ما هو العرفان، وعلامَ يصدق، نافع هو لمجتمعنا الحالي أم ضارّ؟ تساؤلات لا تمثّل محور اهتمامنا في هذه المقالة، ولسنا كذلك بصدد تعريف العرفان وبيان أسباب نشأته، إذ انّ هذه المواضيع قد أُشبعت بحثاً في عصرنا الحاضر بالرغم من أن هناك الكثير ممّا لم يقل بعد، بل انّ ما نحن بصدده هو العرفان بمفهومه الإسلامي، أي التصوّف الإسلامي المستند على القرآن والسنّة.
فالتصوف نوع من الزهد يعتمد على الاستبطان والإشراق المقترنين بإعراض عن الدّنيا يزداد أحياناً إلى حدّ الإفراط، على انّ ما يميّز التصوّف عن الزهد الإفراطي أنّ التصوّف يستند كما ذكرنا إلى الكشف والإشراق، فالصوفي إنّما ينشد الحقيقة في روحه ويلتمسها في خبايا نفسه، في حين ان الزاهد يتحرى جانب العمل بالجوارح ويصرف اهتمامه في الأدوات والوسائل، إذ نظره واهتمامه بالخارج أكثر منه بالباطن والداخل.
إنّ العرفان يسعى إلى إزاحة هذه الوسائل والأدوات باعتبارها حجباً يمكن كشفها الصوفي من رؤية معشوقه مجلياً بلا ساتر، في حين يعتبر منطق الزهد الأدوات والوسائل ضرورية، وينظر إلى مسألة التوحيد ومعرفة الخالق على انها لا تختلف عن غيرها من المسائل.
الصوفي يعتبر العشق الطريق الأقصر والأقرب إلى المعبود، بينما يعتبر الزاهد ان العقل والعمل يمثّلان ذلك؛ السلوك العرفاني يتمثل بالوجد والفناء في المحبوب بينما تتمثل عبادة الزاهدين في التعقل والتفكر في عواقب الأمور.
إنّ ما نحن بصدده هو بيان انّ التصوّف الإسلامي ـ بالرغم من كلّ ما قيل عنه ـ ينبعث من الإسلام نفسه ولا يدين بوجوده إلى أفكار وفلسفات الأمم الأخرى، وسيظهر جلياً إمكان نشوء التصوّف من الإسلام نفسه مع استبعاد تأثير الأفكار والفلسفات والمذاهب الأخرى.
وعلينا أن نبيّن ان المقصود من التصوّف هو تصوّف السنين الأولى للإسلام التي تحدّها في امتدادها نهاية القرن الأول الهجري، أي عرفان أبي ذر وسلمان، حذيفة وأويس القرني، لا التصوّف المعقّد لابن عربي وعين القضاة والسهرودي والغزالي وحتّى بايزيد والجنيد والحلاج وبوسعيد وحمدون قصار، لأننا إذا أصررنا على عدم تسمية سلمان وأبي ذر و… بالصوفيّة فعلينا على الأقل أن نفتّش عن البذرة الأولى للتصوّف الإسلامي في سيرتهم ونمط حياتهم، حيث أنّهم نهلوا من النبع القرآني الصافي في ظلّ تعاليم وسيرة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وهديه وتشكلت أفكارهم وطريقة حياتهم بعيداً عن أي تأثير غريب وفكر شاذ يشوبها من خارج المحيط الإسلامي.
وبديهي أن أولئك الذين سعوا في إظهار تأثّر التصوّف بالفلسفات الجديدة الافلاطونية والهندية والمانوية أو بالرهبنة المسيحية، قد نظروا إلى التصوّف في أوج تكامله وتعقيده، أي أنّهم أظهروا ما لمسوه ـ وكما هو الواقع فعلاً ـ من انّ عناصر غريبة وفلسفات مختلفة قد اندمجت فيه.
وفي الحقيقة، انّ التصوّف الإسلامي شأنه شأن المذاهب الأخرى قد ضمّ في طريقه سيره وتكامله نتفاً من الأفكار المختلفة التي اعترضت طريقه، بحيث عرف على انه مزيج من اعتقادات الفرق المختلفة. وعلى أنه يمثّل ملتقى الأفكار المختلفة المتضادّة، في حين إننا لو نظرنا إلى مصدر التصوّف ومنبعه ودققنا النظر في عناصره، لوجدنا انّ القرآن كان الباعث الكافي والأرضيّة المساعدة لظهور التصوّف البسيط الخالي من التكلّف في القرن الإسلامي الأول.
قانون التكامل:
إنّ أيّ مذهب ومدرسة فكريّة أو سياسية لم تبق مصونة طول عمرها عن تأثير المذاهب والمدارس الفكرية الأخرى، إذ انّ الاقتباس وحبّ التغيير والجرح والتعديل والبحث عن الجديد ومحاولة تغيير القوانين التي تبدو ثابتة هي من خصائص الروح الإنسانية المتسامية؛ وعلى هذا فان من الطبيعي بمكان ان يكون التصوّف الإسلامي قد مر ـ كما حدث للإسلام نفسه ـ عبر غربال الأفكار، وجرف في سيره من النبع إلى المصبّ الكثير من الأملاح والشوائب المختلفة، المناسب منها وغير المناسب، متكدّراً خارجاً عن انسيابه وصفائه وشفافيته السابقة إلى الحد الذي صار يعدّ شيئاً جديداً غريباً. ولو نظرنا إلى التصوف نفسه وطريقة تعامله المعتمدة على التفكير الحرّ المتسامح إلى الحدّ الذي يعتبر العارف فيه أن ليس من قلب إلاّ وفيه طريق إلى الله، وان طرق الوصول إلى الحقيقة متعددة تعدّد النفوس، وانّ خلاف الفرق الاثنتين والسبعين فيما بينها له مبرراته، وان الصوفي عليه ان ينظر إلى عقائد الآخرين باحترام، فإذا ما وفّق إلى اكتساب شيء منها فعليه أن يتقبّله بسعة صدر ويفيد منه، حيث إن العرفان كان قد فتح الباب على مصراعيه لجميع الأفكار، وكانت روح العرفان ـ كما يظهر العرفاء المسلمون ـ تمتاز بالتساهل والتسامح وعدم الاهتمام بالمسائل الظاهرية والعقائدية؛
وإذا ماتذكرنا انّ الكثير من المسائل التي كانت الفلسفة تثيرها آنذاك وخصوصاً في طابعها الافلاطوني الجديد والفلسفات الهنديّة، والتي كانت تنسجم وتتلاءم مع الميول العرفانية بحيث صبغت ذلك العصر وأفكاره بصبغتها؛ إذا ما تذكرنا كلّ هذا فسيقلّ عجبنا من جنوح التصوف إلى الفلسفة وتلاقحه مع باقي المذاهب والمدارس، إذا انّ أي مذهب لم يستطع أن يعتمد ويحافظ على نقائه عبر الزمن وأن يقاوم الانحراف الذي يخرجه تدريجياً عن أصله حتى يعود غريباً عنه، والمثال الملموس لذلك هو إسلامنا وما آل عليه.
والجانب الآخر في جواب من قال بتأثّر التصوّف بالنحل الأخرى هو انّ التفكير العرفاني ونزعة الاستيطان لا يمكن ربطه وتخصيصه بأرض وناحية معيّنة، فالروح البشريّة الهائمة حين تتطلع إلى السماء الزرقاء وتحسّ في أعماقها بعظمة الوجود والخلق، وتعتقد أن يداً غيبيّة محيّرة تكمن وراءه، سترتجف في أعماقها ويلفّها خوف محبّب، وستكتشف عمّا قليل انّ الدنيا لا تستحق ان تكون معقد الآمال ومحطّها، وان لهذه الخيوط المتشابكة طرفاً آخر ينبغي أن يكون خاتمة الحياة البشريّة.
وبناءً على هذا التصوّر يجب الاعتقاد انّ لجميع الأديان والمذاهب، حتى تلك التي ولدت من المراحل البدائية للمجتمعات البشرية نوعاً من العرفان، إذ انّ من الخصائص الرئيسية للأديان النزعة والميل إلى عالم غير منظور والاهتمام بالتخيّلات العرفانية[1]، بل انّ البعض قد أرجع ـ بنظرة أوسع وأشمل ـ تاريخ نشوء الأفكار العرفانية إلى أزمنة متناهية في القدم، وقالوا بأنّهم لا يظنّون أن التصوّف قد نشأ في القرون الإسلامية الأولى بل ان زمانه يمكن إرجاعه إلى خلق آدم، فقد حبا الخالق منذ بدء الوجود والخلق بعض مخلوقاته بمحبّته؛ لذا فانّ التصوّف الحقيقي، أي الغرق والفناء في محبّة الله والمحو في إرادته ورغبته، والذي كان مختصّاً بالأنبياء، قد نشأ قبل ظهور الإسلام[2].
إن الإنسان البدائي، قبل ان يصبح أسيراً للزحام ومشاكل المجتمع ويفقد خلال ذلك ثقته بنفسه وعقيدته بكلّ شيء، كان سيُذعن حين يواجه المشاكل الطبيعية، أن هناك قوّة غيبيّة مسيّرة، أو أن تحصل لديه ـ على الأقل ـ حالة الاستعداد لتقبّل النزعات والميول العرفانية ـ حيث ضعفت هذه الروح عند البشر تدريجياً ـ فإذا ما رافق حالة الاستعداد تلك تلقينه بمحفزات من قبيل المسائل الميتافيزيقيّة والمذهبيّة فان تلك الروح ستزداد قوّة لديه، كما انّ الالتجاء إلى أحضان الطبيعة وتفضيل سكنى الصحراء يشكل أرضية مساعدة لتقبّل هذه الأفكار.
إنّ روح تقبل العرفان تضعف عند الأمم كلّما صعدت في سلّم التمدن وأنست بالمسائل الاجتماعية وازدانت عندها الماديّات والقشور، بينما يبدو العرفان أكثر ملائمة مع حياة الصحراء والابتعاد والإعراض عن المجتمع، لأنّ العارف يستطيع بسهولة وسرعة أن يقطع علائقه مع الأرض وما عليها، ويختار الفرار من قيود المادّة ملقياً نفسه في أحضان المطلق.
ومن جانب آخر فان البشريّة حين تغرق في أغوار التمدن، وتركد في مستنقعات المادّة، وتصرخ في اضطرابها محاولةً التعلّق في فرارها من هذا المستنفع بأيّ قشّة، ستُهرع حين تبرق أمامها بوارق العرفان وتلتجئ إلى كنفها.
إن الأمم التي لم تألف بعد السنن والمخلّفات الاجتماعية والأخلاقية تشكل الأرضية الخصبة لبذر عقيدة جديدة ونشوئها، لذا فقد تلقّف العرب البدو الذي خلت نفوسهم من تأثير الأفكار المذهبية المعقّدة الملتوية والمواريث القومية والعنصرية، تلقفوا الدين الإسلامي ورسموه عميقاً في صفحات ضمائرهم وأذهانهم البيضاء فنشوا أقوياء ثابتي العقيدة.
إنّ الالتفات إلى هذه المسألة من قبل الأنظمة الاستعمارية الحديثة كان له معيطات مثمرة وناجحة، فقد كان أحد برامج الدول المتفوقة هو الاحتوء الثقافي للأمم المغلوبة، لأنّها حين تفرغ هذه الأمم من محتواها الثقافي وتخلي ضميرها من أي تقاليد وأفكار، فسيصبح بإمكانها بمنتهى الحرية إملاء ثقافتها وفكرها على تلك الأمّة وتلقينها نمطاً خاصاً في الحياة.
لقد جاء النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيئة مفككة خالية من الثقافة، مترامية الأطراف في الصحراء الواسعة والجرداء وأزاح بكلمة (لا) عن صفحات عقولهم وأذهانهم كلّ شائبة ومبدأ وفكر رديء، وأوله الباحثين عن الإله في صحراء العشق الإلهي.
أفلم تكن كلمة (لا) كافية لتجلية الغبار عن القلوب الصدئة المتّسخة؟
أولم يكن اعصار (إلاّ الله) كافياً لإزاحة عثرات الأفكار وتنقيتها وإفراغها من الأنانية والنفاق وحبّ ما هو عارض زائل؟ انّ الخطوة الأولى التي خطاها الإسلام، أي شعار (لا إله إلاّ الله). ستتكشف إذا ما طالعناها جيداً عن محور لنظر عرفاني، أفلا تكفي شفرة (لا) وحدّها لفتح الطريق وتعبيده لما يأتي إستثناءً بعد (إلاّ)؟
أوّلاً تتمخض هذه العبارة عن التطهر، الزهد، التجرّد، الفناء، الشوق، الفقر،.. وأخيراً الوصول؟
إنّ النظر إلى هذه الاصطلاحات وإلى الشعار الإسلامي الكبير من زاوية العرفان، كما نظر العرفان وعبّروا، سيظهر انّها أعمق وأغنى معنى ممّا يدور في خلدنا أو خلد أيّ مسلم غير عارف[3]. لقد لقننا هذا الشعار نبيٌ قضى معظم حياته زاهداً لم تمح من الأذهان بعد ذكرى بقائه في الغار سنين طويلة معتزلاً عن مجتمعه وعشيرته وأقاربه الأثرياء.
لقد تقضت سنين الإسلام الأولى مع بلاغاتها الناريّة ومع نزول آيات الخوف، حيث عاش المسلمون في رعب وفزع لا يلقون إلى الدنيا بالاً فقد وجهتهم آيات القرآن وسلوك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرته إلى باطنهم، ودعتهم إلى التفكير بالآخرة، وكانت روح البساطة والذهن الخالي الأرضية المناسبة لديهم لتقبّل هذه الأفكار.
وقد طُبع الزهد الإسلامي في مراحله الأول بطابع البساطة، إذ نشأ هذا الزهد أثر الخوف الذي أولدته آيات الوعيد القرآنية في نفوس المسلمين، وكانت ميزته وخاصيّته الأخرى هي عدم التقيّد بألفاظ ومراسم وطقوس معينة، إذ انّ الزهد الذي يتمثل في الاهتمام الزائد بالأعمال والطقوس المذهبيّة ونوع من أنواع الاستبطان والانزواء والتفكير في عظمة الخالق لم يكن قد تشكّلت سماته ليعرف على انه سلوك خاص معيّن. هذا الزهد أو العرفان البسيط كان في معزل عن الاصطلاحات والطقوس والشعائر الصوفيّة الخاصة التي ولدت فيما بعد من قبيل قول (أنا الحق)، والوجد والشطحات والمراسم الخاصة في السلوك إلى الله وصولاً إلى الحقيقة، وكان الاهتمام يتمثل آنذاك بالجانب العبادي، حتى انّه لم يكن قد تلوّث بعد بالمراحل الأولى للسلوك العرفاني في الانفراد والانزواء والسفر.
لقد كان كافياً لزاهد صدر الإسلام المؤمن المطمئن انّ الله قد ذمّ الدّنيا في قرآنه ودعا الناس إلى حياة دائمة وخالدة، حيث تكرر ذلك في آيات عديدة:
(إعلموا انّما الحياة الدّنيا لعب ولهوٌ وزينةٌ وتفاخر بينكم وتكاثرٌ في الأموال والأولاد كمثل غيثٍ أعجب الكفار نباتهُ ثمّ يهيجُ فتراهُ مصفراً ثم يكونُ حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلاّ متاعُ الغرور) (الحديد:20).
(الم* أحسب النّاس ان يتركوا ان يقولوا آمنّا وهم لا يُفتنون) (العنكبوت:1).
(إنما الحياة الدنيا لعب ولهو) (محمد:36).
(تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة) (النساء:94).
(تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة) (الأنفاق:67).
ويؤيد هذه الآيات قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): “حب الدنيا رأس كل خطيئة” أو الحديث الآخر المنسوب لأمير المؤمنين علي (عليه السلام): “الدنيا جيفة وطالبوها كلاب”.
لقد كان نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه مثال الزهد والاعراض عن الدنيا يعيش كما أراد له الإسلام، وقد سعى الإسلام دؤوباً في محاربة اسراف كبار العرب في جمع الأموال واتباع الشهوات حينذاك بتقليل الدنيا وتصغيرها في أعينهم وابراز تفاهة ثروة وحياة هذا العالم لهم، ودعا كراراً إلى التأسي بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعله مثلاً يحتذى: (ولكم في رسول الله أسوة حسنة) (الأحزاب:2). ولقد تأثّرت الروح المتفتّحة للمسلمين الأوائل بمثل هذه الآيات وانصقلت معرضةً عن الدنيا وتوافهها ميممة شطر الانزواء والزهد، ولهذا السبب فقد كان الإعراض عن الرغبات وعن الثروة في هذه الدّنيا إحدى ركائز التصوف في القرون اللاحقة.
نقل ان حاتم الأصم قدم بغداد فأخبر الخليفة انّ زاهد خراسان قد جاء، فطلبه الخليفة، وحين وصل حاتم خاطب الخليفة: أيّها الزاهد، فأجاب الخليفة. أنّا لست زاهداً فالدّنيا كلّها منقادة لأمري، إنّما الزاهد أنت. فقال حاتم: إنّما أنت هو، أليس الله تعالى يقول: (قل متاع الدنيا قليل) ولقد كنت زاهداً فقنعت بالقليل، لكني لا أحني رأسي للدنيا فكيف أكون زاهداً؟[4]
والمسألة الثانية التي سببت تشديد الزهد كانت آيات التخويف التي كانت ترد في القرآن لردع المسرفين والمتجبرين، فقد جاءت بكثرة أخافت الصالحين والمتقين أنفسهم من أن يمسهم لهب الغضب الإلهي، فقد كان قعر جهنم بحممه المحرقة وعذابه الأليم مهيأً على الدوام للمذنبين والخاطئين، ولقد تناثرت آيات الوعيد للكفار والخاطئين على قدر مراتبهم حيثما نظرنا في زوايا القرآن المختلفة إلى الحد الذي أوجس منه المؤمنون أنفسهم منه خيفة، وقد امتدح الباري هذا الخوف والخشية المقرونين بالتعظيم والاحترام وعدهما من الإيمان:
(إنّما المؤمنون الذين إذا ذُكر اللهُ وجلت قلوبهم) (الأنفال:2).
(إنّما يخشى الله من عباده العلماء) (فاطر:28).
(وخافون إن كنتم مؤمنين) (آل عمران:175).
(يخافون يوماً تتقلبُ فيه القلوب والأبصار) (النور:37).
(من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب) (ق:33).
إنّ الخوف في هذه الموارد كان نتيجة خاصة للمعرفة، لذا فقد كان العلماء يخشون الله أكثر من غيرهم، وبديهي أن هذا الخوف ليس من جبروت الخالق وسلطانه القاهر، بل أن العارف حيث يطأ أعتاب المعرفة الحقيقة لله ويعرف عظمة مقامه فسيحس بالذل والصغار يملأ وجوده، وسيتجاهل نفسه وينساها أمام جلال الخالق وعظمته، وسيكون الخوف هو النتيجة الطبيعية لمثل هذه المعرفة.
قال ذو النون: انّ العارف ينبغي ان يكون عارفاً خائفاً لا عارفاً واصفاً، إذ العارف لا يصف نفسه بالمعرفة، فلو كان عارفاً لكان خائفاً، (إنّما يخشى الله من عباده العلماء)[5].
إنّ الخوف والرجاء اللذين أخذهما العرفان من القرآن واللذين يجيئان دوماً مقترنين الواحد تلو الآخر مرتبطين بصفتين من صفات الخالق، فالخوف كان نتيجة لكون الخالق قهاراً، والرجاء كان نتيجة لكون الخالق (لطيفاً)، وحقيقة الرجاء هي انّ السالك يؤمّل في سيره الوصول للمحبوب مطمئناً لا يساوره هلع ولا ينغص صفو عيشه انتظار مكروه من محبوبه[6].
(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) (الأحزاب:21).
ويأتي أحياناً ذكر مفهوم الخوف والرجاء في القرآن بشكل قرينة، أي الوعد والوعيد.
(غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب) (المؤمن:3).
(نبئ عبادي أنّي أنا الغفور الرحيم وان عذابي هو العذاب الأليم) (الحج:49ـ50).
وهناك في المقابل بعض الآيات التي تذم الزهد المفرط وتنبه إلى التمتع المشروع بملاذ الدنيا مما قد يبدو ظاهرياً متناقضاً مع الآيات السابقة: (قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةً يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون) (الأعراف:32).
(كلوا ممّا رزقكم الله حلالاً طيّباً واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) (المائدة:88).
(ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض) (القصص:77).
(يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين) (المائدة:87).
فهذه الآيات ومقاطع من آيات أخر تدفع المسلمين إلى التمتع المشروع بالدنيا وتنبه على ان اهتمام الفرد المسلم يجب ان لا يقتصر على الآخرة وحدها، وهناك أيضاً أخبار وروايات تشير إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ينهى المؤمنين عن الإفراط في الزهد وعن الابتعاد عن الدنيا ويعتبره منافياً لسنته، وكان يحذر من أعمال الرياضات والزهد التي يعجز عن مثلها الإنسان العادي.
فعثمان بن مظعون أعرض عن الدنيا ولذائذها منصرفاً إلى اعتكافه وزهده حتى شكته امرأته إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فمنعه من ذلك، وانتقد (صلى الله عليه وآله وسلم) بشدّة محاولة أحد الصحابة أن يخصي نفسه لينصرف إلى العبادة بكل وجوده، وتشير الروايات المتعددة[7] إلى انّ هدف الإسلام وغايته ليس الآخرة وحدها، وان الإسلام لا يريد تنشئة زهاد يصلحون للآخرة فقط وتربية أناس غاية هممهم إحراز نجاتهم من عذاب جهنم بعيداً عن الإحساس بأي مسؤوليات اجتماعية أو التزامات وواجبات تجاه الآخرين.
إنّ الزهد والفرار من الحياة المادّية الناشئة من عوامل الأزمة الاجتماعية والسياسية كان يمثل اللبنة الأولى لنشوء التصوف والذي كان متأثراً إلى حد كبير بالقرآن نفسه، وقد زاد تأثره بالجو الحاكم والعوامل الاجتماعية والروح الفلسفيّة الحاكمة في ذلك الوقت كلّما ابتعدنا عن سنيّ الإسلام الأولى واقتربنا من القرن الثاني الهجري.
هذا التصوف البسيط الذي يجدر أن نسميّه نوعاً من الزهد كان يفتقد الطقوس والتقاليد والاصطلاحات الخاصّة، ولم يكن التصوف ليعرف آنذاك على انّه يمثل منهجاً خاصاً وطريقة معينةً، لكنه في القرن الثالث والرابع ومع مجيء عرفان يملؤهم الهياج والحماس، مثل بايزيد البسطامي والجنيد ورابعة وإبراهيم الأدهم وسفيان الثوري ومالك بن دينار وغيرهم، فقد عُرف هؤلاء كفرقة خاصة لا تطابق عقائدها عقائد المسلمين القشرييّن، وبالطبع فان تحديد الزمن الذي بدأت لفظة صوفي تطلق فيه على مجموعة خاصة يستلزم مراجعة الكتب المختصة بذلك.
وفي هذه القرون جرى إثر التمازج بين العرفاء المتحمسين الذين لم يكونوا ليستقرا في مكان معين بل انتشروا في وهاد الأرض وقلل الجبال، بعض اللقاءات بينهم وبين رهبان المسيحية، وليس مستبعداً أن يكون العرفاء المسلمون قد تقبلوا وتقمصوا طريقة زهد أولئك واتخذوها نموذجاً يحتذى في سلوكهم، ففي شرح أحوال إبراهيم نجد أنه التقى مرّة في البادية بشاب يهودي وأخرى براهب عجوز معتكف في ديره[8]، كذلك لا ينبغي نسيان تأثير الأفكار المسيحية في الجنيد واتباعه نظراً لانتمائه لعائلة مسيحية.
لبّ القرآن:
من المهم أن نذكر ان الصوفيين في جميع أدوار تاريخ التصوف لم يعتبروا ذوقهم وطريقتهم منفصلة عن القرآن، بل اعتقدوا دوماً ان حقيقة القرآن في أيديهم هم، وان الذين ينسبون إليهم الارتداد والزندقة لم يفعلوا أكثر من إلصاق تهمة باطلة بهم ونسبتها إليهم[9].
وقد أسف بعض عرفاء القرون التالية لأن المسلمين قد اقتنعوا واكتفوا بظاهر القرآن وقشره، ولم يكلفوا أنفسهم عناء اكتشاف باطنه وحقيقته.
“لقد قنع الخلق ـ يا للأسى ـ بظاهر القرآن ولم يروا فيه إلاّ قشره فلم يغتذوا بلبه؛ إذ القرآن مأدبه الله في أرضه”[10].
التأويل:
لقد ترك الادعاء بأن الآخرين أخذوا من القرآن معانيه الظاهرية ـ أي الاعتقاد بأن للآيات القرآنية ظاهراً وباطناً ـ الباب واسعاً للصوفية ليؤولوا أيّ مسألة لا توافق ظاهر القرآن ويطابقوها معه، واعتقد أن أحد أسرار نجاح الصوفية في تبرير عملهم هو كون مسألة التأويل إحدى الأمور التي تحظى بالقبول على الرغم من النهي الوارد في التفسير والروايات، وخاصة الشيعية، عن التفسير بالرأي الذي لا يستند على قول الإمام أو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمثلاً ليس هناك آية في القرآن تدلّ بشكل صريح على الإباحة أو النهي عن سماع الغناء، الأمر الذي شجع مجموعة من الصوفيين الذين يوافقون مسألة السماع على ان يوردوا آيات من القرآن كدليل على إباحته، وأولئك الذين يخالفون السماع سيردون ذلك ويرفضونه معتمدين على تأويل آيات القرآن[11].
ولأنّ المفسر يستطيع، بتأويل الآيات، ان يبرّر دوماً مختلف أنواع المعاني ويكسوها ظاهراً مقنعاً، فإن الإفراط قد وصل في هذا الأمر إلى الحد الذي صرف هؤلاء الكثير من الآيات التي تحوي إشارة تاريخية أو فكرة مذهبية وتبعدُ عن أن يكون لها معان عدة متكثرة، صرفوها عن معناها وفسروها بالشكل الذي يبرّر جملة من عقائدهم وأفكارهم.
فقد فسّر المتصوفة مثلاً آيتي 16و17 من سورة يس:
(واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية) إلى (وما علينا إلاّ البلاغ المبين) بأنّ المعنى المستتر والمهم لها هو ان القرية المذكورة هي الإنسان ليس إلاّ، وان هؤلاء المرسلين ليسوا إلاّ الروح والقلب والعقل واعتبروا جميع معانيها الظاهرية على انها معان مجازية[12].
ان الصوفي يريد الوصول إلى أسرار القرآن ومعانيه الكامنة، أي انه يسعى بمنطق القلب وبركة المكاشفة التي تحصل نتيجة الرياضات والانصراف إلى الله وتصفية الباطن، إلى الوصول إلى باطن القرآن وسره، وأن يجري معانيه على لسان البشر المخلوق من الماء والطين، ففي معني (بسم الله) يذكر صاحب كشف الأسرار أنّ عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) قال: “إذا قال عبد بسم الله فمعناه وسمتُ نفسي بسمَةِ ربّي”[13].
وعلى أساس من هذه التبريرات فقد سعى الصوفية إلى انتزاع أسماء محببة وصفات جميلة مقبولة لطائفتهم من القرآن، يقول صاحب التصفية: وللصوفية في القرآن والأخبار أسماء كثيرة كلّها جميل ومقبول، لكنّ خلاصة أحوالهم وأعمالهم هو في قطع العلائق وحفظ الدقائق وإدراك الحقائق، فحيثما تجلّت هذه الصفات في شخص كان صوفيّاً[14].
ثم يذكر ـ استناداً إلى آيات من القرآن ـ أسماء جميلة مثل: مفلح، خائف، سخيّ، راض، محبّ، ذاكر، ..وينسبها إلى الصوفيّة.
سنّة الرّسول:
كانت سنة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرته الملجأ الآخر للصوفيين بعد القرآن، إذ اعتقدوا انهم وحدهم السائرين على نهجه وسنته الصحيحة، بينما انحرف الآخرون عنها وتفرقوا أيادي سبأ، وقد بحثوا ـ بهذا الاستدلال ـ لكلّ من تقاليدهم وسيرتهم عن شبيه ومبرر لها من سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولو بوجه من الوجوه.
ينقل صاحب التصفية أنّ جماعة من رؤساء العرب وأثرياءهم اعتذروا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قلّة مجيئهم إلى مجلسه، لأنّ الفقراء والصوفيين كانوا يلازمون مجلسه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يفارقونه، وقالوا له: يا رسول الله لو نحيّت هؤلاء عنك حتى نخلو بك فانّ وفود العرب تأتيك فنستحي أن يرونا مع هؤلاء الأعبد..، فدعا المصطفى (عليه السلام) خبّاباً وعمّاراً وبلالاً وصهيبا وأباذر الذين كانوا من زهاد الصحابة، فأعلمهم بذلك فعادوا محزونين منكسري القلوب فنزلت هذه الآية (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) (الأنعام:52). وبولغ في هذه الآية إلى الحد الذي أوصلتهم فيه إلى حد الأخوة[15].
وقد بالغ بعض الصوفية في نسبة أعمالهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أنهم نسبوا بدء لبس الصوف واللباس الخشن الذي يجري عليه الصوفية إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ دعاه الله بهذه الصفة وانزل عليه سورةً بهذا الاسم (المزمل): (يا أيّها المزمل قم الليل إلاّ قليلاً…)، وقيل انه جاءت في الزبور آية تشير إلى ان داود (عليه السلام) لبس بساطاً من الصوف فسخر منه بعض قومه، تقول الآية 7 من الزبور: سترت وجهي لأنني أصبحت بسببك محطاً للوم والخجل (مزامير داود ـ مجموعة كتب العهد القديم ص 1057)[16].
ونسب بعض الصوفية لبس الثياب المحاكة من الصوف إلى المسيح (عليه السلام) وموسى (عليه السلام)[17].
ويمكن، استناداً إلى القرآن، ذكر خاصيتين أخريين للمتصوفة ليستا محدودتين بزمان أو جماعة معيّنين، أحدهما التسامح واتساع المنهج وانفتاحه، والأخرى السير والسياحة والنظر في النفس والآفاق.
التسامح:
التساهل والتسامح والعفو وسعة الذوق والمشرب وما يسمى في بلاد الغرب Tolerance كان إحدى الصفات الرئيسية للعرفاء في جميع القرون[18]، فقد كان كبار الصوفية من قديم الأيام يفكرون بمنطق القرآن المسالم المنفتح معتبرين التعصب والتحجر ناتجاً من عدم النضج، ولم يكن يعنيهم الحسن والرديء فلكلّ امرئ في الخاتمة ان يقطف ثمار ما زرع، وكان اسلوبهم على الدوام يعد اصلاحيّاً مقايسةً بالطرق المتطرفة الأخرى؛ يقول أحدهم:
يا للأسى، إنّ الفرق الاثنتين والسبعين الذين يختصمون فيما بينهم، يقتل أحدهم الآخر وينصب له العداء لو اجتمعوا عندي وسمعوا هذه الكلمات منّي، أنا البائس الفقير، لأريتهم أنّهم فرقة واحدة على دين واحد، وما يتبع أكثرهم الاّ ظنّاً انّ الظن لا يُغني من الحقّ شيئاً، الأسماء كثيرة لكنّ المسمى واحد، (لكم دينكم ولي دينِ)[19].
ولقد كان لسعة الصدر والنفس والتسامح تأثير كبير في نجاح الصوفية ورواجها، فقد اجتذبوا حتى أعداءهم الضيقي النظر وأجبروهم على التسليم والخضوع، ووصل الأمر ببعضهم إلى التأثر إلى حدّ الانجذاب والانبهار بالفكر العالي والشخصية المتسامحة الكبيرة للعرفاء، فلم نصادف في سيرة العرفاء الكبار أحداً حُكي عنه مجادلة ومنازعة وضيق نظر وقلة صبر، بل اننا نلمس منهم تساهلاً في مسائل العقيدة يصل إلى حد الافراط، فليس من قلب إلاّ وله طريق إلى الله، والطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق[20].
وتؤيد بعض آيات القرآن سعة الصدر والتسامح العرفاني هذا: (انّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (البقرة:62).
(أدع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ان ربّك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) (النحل:126).
(لكم دينكم ولي دينِ) (الكافرون:6).
(وإن كذّبوك فقل لي عملي ولكم عملكم) (يونس:41).
(لكلٍ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمّة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً) (المائدة:48).
(وإن تكذبوا فقد كذّب أمم من قبلكم وما على الرسول إلاّ البلاغ المبين) (العنكبوت:18).
السير في الآفاق والأنفس:
إنّ إحدى الركائز المهمة للإسلام والذي مثّل أحد المعاقل الأولى للتصوّف في الإسلام هو السير في الآفاق والنفس، والتفكر في عظمة الخالق وقدرة الله اللامتناهية بواسطة السير والسياحة والتجوال ورؤية بلاد الله الواسعة وخاصة الصحارى والجبال والهضاب المستوية التي تعتبر مظهراً للبساطة وآية للتوحد، فالسماء الصافية المليئة بالنجوم، والصحارى القفر المليئة بالأسرار التي تمتد أمام النظر إلى ما لا نهاية، تعطف نظر الإنسان إلى عظمة الخالق اللامحدودة، وتجعله يغرق فيها إلى الحد الذي يرى كلّ هذه العظمة في نفسه هو، يشهد عليها قلبه ويقرّ بها وجوده.
ولم يكن السفر والتجوال والسياحة مسألة خاصة، بل كان أصلاً قديماً وسنّة بشرية قديمة، فالسائح الأوّل كان آدم (عليه السلام) الذي ذهب إلى الجنة وعاد منها إلى الدنيا، وجاء بعده نوح (عليه السلام) فطاف بالعالم في سفينته، ثم إبراهيم (عليه السلام) الذي وضع في المنجنيق ورمي به في النار، وكان كلّ واحد من الأنبياء قد انتزع نفسه من بلاده ومدينته ولجأ إلى أحضان الطبيعة، وكان آخرهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي تربى في أحضان الطبيعة، وارتضع من البادية التي لم تهدأ قط، وانصرف أوّل عمره إلى رعي الأغنام ثم عمل في مقتبل شبابه في التجارة والسفر في البلدان المختلفة، ثم أحس في قلبه اضطراباً وهياجاً آخر لم يعهده من قبل، فانصرف من التجارة إلى أحضان الصحراء منقطعاً عن الخلق، وبعد سنين هبط فجأة من غار حراء بيد ملأى عائداً إلى الخلق وقضى في مكة سنين عديدة يدعو إلى الحقّ، ثم هاجر ليلاً وحيداً في الظاهر (مستصحباً الإسلام في الحقيقة) ميمّماً شطر المدينة حيث قضى سنين عشراً من الكفاح والجهاد والمصابرة في بدر وأُحد وحنين والخندق ومكّة، ثم تملّكه شوق الرؤية فسافر ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى (من بيت الله إلى بيت النّاس) ولبّى مسرعاً من هناك لرؤية الحقّ، ووصل إلى الحدّ الذي توقّف جبرائيل الأمين عن اللحاق به مبهوراً، إلى الحد الذي لم تجسر الأوهام والأفكار أن تطأ ساحة قدسه.. إلى قاب قوسين أو أدنى.
في الحيرة والعجب من عمر الستين والثلاث، مع كلّ هذا السير والتجوال والسياحة في الليل والنهار والأسحار.. وفي كلّ آن، في الصحاري والهضاب.. وفي كلّ مكان، في الحرب والسلم، في الحزن والفرح، في التجارة والرعي،.. وفي كلّ حال. ان الهجرة في الإسلام تمثل إحدى الطرق التي يختبئ فيها عالم مدهش من الجمال والروعة، وان تاريخ المجتمعات البشرية يشير إلى ان الناس قد شدوا رحالهم حيثما سمعوا بحضارة عظيمة أو تمدّن راق.
إنّ الهجرة التي تستتبع الالتفات إلى الدنيا المحسوسة والطبيعة الواسعة، وبتعبير القرآن نفسه، الاعتبار بمصير الآخرين ودنياهم، تمنح الإنسان مقاومة أفضل في دنياه، وتكسبه صلابة وتجربة، وتهب روحه كمالاً، وتبسط أمامه العالم العينيّي وتصوغه لدنياه الواقعية وقد أولى القرآن الكريم اهتماماً بالغاً لهذه المسألة.
كذلك فقد كان للسفر أهمية كبيرة في الفكر المسيحي حيث يعتقد البعض ان الزهد الإسلامي تأثّر بها بشكل أصبح السير والسفر والتجوال وسكنى الغيران من لوازم المتقي المتعبد، في حين ان هناك العديد من الأحاديث التي نقلت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) امتدح فيها السفر. وقد أورد ابن الجوزي بأربع عشرة واسطة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبرنا عن.. عن طاوس ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا زمام ولا خزام ولا رهبانية ولا تبتّل ولا سياحة في الإسلام؛ قال ابن قتيبة: الزمام في الأنف والخزام حلقة من شعر يجعل في أحد جانبي المنخرين، وأراد (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان عبّاد بني إسرائيل يفعلونه من خزم التراقي وزمّ الأنوف التبتل وترك النكاح والسياحة ومفارقة الأمصار والذهاب في الأرض[21].
لكنّ ما هو مسلّم ان السفر كان من الأمور التي أهتم بها الإسلام، فقد سافر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر من أي شخص آخر؛
وقد أهتّم الصوفية بالسياحة بشكل خاص لدرجة أنهم اهتموا أيضاً بمسألة معراج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم ينظر البعض إلى المعراج الفكري وعدّوه مثالاً لترقّي الفكر وسمو الهمّة.
استمع إلى هذه اللطيفة: قيل لآدم (اهبط) وقيل للمصطفى (اصعد)، اهبط يا آدم ليكتسب تراب الأرض جلالك وسلطانك، وتعال يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى السماء لتزدان الأفلاك بجمال طلعتك، يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ان السر اننا قلنا لأبيك آدم (اهبط) هو أن نقول لك (اصعد) على مركب الهمة واجعل الأفلاك تحت أخمص قدمك المبارك، سافر من الجسم والروح ثم انظر إليّ[22].
ونعرض لنماذج من الآيات التي تحثّ على التجوال والسياحة: (وكم أهلكنا قبلكم من قرن هم أشد منهم بطشاً فنقبوا في البلاد هل من محيص) (ق:36).
(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم انّه الحقّ) (فصّلت:53).
(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) (الأنعام:36).
حيث ان المقطع الأول لهذه الآية قد تكرر في القرآن الكريم في موارد متعددة حكاية عن أهمية المطلب.
(وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون) (الذاريات:20ـ21).
(ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) (النساء:97).
وقد استعملت مادّة (ساح) في القرآن بصورة (سائح) كما سورة التوبة ـ الآية 112، وسورة التحريم ـ الآية5، بالرغم من ان بعض المفسّرين فسّر كلمة (سائحات) في هذه الآيات بمعنى (صائمات)[23].
إن القرآن يعتبر كتاباً بُني على الإجمال والاختصار، فإذا ما وردت آية واحدة حول موضوع أو مطلب معين فإنّ ذلك كاف للفت نظر المسلمين للاهتمام بذلك الموضوع، في حين ان هناك آيات مكررّة؛ وبشكل ظاهر لا حاجة معه إلى تأويل أو توجيه، حول أغلب المقولات العرفانية.
أفلم يكن سلوك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والصحابة وسيرتهم في زهدهم وإعراضهم عن الدنيا كافياً للعرفاء الملتزمين المعتقدين بمبادئ الإسلام ليتخذوا هذا السلوك هادياً لمنهج حياتهم وطراز تفكيرهم؟ ان ما ذكرناه حتى الآن كان بعنوان الركائز الأساسية لعرفان بسيط مجرّد عن الطقوس والتقاليد الخاصة، واتضح جليّاً للعيان انّ هذا النمط من العرفان لا يستبطن تعارضاً مع قانون الإسلام وهديه إلاّ في نواح قليلة تتعلّق بالإفراط في الإعراض عن الدنيا، فقد كان لهذا العرفان قدر من اعتدال دين الفطرة حسب تعبير القرآن نفسه.
ولا نجد لزاماً ان نذكر ان التصوف قد أفاد ـ في مسيره التكاملي ـ بنحو مفرط من الأفكار المحيطة به، واتسع في أبعاده المختلفة، بل المتناقضة أحياناً، مشكلاً مسيراً جديداً يوازي مسير الإسلام الأصيل ويتميّز عنه بطريقة الدرك والفهم والالتقاط الخاص للمسائل المذهبية، والذي زاد في القرون التالية لدرجة ملحوظة، وفي الختام فقد عرف التصوف على انه يمثل ـ إلى درجة ما ـ دركاً وفهماً خاصاً للإسلام، وان ما يميّزه في هذا المسير عن تعاليم الإسلام هو الإيمان والأوراد والأذكار والطقوس الخاصة وتصفية الباطن التي تفتقدها المذاهب الإٍسلامية الأخرى أو أنها توجد فيها بشكل سطحي لا عمق فيه.
لقد سعى الصوفيون ان يتجاوزوا تبرير هذا النوع من التفكر إلى اعتباره يمثل واقع القرآن ولبّه وإلى عدّه حقيقة الدّين وروحه، وحاولوا لهذا السبب ان ينسبوا كلّ ألفاظهم وأورادهم وتعاليمهم إلى القرآن ويبحثوا لها في القرآن عن متّكأ ومسند.
فحين ننظر إلى كتب الصوفيين القديمة والحديثة في هذا الباب نجد انهم يعتبرون جميع مراحل سلوكهم ومقاماتهم وأحوالهم ونمط تفكيرهم العرفاني مستنداً على آيات القرآن مستمداً منها، وان ما استخلصوه من هذا الطريق كان مسألة تأويل وتوجيه الآيات التي مثّلت منشأ الاختلاف بينهم وبين الآراء الأخرى والأفكار المعارضة.
نعم، ان العارف في سيره المستند إلى القرآن يصل في مرحلة تصفية النفس والمكاشفة والاشراق إلى الحد الذي لا يرى في الوجود شيئاً الاه، فالكل يمحي فيه، وحين يراه في كلّ ذرّة، غافلاً عن نفسه هو، قائلاً في هذه الحال:
والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت
إلاّ وأنت مني قلبي ووسواسي
ولا تنفستُ محزوناً ولا فرحاً
إلاّ وذكرك مقرون بأنفاسي
ولا جلستُ إلى قوم أُحدثهم
إلاّ وأنت حديثي بين جلاسي
ولا هممتُ بشرب الماء في قدح
إلاّ رأيت خيالاً منك في كأسي
المصادر:
[1] أرزش ميراث صوفيّة:17.
[2] السمو الروحي في الأدب الصوفي:12.
[3] راجع كتاب (مجموعة آثار فارس شيخ إشراق) تصحيح وجمع الدكتور نصر وهنري كربن، رسالة صغير سيمرغ ديد:324.
[4] تذكرة الأولياء:303.
[5] تذكرة الأولياء:150.
[6] أصول التصوف:529.
[7] للاطلاع على باقي الروايات يراجع كتاب (تحقيق وبررسي در تاريخ تصوف):128 فما بعد.
[8] تذكرة الأولياء، طبع نيكلسون2:120 فما بعد.
[9] مجموعة مصنفات عين القضاة همداني، رساله تمهيدات:209.
[10] يراجع على سبيل المثال: اللمع:267 فما بعد، وكتاب (فرهنك أشعار حافظ) و(كيمياي سعات) للغزالي، و(مصباح الهداية) تحت عنوان (سماع).
[11] زهد وتصوف در إسلام:61.
[12] كشف الأسرار وعدّة الأبرار28:1.
[13] التصفية في أحوال المتصوفة:32.
[14] التصفية في أحوال المتصوفة:34.
[15] نقلاً عن (فرهنك أشعار حافظ):316.
[16] نقلاً عن (فرهنك أشعار حافظ):34.
[17] يراجع كتاب (آزادي وآزادي فكري):6.
[18] مصنفات عين القضاة همداني:339.
[19] للإطلاع على بعض الأقوال في باب التسامح يراجع كتاب (آزادي وآزادي فكري):117 فما بعد.
[20] تلبيس ابليس:297، نقلاً عن (فرهنك أشعار حافظ):336.
[21] كشف الأسرار503:5.
[22] راجع كتاب: تفسير أبي الفتوح الرازي، ذيل الآية المذكورة.
[23] نقلاً عن (كشف المحجوب) للهجويري:535.
_______________________
*نقلًا عن موقع “شبكة أهل البيت للأخلاق الإسلامية”. |