نظير المتصوِّف جدليَّة الأنا والآخر والله في نهج البلاغة
د. محمود حيدر
باحث في الفلسفة والإلهيَّات- رئيس مركز دلتا للأبحاث المعمَّقة- لبنان
مقدِّمة:
من أين لنا أن ندخل في نهج البلاغة حتى نهتدي منه إلى نظير المتصوِّف؟
سؤال يبقى على نصاب الولادة كلَّما اهتدينا إلى جواب…ذلك أّنَّ النظير الذي انكشف للإمام في عين الحقِّ، هو عينه ذاك الآدميُّ المستخلف في عالم الخلق.
سوى أنَّك حين تنصت إلى الخطبة، تروح الخطبة تمنحك ما ابتغيت من بلاغتها. فكلَّما توسَّعَت طلبًا جاءتك على حسب سعيك، وفاضت عليك بمقدار سعتك. فأنت في حالك هذه، لن تفارق الحيرة. فستأتيك الخطبة كلَّ آن بمسألة، كما لو كنت وسط جلال الكلمات كذاك الساري في بحر لجيٍّ، أو في نهر لا منتهى لمجراه. ثمَّ لمَّا أن غدوت من النهج على السمع والإصغاء، حُمِلتُ إلى باب من أبوابه العالية، بابٍ موصولٍ بالعدل والحكمة واللّطف، وببلاغة القصد الذي فيه، عنيت به باب التناظر في الوجود.
* * *
متَّكأ كلامي هنا كلمات من كتاب أرسله الإمام علي بن أبي طالب (ع) إلى واليه على مصر مالك الأشتر، يعظه فيه ويرشده إلى صراط العدل وتقوى الله في الرعيَّة، وممَّا جاء فيه: “وأشعِر قلبك الرحمة للرعيَّة، والُّلطف بهم، ولا تكن عليهم سَبُعًا ضاريًا تغتنمُ أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.. فأعطهم من عفوك وصفحِك مثل الذي تحبُّ وترضى أن يعطيك الله من عفوِه وصفحِه”..
ما الذي أعنيه بالتناظر لجهة ما يتَّصل بـ”نظير المتصوِّف” عنوان هذا البحث؟
تفترض الإجابة تظهير الملحوظة المنهجيَّة التالية: لا نقصد بـ”نظير المتصوِّف” من يقابله، أي من يمكث على ضفَّة ثانية ليراه أو ليتماهى معه، أو ليكون له ندًّا وخصيمًا. إنَّما نظير المتصوِّف هو كائنٌ ومعنى: الكائن الذي يرنو إليه العارف بالله ليكون مثالًا للناس في اجتماعهم وتدافعهم. المعنى الذي به تهتدي الإنسانيَّة إلى تدبير منازلها الحضاريَّة، حيث لا مكان لمخلوق خارج عناية الخالق ورحمانيَّته.
في الفلسفات الحديثة ثمَّة الكثير ممَّا عنى الإشكال حول الأنا والآخر.. لكن الإشكال لم يستوِ على حال، فامتدَّ السجال في نظريَّة الحقوق إلى ما لا حصر له من المسافات من دون أن يجد مستقرًّا له.
هذه الورقة مسعى لبيان مقاصد خطبة الإمام في الإشكال. وعلى التعيين في ما خصَّ قوله حول النظير في الخلق. ولقد وجدت فائدة في إيراد العناوين الإيضاحيَّة التالية:
ـ الأنا في مقالة الإمام هي ضمير المتكلِّم بالحقِّ. فإذا ما صنَّف الناسَ صنَّفهم بالعدل، فأقامهم على خطِّ الاستواء في أصل النشأة، حتى لم تعد الأنا ترى إلَّا بعين الله ولطفه.
ـ الأخ، هو المؤمن المتحيِّز، في الشريعة المقدَّسة، إلى كونه عضوًا في الأخُوَّة الكونيَّة العائدة إلى أصل النشأة الأولى.
ـ أمَّا النظير فهو المعادل للأنا والأخ في المنشأ والأصل، وهو المثيل الإيجابيُّ للأنا والآخر. وهو أساسًا ذلك الكائن صاحب النفس المحترمة، الممنوحة من الحقِّ الأول على مشيئة الاستخلاف الآدميّْ. والنظير بهذه المثابة هو ما يتعدَّى المفهوم المألوف عن الآخر، كون الآخر يفترض الخصومة الندِّيَّة، حيث المسافة بينه وبين الأنا تبقى محكومة بالأغراض، والإعراض، أو بالتماهي المشوب بالنقص والاستعلاء.
ـ النظير في مقالة الإمام هو ذلك الكائن المستخلف في الأرض والمتَّصل بالشهادة والغيب. إنَّه امتداد طوليٌّ للأنا مع الحقِّ الأول، مثلما هو امتداد عرْضيٌّ للأنا مع سائر الخلق. وهذا الامتداد الخَلْقيُّ نظير الأمر الإلهيِّ، لذا فإنَّه يؤلِّف صلة الوصل الوجوديَّة في مثلَّث الأنا والآخر والنظير. كما يؤلِّف العروة الوثقى مع الله، ذلك يعني أنَّ حضور النظير يعادل بالأصل حضور الأنا والشقيق في الدين. إذًا، هو حضور أصيل يتحرَّك تحت إشراف الحقِّ الأول وعنايته. فـ”الثلاثيَّة العلويَّة” في حقيقتها نظائر مجتمعة على السويَّة في عالم الوحدة، ذاك أنَّ الاتصال بالواحد يفضي إلى أصالة تلك النظائر، لجهة استحقاقها للحقَّانيَّة المجعولة لها من الحقِّ الأول.
والحاصل: أنَّ حقَّ الغير هو حقٌّ متأتٍ من فيض الله لا من عند الأنا. وهنا بالذات يمكن لنظير المتصوِّف شهود التجلِّي التناظريِّ بين الحقِّ والخلق في نهج البلاغة.
لو أحلنا كلام الإمام بشقَّيه العلميِّ والعمليِّ لَنَسَبْناه إلى عالم الحكمة البالغة، أو إلى عالم العرفان الكامل. ففي مراتب هذه الحكمة يتدرَّج السائر نحو الحقِّ الأول، عبر جدليَّة لا نهاية لها من المحو والإثبات، والترك، والاتِّباع، وكذلك عبر محاكاة لوازم الشريعة وأحكامها، وصولًا إلى تدبُّر حقائقها الباطنة ومثالاتها. والحكمة الأخلاقيَّة البالغة التي يُراد من خلالها إدراك النظير، لا تمسُّ غايتها إلَّا برحلة تعرُّفٍ مضنية في طلب الالتحاق بالربوبيَّة.
إنَّ فهم النظير على نحو ما يريده إمام العارفين، هو فهمٌ لا يتحقَّق على التمام إلَّا إذا عاينَّاه بعين الحقِّ لا بعين ذاتنا. فلا تستقيم الرؤية التوحيديَّة مع رؤيتنا المكتظَّة بالفقر، والأنانيَّة، ونكران الجميل. فقاعدة التناظر في الكثرة الخَلْقيَّة هي قاعدة أصيلة ثابتة ينفرد بها الخالق وحده تعالى. والخلق المأمورون بتمثُّلها لا ينالونها بغير المجاهدة. ولهذه المجاهدة شرائط معرفيَّة وسلوكيَّة، هي من مقتضيات الرحلة الشاقَّة في المباحث الالهيَّة والمعارف الربانيَّة. وهي على ما يبيِّن الحكيم الإلهيُّ صدر الدين الشيرازي رحلة في غاية الغموض، ودقيقة المسلك، ولا يقف على حقيقتها إلَّا واحد بعد واحد، ولا يهتدي إلى كُنهِها إلَّا وارد بعد وارد([1]).
المُراد من الحكمة التي على الساعي في الحقِّ أن يمتلئ بها، هي التي تؤول إلى معرفة ذات الحقِّ الأول، ومرتبة وجوده، وصفاته وأفعاله، وإلى إدراك كيفيَّة صدور الموجودات منه تعالى. وهذه الحكمة التي ظهر مثالها الأكمل في نهج البلاغة، هي عناية ربَّانيَّة وموهبة حقَّانيَّة كما في الكتاب العزيز: (يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤتى الحكمة فقد أُوتي خيراً كثيراً) (سورة البقرة ـ الآية 269). وهي إلى هذا وذاك، مرزوقة من فضل الله وكمال ذاته ورشحات وجوده، آتاها الله لمن اختاره واصطفاه من خواصِّ عباده ومحبوبيه، ولا ينالها أحد من الخلق إلَّا بعد تجرُّده عن الدنيا وعن نفسه بالتقوى والورع والزهد الحقيقيِّ، والانخراط في سلك المقرَّبين من ملائكته وعباده الصالحين حتى يعلِّمه من لدُنه علمًا، ويؤتيه حكمة وخيرًا، ويحييه حياة طيبة، ويجعل له نورًا يمشي به في ظلمات الدنيا، كما في قوله تعالى: (أوَمن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس) (الأنعام ـ الآية 122).
النظير كظهور لتجلِّيات الحكمة البالغة:
يظهر النظير في المقالة العلويَّة من محصول الحكمة البالغة، كما في قوله تعالى: (وما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة)(سورة لقمان/ الآية 28). إنَّه اذًا، المساوي والمثيل ولكن على نصاب العدل. أي على “النشأة الأصليَّة للنوع الآدميِّ، وعلى واحديَّة تلك النشأة. بل إنَّه المعادل بين اثنين من أصل واحد. وهو ما نجده في زوجيَّة المثنَّى حيث لا انفصال للأصل، وإنَّما ضرب من تمييزٍ في الصفة والهويَّة. فكلُّ متقابلين على نحو التناظر، هما نظيران متعادلان في أصل تقابلهما وجهًا لوجه. وبذلك يؤول التناظر إلى مبدأ الإيجاد. فالكون مثلًا يُدار بسلسلة من الأنظمة والقوانين الذاتيَّة الثابتة التي لا تتغيَّر. وهذه القوانين والأنظمة هي نظائر متعادلة في أصل ظهورها في الوجود رغم الاختلافات والتفاوتات بين شخوصها وأفرادها.. ويقوم العدل في نظام النشأة الكونيَّة على وجود مراتب مختلفة ودرجات متفاوتة للوجود. وهذا هو منشأ ظهور الاختلاف والنقص والعدم. ولأنَّ التفاوت والاختلاف والنقص في المخلوقات أمور لا تتعلَّق بأصل الخلق، بل هي من لوازم ومقتضيات تلك المخلوقات، فمن الخطأ الظنُّ بأنَّ الخالق فد رجَّح بعض مخلوقاته على بعض. أمَّا الترجيح فهو الذي يؤدِّي إلى نقض العدالة والحكمة فإنه من فعل الفاعل البشريّْ، أي من المخلوق. أمَّا الذات الآلهيَّة المقدَّسة، فلما كانت وجودًا صرفًا وكمالًا محضًا، وفعليَّة خالصة، فهي إذن، منزَّهة عن تلك الوسائل والأفكار والوسائط، وبالتالي عن كيفيَّات الترجيح التي هي من لوازم الاجتماع البشريّْ. ولذا فالعدل ـ بمعنى التناسب والتوازن ـ من لوازم كون الله حكيمًا وعليمًا. فهو سبحانه بمقتضى علمه الشامل، وحكمته العامَّة، يعلم أن لبناء أي شيء مقادير معيَّنة من العناصر. ولذا فهو من يركب تلك العناصر، لتشييد ذلك البناء. وضمن دائرة ارتباط العدل بالحكمة باعتبارهما صفتين من صفات الحقِّ تعالى، يتجلَّى العدل الإلهيُّ من خلال فيضه على كلِّ مخلوق بقدر ما يستحقُّ. وعلى قول الفيلسوف نصير الدين الطوسي: لا يوجد حكم لائق غير حكم الحقِّ.. ولن يأتي حكم يفضُلُ الحكمَ الحقَّ، وكلُّ شيء موجود قد أُوجِد كما كان ينبغي، ولم يوجد شيء لا ينبغي وجوده”.. ولأنَّ لازم الحكمة والعناية الإلهيَّة هو أن يكون للكون والوجود معنى وغاية، فأيُّ شيء يوجد، إمَّا أن يكون خيرًا بنفسه، وإمَّا أن يكون وسيلة للوصول إلى الخير… فالحكمة من لوازم كونه عليمًا ومُريدًا، هي توضيح أصل العلَّة الغائيَّة للكون. أمَّا العدالة فليس لها علاقة بصفتي العلم والإرادة، ولكنها بالمعنى الذي مرَّ تكون من شؤون فاعليَّة الله، أي أنَّها من صفات الفعل وليست من صفات الذات[2].
النظير حاصل تدافع وتكامل لا تناقض:
لئن كان النظير هو في حيثيَّة ما حاصل لقاء الأنا والغير، فذلك يعني أنَّ حاضريَّته في الاجتماع الإنسانيِّ نتيجة فعليَّة لاستبدال مفهوم التناقض الوضعيِّ بمفهوم التدافع الإلهيّْ. ولذا فهو لا يقوم على قانون نفي النفي كما تقرِّر المادِّيَّة الديالكتيكيَّة، ولا على قانون التناقض كما وجدت الهيغليَّة، وإنَّما على ما نسمِّيه بـ”زوجيَّة التكامل في عالم المثنَّى”… ففي هذا العالم بالذات يولد النظير من دون أن تشوب ولادته شائبة.
فلو أوَّلنا المثنَّى في توليده للنظير لظهر لنا ما نعتبره مجازًا ” الديالكتيك الخلَّاق ” ، بحيث لا يعود النظير مقابلًا للآخر وإنَّما هو حاصل الامتداد الخلَّاق من الأنا إلى الآخر وبالعكس. وهو ما لا يقدر عليه إلَّا نظير المتصوِّف في لحظة تلقِّيه الرحمانيَّة وامتلائه بها..
وعليه، لا يقع نظير المتصوِّف خارج المثنَّى.. بمعنى أنَّه ثالث يولد من لقاء الأنانيَّة والآخريَّة ثمَّ ليظهر على الملأ كبديل لهما. ولأنَّه متَّصل بالرحمانيَّة لا يرتضي لنفسه أن يكون انشقاق الواحد عن الإثنين، بحيث لو تآلف هذان الإثنان من بعد المكابدة في مشقَّة التناقض، أن يظهر كثالث يروح يستعيد استبداد الأنا بالغير ليصبح أوَّل من جديد.
لو فعل النظير هذا ما كان ليبلغ السموَّ، ولا تسنَّى له أن يكون له حظُّ المفارقة، ذلك أنَّه محفوظ في محراب المثنَّى، فلا يغادر بأيِّ حال. فالأنا باقية تحتفظ بفرديَّتها واستقلالها، وكذلك الآخر باق ٍ على فرديَّته واستقلاله، لكنهما إذ يجريان مجرى القربى سوف يُفتح لهما باب الكمال لينالا مقام الحريَّة المؤسَّسة على العدل.
في هذا المقام بالذات سوف يُرى النظير في ضمير كلِّ من تكامل بالمثنَّى، وتوثّقت صلته بالحقِّ الأعلى. سوى أنَّه لا يفارق الجيرة الحميمة ليستقلَّ بذاته، فهو ممتدٌّ معها على أرض الأخوَّة الفاضلة. وتبعًا لمبدأ الامتداد يصير النظير آخرَ في الأنا، والأنا تغدو نظيرًا في الآخر، فيما تتولَّى الرحمانيَّة بعنايتها تثبيت المثنَّى وتسديده. ولذا يدخل كلٌّ من الأنا والغير في سنَّة التدافع الخلَّاق، بما هي سنَّة عمرانيَّة تمنع الفساد في الأرض، وتؤسِّس لإعمار دنيا الإنسان وتيسِّر سبيله إلى السعادة القصوى.
بهذه الصيرورة لا يُشتقُّ النظير من ضدَّين: الأنا والآخر، بل هو ممَّا يُشتقُّ منه نظرًا لأصالته، وكذلك لأنَّه مفارق للأضداد. يستطيع الأنا أن يتمثَّل حال سواه ويكونه، بشرط أن يعقد النيَّة على الخروج من كهف الثنائيَّة واحترابها. ففي هذا الكهف تحتدم الأنا بمن يغايرها هويتها أي الغير، فيصبحان نقيضين متنافرين يسعى كل منهما لدمار سواه، أو – في أحسن حال- ليقيم معه توازن هلع لا يلبث بعد هنيهة أن ينفجر لتصيب شظاياه الإثنين معًا. وإذن، لا يولد النظير إلَّا في مكان ٍ نظيف خارج الكثرة المشحونة بالغيظ وسوء الظنّْ. وسيكون له ذلك حين تبلغ أحوال العالم درجة الاختناق. فعند هذه الدرجة لا يعود ثمَّة انبثاق للحقيقة السامية إلَّا حين يفارق الساعي إلى النظارة مضائق العتمة ليصبح معادلًا للصفاء الكونيّْ. ولنا هنا على سبيل المناسبة أن نذكر شاهدًا من مختبرات الحداثة الغربيَّة:
كان نيتشه – وهو ينقد ثنائيَّة الخير والشرِّ في عقل الغرب- يتساءل عن الكيفيَّة التي يمكن لشيء ما أن يولد عن ضدِّه: الحقيقة عن الضلال، إرادة الحقيقة عن إرادة الخداع، الفعل الغيري عن المصلحة الذاتَّية، ونظر الحكيم النيِّر الخالص عن الشهوة…
كان يقول: إنَّ تولُّدًا من هذا النوع ممتنع..إذ يجب أن يكون للأشياء ذات القيمة الأسمى منبع آخر وخاصّْ. وهذه القيمة لا يمكن أن تُشتقَّ من هذه الدنيا الفانية الغاوية المخادعة الوضيعة، أومن هذا الهرج والمرج من الأوهام والأهواء. إنَّ منبع هذه القيمة الأسمى يجب أن يكون هنالك في حضن الكون، في اللَّافاني في الإله المخفيِّ، في الشيء في ذاته، هناك، وليس في محل آخر” [3].
ولكن من أين للعالم بنظير ينقله من جحيم النفي والإقصاء إلى سموِّ الفضيلة والاستقبال والرحمانيَّة؟
قد يكون نيتشه أكثر فلاسفة الحداثة الذين أسَّسوا لفكرة نظير يقوم بهذه المهمَّة عن طريق إقامة الحدِّ على فكرة الكون المولود من احتدام الأضداد. لقد رأى أنَّ إيمان الميتافيزيقيين الأصليَّ وفي كلِّ الأزمنة، هو الإيمان بأضداد القيم. ثم ليبيِّن “أنَّ علينا أن نترقَّب جنسًا جديدًا من الفلاسفة، من الذين لهم ذوق ما، وميلٌ ما، مغاير ومعاكس لأسلافهم .. ولنقل بكل جد – كما يقول – : إنِّي أرى بزوغ مثل هؤلاء الفلاسفة الجدد”[4].
أمَّا هذا الميل المعاكس الذي يريده نيتشه من نبوءته التي مرَّت معنا، فهي بالضبط ما يقصده بـ “الإنسان الخلَّاق ” أو الإنسان المتفوِّق الذي وجده في حكمة زرادشت. فسنرى مثلًا، أن الواجب الأول في تأويليَّته هو الانتصار على الذات. لذا كان يردِّد على الدوام أنَّ الإنسانيَّة التي يطمح كلُّ إنسان إلى تجاوزها هي إنسانيَّته بالذات. ولقد كانت الخشية العظمى التي تسكنه هي الإضرار بالغير. وأمَّا العدالة بهذا الاعتبار، فهي ليست مجرَّد مكافأة تمنُّ بها الأنا على سواها، بل هي عطاء مجانيٌّ تتجاوز ذاتها في سخاء بلا حدود طبقًا لما ورد في كتابه الأثير “هكذا تكلَّم زرادشت” : ” أحب ذلك الشخص الذي يعطي دائمًا ولا يريد حفظ نفسه”.
إذا كان نيتشه وجد نظيره في زرادشت، فقد ظلَّ هذا النظير محكومًا بإرادتين سالبتين معرَّضتين على الدوام للاهتزاز. أمَّا نظير المتصوِّف في “الحكمة العلويَّة” فهو على خلاق ذلك.. إنه كائن مطمئن ممتلئ بالرحمانيّة، يجود ولا يسأل عمّا جاد به، ذلك بأّنه نظير ظاهرٌ بالحق، ومظهرٌ له في عالم الناس، ومؤيَّدٌ بعنايته في الآن عينه. وبهذه الصفات الجامعة يكون نظير المتصوِّف كائنًا فعَّالًا في مسعاه من أجل أن ينهض بنفسه وبغيره في الآن عينه ومن دون تفاوت.
وعلى هذا النحو تصير نفس النظير في مقام الفاعليَّة المدركة مُظهِرَةً للآخر، وكل منهما يصبح مظهرًا لغيره، لأنَّ الفاعل المدرك في مقام التألّه يُظهرُ خيريَّته طوعًا وطاعة ً للخير الأول. وهو في الوقت نفسه يدرك أنَّه مؤيَّد بالحقَّانيَّة الإلهيَّة ومحفوظ ٌ بها من كلِّ خلل وزيغٍ.
على هذا التأسيس من جمع الظاهر إلى الباطن سيُكتبُ للنظير أن يجتاز التناقض ليرى الوحدانيَّة في المثنَّى. وفي هذه الحال يصير كلُّ شيء بالنسبة إليه قابلًا لسريان الزوجيَّة الخلَّاقة في الوجود. لقد صار الأمر بينًّا لمن رأى نقيضه قائمًا في ذاته، وهنا لا حاجةٍ لأحدٍ من طرفي الزوجيَّة إلى البحث عن صاحبه في غير ذات زوجه، لأن كلًّا من الزوجين النقيضين قائمٌ في ذات الآخر، وكلٌّ منهما يحسُّ بزوجه، ولولا رؤية كلٍّ من الباطن والظاهر قائمًا في الآخر لما استطاع الإنسان أن يتلاءم مع صروف الدهر، فيحيا النقيض في نقيضه، ليُعدَّ لكلِّ حال عدَّته مزوَّدًا من غناه لفقره، ومن صحَّته لمرضه، ومن راحته لتعبه، ومن شبابه لهرمه. وإذا كان الفردُ العاديُّ يحيا هذا التناقض فطرةً وسليقةً وطبعًا بحياته النقيضين معًا، فإنّه على بصيرة من أمره، فكيف حياة أهل الغرام التي لا يعرفها إلَّا أصحابها، ولعلَّ السبب في غيابها عنَّا هو أنَّنا قد تجافينا عن فطرتنا، فلم نعش النقيض قائمًا في ذات نقيضه ؟
لهذا، كان علمُنا بباطن الشيء يجعلنا نعلم ظاهره ضرورة وبداهة والعكس بالعكس[5] . ولنا في هذا مثال: فلو علمتَ أنَّ الحركة في كلٍّ من الزوجين النقيضين من كلِّ شيء، تنتهي وتبدأ في الزوج الآخر في وقتٍ واحدٍ، لوجدت أنَّ السبب في ذلك إنما هو من أجل أن تظلَّ مستمرَّة دائمًا وأبدًا. فالشيء المتحرِّك الذي تنتهي حركته في أحد الزوجين وتبدأ في الزوج الآخر في وقتٍ واحدٍ، إنما هي حركةٌ مستمرَّة لا تتوقَّف، وفيها تتمثَّل الصلة بين الخالق والمخلوق،
وبين النظير ونظيره، وذلك في صورة رحمته التي وسعت كلَّ شيء. وفي استمرار هذه الصلة المتبادلة على السواء والتعادل المتبادل، يتجلَّى سرُّ هذا الوجود في صورة قيام النهاية في البداية في كلِّ شيء[6]. فإذا نظرت مثلًا إلى معنى التزاوج الذي يتَّجه إلى الاتصال مستقلًّا عن معنى التجاوز الذي يتَّجه إلى تعدِّي الشيء الذي تتجاوزه منفصلًا عنه، وجدت أنَّه ليس إلى تعرُّف أيٍّ منهما من سبيل إلَّا من خلال الآخر.
إذن، فالانفصال محال بين الذات والآخر في مقام القيوميَّة الإلهيَّة. ففي هذا المقام المتعالي تغمر الرحمانيَّة كيانهما معًا، لذا فإنهما يثبتان عليها ويتبادلانها بالتعادل والتساوي من دون أن تتخلَّل العمليَّة التواصليَّة بينهما عقدة العطاء المشروط بالأنانيَّة. ذاك أنَّ العطاء في هذه الحال هو عطاء صادر من المعطي الأول، وما تقدِّمه الذات إلى الغير من عطاء جميل فهو منه تعالى، وما الذات الإنسانيَّة إلَّا واسطة لفيضه وعطائه اللَّامتناهي. وهكذا لا تعود زوجيَّة الذات والآخر محكومة بالتناقض ما دامت غير مقطوعة الوصل بالألوهة. فعند هذه النقطة من الوصل تنطلق رحلة المعرفة على خطِّ الاستواء والاستقامة، حيث تعرف الذات نفسها ونظيرها على نصاب العدل، ثم لتبدأ سَيْرِيَّة معاكسة من التعرُّف ليعرف النظيرُ نظيره على القدر نفسه من المودة والرحمة.
أمَّا ما يحكم التفاعل في المثنَّى الذي يسكن الآخر والذات معًا، فإنَّما هو مبدأ التحوُّل والتكامل، ذاك أنَّ طرفي المثنَّى هما في تحوُّل مستمرٍّ بحكم أنَّ نهاية الطرف الأول ( الذات ) هي بداية الطرف الثاني (الآخر).
النظير في مقام العارف الواصل:
إذا كان لنا أن نعثر على مكانة النظير في التنظير الصوفيِّ، لقلنا إنَّه الغاية التي يطلبها السالك إلى الحقِّ في دنيا الخلق. فلو بلغ الغاية أصبح إنسانًا كاملًا. وسيكون عليه لكي يبلغ رشده وكماله أن يقطع منازل التطُّهر والصعود منزلًا بعد منزل بالإيثار والجود والسخاء. ولكنه يعرف أن مقتضى المهمَّة هو الأخذ بمشقَّة الطريق أنَّى كانت أثقالها.
وإذا كانت الحقيقة المحمدية هي سَرَيان الوحي في التاريخ، ظهر لنا النظير كتجلٍّ من تجلِّياتها. ويمكن أن نشهد على هذا الظهور من ثلاث جهات:
- من جهة كونه سلك الطريق وترقَّى في معارجها حتى عرف نفسه فعرِف الله فعرَّفه الله على خلقه.
2- من جهة كونه عارفًا بغيره، معينًا لهذا الغير على التشبُّه بجميله وحسن فعاله، إلى الدرجة التي يصير فيها الغير نظيرًا له في الصفات والأفعال.
- من جهة كونه مظْهرًا للحقِّ الأعلى في مقام الرحمانيَّة.
حين تجتمع جهات الرؤية الثلاث، يمكن أن تتكامل صورة النظير وماهيَّته. ثم سنجده ينتقل إلى طور العمل ليبدأ سفره في عالم الناس ساعيًا إلى إنجاز مهمَّته الإلهيَّة. وهكذا تبدو المهمة القصوى للنظير الرحمانيِّ في محو سلطة الأنا على الغير، حتى وهي تقرُّ للغير بحقِّ التناظر والاستواء. ولهذه المهمَّة بعدٌ جوهريٌّ يتوقَّف على تحقُّقه تحصيل الرحمانيَّة كصفة فعليَّة لحاكميَّة الحقِّ الأعلى في ضبط التقابل بين الأنانيَّة والغيريَّة. فالنظير الرحمانيُّ يبقى حتى وهو في مقام التحقُّق مفتقرًا إلى حاكميَّة الحقِّ الأعلى وتسديده. فهو دائمًا على خوف مقيم من التقصير، كما في قوله تعالى ( لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون) ( سورة آل عمران/الآية 92). والإنفاق من الحب هو العطاء الزائد عن الواجب. وهو الدرجة العليا من الجود التي تدخل في فضاء يتعدَّى فائض التملُّك. إنه الإنفاق من ذات الأنا التي لا يقدر عليها إلَّا من نال شهادة العرفان بعدما جاهد نفسه حدَّ التلاشي والذوبان في حقيقة الشريعة. ينقل الصوفيُّ الكبير معروف الكرخي، عن معلِّمه وشيخه الإمام الرضا (ع) قوله: “إنَّ الله تبارك وتعالى أعدَّ لأوليائه شراباً، فإذا شربوا سكِروا، وإذا سكِروا طرِبوا، وإذا طربوا طابوا، وإذا طابوا ذابوا، وإذا ذابوا خلصوا، وإذا خلصوا وصلوا، وإذا وصلوا اتصلوا، وإذا اتصلوا لا فرق بينهم وبين حبيبهم” [7].
أما كيف يحصِّل السالك شرابه الإلهيَّ، فذلك بالاتِّباع والتقليد من الشيخ إلى المُريد. ويعود أصل هذه القاعدة إلى مقام الأخوَّة الذي ابتناه النبيُّ الأعظم (ص) مع إمام العارفين، كما ورد في الحديث: “عليٌّ منّي بمنزلة هارون من موسى”، وفي هذا يقول الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي في الفتوحات: إنَّ عليّاً من أصحاب العلم.. وهو ممَّن يعلمون من الله ما لا يعلمه غيرهم[8]. وذلك آتٍ من الصحبة والأخوة الروحيَّة التي كانت بين النبيِّ وعليّ. فتلك صحبة – على رأي الصوفيَّة- أسّست لنظام المثنَّى في العلاقة بين الشيخ والمُريد. فالنبيُّ في هذا المقام هو شيخ الإمام، والإمام مُريده. وعلى هذا المنهج أقامت الصوفيَّة صرح منظومتها في السير والسلوك والمجاهدة في الله.
ذلك ما ذهب إليه أبو حفص السهروردي حين رأى أن تمثُّل هذه المنظومة لا يكون إلَّا لمُريد حصر نفسه مع الشيخ وانسلخ من إرادة نفسه، وفنِيَ فيه بترك اختيار نفسه. فبالتآلف الإلهيِّ يصير بين الصاحب والمصحوب امتزاج وارتباط بترك الاختيار[9].
لقد أدركت الصوفيَّة منزلة النظير عن طريق نظام المثنَّى بين النبيِّ والإمام، ومن ثم بين الشيخ والمُريد تأسِّيًا واتِّباعًا وتقليدًا. من هنا يقال إنَّ الدين طاعة رجل. وهو عين قول أبو يزيد البسطامي: “إن من لم يكن له شيخٌ فإمامه الشيطان”[10].
ذلك يعني بالضرورة أنَّ كلًّا منهما يقوم في نظيره. أي أنَّ لدى النظيرين حنينًا يكشف سرَّ التجاذب بينهما، مع أنَّ لكلٍّ منهما أن يحتفظ بذاته ويكون في الوقت نفسه موضوعًا لغيره. يعني أن تبقى الذات هي نفسها في مقام الوحدة وهي غيرها في مقام التكثّر. وهذا المقام المنبني على العشق هو بالضبط ما يحصِّله النظير الصوفيُّ لمَّا أفلح في العبور من دنيا التناقض وعوارض الكثرة، إلى عالم التحرُّر والتكامل والوحدة.
لم يكن لنظير المتصوِّف أن يحرز كماله في مثنَّى الشيخ والمُريد، لولا أنَّه بلغ ما بلغه في معراج التوحيد. فلئن استوت جدليَّة الأنا والغير على أرض الله، أفلح المثنَّى في تظهير قوام النظير على حسن المقام. وذلك ما وجدناه في نهج البلاغة، حيث لا يُكتب للنظير حظُّ اكتساب صفاته الفاضلة، ما لم يحرز مقام التوحيد كأساس لموقعيَّته في دنيا الاستخلاف الإلهيّْ.
النظير في بلاغة التوحيد:
نجد بلاغة التوحيد عند الإمام في بيان مقصده تعالى في الآية الكريمة (ولا يحيطون به علما) (سورة طه/ الآية 110). فبيَّن أنَّ الخلائق لا تحيط بالله علمًا. إذ جعل تبارك وتعالى على أبصار القلوب الغطاء، فلا فهمٌ يناله بالكيف، ولا قلب يثبته بالحد، فلا تصفه إلَّا كما وصف نفسه. ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وهو الأول والآخر، والظاهر والباطن، والخالق البارئ المصوِّر. خلق الأشياء فليس من الأشياء شيء مثله. وفي تفسير الحكيم الإلهيِّ صدر الدين الشيرازي، أنَّ الحدَّ الإمكانيَّ للغطاء هو الذي يخفي الذات المقدَّسة. وهذا الحدُّ هو سبب لمحدوديَّة الممكن، وعجزه عن إحاطة الحقِّ الأول. ولمَّا لم يكن له تعالى حدٌّ وجوديٌّ، بل هو وجود صرف صريح، فقد كان له الإحاطة والسلطة على الأشياء. بل إنَّ الحقَّ في مقام ذاته وغيبه المنعوت بالكنز الخفيِّ هو عارٍ منزَّهٌ عن التعيُّنات. ولهذا ورد النهي عن التفكُّر في ذات الله، وفي قول الإمام “من تفكَّر في ذات الله ألحَدَ. ومن تفكَّر في صفاته أرشد”. وهذا ما يتبيَّن في القرآن الكريم حيث لم يشتمل من معرفة الذات في الأغلب إلَّا على تقديسات محضة، وتنزيهات صرفة، كقوله تعالى (لا إله إلا هو) (سورة البقرة / الآية 255)، وكقوله سبحانه (سبحان ربك رب العزة عمَّا يصفون) ( سورة الصافات/ الآية 180).[11]
سنرى أنَّ أسمى صفات الإمام في توحيد الله، صفة العبدانيَّة، أي عبادة اليقين، وهي عبادة لا شية فيها، حيث يصل العابد بها إلى مقام التصديق التامِّ، وهو مقام الحمد لذات الله. حيث الحمد مقصور على الله لأنَّه الله. وهو غير مرتبط بعطاياه ومِنَحَه ورزقه، ووعده الموحَّدين بالنعيم الأبديِّ، وإنَّما لأنَّه الحق الأحد الصمد. وهذه المرتبة من اليقين التامِّ لا تُدرك إلَّا من مقام القائل: “إلهي ما عبدتك طمعاً في جنتك ولا خوفاً من نارك، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك”. وبهذا فإنَّ أقرب تعبير قدَّمه الإمام لمقام الحمد هو شعيرة السجود، لكونها الشعيرة الدالّة على الإقرار التامِّ بالصمديَّة وتسبيحها.
والحمد هو عين العلم بالله، ومن هذا المحلِّ العلميِّ ينظر الإمام إلى الأنا والغير ليلتقيا معًا في النظير. وههُنا يبتدئ السير في حركة القول والعمل تأسيسًا على الارتباط الموثوق بين الحامد والمحمود، وبالتالي بين العابد والمعبود.
وحتى يُعرف الحقُّ بذاته حقَّ المعرفة على قاعدة “بك عرفُتُك”، ينبغي النظر في عبدانيَّة الإمام للحقِّ بالخلق، لتصير المعرفة بالله معرفة بمخلوقاته بالتبعيَّة. ذلك أنَّ حقيقة العبدانيَّة هي معرفته لذاته في تبعيَّتها. والتبعيَّة عمومًا عبارة عن الارتباط بشيء في أمر لا يتمُّ حصوله إلَّا بهذا الشيء. وفي مقام تبعيَّة الإنسان خصوصًا، هي أن يرتبط بشيء تحصل له به فائدة أكبر من تعيُّن وجوده وتحقُّق سلوكه. فتكون العبدانيَّة في هذه الحال، هي معرفة الارتباط الذي يحصل به التعيُّن الوجوديِّ والتحقُّق السلوكيِّ. ويصطلح أهل المعرفة على تسمية هذا الارتباط باسم “التبعيَّة الأصليَّة”[12].
تأسيسًا على “عبدانيَّة الحمد لذات الله”، يشرع الإمام في السفر إلى عالم الناس. ومن فضاء الحمد يمضي إلى حلِّ إشكال التدافع بين الإنسان والإنسان. وهو في الحقيقة الحلُّ الذي ظهَّره الإمام عبر التناظر على قاعدة التعرُّف الخلَّاق بين منوَّعات الكثرة البشريَّة واختلافها.
وهكذا، سيكون لمسار التعرُّف أن يترسَّخ عبر حركة تسري في جوهر العلاقة التي لا تنفصم بين الحقِّ والخلق. أمَّا ميدان هذا السَرَيان فهو في الحيِّز الذي يشهد فيه الحقُّ على الخلق. وهو ما اصطُلح عليه بعالم الشهادة. فسيكون على الإمام وسط هذا العالم، أن يدلَّ ويبيِّن ويعلِّم ويقيم الوزن بالقسط بين الناس تبعًا لتقريرات الحقِّ الأول في الشريعة المقدَّسة.
لقد عرف الإمام الحقَّ. وبهذه المعرفة أدرك حاضريَّة الحقِّ في الخلق، حتى لقد صارت البلاغة عنده علمًا حيث كلُّ قول فيه ينحكم بقول الحقِّ، وكلُّ عمل ينحكم بعمله. ليست المعرفة بحقِّ الناس عند الإمام أمرًا محصَّلًا بالاكتساب بقدر ما هي دفع إلهيّْ. ذلك أنَّ حقَّ الإنسان غير منقطع عن حقِّ الله في الخلق. والإحالة العلويَّة إلى الحقِّ الأول يجعل حقَّ الإنسان مرتبة من مراتب ذات الحق. وبذلك يغدو كلُّ حقٍّ في عالم الكثرة البشريَّة موصولًا بعروة وثقى بالحق في عالم الوحدة الإلهيَّة. في الرؤية المتبصِّرة بأنوار الحقيقة المحمديَّة ما من فاصل بين حقِّ الله وحقوق الناس. لكن صلات الوصل بناء على هذه الرؤية تنبثُّ من قيوميَّة الحقِّ تعالى على الوجود، لا على محوريَّة الإنسان التي ابتنى عليها العقل الغربيُّ منظومته الفلسفيَّة ورؤيته للوجود.
قوام التناظر بين الأنا والأخ والنظير في مقالة الإمام، إنَّما هو انبثاقه، من دائرة الألوهة. فهذه الثلاثيَّة جارية على الاستواء ضمن هذه الدائرة فلا تتعدَّاها. فإنَّ القائل بالتناظر الذي هو الأنا العارفة بالحمد لله لا يفارق الثلاثيَّة. إنَّه ركن من أركانها، وحين يوصِّفُ الناس، ويصنِّفهم، لا يكتفي بالتوصيف والتصنيف على نحو ما يفعل المنفصل عن إطار الصورة، وإنَّما يمضي عميقًا في حقل التفاعل بوصفه وصيَّ الرسول وحامل الأمانة والإمام المبين.
التناظر في الاجتماع البشريِّ إذًا، هو حضور الإمام كمربٍّ للنظير في حركة الواقع. حيث ينبغي له الانتظام على الصراط. ومبتدأ الصراط عند المربّي هو قبول التكليف بوصفه واجبًا افترضه الحقُّ على الإمام المستخلَف ليتولَّى شؤون خلقه.
وأمَّا مناط التكليف ـ كما سيقرِّر الإمام في النهج ـ فعائد إلى تنزيل الأخ والنظير في مقام الأنا العارفة بالحمد. وهذه الموقعيَّة المتعالية هي تلك التي تتجلَّى بعقد إلهيٍّ يظهر في عالم الناس وقوامه سير الأنا في معراج الحقَّانيَّة بدءًا من الحقِّ الأول، امتدادًا إلى الأخوَّة في الايمان، وصولًا إلى النظيريَّة في الآدميَّة. وهكذا، فإنَّ السير في معراج الحقَّانيَّة على النحو الذي يمليه العقد الإلهيُّ هو سير متساوق مع القوانين التاريخيَّة، أي أنَّه سير في الخلق بالحقِّ، فيه يرجو السائر عناية الحقِّ وتأييده، ليفلح بما أُمِرَ به في عالم الناس، يخالطهم ويدبِّر شأنهم ويرشدهم إلى الحقّْ.
لقد أوضح الإمام خطَّ السير في دنيا الخلق بعناية الحقِّ بادئًا من نفسه. وممَّا جاء في وصيَّته لابنه الحسن(ع): ” يا بنيَّ اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تُحِبُ لنفسك، واكره له ما تكره لها. ولا تظلم كما لا تحبُ ان تظلم، وأحسن إلى جميع الناس كما تحب أن يُحسن إليك. واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وارضَ من الناس بما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم، وإن قلَّ ما تعلم، بل ولا تقل كلَّ ما علمت ممَّا لا تحب أن يُقال لك. ولا تسأل عما لا يكون. (…). واعلم يا بنيَّ أن رأس العقل بعد الإيمان بالله، مداراة الناس. ولا خير فيمن لا يعاشر بالمعروف من لا بدَّ من معاشرته، حتى يجعل الله إلى الخلاص منه سبيلاً، فإني وجدت جميع ما يتعايش به الناس وبه يتعايشون ملء مكيال. ثلثاه استحسان وثلُثْه تغافل”(ص 739 ـ 740).
النظير كحضور بيِّن في الزمن البشريّْ:
منتهى معراج الإمام في رحلة التكليف لإصلاح عالم الكثرة، العودة إلى المبدأ. وما دام كلُّ أمر متعلِّق بتوحيده تعالى فلا مناص من الرجوع إليه في كلِّ شأن متعلِّق بتدبير الاجتماع الإنسانيِّ. وهو ما يبيِّنه الموحِّدون في قولهم: “إنَّ النهايات هي الرجوع إلى البدايات”. وهذا القول يترجم أصل الميل والعشق لكلِّ مخلوق للرجوع إلى أصله ومبدأه. وبعبارة أخرى هو أصل عودة كلِّ غريب إلى وطنه. ويعتقد الأولياء أنَّ هذا الميل إلى المبدأ يشمل كلَّ ذرَّات الوجود ومنها الإنسان، ومهمَّة التكليف الإلهيِّ تظهير هذا الاعتقاد من خلال الإرادة والعزم على أدائها. والإرادة عندهم تعدُّ أول منازل السير إلى الله عبر إصلاح شؤون الخلق. ذلك ما ألفناه في نهج الإمام، فلم يفصل بين عبادة الحمد والتنزيه لله الواحد الأحد الصمد، وبين فعليَّة العبادة في الاجتماع الإنسانيِّ، حيث تتمظهر أسماء الله وصفاته وأفعاله كشواهد وموازين في أعمال الناس وتجاربهم.
ولمَّا كان في التجارب علمٌ مستحدثٌ كما تبيِّن الحكمة العلويَّة، فلسوف يجد المكلَّف الرِّساليُّ نفسه أمام مقتضيين، ينبغي له الأخذ بهما وهو يمضي في مسار التكليف:
ـ المقتضى الأول: هو الخطاب الإلهيُّ، وقوامه أن يعلم المكلَّف أنَّ الحقَّ يخاطبه في كلِّ شيء، وأنَّ هذه المخاطبة مستمرَّة باستمرار حياته، وأنَّ نصّ هذا الخطاب، إن حُفِظَ رسومًا في الصحف المطهَّرة، فمعانيه مودعة في نفس المكلَّف وفي الأكوان من حوله، كقوله تعالى: (سنريهم آيتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيَّن لهم أنه الحق) (سورة فصلت/ الآية 53). وأن يعلم هذه الأكوان ما قامت ولا استقامت إلَّا بهذه المعاني الإلهيَّة التي على المكلَّف واجب طلبها، والتعرُّف عليها، والتقرُّب بها إلى حضرة الله.
ـ المقتضى الثاني: هو الرؤية والمراقبة، ومؤدَّاهما أن يعلم المكلَّف أنَّ الله يراه رؤية لا تنقطع، وأنَّ هذه الرؤية، إن جاءته بالرضى عن أفعاله سعد سعادة لا يشقى بعدها، وإن جاءته بالسخط شقي شقاوة لا يسعد بعدها، وبذلك فهو مطالب بأن يراقب نفسه ويراقب الله في كلِّ أفعاله [13].
من هذين المقتضيين الإجماليين، تتفرَّع ثلاثة مقتضيات تفصيليَّة تفترضها شروط العمل في ميادين التجربة التاريخيَّة وهي “الاشتغال بالله”، و”التعامل مع الغير”، و”التفاعل مع الأشياء أو مع سائر الموجودات”.
ـ في المقتضى الفرعيِّ الأول: يدرك المكلَّف أنَّه مخلوق للاشتغال بالله، وأنَّ الاشتغال بغيره ينبغي أن يذكره بالله دائمًا وأبدًا. فما يعقل شيئًا إلَّا ويجعله هذا الشيء يعقل أمر ربِّه فيه.
ـ في المقتضى الفرعيِّ الثاني: أي التعامل مع الغير، فإنَّ المكلَّف يأتي أعمالًا لصالحه يبنيها على اعتقاداته مُقِرًّا لغيره في الوقت ذاته بحقِّ الإتيان بمثل هذه الأعمال الصالحة، وبحق توجيهها بما عنده من اعتقادات، كما يرتِّب المكلف هذه الأعمال جميعًا بحسب ما يقتضيه الصالح العام.
ـ في المقتضى الفرعيِّ الثالث: وهو مقتضى التفاعل مع الأشياء، يتَّجه المكلَّف إلى الموجودات من حوله قصد إرضاء حاجاته المشروعة، وحفظ حياته المادِّيَّة، فيفعل فيها ويتصرَّف بها بحسب هذه الأهداف، كما تفعل فيه هذه الموجودات هي الأخرى، وتؤثِّر فيه بما يوافق هذه الأهداف أو يعارضهاـ فتقوم بينهما علاقات الأخذ والعطاء والتأثُّر والتأثير[14].
تدخل ثلاثيَّة الأنا والأخ والنظير دخولًا بيِّنًا في صميم هذه المقتضيات سواء ما يتعلَّق منها بالمستوى الإجمالي لجهة صلة المكلَّف بالحقِّ الأوَّل، أم ما يتعلَّق منها بالمستوى التفصيليِّ لجهة صلة المكلَّف بمنعطفات وتعقيدات وشواغل الاجتماع البشريِّ. ههُنا على التعيين يمكننا فهم ما ذهب إليه الإمام في التوصيف والتصنيف لأحوال الناس في حراكهم التاريخيِّ. إذ إنَّه ميَّز بين النظير في مقامه التكوينيِّ حيث التعادل والتساوي في أصل الخلق، وبين النظير في عالم الكثرة والاختلاف والتدافع في حقول الخير والشرّْ.
لقد أراد الإمام بمقالته أن ينشئ عقدًا رحمانيًّا ينتظم صلات الوصل بين الناس. لكن لا يعني أًن عقدًا كهذا يغيِّب حال التغاير والاختصام والعداوة، ففي أثناء خلافته صنَّف أعداء الدولة الإسلامية بثلاثة: الناكثون والقاسطون والمارقون:
الناكثون هم أصحاب الجمل، والقاسطون أصحاب صُفِّين، وأمّا المارقون فهم أصحاب النهراون من الخوارج. وفي خطبة الشقشقيَّة من نهج البلاغة يقول: “فلمَّا نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون، وأمَّا صفات هذه الطوائف فقد توزَّعت بين الجشع، وحب المال، والسعي إلى السلطة والنفاق ناهيك بالخوارج الذين امتازوا بالتكفير والعنف وإثارة الفتن”.
هذا التصنيف المثلَّث الأضلاع الذي وضعه الإمام ليبيِّن أحوال الأمَّة، لم يكن بخارج عن التناظر الرحمانيِّ. فها هو يمتد امتدادًا جوهريًّا ليبلغ مثلث الخصوم. فالأنا العلويَّة هنا، تدرك أنَّ في عالم الكثرة حركة وتغيُّرًا وتبدُّلًا. فالعدوُّ في لحظة ما يمكن أن يتحوَّل إلى وليٍّ حميم، كما في آية الأمر الإلهيِّ بالدفع، (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌّ حميم). (وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقّاها إلا ذو حظ عظيم) (سورة فصّلت/ الآيتان 34 ـ 35).
تظهر الآيتان على كمالهما في مقام التطبيق في قول الإمام “صافح عدوَّك وإن كره، فإنه ممَّا أمر الله في عباده” وقوله: “ما يكافأ عدوُّك بشيء أشدُّ عليه من أن تطيع أمر الله فيه”.
وفي هذين المأثورين ما يفصح عن الامتداد الرحمانيِّ الذي يبدأ من الأنا العارفة بالحمد لله، إلى النظير وإن كان لك عدوًّا. وذلك ما يقيمه الحكماء والعرفاء في أعلى مراتب الارتباط بالحقِّ الأول. إذ على قاعدة الحبِّ في الله والكره في الله يستوي الموحِّد على الصراط، حيث الأولياء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ومثلما يسري مفهوم النظير على الفرد والمجموعات، فإنَّ له سريانه في فضاء الحضارات والأديان. وما في القرآن الكريم من البيِّنات بصدد الاختلاف والتنوُّع وتكثّـُّر طرق معرفة الحقِّ من خلال الأديان رسالات الوحي، ما يفضي إلى بيان سلسلة الوجود الواحد وصولًا إلى المصدر الأول والحقِّ الأول، ذلك ما يجعل مبدأ التناظر ضربًا من الكثرة في عين الوحدة، بحيث يغدو التكثُّر عين الحقيقة الواحدة في الاصل الانسانيِّ، ذلك أنَّ الاختلاف في الألوان والأعراق والألسُن والثقافات والأديان هي من آيات الله وسنَّة من سُنَن الخلق.
[1]– صدر الدين بن محمد بن ابراهيم الشيرازي، المظاهر الإلهيَّة، تحقيق جلال الدين الآشتياني، مركز الإعلام الإسلامي، قم، 1419 ه، ص 58.
[2]– راجعة مرتضى مطهري، العدل الإلهي، ترجمة محمد عبد المنعم الخاقاني، الدار الإسلاميَّة، بيروت، 1997، ص 82.
[3]– فريديريك نيتشه، ما وراء الخير والشر، ترجمة جيزيللا فالور حجار، إشراف: موسى وهبه، إصدار دار الجديد ، وغروب في بيروت 1995، ص 18.
[5]– محمد عنبر، مقدِّمة لديوان العارف بالله العلَّامة الشيخ أحمد محمد حيدر “النغم القدسي”، دار الشمال، طرابلس، لبنان، 1997، ص 18.
[7]– روضات الجنان، عن صحيفة الرضا، ص 231، تحقيق د. حسين علي محفوظ، طهران 1377ه.
[8]– الفتوحات المكيَّة، الجزء الثالث، ص 174.
[9]– السهروردي (أبو حفص)، عوارف المعارف، ص 70.
[10]– المصدر نفسه.
[11]– الشيرازي، مصدر سبقت الإشارة له.
[12]– مرتضى مطهري، العدل الإلهي، ترجمة عبد المنعم الخاقاني، بيروت، 1997، ص 82.
[13]– طه عبد الرحمن، العمل الديني وتجديد العقل، المركز الثقافي العربي، بيروت، 9971، ص 130.
[14]– المصدر نفسه.