
ويذكر لنا “الكلاباذي”[29] (ت 380ه) في كتابه “التعرّف لمذهب أهل التصوّف” – بشكلٍ مختصرٍ – نبذةً عن هذه التعريفات، وعلّلها؛ ليخلص في النهاية إلى معنى جامعٍ لهذه التسمية، يجمع بين كلّ هذه التعاريف؛ وهو التخلّي عن الدنيا، وعزوف النفس عنها، وترك الأوطان، ومنع النفوس حظوظها، وصفاء المعاملات، وصفوة الأسرار وانشراح الصدور، كما يقول:
“قالت طائفة إنّما سميّت الصوفيّة صوفيّةً لصفاء أسرارها ونقاء آثارها”. وقال بشر بن الحارث: “الصوفي من صفا قلبه لله”. وقال بعضهم: “الصوفي من صفت لله معاملته، فصفت له من الله عزّ وجل كرامته”.
وقال قومٌ إنما سمّوا صوفيّة لأنّهم في الصفّ الأوّل بين يديّ الله جلّ وعزّ بارتفاع همّهم إليه، وإقبالهم بقلوبهم عليه، ووقوفهم بسرائرهم بين يديه. وقال قوم إنّما سمّوا صوفيّة لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفّة الّذين كانوا على عهد رسول الله (ص). وقال قوم إنّما سمّوا صوفيّة للبسهم الصوف.
وأمّا من نسبهم إلى الصفّة والصوف فإنّه عبّر عن ظاهر أحوالهم، وذلك أنّهم قومٌ قد تركوا الدنيا فخرجوا من الأوطان، وهجروا الأخدان، وساحوا في البلاد، وأجاعوا الأكباد، وأسرّوا الأجساد، لم يأخذوا من الدنيا إلّا ما لا يجوز تركه من ستر عورة، وسدّ جوعة، فلخروجهم عن الأوطان سمّوا غرباء، ولكثرة أسفارهم سمّوا سيّاحين. ومن سياحتهم في البراري وإيوائهم إلى الكهوف عند الضرورات سمّاهم بعض أهل الديار شكفتيّة، والشكفت بلغتهم الغار والكهف…ووصفهم السرّي السقطي[30] فقال: “أكلهم أكل المرضى، ونومهم نوم الغرقى، وكلامهم كلام الخرقى، ومن تخلّيهم عن الأملاك سمّوا فقراء”. قيل لبعضهم من الصوفي؟ قال: “الّذي لا يَملك ولا يُملك. يعني لا يسترقّه الطمع”. وقال آخر: “هو الّذي لا يملك شيئًا وإن ملكه بذله”.
ومن لبسهم وزيّهم سمّوا صوفيّة لأنّهم لم يلبسوا لحظوظ النفس ما لان منه، وحسن منظره، وإنّما لبسوا لستر العورة فتحرّوا بالخشن من الشعر، والغليظ من الصوف.
ثمّ هذه كلّها أحوال أهل الصفّة الّذين كانوا على عهد رسول الله (ص)، فإنّهم غرباء فقراء مهاجرون، أخرجوا من ديارهم وأموالهم… قال الحسن البصري[31]: “لقد أدركت سبعين بدريًّا ما كان لباسهم إلّا الصوف. فلمّا كانت هذه الطائفة بصفة أهل الصفّة فيما ذكرنا، ولبسهم وزيّهم زيّ أهلها سمّوا صفيّة صوفيّة، ومن نسبهم إلى الصفة والصف الأوّل فإنّه عبّر عن أسرارهم وبواطنهم، وذلك أنّ من ترك الدنيا وزهد فيها وأعرض عنها صفّى الله سرّه ونوّر قلبه…”.
وسمّيت هذه الطائفة نوريّة لهذه الأوصاف، وهذا أيضًا من أوصاف أهل الصفّة. قال الله تعالى: ﴿فيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرين﴾[32]. والتطهّر بالظواهر عن الأنجاس وبالبواطن عن الأهجاس…فقد اجتمعت هذه الأوصاف كلّها ومعاني هذه الأسماء كلّها في أسامي القوم وألقابهم، وصحّت هذه العبارات وقربت هذه المآخذ. وإن كانت هذه الألفاظ متغيّرة في الظاهر، فإنّ المعانيَ متّفقة؛ لأنّها إن أخذت من الصفاء والصفوة كانت صفويّة، وإن أضيفت إلى الصفّ أو الصفة كانت صَفيّة أو صُفيّة، ويجوز أن يكون تقديم الواو على الفاء في لفظ الصوفيّة، وزيادتها من لفظ الصفيّة والصفيّة، إنّما كانت من تداول الألسن. وإن جُعل مأخذه من الصوف واستقام اللّفظ وصحّت العبارة من حيث اللّغة.
وجميع المعاني كلّها من التخلّي عن الدنيا وعزوف النفس عنها، وترك الأوطان ولزوم الأسفار، ومنع النفوس حظوظها، وصفاء المعاملات، وصفوة الأسرار، وانشراح الصدور وصفة السباق”[33].
وللهجويري[34] (ت465ه) – صاحب كتاب “كشف المحجوب” في بيان الاشتقاقات المتنوّعة لكلمة التصوّف – رأيٌ حيث يقول فيه: يقول الجنيد (رحمه الله): “التصوّف نعتٌ أقيم العبد فيه”. قيل: “نعت للعبد، أم نعتٌ للحقّ؟”، فقال: “نعت الحقّ حقيقة، ونعت العبد رسمًا. أي إنّ حقيقة التصوّف تقتضي فناء صفة العبد، وفناء صفة العبد يكون ببقاء صفة الحقّ، وهذا نعت الحقّ، ورسمه يقتضي دوام مجاهدة العبد، والمجاهدة صفة العبد…”. ويقول أبو الحسين النوري (رحمه الله): “التصوّف ترك كلّ حظ النفس…”.
ويقول أبو الحسين النوري (رحمه الله): “الصوفيّة هم الّذين صفت أرواحهم فصاروا في الصفّ الأوّل بين يديّ الحق”. أي إنّ الصوفيّة هم أولئك الّذين تحرّرت أرواحهم من كدورة البشريّة، وصفوا من الآفات النفسيّة، وخلصوا من الهوى، حتّى استقرّوا في الصفّ الأوّل والدرجة الأعلى مع الحقّ، ونفروا من الغير. ويقول أيضًا رحمه الله: “الصوفي: الّذي لا يَملك ولا يُملك”. وهذا عبارة عن عين الفناء، ففاني الصّفة لا يكون مالكًا ولا مملوكًا؛ لأنّ صفة المُلك تصحّ على الموجودات.
المراد من هذا القول أنّ الصوفيَ لا يملك أيّ شيءٍ من متاع الدنيا وزينة العقبى، وهو نفسه لا يكون تحت حكم أو ملك نفسه، وهو يقطع سلطات إرادته عن الغير، ليقطع الغير عنه طبع العبوديّة. وهذا قولٌ لطيفٌ لمن يقولون بالفناء الكلّي.
ويقول ابن الجلاء رحمه الله: “التصوّف حقيقة لا رسم له”. وما هو رسمٌ من المعاملات نصيب الخلق، والحقيقة خاصّة بالحقّ؛ لأنّ التصوّف هو الإعراض عن الخلق، فلا يكون له رسمٌ لا محالة.
ويقول أبو عمر الدمشقي (رحمه الله): “التصوّف رؤية الكون بعين النقص، بل غضّ الطرف عن الكون”. يقول: “التصوّف هو أن لا تنظر إلى الكون إلّا بعين النقص، وهذا هو دليل بقاء الصّفة. وأن تغضّ الطرف عن الكون، وهذا هو دليل فناء الصّفة؛ لأنّ النظر من الكون، وحين لا يبقى الكون لا يبقى النظر أيضًا. وغضّ الطرف عن الكون هو بقاء البصيرة الإلهيّة، أي إنّ من لا يصير مبصرًا بنفسه يصير مبصرًا بالحقّ”[35].
أمام هذا التنوّع والاختلاف الكبير في أصل هذه التسمية ومعناها، هناك من نفى أن يكون للتصوّف أيّ اشتقاقٍ لغويّ، أو إمكانية أن يعرّف بتعريفٍ جامعٍ ومانع، معلّلين السبب في ذلك أيضًا.
فـ”القشيري”[36] (ت465ه) صاحب “الرسالة القشيرية” يرفض أن يكون لكلمة التصوّف أيّ اشتقاقٍ في اللّغة العربيّة، كما قال: “ثمّ هذه التسمية غلبت على هذه الطائفة”، فيقال: “رجل صوفي”، وللجماعة “صوفيّة”، ومن يتوصّل إلى ذلك يقال له “متصوّف”، وللجماعة “المتصوّفة”.
ولا يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياسٌ ولا اشتقاق. والأظهر فيه أنّه كاللّقب، فأمّا قول من قال: إنّه من الصوف، ولهذا يقال: تَصوّفَ إذا لبس الصوف كما يقال تقمَّص إذا لبس القميص، فذلك وجه. ولكنّ القوم لم يختصّوا بلبس الصوف!! ومن قال: إنّهم منسوبون إلى صفّة مسجد رسول الله (ص)، فالنسبة إلى الصفّة لا تجيء على نحو الصوفيّ!! ومن قال: إنه مشتقّ من الصفاء، فاشتقاق الصوفيّ من الصفاء بعيدٌ في مقتضى اللّغة. وقول من قال: إنه مشتقٌّ من الصّفّ، كأنّهم في الصفّ الأول بقلوبهم فالمعنى صحيح، ولكنّ اللّغة لا تقتضي هذه النسبة إلى الصفّ. ثمّ إنّ هذه الطائفة أشهر من أن يحتاج في تعيّنهم إلى قياس لفظٍ واستحقاق اشتقاق. وتكلّم الناس في التصوّف: ما معناه؟ وفي الصوفي: من هو؟ فكلّ عبّر بما وقع له”[37].
و”الكلاباذي” نفسه أيضًا يصرّح على الرغم من محاولته لتقديم تعريفٍ للتصوّف، إلّا أنّه يقرّ في النهاية بعدم إمكان ذلك معلّلًا:
“لأنّ الصوفيّة لم ينفردوا بنوعٍ من العلم دون نوعٍ، ولم يترسّموا برسمٍ من الأحوال والمقامات دون رسم، وذلك لأنّهم معدن جميع العلوم، ومحلّ جميع الأحوال المحمودة، والأخلاق الشريفة، سالفًا مستأنفًا، وهم مع الله تعالى في الانتقال من حالٍ إلى حال، مستجلبين للزيادة، فلمّا كانوا في الحقيقة كذلك لم يكونوا مستحقّين اسمًا دون اسم، فلأجل ذلك ما أضفت إليهم حالًا دون حال، ولا أضفتهم إلى علمٍ دون علم، لأنّي لو أضفت إليهم في كلّ وقتٍ حالًا (هو) ما وجدت الأغلب عليهم من الأحوال والأخلاق والعلوم والأعمال وسمّيتهم بذلك؛ لكان يلزم أن أسمّيَهم في كلّ وقتٍ باسمٍ آخر، وكنت أضيف إليهم في كلّ وقتٍ حالًا دون حال على حسب ما يكون الأغلب عليهم. فلمّا لم يكن ذلك، نسبتهم إلى ظاهر اللّبسة؛ لأنّ الصوف دأب الأنبياء (عليهم السلام) وشعار الأولياء، والأصفياء، وتكثر في ذلك الروايات والأخبار، فلمّا أضفتهم إلى ظاهر اللّبسة كان ذلك اسمًا مجملًا عامًّا مخبرًا عن جميع العلوم والأعمال والأخلاق والأحوال الشريفة المحمودة”[38].
وللـ”هجويري” في المسألة أيضًا رأيٌ مشابهٌ لرأي الكلاباذي والقشيري، يقول فيه:
“وقد تكلّم النّاس في تحقيق هذا الاسم كثيرًا، وألّفوا كتبًا في ذلك. وقالت جماعة إنّ الصوفيّ يُسمّى بالصوفيّ لأنّه يلبس ثياب الصوف، وقالت جماعة إنّهم سُمّوا صوفيّةً لأنّهم في الصفّ الأوّل، وقالت طائفةٌ إنّهم سمّوا كذلك لأنّهم يتولّون أهل الصفّة، وقال آخرون إنّ هذا الاسم مشتقٌّ من الصفاء. ولكنّ هذا الاسم – على مقتضى اللغة – بعيدٌ عن هذه المعاني. والصفاء في الجملة محمود، وضدّه الكدر. وقد قال الرسول (ص): “ذهب صفو الدنيا وبقي كدرها””[39].
وبعد هذا العرض لتحقيق الاسم، يستنتج “الهجويري: أنّ: “اشتقاق هذا الاسم لا يصحّ على مقتضى اللّغة من أيّ معنى؛ لأنّ هذا الاسم أعظم من أن يكون له جنس منه، وهم يشتقّون الشيء من شيءٍ مجانس له، وكلّ ما هو كائنٌ ضدّ الصفاء، ولا يُشتقّ الشيء من ضدّه. وهذا المعنى أظهر من الشمس عند أهله، ولا يحتاج إلى العبارة؛ لأنّ الصوفيّ ممنوعٌ عن العبارة والإشارة. وحين يكون الصوفيّ ممنوعًا عن كلّ العبارات، فإنّ العالم كلّهم معبّرون عنه، عرفوا أو لم يعرفوا، وأيّ خطرٍ يكون للاسم في حال حصول المعنى؟”[40].
ويعلّل سبب هذا التنوّع في التعريف فيقول: “قد أوردت هذا القدر من تعريفات المشايخ وأقوالهم (رحمهم الله) في هذا الكتاب في باب التصوّف هذا، لينفتح عليك – أسعدك الله – طريقه وتقول للمنكرين: ما مرادكم من إنكار التصوّف؟ فإن كانوا ينكرون الاسم المجرّد فلا ضير؛ لأنّ المعاني تكون في حقّ التسميات غريبة، وإن كانوا ينكرون عين هذه المعاني، يكونون قد أنكروا كلّ شريعة النبي (عليه السلام) وخصاله المحمودة”[41].
أمام هذه الصعوبة الواضحة في التوصّل إلى تعريفٍ موحّدٍ وجامعٍ للتصوّف، كان لا بدّ من الذهاب أكثر إلى استكشاف أسباب هذا الاختلاف الواسع، وتقديم تفسيرٍ منطقيٍّ له. والّذي يظهر بعد الاطّلاع على التعاريف المختلفة لكلمة التصوّف، أنّ كلّ تعريفٍ من هذه التعاريف يعبّر في الحقيقة عن حال المتصوّف المعنويّة، والمقام المعنوي الّذي وصل إليه. فممّا لا شكّ فيه أنّ المتصوّفة لم يكونوا على حالٍ واحد، ومقامٍ واحد، وهذا ما أثّر تأثيرًا كبيرًا في تنوّع التعاريف واختلافها اختلافًا شديدًا. فالتعريفات الكثيرة الّتي أوردها أبو نعيم في الحلّية، والسراج في كتاب “اللّمع”، والمكّي في “قوت القلوب”، والسهروردي في “عوارف المعارف”، والكلاباذي في “التعرّف”، وغيرهم في كتبهم؛ من جهة هي في الحقيقة تعبير كلّ واحدٍ منهم عن توجّهه الخاص، لا عن التصوّف كلّه بجملته. بمعنى آخر، كلّ تعريفٍ من هذه التعريفات وغيرها يعبّر عن جانبٍ أو عن جوانبٍ عدّة من التصوّف يتّفق مع مشرب صاحبه واتّجاهه الغالب عليه، كما هو واضحٌ وظاهر. فالصوفيّة لم يقصدوا من هذه التعريفات تعريف التصوّف تعريفًا علميًّا شاملًا يستوعب كلّ صوره وجزئيّاته، بل قصدوا بها التعبير عن أحوالهم الخاصّة، في لحظةٍ معيّنةٍ محدودة. فهي تعبيرٌ عن أحوالهم ومقاماتهم الّتي يتدرّجون فيها. فكلّ واحدٍ منهم عبّر عمّا وجد في نفسه، ونطق بحسب ما يناسب مقامه. فهذه الاختلافات إذًا كلّها صادرة عن المقام أو الحال الّتي يتّصف بها الصوفيّ حين يتحدّث عن التصوّف.
ومن جهة أخرى، هنالك عاملٌ آخر مهمّ وهو التطوّر السريع الّذي شمل كلّ مرافق الحياة الإسلاميّة في القرون الأولى نتيجة اتّساع الدولة الإسلاميّة وتراميها، واشتمالها على بلادٍ ذات ثقافاتٍ دينيّةٍ سابقةٍ على الإسلام، ونتيجةً لما كان يدخل من هذه الثقافات على المجتمع الإسلامي، من معانٍ وأفكارٍ كانت تطوّر كلّ شيءٍ في الحياة الإسلاميّة يومًا بعد يوم، فتبتعد به عن معناه الأصليّ البسيط الذي عرف به في أيام الإسلام الأولى. وقد تعرّضت كلمة التصوّف بدورها لهذا التطوّر، فكانت تتّسع وتكتسب مع مرور الوقت معانٍ جديدةً تبعدها شيئًا فشيئًا عن مدلولها الّذي عرفت به في الأيام الأولى لوجودها وتداولها. وهكذا نشأة المعاني المختلفة لكلمة التصوّف، والّتي كانت تزداد تنوّعًا واختلافًا كلّما امتدّت الحياة وطالت أكثر، لتتعدّد معها تعاريف التصوّف، وتتّسع بحيث لم يعد ممكنًا أن ينطبق عليها حدٌّ أو تعريفٌ واحدٌ[42].
2. الفرق بين العرفان والتصوّف
إنّ الباحث في مضانّ التصوّف والعرفان يواجه الكثير من الملابسات التاريخيّة والمعرفيّة الّتي تجعل من مهمّة التمييز بينهما مهمّةً عسيرةً لا يقدر على القيام بها إلّا من استوعب المسارات المختلفة لهذيْن العِلميْن، في أبعادهما وانعكاساتهما التاريخيّة والاجتماعيّة والدينيّة.
ففي الوقت الّذي يلمس فيه الباحث التداخل الواضح والكبير بين التصوّف والعرفان، على اعتبار أنّهما حركتان دينيّتان تتّخذان من السلوك والمعرفة المعنويّة والباطنيّة طريقًا ومنهجًا لهما بهدف الوصول إلى الله، ولكونهما يعتمدان على الذوقيّات والوجدانيّات، والاشتراك في مباحث الآداب والرياضات وغيرها، المراجعة الأوّليّة للمصطلحات الخاصّة بكلٍّ من العرفان والتصوّف، تكشف عن حجم التقارب الكبير بين العلميْن. إلّا أنّه في الوقت عينه يمكن للباحث أن يلحظ بشكلٍ واضحٍ أنّهما علمان متمايزان ومختلفان، وبينهما العديد من نقاط الافتراق والتفاوت.
ومع أنّه يوجد العديد من الآراء في التمييز بين العرفان والتصوّف، إلّا أنّه ليس من السهل بيان الفارق الدقيق بينهما، للالتقاء والتداخل بين العلميْن في العديد من المجالات، وللتشابه بينهما أحيانًا في العديد من الأمور. وهو بحاجة إلى دراسةٍ تاريخيّةٍ عميقةٍ ومتأنّيةٍ لمعرفة تاريخ نشوئهما، ولبيان أسباب ومنطلقات كلا العلميْن، ومن ثمّ دراسة أوجه التأثّر والتأثير بينهما، وهو خارجٌ عن محلّ بحثنا في هذه الرسالة، ويحتاج إلى تحقيقٍ مستقلٍّ بحدّ ذاته.
من هنا، كان لا بدّ لنا من تحليل – ولو بشكلٍ مختصرٍ وأوّلي – مفردات كلا العلميْن؛ ليرتفع الغموض حولهما، ولتتبيّن الفوارق بينهما، ويُزال الالتباس الناتج عن التشابه في الألفاظ والمباحث والموضوعات.
التصوّف من الناحية التاريخيّة، بصفته حركةً دينيّة معنويّة، ظهرت بذورها الأولى في نزعات الزهد الّتي سادت العالم الإسلامي في القرن الأوّل الهجري، والّتي كان قوامها الانصراف عن الدنيا ومتاعها، والعناية بأمور الدين، ومراعاة أوامر الشريعة؛ حيث ارتدى البعض الجبّة الصوفيّة تعبيرًا عن معارضتهم لأولئك الّذين أقبلوا على الدنيا واتّخذوا من الإسلام وسيلةً لتنفيذ أهدافهم الدنيويّة. وكانت الغاية الّتي يتطلّع إليها العبّاد والزهّاد هي الظفر برضوان الله والنجاة من عقابه.
ففي صدر الإسلام وبدايات الدعوة الإسلاميّة، كان زهد الزهّاد والعبّاد معتدلًا، بمعنى أنّهم كانوا يشاركون في الحياة الاجتماعيّة، ويسعون لكسب معاشهم، ويراعون أوامر الدّين والشرع بكلّ طاقتهم، ويحافظون عليها بأرواحهم. “فالتصوّف كان بسيطًا جدًّا في بدايته؛ حيث هبّ البعض لارتداء جبّةً صوفيّةً تعبيرًا عن معارضتهم لأولئك الّذين أقبلوا على الدنيا واتّخذوا من الإسلام وسيلةً لتنفيذ أهدافهم الدنيويّة. ولم يهتمّ هذا الفريق المتصوّف في بادئ الأمر بشيءٍ غير الزهد والعبادة والإخلاص. فكانوا في غاية البساطة في اللّباس والطعام والمسكن، مبتعدين في الوقت نفسه عن العلم عدا ما يتّصل منه بتصوّفهم وزهدهم”[43].
وفي النصف الثّاني من القرن الثّاني الهجري، ظهر من بين الزهّاد أفرادٌ يحيون حياةً تخالف حياة الآخرين، من حيث المبالغة في الزهد وترك متاع الدنيا، ورياضة النفس، فكانّ لا بدّ أن يتسمّوا باسمٍ خاصّ، فأُطلق عليهم اسم الصوفيّة. وكان تصوّف هؤلاء امتدادًا لزهد ومسلك زهّاد القرن الأوّل مع شيءٍ من المبالغة. فقد قطعوا في طريق الزهد مراحل أبعد من زهّاد القرن الأوّل.
وفي القرنين الثّالث والرابع الهجرييْن، وصل التصوّف إلى مرحلة النضج، وأخذت المسائل الصوفيّة الّتي ظهرت أوّل الأمر غامضةً ساذجةً تتّضح، ذلك أنّ العناصر الغريبة الّتي بدأت تتسرّب إلى الإسلام منذ القرن الثّالث الهجري أخذت تنفذ إلى التصوّف وتتفاعل معه. وكان من نتيجة هذا التفاعل أن تطوّر مفهوم التصوّف وأصبح شيئًا جديدًا لا يقف عند حدّ الرياضة والمجاهدة، ولا يقنع فيه الإنسان بالمشاهدة، وإنّما تجاوز هذا كلّه إلى غايةٍ أسمى هي فناء الإنسان عن نفسه وبقائه بربّه، واتّحاده به. والمتأمّل في أقوال صوفيّة القرنيْن الثالث والرابع للهجرة يلمس تحوّلًا فكريًّا طرأ على مفهوم التصوّف، فقد ظهرت في أقوالهم أفكارٌ جديدةٌ واصطلاحاتٌ وتعبيراتٌ خاصّة، بعضها يتعلّق بالجانب النظري للتصوّف، من تحديدٍ لمعالم الطريق، وترتيبٍ للمقامات والأحوال. حتّى صار “مصطلح العارف رائجًا خلال القرن الثالث الهجري. فقد كان “بايزيد البسطامي”[44] يستعمل مصطلح العارف مكان الصوفيّ. حيث قال: “كمال العارف هو أن يتبرّأ من المال والمنال، وإذا أردت أن تفديَه بكلّ ما في هذه الدنيا والآخرة من أجل أن تكسب صداقته، كان هذا الأمر أقلّ ما يمكن أن تفعله تجاهه”. وقال أيضًا: “العارف لا يرى إلّا المعروف، والعالم لا يجلس إلّا مع العالم، فيقول العالم ماذا أفعل؟ ويقول العارف ماذا يفعل”[45].
هذا التطوّر التاريخي كان سببًا في بلورة صورة التصوّف والعرفان، وصيرورتهما علميْن مستقلّيْن لاحقًا. وهكذا “مضى الزمان طويلًا، وتطوّرت السلوكيّات الإسلاميّة من الزهد إلى التصوّف، ومن التصوّف إلى الفلسفة الصوفيّة”[46]، والّذي اصطلح عليه لاحقًا بكلمة “العرفان النظري”، كما سوف نبيّن لاحقًا بشكل تفصيلي، لكونه يتناول المجال المعرفي والفلسفي لهذه الحركة المعنويّة كما ذكرنا سابقًا عند تعريفنا لعلم “العرفان”. فقد بيّنّا أنّ العرفان بلحاظ الجذر اللّغوي يعني المعرفة والرؤية. واصطلاحًا يعرّف أنّه نوع معرفةٍ مباشرةٍ تتجاوز الحسّ وأبعد من العقل، وعمليّة رفع الموانع وكشف الحجب عن القلب من خلال السلوك أو الجذبة بهدف الوصول إلى الله.
بالمحصّلة الأوّليّة لهذا السرد التاريخي الأوّلي، يمكن أن نقول “إنّ العرفان الإسلامي ظهر بدايةً على شكل حركةٍ صوفيّةٍ، تطوّرت مع الوقت حتّى أخذت شكلها الحالي”[47]. وبشكلٍ أكثر تفصيلًا، يمكن أن نقول إنّ الحراك المعنوي في الإسلام بمستوييْه النظري والعملي، مرّ بلحاظ السير والتدرّج التاريخي بمراحل عدّة، يمكن أن نقسّمها على الشكل الآتي:
- مرحلة “الإدراك”: هي المعرفة بلا واسطة. وهي من سنخ العلم الحضوري؛ حيث يدرك العارف الحقيقة وعالم الوحدة، وغيب العالم وباطنه، على نحو حضوري ومباشر.
- مرحلة “الرؤية”: بهذا اللّحاظ تُطرح المعرفة على نحو قراءةٍ مرمّزةٍ وباطنيةٍ مبنيّةٍ على تأويل النصوص المقدّسة أو الآثار الأدبيّة تحت عنوان “القراءة العرفانية”. ومن هذه الحيثيّة، تكون هذه القراءة في عرض القراءات الأخرى، من قبيل القراءات الفلسفيّة والفقهيّة والكلاميّة وأمثالها.
- مرحلة “الطريقة”: هذا المعنى يُقيّد عادةً بقيدٍ عمليّ، ويُطلق على نوعٍ من السلوك يتجاوز ما هو مألوفٌ علميًّا، ويعمل على خلاف عادات العصر والرغبات الباطنيّة لأجل إحراز حقيقةٍ غائبةٍ كامنةٍ وراء الظواهر.
- مرحلة “التعاليم”: في هذه المرحلة، يتمّ تدوين كتابات وأقوال العرفاء، في البعدين النظري والعملي، من أجل تبيين الرؤية العرفانيّة حول الوجود، وأيضًا طريق السلوك ومكتسباته.
- مرحلة “المؤسسة التاريخيّة”: تشمل المظهر الخارجي والاجتماعي لهذه المؤسّسة، أي الفرق الصوفيّة والمتصوّفة في الإسلام؛ والّتي كانت لديهم مع المؤسّسات الاجتماعيّة والدينيّة الأخرى علاقات وتحدّيات ومقايضات.
وباللحاظ التاريخي، فإنّ الذي اشتهر بدايةً بلفظ “العرفان” في قالب ألفاظ أهل المعرفة وأهل التصوّف كان المعنى الثّالث، ثمّ المعنى الثّاني، ثمّ الرابع والخامس، وفي الختام المعنى الأوّل[48]. ولكن هذا لا يعني أنّ هذا التقسيم سرى بشكلٍ منهجيّ مدروسٍ ومنظّمٍ، ومن خلال حدودٍ وفواصل واضحةٍ ودقيقةٍ بين العلميْن، ومن دون وجود تداخلٍ والتقاءٍ بينهما في العديد من الأماكن والمسارات. بل إنّ أوجه التداخل والالتقاء ملحوظةٌ وواضحةٌ، ولكن دون أن يعنيَ ذلك صيرورتهما علمًا واحدًا، بل هما عالمان بينهما أوجه اشتراك، ولكن يبقى أنّ منهج ومنطلقات كلٍّ منهما مغايرةٌ ومخالفةٌ للآخر.
فإذا وجدنا تداخلًا ما بين العلمين في مكانٍ من الأمكنة، فالسبب يعود إلى التشابه الواقع بينهما من ناحية المصطلح. فمفردتا “التصوّف” و”العرفان” في النصوص التاريخيّة العرفانيّة والصوفيّة، إمّا أن تأتيَ مترادفتين وتؤدّيان معنىً واحدًا، وإمّا أن يكون بينهما اختلاف. ففي المقام توجد رؤيتان:
الأولى: إنّ للعرفان والتصوّف معنىً واحدًا من حيث الاصطلاح، وما يميّزهما هو اختلافٌ بسيطٌ وطفيفٌ. وبناءً على هذه الرؤية، فإنّ للعرفان الإسلامي جنبتيْن؛ جنبةً اجتماعيّةً وجنبةً علميّة. بلحاظ الجنبة المعرفيّة يسمّون عرفاء، وبلحاظ الجنبة الاجتماعيّة يسمّون متصوفّة.
وقد اعتبر بعضهم القسم العملي للعرفان بمعنى واحدٍ مع التصوّف، وأنّهما مترادفان، وعدّ الجانب العلمي للعرفان أحد العلوم الإسلاميّة. فمن”اعتبر التصوّف مرحلةً من مراحل العرفان، فإنّه عندما يريد الإشارة إلى العرفان باعتباره رؤيةً، فإنّه يطلق عليه اسم العرفان وأصحابه هم العرفاء، وعندما يريد الإشارة إليه باعتباره تجربة عملٍ، فإنّه يطلق عليه اسم التصوّف وأصحابه هم المتصوّفة”[49].
الثانية: إنّ العرفان أرفع وأعلى من التصوّف. وبناءً على هذه الرؤية، يصبح التصوّف منهجًا وطريقةً تفيض من نبع العرفان. ويرى أصحاب هذا الرأي أنّ أرباب الصوفيّة يرون أيضًا أنّ للعارف مقامًا أعلى من الصوفيّ.
في المحصّلة، نستتنج أنّه يوجد فرقٌ من ناحية المعنى لهذيْن المصطلحيْن اللّذيْن يأتيان غالبًا بشكلٍ مترادف. فالتصوّف منهجٌ وطريقةٌ زاهدة، مبتنيةٌ على أساس الشرع وتزكية النفس، والإعراض عن الدنيا من أجل الوصول إلى الحقّ تبارك وتعالى والسير باتّجاه الكمال. أما العرفان فهو مذهبٌ فكريٌّ وفلسفيّ، متعالٍ، وعميق، يسعى إلى معرفة الحقّ تبارك وتعالى ومعرفة حقائق الأمور، وأسرار العلوم، وهذه الطريقة ليست منهج الفلاسفة والحكماء؛ بل هي طريقة أتباع منهج الإشراق والكشف والشهود.
يقول الشيخ الرئيس “ابن سينا” في كتابه “الإشارات” شارحًا الفرق بين الزاهد والعابد والعارف: “المعرض عن متاع الدنيا وطيّباتها يخصّ باسم الزاهد، والمواظب على فعل العبادات من القيام والصيام ونحوها يخصّ باسم العابد، والمتصرّف بفكره إلى قدس الجبروت مستديمًا بشروق نور الحقّ في سرّه يخصّ باسم العارف وقد يتركّب بعض هذه مع بعض”[50].
بهذا المعنى يكون العارف أعلى مقامًا ومرتبةً من الصوفيّ، فكلّ عارفٍ هو صوفي، وليس كلّ صوفيٍّ بعارف. فالعرفاء مثل مولوي وحافظ يرون أنّ الصوفيّ مبتدئٌ، وقاصرُ النظر، ويهتمّ فقط بظواهر التصوّف، مثل اللّباس، والخرقة، وما يماثلها، ويعتبرونه بسيط الفكر ومتعصّبًا، وقاصر النظر. أمّا العارف فهو عالمٌ بصيرٌ، باطنه ملؤه الصفاء، وقلبه ملؤه الإشراق، فقد أشرقت وتلألأت روحه بنور الحكمة الإلهيّة[51].
وتجدر الإشارة إلى أنّ البحث عن الفارق العلمي بين العرفان والتصوّف ليس أمرًا متأخّرًا، بل كان محطّ بحثٍ واستفهامٍ عند الأوائل أيضًا، ممّا يكشف عن وجود كلا العلميْن في تلك الحقبة. فقد أورد “أبو نعيم الأصفهاني” (ت 430ه) في كتابه “حلية الأولياء” نصًّا يبيّن فيه الفرق بين العارف والمتصوّف وعلامة كلٍّ منهما، يقول فيه: “سمعت أبا الفضل الطوسي يقول، سمعت أبا الحسن الفرغاني يقول، سألت أبا بكر الشبلي[52] (ت 334ه): ما علامة العارف؟ فقال: صدره مشروح، وقلبه مجروح، وجسمه مطروح. قلت: هذا علامة العارف فمن العارف؟ قال: العارف الذي عرف الله عزّ وجلّ، وعرف مراد الله عزّ وجلّ، وعمل بما أمر الله، وأعرض عمّا نهى عنه الله، ودعا عباد الله إلى الله عزّ وجلّ. فقلت: هذا العارف فمن الصوفي؟ فقال: من صفا قلبه فصفى، وسلك طريق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم ورمى الدنيا خلف القفا، وأذاق الهوى طعم الجفا، قلت له: هذا الصوفي، ما التصوّف؟ قال: التألّف والتطرّف، والإعراض عن التكلّف. قلت له: أحسن من هذا ما التصوّف؟ قال: تسليم تصفية القلوب، لعلّام الغيوب. فقلت له: أحسن من هذا ما التصوّف؟ فقال: تعظيم أمر الله، وشفقته على عباد الله. فقلت له: أحسن من هذا من الصوفيّ؟ قال: من صفا من الكدر، وخلص من العكر، وامتلأ من الفكر، وتساوى عنده الذهب والمدر”[53].
في هذا النص إشارةٌ واضحةٌ تؤيّد ما ذكرناه سابقًا في الفرق بين العرفان والتصوّف. فمصطلح “التصوّف” يُستخدم للتعبير عن سلوكيّاتٍ عمليّةٍ؛ من قبيل رياضة النفس وتزكيتها، والإعراض عن الدنيا ولذّاتها. فيما يُستخدم مصطلح “العرفان” للتعبير عن الجانب النظري والمعرفي، أي معرفة الحقّ عزّ وجلّ. لذا، فإنّ العرفان والتصوّف يدلّان في الحقيقة على أمر واحد هو؛ السلوك إلى الله. ولأنّ السلوك إلى الله له بعدان: أحدهما نظريّ معرفيّ والآخر عمليّ، فقد أُطلق على الأوّل اسم “العرفان”، وعلى الثاني “التصوّف”.
وللشهيد مطهّري رأيٌ معروفٌ في المسألة، حيث يقول إنّ العرفان والتّصوّف، وإن كانا يهدفان إلى المعرفة الإلهيّة، إلاّ أنّهما يفترقان في الأساليب والطّرق التربويّة الرّوحيّة ومصادرها، بالإضافة إلى المسلكيّات الاجتماعيّة والتّصرّفات العامّة. يقول:
“أحد العلوم الّذي نشأ في حضن الثقافة الإسلاميّة ونما وتكامل في ربوعها: علم العرفان. وفي العرفان يمكن البحث والتحقيق من جهتين: من الجهة الأولى من الناحية الاجتماعيّة، والثانية من الناحية الفكريّة والثقافيّة.
فللعرفاء اختلافٌ وتمايزٌ مهمٌّ مع سائر الطبقات والفئات الثقافيّة الإسلاميّة من قبيل المفسّرين والمحدّثين والفقهاء والمتكلّمين والفلاسفة والأدباء والشعراء، وهم إضافةً إلى كونهم فئةً ثقافيّةً أسّست علمًا سُمّي بالعرفان، وخرّجت علماء كبارًا ألّفوا كتبًا مهمّة، فقد أنشأوا فرقةً اجتماعيّةً في عالم الإسلام لها صفاتٌ وخصائص خاصّة، خلافًا لسائر الطبقات الفكريّة الأخرى من قبيل الفقهاء والحكماء وغيرهم الّذين كانوا مجرّد طبقةٍ ثقافيّةٍ لا يختلفون عن غيرهم بشيءٍ آخر. وعندما يُراد الإشارة إلى أهل العرفان من الناحية الفكريّة، فإنّه يُطلق عليهم اسم “العرفاء”، وإذا كان المراد الإشارة إلى الناحية الاجتماعيّة فإنّهم يُعرفون بعنوان المتصوّفة. والعرفاء والمتصوّفة لا يُنظر إليهم على أنهم مذهبٌ تشعّب عن الإسلام، وهم أيضًا لا يدّعون مثل هذا الأمر، فهم حاضرون في الفرق والمذاهب الإسلاميّة كافّة في الوقت نفسه الّذي يعتبرون جماعةً متمايزة، متّصلةً ومترابطةً اجتماعيًّا، ذلك أنّ المكوّنات العامّة لأفكارهم ومعتقداتهم وحتّى آدابهم الخاصّة في المعاشرات واللّباس وأحيانًا في المظهر والزينة والجلوس في الخانقانات (وهي الأماكن الخاصّة بالدراويش والصفويّة) وغيرها من المسائل. كلّ هذه أعطت صبغةً خاصّةً للعرفاء ميّزتهم كإحدى الفرق المذهبيّة والاجتماعيّة”[54].
وفي الخاتمة، نشير إلى أنّ هذا التفاوت بين سلّاك طريق الحقّ – على الرغم من وحدة الهدف، ومحوريّة الله تعالى في هذه المسيرة المعنويّة- أمرٌ طبيعيٌّ ومنطقيٌّ أيضًا، لاختلاف القابليّات والاستعدادات والسلائق، مع المحافظة على وحدة الهدف كما ذكرنا. كما أنّ الاختلاف بين العرفان والتصوّف لا يقتصر على الاختلاف بين الطرق والمذاهب الصوفيّة والعرفانيّة نفسها، وإنّما يمكن ملاحظته حتّى بين العرفاء أنفسهم أيضًا. فإنّ “سالكي طريق الحقّ يختلفون فيما بينهم من حيث نمط السلوك والمراتب ودرجات السير، لا سيّما من حيث السفر الأوّل من الأسفار الأربعة. ولكن بما أنّ العارف يسعى دائمًا خلال سيره وسلوكه للانتقال من عالم الكثرة والتفرقة إلى عالم الوحدة، فلا بدّ أن ينتهيَ جميع السالكين إلى مقام الوحدة في نهاية المطاف. وفي هذه الوحدة الحقيقيّة يتّحد أهل الحقيقة جميعًا. وصفوة الحديث هي أنّنا لو صرفنا النظر عن التجربة الباطنيّة والشخصيّة للأفراد، بمقدورنا القول إنّ الكثيرين من أهل العرفان ليسوا سواء من حيث طبيعة السلوك ورعاية آداب الطريقة، ولذلك يتوزّعون على طرقٍ ومذاهب عرفانيّةٍ متعدّدة”[55].
[1]– الفيروزآبادي، مجد الدين: القاموس المحيط، تحقيق: أنس الشامي وزكريا أحمد، درا الحديث، القاهرة، 1429ق/2008م، لاط، ص1076.
[2]– ابن منظور، محمد: لسان العرب، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، 1414ق، ط3، ج9، ص236.
[3]– العسكري، أبو هلال: الفروق اللغويّة، مؤسسة النشر الإسلامي، 1412ق، ط1، ص502.
[4]– الزبيدي، مرتضى: تاج العروس، تحقيق: علي شيري، دار الفكر، بيروت، 1414ق/1994م، لاط، ج12، ص374.
[5]– العسكري، أبو هلال: الفروق اللغويّة، مرجع مذكور، ص500.
[6]– الجرجانيّ، عليّ بن محمّد: معجم التعريفات، تحقيق: محمد صدّيق المنشاوي، دار الفضيلة، القاهرة، لاتا، لاط، ص179.
[7]– العجم، رفيق: موسوعة مصطلحات التصوّف الإسلاميّ، مكتبة لبنان، بيروت، 1999م، ط1، ص 594.
[8]– عبد الرزاق الكاشاني:”أبو الغنائم كمال الدين عبد الرزاق الكاشي أو الكاشاني أو القاشاني، صاحب كتاب اصطلاحات الصوفيّة، وهو كتاب في ألفاظ القوم جاء شرح القاشاني لها بعد أن قام بشرح لكتاب منازل السائرين للهروي، وكتاب فصوص الحكم لمحي الدين بن عربي، فسألوه أن يفسّر لهم ما استعجم من الألفاظ. واعتبر الكتاب مرجعًا في المصطلح الصوفيّ… توفي نحو سنة 730ه بشيراز، ودفن بها في خانقاه الصوفيّة”. الحفني، عبد المنعم: الموسوعة الصوفيّة، أعلام التصوّف والمنكرين عليه والطرق الصوفيّة، دار الرشاد، القاهرة، 1412ه/1992م، ط1، ص320.
[9]– الكاشاني، عبد الرزاق: معجم اصطلاحات الصوفيّة، تحقيق: عبد العال شاهين، دار المنار، القاهرة، 1413ق/1992م، ط1، ص124.
[10]– ابن عربي: أبو بكر محمد بن علي، شيخ الصوفيّة الأكبر، وشهرته محي الدين باعتبار مصنّفاته في التصوّف، وتفسيراته في الدين التي قيل إنّه بها قد جدّد الدين وأحيا الملّة. وهو أيضًا ابن عربي حيث إنّه الصوفيّ المتميّز بعروبته، وليس من العجم، كمشاهير الصوفيّة الفرس وغيرهم. وهو ينحدر من قبيلة حاتم الطالئي، واسمه المرًسي، حيث كانت ولادته بمُرسّية الأندلس سنة 560ه، ويعرف في الأندلس باسم ابن سراقة، وفي الشرق أعطوه اسم ابن عربي من دون أداة التعريف تمييزًا عن القاضي أبي بكر بن العربي المتوفي سنة 543ه. ولابن عربي نحو أربعمئة كتاب، أشهرها موسوعته الكبرى في التصوّف التي أطلق عليها اسم الفتوحات المكيّة في خمسمئة وستين بابًا، يلخّصها جميعًا في الباب التاسع والخمسون، ووقد اختصرها الشعرانيّ في كتابه “اليواقيت والجواهر”. ولمّا طلب ابن عربي من ابن الفارض الشاعر الصوفي المصري أن يشرح للناس تائيّته أجاب ابن الفارض أنّه لا يجد لها شرحًا خيرًا من الفتوحات المكيّة. ويلي الفتوحات المكيّة في الأهمّية كتاب فصوص الحكم… توفي ودفن بسفح جبل قاسيون سنة 638ه. وكتبه تنحو إلى الفلسفة، وهو من فلاسفة الصوفيّة، وقيل مذهبه وحدة الوجود لم يصرّ به، ولكن كتبه تتضمّن إشارات قصد أن تكون غامضة ومداراها أنّ الحقيقة الوجودية واحدة في جوهرها وذاتها، متكثّرة بصفاتها وأسمائها، ولا تعدّد فيها إلّا بالاعتبارات والنسب والإضافات. الحفني، عبد المنعم: الموسوعة الصوفيّة، مرجع مذكور، ص286.
[11]– ابن عربي، محي الدين: الفتوحات المكيّة، دار صادر، بيروت، لاتا، لاط، ج2، ص129.
[12]– سورة آل عمران، الآية 18.
[13]– ابن عربي، محي الدين: الفتوحات المكيّة، مرجع سابق، ج1، ص667.
[14]– ابن سينا، أبو علي: الإشارات والتنبيهات، مكتب نشر الكتاب، 1403ق، ط2، ج3، ص 369.
15- ابن عربي، محي الدين: فصوص الحكم، تعليق: أبو علاء عفيفي، انتشارات الزهراء، قم، 1375ش، ط3، ص91.
[16]– عبد الرحمن الجامي: “الشاعر الصوفي الفارسي الأشهر، كنيته نور الدين، ولد سنة 817ه، بناحية جام من أعمال هراة، وتوفي بهراة سنة 898ه، وأسرته من دشت بالقرب من أصفهان… أقبل منذ أن وعى الحياة على التصوّف، وكان نقشبنديًا… وقد قيل إنّ جاميَ يعتبر آخر سلسلة الشعراء الصوفيّة الفحول. وله آثار نثريّة في تفسير القرآن والحديث، وشروح على المسائل الصوفية، وأخصّها شرح فصوص الحكم لابن عربي، وشرح خمريّة ابن الفارض، والدرر الفاخرة في التصوّف والحكمة، وله نفحات الأنس، الكتاب الموسوعيّ الذي يتضمّن سير الصوفيّة مع دراسة شاملة للتصوّف وترجمته”. الحنفي، عبد المنعم: الموسوعة الصوفيّة، مرجع مذكور، ص98.
[17]– الجامي، عبد الرحمن: نفحات الأنس في حضرات القدس، الأزهر الشريف، القاهرة، 1409ق/1989م، لاط، ص12.
[18]– الجامي، عبد الرحمن: نفحات الأنس في حضرات القدس، مرجع مذكور، ص 13.
[19]– العجم، رفيق: موسوعة مصطلحات التصوّف الإسلاميّ، مرجع مذكور، ص 177.
[20]– السرّاج الطوسيّ: “أبو نصر عبد الله بن علي السراج الطوسي، الملقب بطاووس الفقراء، وصاحب كتاب اللمع، وهو من أكثر المراجع وفاءً بعلوم الصوفيّة وبمذهبهم وأخبارهم وأشعارهم ومسائلهم وأجوبتهم ومقاماتهم وأحوالهم، وما انفردوا به من الإشارات اللطيفة، والعبارات الفصيحة، والألفاظ المشكلة الصحيحة على أصولهم وحقائقهم ومواجيدهم وفصولهم. والكتاب فريد فيما قصد إليه، وكان الطوسي رائدا في هذا المجال، واقتفى أثره القشيري، والهجويري، والسلمي، والكلاباذي. ويعد من أقدم المراجع وأوثقها في التصوّف. وكان الطوسيّ من أوائل من حذّروا من المتشبهين بالصوفيّة، والمتلبّسين بلباسهم، والمتّسمين باسمهم. وتوفي الطوسيّ سنة 378ه، أي إنّه عاش في القرن الرابع الهجري”. الحفني، عبد المنعم: الموسوعة الصوفيّة، مرجع مذكور، ص199.
[21]– الطوسّي، أبو نصر السرّاج: اللّمع، تحقيق: عبدالحليم محمود وعبد الباقي سرور، دار الكتب الحديثة، القاهرة، 1380ق/1960م، المقدمة، لاط، ص 8.
[22]– فتاح، عرفان: نشأة الفلسفة الصوفيّة وتطوّرها، دار الجيل، بيروت، 1413ق/1993م، ط1، ص131.
[23]– معروف الكرخيّ: “من جلّة مشايخ العراق الذين يُذكرون بالورع والفتوّة، واسمه أبو محفوظ معروف بن فيروز أو ابن الفيرزان، كان نصرانيًّا من موالي عليّ بن موسى الرضا، فأسلم وهو طفل على يديه، واضطر أبواه أن يسلما لما شاهدا منه الإصرار على الإسلام أو هجرهما. وقد اشتغل حاجبًا لعليّ بن موسى الرضا طوال حياته، إلى أن ازدحمت الشيعة على باب عليّ يومًا فانكسرت ضلوع معروف في الزحام ومات سنة 200ه، وقبره بظاهر بغداد تبرك به، وكان معروف مستجاب الدعوة حتى أنّه قال يومًا لسرّي السقطي تلميذه: “إذا كانت لك حاجة إلى الله فأقسم عليه بي”. والحكايات الكثيرة تروى عن إجابة الله تعالى لدعائه. واسم الكرخيّ نسبة إلى الكرخ إحدى قرى بغداد حيث نشأ معروف”. الحنفي، عبد المنعم: الموسوعة الصوفيّة، مرجع مذكور، ص366.
[24]– القشيريّ، أبو القاسم: الرسالة القشيريّة، تعليق: خليل المنصور، دار الكتب العلمية، بيروت، 1422ق/2001م، لاط، ص 313.
[25]– الجنيد: أبو القاسم بن محمد الجنيد، أوّل من تكلّم في علم التوحيد ببغداد، ومولده ونشأته بها ووفاته سنة297ه، وأصله من نهاوند، ومذهبه يقيّده بالكتاب والسنّة، فمن لا يتفّقه في الدين ويحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يُقتدى به، فحفظ تصوّفه من شُبه الغلاة، وصانه من العقائد الذميمة، فكان مقبولًا من الجميع… كتب الكثير من الرسائل إلى إخوانه منها ما اشتهرت عنه في التوحيد والألوهيّة. وأساس مذهبه مراقبة الباطن، وتصفية القلب، وتزكية النفس، والتخلّق بالأخلاق الحميدة. وطريقته تقوم على الصحو، وتابعه فيها أغلب الصوفية لأنّها لا تتصادم مع الشريعة وتجمع بين الظاهر والباطن، والجنيد في شرحه لأصولها وفروعها أستاذ، وكان مريدوه يلقّبونه بالأستاذ، وهو مربٍّ صوفيّ بالمعنى الاصطلاحي للمربّي، فهو العارف بفنون علوم التصوّف والمؤيّد بعلوم الفقه، وقيل لذلك إنّ طريقة الجنيد أصلح للمبتدئين، وخاصّة أنّ أصحاب طريقة السكر، وهي الطريقة المقابلة لطريقة الجنيد، كما هي عند البسطامي والخرقاني وأبي سعيد بن أبي الخير والحسين بن منصور الحلاج، فقد أثاروا الفقهاء والمتشرّعين وأهل الظاهر على الصوفيّة، حتى اعتبر البعض التصوّف كفرًا وبدعةً وأفتوا بقتل جماعة منهم”. الحفني، عبد المنعم: الموسوعة الصوفيّة، مرجع مذكور، ص107.
[26]– الكلاباذي، أبو بكر: التعرّف لمذهب أهل التصوّف، تصحيح: أرثر جون أربري، الناشر مكتبة الخانجي، القاهرة، 1415ق/ 1994م، ط2، ص9.
[27]– الطوسّي، أبو نصر السرّاج: اللّمع، مرجع مذكور، ص 45.
[28]– المرجع نفسه، ص 48.
[29]– الكلاباذيّ:” أبو بكر محمد بن إسحق الحنفيّ البخاريّ الكلاباذيّ، أطلقوا عليه تاج الإسلام لعلمه وفضله، فقد كان موسوعة وكان من علماء الصوفيّة، وله كتاب التعرّف إلى أهل التصوّف، جمع فيه مذهبهم وأحوالهم، وعرّف بطريقتهم وتسميتهم ومعتقداتهم، حتى قيل إنّ كتابه صورة للتصوّف في زمنه، وهو القرن الرابع الهجري، فقد توفي الكلاباذي سنة 380ه، ولم يكتب ما كتب عن التصوّف إلّا بعد أن عاشر الصوفيّة، واستمع إلى أعلامهم، وحفظ عنهم، وكتابته كتابة العارف المتحقّق ممّا يكتب، ولذلك فقد قالوا في كتابه: لولا “التعرّف” لما عُرف التصوّف”. الحنفي، عبد المنعم: الموسوعة الصوفيّة، مرجع مذكور، ص338.
[30]– السرّي السقطي: “أبو الحسن بن المُغلس السقطي، أوّل من تكلّم في بغداد في لسان التوحيد وحقائق الأحوال، وكان تلميذًا لمعروف الكرخيّ، وتتلمذ عليه الجنيد والنصراباذي وسمنون والخلدي… ومولده ووفاته ببغداد سنة 253ه. وكانت أكثر صحبة الجنيد له فقد كان خاله… وطريقته قوامها الورع والزهد، واشتهر بطيب وتصفية قوّته”. الحنفي، عبد المنعم: الموسوعة الصوفيّة، مرجع مذكور، ص203.
[31]– حسن البصريّ: “كنيته أبو سعيد، كان أبوه إيرانيًا من ميسان، وسباه المسلمون لدى فتح العراق، وسكن المدينة، وقد اعتقده من كان عندهم من الأنصار، وولد ابنه الحسن فيها سنة 22ه، وغادرها إلى البصرة سنة 38ه، وأقام بها إلى أن توفّي سنة 110ه. يقول عنه أبو طالب المكي: كان الحسن أوّل من أنهج سبيل هذا العلم، وفتّق الألسنة به، ونطق بمعانيه، وأطهر أنواره، وكان يتكلّم فيه بكلام لم يسمعوه من أحد من إخوانه، فقيل له: يا أبا سعيد! إنّك تتكلّم في هذا العلم بكلام لم نسمعه من أحد غيرك، ممّن أخذت هذا؟ فقال: من حذيفة بن اليمان. قيل، قالوا لحذيفة بن اليمان: نراك تتكلّم في هذا العلم بكلام لم نسمعه من أحد من أصحاب رسول الله(ص)، فمن أين أخذته؟ فقال: خصّني به رسول الله (ص)، كان الناس يسألونه عن الخير وكنت أسأله عن الشر، مخافة النفاق، وبسرائر العلم ودقائق الفهم وخفايا اليقين”. الحنفي، عبد المنعم: الموسوعة الصوفيّة، مرجع مذكور، ص57.
[32]– سورة التوبة، الآية 108.
[33]– الكلاباذي، أبو بكر: التعرّف لمذهب أهل التصوّف، مرجع مذكور، ص5 إلى 9.
[34]– الهجويريّ: “أبو الحسن عليّ بن عثمان بن علي العزنوي الجلابي الهجويري، صاحب كتاب “كشف المحجوب” ويعدّ أقدم الكتب باللغة الفارسيّة في التصوّف وأشهرها، ولسنا نعرف الكثير عن الهجويري، ومن المحتمل أنّه توفّي بين سنتي 465 و469ه في لاهور، وقبره بها يزار، ويذكر الهجويري أنّ له كتابين هما الديوان ومنهاج الدين في التصوّف أيضًا، ولكنهما ينسبان إلى غيره… وعلى أي الأحوال، فإنّ خصيصة الهجويري في هذا الكتاب أنّه فارسيّ المشرب، وأنّه ينتمي للمدرسة نفسها التي أنجبت أبا سعيد بن أبي الخير، وفريد الدين العطار، وجلال الدين الرومي”. الحنفي، عبد المنعم: الموسوعة الصوفيّة، مرجع مذكور، ص401.
[35]– الهجويري، أبو الحسن: كشف المحجوب، ترجمة وتعليق: إسعاد عبد الهادي قنديل، المجلس الأعلى للشؤون الإسلاميّة، لجنة التعريف بالإسلام، مصر، 1394ق/1974م، ص 232.
[36]– القشيريّ: “أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، صاحب الرسالة القشيريّة المشهورة في التصوّف، التي تناول فيها شيوخ الطريقة في آدابهم وأخلاقهم ومعاملاتهم وعقائدهم وما أشاروا إليه من مواجيدهم، وكيفيّة ترقّيهم من بدايتهم إلى نهايتهم، لتكون لمريدي هذه الطريقة قوّة، وقد وجّهها لجماعة الصوفّية ببلاد الإسلام سنة437ه، باعتبارهم الصفوة الذين فضّلهم الله على الكافّة من عباده بعد رسله وأنبيائه… كانت هذه الرسالة ولا تزال مرجعًا من المراجع الكبرى في التصوّف وعلوم الصوفيّة وأخبارهم، وقد تصدّى لها بالشرح والتفسير أعلام المسلمين… وكان يعظ في المدرسة النظاميّة وفي رباط شيخ الشيوخ ببغداد، ثمّ رجع في أواخر حياته إلى نيسابور، ويدرّس ويعظ بها إلى أن توفي سنة 514ه”. الحنفي، عبد المنعم: الموسوعة الصوفيّة، مرجع مذكور، ص323.
[37]– القشيري، أبو القاسم: الرسالة القشيريّة، مرجع مذكور، ص312.
[38]– الطوسيّ، أبي نصر السرّاج: اللّمع، مرجع مذكور، ص40.
[39]– الهجويري، أبو الحسن: كشف المحجوب، مرجع مذكور، ص 227.
[40]– المرجع نفسه، ص 230.
[41]– الهجويري، أبو الحسن: كشف المحجوب، مرجع مذكور، ص 239.
[42] انظر: فتاح، عرفان: نشأة الفلسفة الصوفيّة وتطوّرها، مرجع مذكور، ص 134.
[43]– الديناني، غلام حسين: العقل والعشق الإلهيّ، تعريب: عبدالرحمن العلوي، دار الهادي، بيروت،1426ق/ 2005م، ط1، ج1، ص80.
[44]– البسطاميّ: “سلطان العارفين أبو يزيد الأكبر طيفور بن عيسى (188-261ه) من بسطام خراسان، لم تؤثر عنه كتابات في التصوّف، ولكن أقواله رصدها أصحابه ومحبّوه وخصومه على السواء، وهي تشكّل مذهبًا في التصوّف. قالوا فيه إنّه الطيفوريّة، وهو مذهب في المحبّة الصوفيّة والفناء الصوفي… واشتهر أبو يزيد بالشطح، وأصله كلمات متسغربة تصدر عن الصوفي في حال وجده وذهوله بمشاهدة جلال الحقّ، فلا يدري ما يقول، أو أنّه ينطق عمّا يشهد بلسان مشهوده. وفي ذلك يقول الجنيد شيخ الصفويّة: إنّ حال أبى يزيد كحال مجنون ليلى، فإنّ حبّه لليلى وقد تملّكه لم يعد معه يرى في الأشياء والمخلوقات، وحتى في نفسه، إلا أنّها ليلى، فلمّا سألوه من أنت قال ليلى. يروون عن ذي النون أنّه لما بلغه أنّ أحد أصحابه ذهب يسأل عن أبي يزيد، ولقاه ذلك، فقال له أأنت أبو يزيد؟ فقال أبو يزيد: ومن يكون هذا وأين أجده، قال ذو النون: مسكين أخي أبو يزيد، لقد فقد نفسه في حبّ الله، فصار يطلبها مع الطالبين”. الحنفي، عبد المنعم: الموسوعة الصوفيّة، مرجع مذكور، ص51.
[45]– العطّار، فريد الدين: تذكرة الأولياء، تحقيق: محمد استعلامي، انتشارات زوار،1346ش، لاط، ص 192-193.
[46]– السّلمي، أبي عبد الرحمن: طبقات الصوفيّة، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1419ق/1998م، ط1، ص8.
[47]– قوام الدين، حسين: عرفان اسلامى، پژوهشکاه تحقیقات إسلامي، قم، 1388ش، چاب1، ص21.
[48]– رحيميان، سعيد: مبانى عرفان نظرى، سازمان مطالعه وتدوين كتب علوم إنساني دانشگاهها(سمت)، تهران، 1390ش، چاب4، ص5-6.
[49]– الحيدري، كمال: العرفان الشيعي؛ رؤية في مرتكزاته النظريّة ومسالكه العمليّة، مؤسسة الإمام الجواد(ع) للفكر والثقافة، قم، 2011م، ط1، ص9.
[50]– ابن سينا، أبو علي: الإشارات والتنبيهات، مرجع مذكور، ج3، ص 369.
[51]– سجادي، ضياء الدين: مقدّمات تأسيسيّة في التصوف، دار الهادي، بيروت، ، 2002م، ط1، ص 12.
[52]– الشبليّ: “أبو بكر دلف بن جحدر، أو ابن جعفر، أو أنّه جحدر بن دلف، فاسمه الحقيقي مختلف فيه، وشهرته بكنيته، وله شطحات عرفت عنه كشطحات البسطاميّ، وإن كان البسطاميّ له السبق والشبليّ والحلّاج من أخلافه. وله شعر صوفي جميل وسليقة شعريّة فيّاضة… وينسب الشلبيّ إلى شبلة من خراسان، وولادته في سرّ من رأى سنة 247ه، ببيت عز وجاه… كتب الحديث الكثير ورواه، وتفقّه على مذهب الإمام مالك، قال: كتبت الحديث عشرين سنة، وجالست الفقهاء عشرين سنة، ثمّ شغلته العناية عن الرواية، فقد التقى بالصوفيّ خير النساج وحضر مجالسه وفتن به، فانصرف عن الدنيا، وطلب من أهل الولاية التي هو عليها أن يعفوه من أمرهم، وبدأ المجاهدة والتصوّف، فصحب الجنيد شيخ الصوفيّة وارتبط به… واشتهر الشبلي بالشطح”. الحنفي، عبد المنعم: الموسوعة الصوفيّ، مرجع مذكور، ص236.
[53]– الأصفهاني، أبو نعيم: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، دار الفكر، بيروت، 1416ق/1996م، ج1، لاط، ص22-23.
[54]– مطهري، مرتضى: العرفان، ترجمة: عباس نور الدين، دار المحجّة البيضاء، بيروت، 1993م، ط1، ص11.
[55]– الديناني، غلام حسين: العقل والعشق الإلهيّ، مرجع مذكور، ج1، ص77.