الدراسات والبحوث

السفر الرابع عند صدر الدين الشيرازي ميتافيزيقا التدبير السياسي

د. محمود حيدر

السفر الرابع عند صدر الدين الشيرازي ميتافيزيقا التدبير السياسي

د. محمود حيدر

*مفكر وباحث في الفلسفة – لبنان.

تمهيد :

يرمي هذا الفصل إلى تظهير منزلة القرآن في تأسيسات العرفان السياسي عند الحكيم الإلهي صدر الدين الشيرازي[1]. أما الفَرَضِية التي عدنا إليها لإجراء هذا التظهير فمردُّها إلى جهتين: أولاها، حاضرية الوحي في مجمل البناء المعرفي للحكمة المتعالية.. وثانيها، مكانة العرفان كبعد محوري في المنظومة الصدرائية. ولو كان لنا ان نتخيَّر توصيفاً دقيقاً للأسفار العقلية والمعنوية الأربعة في الميتافيزيقا الصدرائية لأقمناها على أرض التدبير، وهو ما نستدلُّ عليه في ما خَلُصت إليه هذه المنظومة، لجهة توليِّ العارف قيادة الخلق في معراجه العرفاني الأخير المسمَّى بالسفر الرابع، أي سفر العارف في الخلق تحت عناية الحق، وهذا ما سنمضي إلى تأصيل مبانيه الميتافيزيقية والمعرفية في الفصل التالي من دراستنا.

 

خلافاً لما انصرف إليه بعض النظَّار لجهة خلوِّ الميتافيزيقا الصدرائية من فلسفة سياسية، فإن معاينة متأنيِّة لأصولها ومبانيها، سوف تؤشِّر إلى منزلتها الأصيلة فيها. وهو ما سوف نتبين ظهوراته مما تفيد به منظومته من ربط وطيد بين الغيب والواقع، وبالتالي بين الدين والسياسة[2]. فالإنسان – كما يقول الشيرازي – مخلوق من عنصر الطبيعة، وهو في سفره المعنوي وسيره الاستكمالي نحو الله في رقيٍّ مستمر من المرتبة الدنيا إلى أعلى المراتب والمقامات. ولذا فإن إنساناً كهذا لا بد له –حسب الأطروحة الصدرائية- من المرور بمنازل أربعة، ليصير عبداً صالحاً ووليَّاً من أولياء الله. ولكي تبلغ هذه السيرورة المعراجية التي يسلكها الولي مآلاتها التدبيرية، لا مناص له من أن ينال حظه الأوفى من فيوضات الكلام الإلهي وإلهاماته. وسنقرأ في كتابه “المظاهر الإلهية” المنازل التي ينبغي على السالك أن يعبرها من أجل أن ينجز كماله الإنساني بتلقي الفيض الإلهي. ويبيِّن في هذا الصدد: “أن الله تعالى لمَّا خلق الانسان موجوداً مركَّباً من الروح والبدن، ولكل منهما تأثير في الآخر وللروح أي النفس الإنسانية جهتا تعلقٍ وتجردٍ؛ وَجَب عليه تكميل القوتين:

القوة النظرية يتم تحصيلها وتكميلها – حسب ملَّا صدرا-  بتعقُّل نظام الوجود على ما هو عليه، وتصير النفس عند تعقُّل الأشياء على ما هي عليها بقدر الوسع الإنساني، عالماً عقليَّاً مضاهياً للعالم العيني، وتصير صحيفة النفس كتاباً تاماً يطالَعُ فيه صور الأشياء مجرَّدِها وماديِّها، فلكيِّها وعنصريِّها، واستكمال النفس بالعلم بالله وصفاته وآثاره والعلم بكيفية رجوع الأشياء إليه تعالى – هي المقصد الأعلى والغاية القصوى للإنسان. فالعلوم الإلهية هي عين الإيمان بالله وصفاته العليا وأسماؤه الحسنى. أما تكميل القوة العملية أي العقل العملي، فإنما تحصل بمتابعة الأنبياء، وإتيان الواجبات، وترك المحرَّمات، وتهذيب الظاهر والباطن. والسالك بعد الشروع في تكميل عمارة الباطن، يظهر له النور الإيماني من باطنه ثم يرى عينيه ومظهريه الروحاني والنفساني مسجونين في سجن الطبيعة، فيقول: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}[3]، ويصير متوجِّهاً إلى باطنه ويدرك نقصانه، وتضييع وقته، ثم يجعل جميع همومه همَّاً واحداً.[4]

إن ما ينبغي ملاحظته لدى معاينة النص الصدرائي هو التكافؤ الذي تفترضه طبيعة كل نص في مسعاه إلى تشكيل المباني الكبرى للحكمة المتعالية، وهي القرآن والعرفان والبرهان. وعلى الرغم من قيومية المبنى القرآني على المبنيَيْن اللاَّحقين-العرفاني والبرهاني- ومفارقته لهما، إلا أن هذه المفارقة لا تضاد الوحدة الجامعة لهذه المباني، بل هي توثِّقها وتنجز التكامل والانسجام بين أضلاعها[5].

صحيح أن صاحب الحكمة المتعالية لا يخفي اعتزازه بجودة أفكاره وإبداعاته التي يعتقد أنه لم يسبقه إليها غيره، وهذا ما يجعله يبتعد عن حساسية ما بعد الحداثة، التي تنفر من كبرياء المبدعين القائلين بالخلق والأصالة. لكنه بمجرد أن يعلن أنه مبدع هذه الفكرة أو تلك، يسرع إلى نسبتها إلى الحكمة العرشية بوصفها من عطاءات الله. وهو إذ يرتضي لنفسه دور الوسيط لتظهير أسفار العقل الأربعة، صعوداً ونزولاً بين الحق والخلق، فقد أفلح في الجمع بين التاريخ وما بعد الطبيعة[6]. فالقرآن وفق التأويلية الصدرائية ليس مجرد مرتبة مدرَجة ضمن الهندسة المعرفية لمراتب الحكمة المتعالية. إنه، بحسبها، كل المراتب بوصف كونه حاضراً فيها، محيطاً بها عميق الإحاطة. وهو في الآن نفسه مفيضاً عليها الوجود والعلم والتسديد. وإلى هذا فإنه لا يغادر أي منها إلا لكي ينشيء لها ظلاً وجودياً في القرآن. فالقرآن يتسع للمراتب الوجودية كلها. وضمن هذه الدَّالة فهو جامع الوجود{مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا}[7]. من أجل ذلك، غدت صفة “الجامعية والوحدة” هي ما ينبغي إضفاؤها على التأويلية الصدرائية. وذلك ما يُضادُّ الصفة التي خُلعت على تيارات ومدارس ما بعد الحداثة، لجهة تعلُّقها بمزايا الفرقة والتشظِّي. إن هذه الجامعية المستمدَّة من النص القرآني لم تغادر المنازل الوجودية للحكمة المتعالية على اختلاف مراتبها.

لم يكن صدر المتألِّهين ليملك اجتياز المصالحة بين الفلسفة والشريعة بغير القرآن. كان عليه لكي يستيسر عبور ضفتَيْ التضادِّ هذه، أن يغيِّر خط الانطلاق. كأنْ يبتدئ أسفاره العقلية ﺒ “سَيْريَّة تفكير” تفارق سابقيه ومعاصريه من المشّاء والصوفية واتباع شيخ الإشراق. فإنه بدل ان يبدأ من “الأنا الفلسفي” المحض الذي سيوصله الى التهلكة، يبدأ بـ «الهو» المتعالي أي الله أحد. فأن كل قول شاء له أن يشرق في سماء الحكمة المتعالية، ينبغي له أن يعتصم بالقول الإلهي ويتسدد به ثم ليعود إليه عند كل ظلمة تصيبه في وعثاء السفر. فلو جئنا الى سورة التوحيد (الإخلاص) (قل هو) لوجدنا الأمرية الالهية بالتوحيد الخالص. ذلك ان شرط التوحيد، حاصل بإقامة الحد على أنانية الأنا، وإلا وقع الشرك. مبتدأ العبور من الثنوية الى الأحدية، ومن التكثير الى التوحيد بهاتين المفردتين الأمريتين. فإنهما تقتضيان صيغة الأمر. أي: لا تقل أنا «قل هو»؛ نفي وإثبات. بذلك يكون فعل الأمر جعلاً إلهياً مقضيَّاً بالتوحيد. والآيات الواردة في توحيده كثيرة منها قوله: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ}[8]. وقوله {قُلْ إِنَّمَا يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ}[9] وقوله:{لَا تَتَّخِذُوا إِلَٰهَيْنِ اثْنَيْنِۖ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ}[10].

واذاً، محوُ «الأنا» تشكل مبتدأ النظر في الكلام الإلهي عند صاحب الحكمة المتعالية. ربما أدرك من خلال مكابداته الاستدلالية والكشفية ان حضور «الأنا» في المكابدات لا يفضي إلا الى توليد الحُجُب. وإذاك تؤبَّد الجاهلية، وينأى الفؤاد من رؤية المقصود من القرآن. لكن السير بالآيات لدى صدر المتألهين سوف يمضي به الى حدوده القصوى لكي ينجز علياء المحو. ولعل رحلته العقلية المديدة في الأسفار الأربعة، هي التي ستفتح له على فضاءات التأويل المتعالي. وفي “المظاهر الإلهية” و”مفاتيح الغيب” و”الشواهد الربوبية” وهي المنجزات المعرفية المشهودة، ‌سوف نجد ظهورات مسعاه على نحو جلي.                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                       

لذا فإن فهم القرآن وفق التأويلية الصدرائية ليس مجرد مرتبة مدرجة ضمن الهندسة المعرفية لمراتب الحكمة المتعالية. انه، بحسبها، كل المراتب بوصف كونه حاضراً فيها، ومحيطاً بها عميق الإحاطة. وهو في الآن نفسه مفيضاً عليها الوجود والعلم والتسديد. والى هذا فإنه لا يغادر أي منها إلا لكي ينشيء لها ظلاً وجودياً في القرآن. فالقرآن يتسع للمراتب الوجودية كلها. وضمن هذه الدّالة فهو جامع الوجود. كما في الآية {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}[11].

ينطلق صدر المتألهين في التأسيس لقواعد قراءة القرآن من إعتبار أن الكتاب المنزَّل هو نسخة عن الوجود. فأصول القرآن وخطوطه ومسائله إنما هي أصول الوجود وخطوطه ومسائله، ولذلك وُصِفَ القرآن على لسان الحق تعالى بـ «الحكيم والمحفوظ والمبين» وغيرها من أسماء المجد وأسماء الجمال. ومن هنا كان تفسير القرآن من وجهة نظر ملا صدار تفسيراً للوجود. وكانت مفاتيحه مفاتيح للوجود. وعلى هذا النحو سنرى كيف يعود ليتصل بأصول القراءة على نشأة التدبُّر والإستيحاء والتلقي وها هو يعرض في “مفاتيح الغيب” للآليات والشروط الضرورية، الفكرية والأخلاقية والسلوكية الواجب اتباعها في محاكاة الكلام الإلهي. وهذه الآليات والشروط أوردها ملا صدرا في كتابه المعروف ﺒ “مفاتيح الغيب” في إطار عشرة إجراءات تدخل على الجملة ضمن الحقل المفتوح للسير والسلوك[12]:

1-التأسيس الوحياني للتدبير السياسي

المزيّة التي ينفرد بها المنهج الصدرائي تمكث في تسييل الوحي في الاجتماع الانساني ففي مقدمة كتابه “المظاهر الإلهية” يوضح ملاَّ صدرا ان المقصد الأقصى من نزول الكتاب الإلهي هو دعوة العباد الى الملك الأعلى، وتعليمهم سبيل الارتقاء من حضيض النقص والخسران الى أوج الكمال والعرفان[13]. لذلك يرى صدر المتألهين الى السياسة ويحللها في إطار منظومته الفكرية معتقداً أن السياسة تدبير وسعي انتخابي وعقلاني ينهض على النوازع الفطرية والطبيعة للناس باتجاه إصلاح الحياة الجمعية لنيل السعادة والغايات الإلهية[14]. يقول في الشواهد الربوبية: “السياسة حركة مبدؤها من النفس الجزئية تابعة لحسن اختيار الأشخاص البشرية ليجمعهم على نظام مصلح لجماعتهم”. والسياسة عنده قسمان: سياسة انسانية وسياسية إلهية؟ السياسة الإلهية مجموعة تدابير أخذها الشارع المقدس بنظر الاعتبار لإصلاح حياة الانسان الاجتماعية “لا بد من شارع يعين لهم منهجاً يسلكنه لانتظام معيشتهم في الدنيا” حيث يعتبر الأنبياء والأئمة الأطهار المتولّين الحقيقيين لهذه السياسة، إذ لا بد في رأيه من نبي ليتولى هذه السياسة “ولا بد ان يكون كاملاً فيما يتعلق بالأحكام والسياسات الدينية”. ويعبّر ملا صدرا عن هذا النوع من السياسة بالسياسة العادلة والسياسة القاهرة وسنّة العدل وقانون العدالة. وهو يؤكد كثيراً على أن السياسة الانسانية يجب الا تنفصل عن السياسة الإلهية وعن الشريعة[15].

تظهر الحكمة السياسية في مواضع شتى من أعمال ومؤلفات ملا صدرا. أهمها ما جاء حول النبّوات في كتاب “المبدأ والمعاد”. فعلى مدى سبعة فصول تظهر لنا أطروحاته السياسية المتصلة بإثبات وجوب وجود النبي والولي والاعتقاد بهما، وبيان السياسات والرئاسات المدنية، وما يلحق بها من أسرار الشريعة بوجه تمثيلي. وإذا كان جل نتاج ملا صدرا يعتني بموضوعات فلسفية او لاهوتية مجردة، أو بموضوعات تتصل بالدين في آفاقه النظرية، فإن ثمة ما ينشغل بميدان الحياة وقضاياها ومشكلاتها في الاجتماع والسياسة والأخلاق.

ويندرج كتاب “رسالة الأصول الثلاثة – كأحد أبرز أعماله النقدية للإجتماع السياسي الإسلامي في عصره. فهو ليس كتاباً فلسفياً بالمعنى الدقيق للكلمة ولا هو بكتاب لاهوتي، وأن كان يستثمر فيه كل ثقافته الفلسفية واللاهوتية وتكوينه المعرفي. وللبيان نوضح ان الكتاب المشار إليه يعتني بشأنٍ من أخص شؤون الاجتماع، وبقضية من أعقد قضاياه، إذا ما درست على ضوء الظروف والملابسات التي أحاطت بها، والأوضاع النفسية والفكرية والفلسفية للمؤلف في خضم توتر العلاقة بينه وبين السلطتين السياسية والدينية في زمنه، والتحكم التام بهاتين السلطتين بالواقع الاجتماعي والثقافي والفكري للناس والهيمنة الشاملة على مراكز المعرفة ومدارس العلم[16]. ولعله من المفيد الإلفات هنا الى تلك القسوة التي واجه بها ملا صدرا رجال الدين في عصره. إلا أن هذه المواجهة لا ينبغي أن تعزل عن سياقها التاريخي والحقبة التي عاشها. فالهم الذي يحكم نقده هذا على قساوته لم يكن دينياً ولا ايديولوجياً، بل هو في الأساس همٌ معرفي يحكمه هاجس التحرر من سلطات وهمية طاغية تمجد التقليد وتنتصر للسائد على حساب المأمول والمرتجى. كما يحكمه هاجس الإصلاح فيما يتصل بالشأنين الأخلاقي القيمي والاجتماعي السياسي. أما السبب في تسمية هذه الرسالة “بالأصول الثلاثة”، فيرجعُه المحقِّقون الى الموانع والحجب التي تحرم أغلب الناس من إدراك الحقيقة، وكسب العلم الإلهي والمكاشفات، وهي مشتقة من أصول ثلاثة هي:

أ- الجهل بمعرفة النفس التي تمثل حقيقة الانسان. ب- حب الجاه والمال والميل للشهوات واللذات وسائر المتع. ج- وساوس النفس الأمّارة وتدليسات الشيطان اللعين المخادع، الذي يظهر الحسن قبيحاً والقيح حسناً[17]. حول هذه الأصول يوضح ملاَّ صدرا “إن الجهل بمعرفة النفس من أعظم أسباب الشقاء والخسران، وقد ابتلى به أكثر الخلق في هذه الدنيا؛ لأن كل من لم يعرف نفسه لا يعرف الله… وكل من لم يعرف الله فهو كالدواب والأنعام”. ويقول في نقده لسلوك المتصوِّفة: “لو كان هناك ذرة من نور المعرفة تشعُّ في قلوبهم، لما جعلوا من باب بيت الظلمة ومن أهل الدنيا قبلة لهم، ولما تعلَّقوا بشهوات النفس والهوى”. ومن البديهي أن نقد المتصوِّفة كان حجة لطعن جميع الأفراد الذين يتقرَّبون ويتملَّقون لأهل الدنيا والحكومة، فيعملون على تأمين منافعهم الشخصية من هذا الطريق، ولا يفكِّرون بتأمين منافع عباد الله وخدمتهم. وإن ما ذكره بعد ذلك يؤيِّد هذا الاستنباط[18]. إلى ذلك، يحذر ملاَّ صدرا في هذه الرسالة وفي معظم مؤلفاته الأخرى من أن ألفاظ “العلم”، و”الفقه”، و”الحكمة”، التي كانت تطلق في زمان النبي(ص) وسادت الطريقة على معانٍ غير معانيها المتداولة عند المتأخرين[19]. وخلاصة القول أنه كتب هذه الرسالة في لحظة تاريخية شديدة التعقيد ظهرت فيها فتنة مركَّبة تحلَّت بطائفة من الانحرافات السياسية والفقهية والعقائدية[20].

ولسبب يرجع إلى غلبة الهم الميتافيزيقي في أعماله، لم تأخذ السياسة عند ملَّا صدرا حظها من العناية والتظهير. فقد انبرى أكثر شارحيه ومحقِّقي أعماله إلى تركيز مجهودهم على الجانب الأنطولوجي للحكمة المتعالية. في حين ذهب الندرة منهم إلى متاخمة آرائه السياسية ومضوا إلى اعتبارها إعادة تدوير لما كتبه الفارابي في “آراء أهل المدينة الفاضلة”. إلا أن آخرين خالفوا هذا الرأي بتبيين حقيقة أن ملَّا صدرا هو من الفلاسفة الذين أولوا السياسة عناية خاصة رغم عزلته وإعراضه عن الإنضمام إلى أصحاب الشأن. وحسب هؤلاء أنه في مؤلفاته كان صاحب نظر في السياسة المثالية، وبأساليب وطرق إدارة الدولة. وقد نظر في آراء الفارابي والغزالي وسواهما من الفلاسفة، وتأمل أفكارهم، سوى أنه في الكثير من المواضع وخصوصاً في “شرح أصول الكافي”، راح يبحث في واقع السياسة المتداولة، وذكر شروط المملكة وحدود قدرة الملك…”[21].

ثمة طائفة وازنة من المحققين وجدت في اهتمام صدرا بـ “السياسة” على نحو الوصل الوطيد مع تأسيساته الأنطولوجية. وهو لم يفارق التنظير الذي تمتلئ به أدبيات الفلسفة السياسية الكلاسيكية. لأجل ذلك لم يأخذ –كما يقولون- بآراء الفارابي في “المدينة الفاضلة” أو بما جاء في كتاب “الجمهورية” لأفلاطون إلا من باب تعزيز رؤيته الأنطولوجية السياسية في الحكمة الإلهية المتعالية. فبنظر بعض المحققين كان للنظام الفلسفي للحكمة المتعالية في القرون الثلاثة الأخيرة تأثيرات ونتائج جدية في الفكر السياسي بوجه عام، والإسلامي بوجهٍ خاص. كان يسعى لتفسير فلسفي للشريعة، ولتثبيت المكانة السياسية للمجتهدين، وبشكل عام مقولة الاجتهاد في الفلسفة الإسلامية. وبذلك هيَّأ مقدِّمات طرح الأدلَّة العقلية لولاية المجتهدين. وبوجه إجمالي فقد سار صدر المتألِّهين على أساس الأسلوب والمذهب الشائع والغالب في الفلسفة السياسية الإسلامية، وقام بتوضيحه وتكميله وتفصيله كلما وجد إبهاماً أو غموضاً أو نقصاً فيه. وفي هذا السياق كان للمفكِّرين الإسلاميين أسلوبان في التعامل مع الأنظمة الاجتماعية: فالسعة والمنطقة الجغرافية هي أساس لأحد هذه الأساليب، أما الأساس والمنشأ الآخر فهو الأهداف والغايات التي يجب على النظام الاجتماعي السعي لتحقيقها، وهي أيضاً وظيفة النظام السياسي التي يجب عليه تأمينها. وقد اعتمد صدرا أيضاً على هذين الأسلوبين بتصنيف وتقسيم الأنظمة الاجتماعية والسياسية. من وجهة نظره مثلاً، يمكن من ناحية السعة والمنطقة الجغرافية تقسيم الأنظمة الاجتماعية إلى مجموعتين: أنظمة كاملة، وأنظمة غير كاملة.

– الأنظمة الكاملة هي عبارة عن النظام السياسي العالمي، وهو النظام الذي يحوي الكرة الأرضية ويقيمها تحت سيطرته. والنظام السياسي الإقليمي، وهو الذي تقع تحت حكومته أمة أو شعب ما. وأخيراً النظام السياسي الوطني وهو الذي يقع تحت حكومته عدد من المواطنين في منطقة جغرافية معينة.

– أما الأنظمة الاجتماعية غير الكاملة، فهي عبارة عن: النظام الاجتماعي لقرية واحدة. والنظام الاجتماعي لمحلَّة. والنظام الاجتماعي للبيت والأسرة[22].

على أساس المنظومة الفكرية وسلسلة المراتب التي وضعها ملَّا صدرا من الوجود إلى الموجود، يتضح لنا أن النظام الإجتماعي العالمي هو نظام كبير، يضم مجموعة من الأنظمة الثانوية.[23] ففي مدرسة الهداية تكون جميع الأمور في خدمة أهداف الدين، ويُنظر إلى الدولة والحكومة، والاقتصاد، والقضاء، والفن، والتربية والتعليم وسائر مجالات الحياة، كنوع من الواجب والوظيفة الدينية، بحيث تؤمن رضا الشارع. ومن الجدير بالذكر أن الدنيا لفظ مشترك بين معنيين. ففي الآداب الإسلامية كلما ذكرت الدنيا بالذم والتحقير، يكون المقصود التعلق بالقيم غير الإلهية والشهوانية وغير الإنسانية، وكلما ذُكرت الدنيا بعنوان مزرعة الآخرة ودار سفر، فالمقصود منها الطبيعة المادية التي خلقها الله للناس. وقد يغيب هذا الفارق والتفكيك أحياناً عن نظر بعض المحقِّقين، فيؤدي إلى مشكلة في الفهم. على هذا الأساس، يبين ملاَّ صدرا أن الغرض الأصلي من وضع القوانين الإلهيَّة هو سَوق الناس نحو الله تعالى، ومعرفة ذاته، وإبعادهم عن الصفات المذمومة والطباع السيئة التي تؤدي إلى تعلُّق ذاتهم بالأمور الحقيرة، وتجعلهم في مراتب دنيا، وتسبب الحرمان والخذلان لهم، والخلاصة هي الوصول إلى الزهد الحقيقي عن الدنيا وأهل الدنيا والمال والمقام[24].

رغم أن صاحب “الحكمة المتعالية” لم يوفَّق في شرح جميع ما حواه كتاب “أصول الكافي”، لكنه يعتبر مصدراً مهماً لمعرفة فكره السياسي، خصوصاً البحوث التي ذكرها في شرح أحاديث كتاب الحُجَّة وهي:

باب “أصناف الناس”، باب “الشخص الذي يعمل بدون علم”؛ “باب ضرورة الحاجة إلى الحجة”، “باب طبقات الرسل والأئمة”، “وباب الفرق بين الرسول والنبي والمحدث، في معرفة الإمام والرجوع إليه”، “وباب وجوب إطاعة الأئمة”…[25] وعلى وجه الإجمال لنا أن نشير إلى سبيلين في علم السياسة الصدرائي هما: سبيل الله. وسبيل الطاغوت. فالأول هو السبيل الإلهي المستقيم الذي يكن الولي والقائد فيه. الله. والأنبياء، والأئمة والعلماء الجامعين للشرائط، ومقصده الله والجنة. وأما الثاني فهو سبيل الكفر، والتفرقة، والشِرك، ومقصده الفساد وجهنم، والمعرفة هي التي تهدي الإنسان الى أحد هذين الطريقين. وهكذا تستوي منزلة الإنسان في الحكمة المتعالية على سياسة العالم وتدبيره بوصفه خليفة الحق في عالم الخلق.

فالغرض النهائي للخليقة كما يصرِّح هو “سياقة الجميع إلى جوار الله ودار كرامته لشمول رحمته”[26]. وعليه، فإن تشكيل الدولة ضروري؛ لأنها تعمل على توفير إمكانية العبادة لعباد الله حتى يتمكَّنوا من عبودية الله بهدوء كامل.

 

2- طريق العارف إلى السفر الرابع

أرسى ملَّا صدرا هندسة متَّسقة لفلسفته السياسية حيث تشهد على اتِّساقها منهجية مركَّبة من جناحَيْ العرفان النظري والعملي. الأول يقوم على رؤية تنظيرية مؤدَّاها إثبات التواصل الوطيد بين الوحي والعقل، والثاني على الكشف والشهود من خلال مجاهدات السير والسلوك. ولو كان من تأصيل للميتافيزيقا السياسية الصدرائية لأقمناها في رحاب السفر الرابع والأخير من أسفار الحكمة المتعالية. وهذا السفر الذي يخوض العارف غماره في التدبير السياسي هو ذروة ما ينتهي إليه نزوله التكليفي إلى ميادين الناس. ففي هذا الطور يكون العارف قد أتمَّ إعداد نفسه للارتقاء إلى مرتبة الولاية والسفر بالحق في عالم الخلق. ومع أن “كتاب الأسفار” شاهدٌ في مباحثه كلها على حاضرية الكلام الإلهي تصريحاً أو تضميناً، فقد أفرد ملاَّ صدرا بعضاً من كتبه ورسائله لتبيين الميثاق المعقود بين القرآن وفلسفته التدبيرية. ولنا أن نشير على سبيل المثال لا الحصر، إلى ثلاثة كتب مرجعية هي: “مفاتيح الغيب”، و”المظاهر الإلهية”، و”الشواهد الربوبية”.

في الأعمال المشار إليها، تظهر لنا مقوِّمات السفر الرابع حيث تنعقد الصلة بين الحكمة البالغة السارية في السور والآيات البيِّنات، وما قدَّمته الحكمة المتعالية من طروح في أصالة الوجود ومعرفة الموجودات بما هي تجلِّيات وشواهد على ذات الحق. لهذا، سنجد كيف ستنجلي خصوصية التنظير للتدبير السياسي الذي ابتكره ملاَّ صدرا عبر تأليفه الخلاَّق بين البرهان والقرآن والعرفان كمثلث موصلٍ إلى إدراك حقيقة المخطط الإلهي في عالم الخلق. ذاك يدلُّ على أن الجمع بين أركان هذا المثلَّث هو الذي سيمنح الميتافيزيقا الصدرائية صفة التعالي والتجاوز، ويميزها عمَّا سبقها منذ الأرسطية، إلى الأفلوطينية الجديدة، إلى حكمة الإشراق، ثم إلى سواها من الانعطافات الكبرى التي شهدها تاريخ الفلسفة. عند هذا التخصيص على وجه الحصر سوف تتخذ الميتافيزيقا الصدرائية نعوتها المنفردة ليتأتَّى تعاليها من قدرتها على التمدُّد الجوهري بين طورين متَّصلين في علم الوجود: أولهما العلم بالمبدأ، ويندرج فيه العلم بصفاته وآثاره وكيفية صدور الأشياء منه. وثانيهما العلم بالمعاد، ويندرج فيه كيفية ظهور النفس الإنسانية، ومبدأ تكوُّنها من المواد الجسمانية، وانتهاء باستكمالاتها وترقياتها إلى آخر مقاماتها الروحانية[27].

وما من ريب في الرتبة التي تتبوَّأها قاعدة التوفيق والتناسب بين القواعد العقلية والحقائق الواردة في الكتاب والسنَّة. فهي ذات منزلة محورية في إبداعات صاحب الحكمة المتعالية. كما تظهر في طائفة واسعة من أركانها النظرية والعملية، من أصالة الوجود واعتبارية الماهيَّة، إلى البرهان على المعاد الجسماني. وما كانت هذه القاعدة التوفيقية بين العقل والشريعة لتكون، لولا حاضرية القرآن في تسديد الجهود العقلية لملاّ صدرا. فالحكمة عنده صنو الشريعة. وما بينهما عروة وثقى وعلاقة مبنيَّة توالدية، لا انفصام لها[28]. فإذا كانت الحكمة النظرية، أو الفلسفة بما هي علم رؤية الأشياء كما هي في الواقع، فالشريعة تتعيَّن بوصفها العلم الهادي إلى واجبيَّة إدراك الوجود وفق ما جاءت به الحكمة القرآنية البالغة. “ولقد جاءكم من الأنباء ما فيه مزدجر. حكمة بالغة فما تغني النذر”[29].

سيكون لنا بدءاً من هذا المحل، أن نشير إلى الميثاق المبرم بين الحكمة الإلهية البالغة والحكمة المتعالية. وهنا بالذات يمكن جلاء المفارقة التي أجراها ملَّا صدرا في عالم الميتافيزيقا. على الأخص، لمَّا دفع بمشروعه إلى التموضُع في المنطقة التوسُّطية بين الغيب والواقع. ولذا سنجد في تعريفه للحكمة ما يفصح عن خصوصية مشروعه الفلسفي الجامع بين طورين متلازمين في علم الوجود. فالحكمة عنده، هي العلم بحقائق الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر، ونظم الوجود نظماً محكماً ومتقناً، ثم يمضي إلى القول وإن سُئِلت الحقَّ فالحكمة هي الوجود.. لأن أتمَّ قسمَي العلم (الحصولي والحضوري)، هو الحضوري. وأعلى نحوَيه الآخرَين، (الفعلي والإنفعالي)، هو الفعلي. وقد تقرَّر في موضعه أنه تعالى فاعل بالعناية، وأن النظام الكياني طبقٌ للنظام الربَّاني[30]. وحين يُناشَد الله تعالى بالحكيم، أو بالدعاء المأثور عن النبي (ص) والمعروف بدعاء الجوشن الكبير: “يا ذا الحكمة البالغة” فإنما يُراد بذلك الإشارة إلى تطابق نظام الخلق مع نظام الحق. وأما القرآن الكريم فهو كشف الحق تعالى عن نظام الخلق بالكلام الموحى به إلى النبي (ص).

سوف يتبيَّن لنا أن هندسة إدراك الحقائق في الحكمة المتعالية تنبسط على نصاب مفارق للمدارس الفلسفية السابقة عليها والمعاصرة لها كالمشائية والفهلوية والهندية والإشراقية، وصولاً إلى مفارقتها البيِّنة لميتافيزيقا الحداثة التي عاصر صدرا رائد المؤسس رينيه ديكارت. فلئن كانت المعرفة على ما اتفق عليها الفلاسفة – وفلاسفة المشائية على الخصوص- هي الصور والأحكام الحاصلة في العقل نتيجة تأمُّلات فكرية ونظرية في القضايا، فإنها بحسب الإشتغال الصدرائي تبقى مشوبة بالفقر ما لم تسدَّد بالإلهام والحدس، وإشراقات القلب الذي هو مستودع المعارف الأعظم[31].

لقد ظهرت حركة القرآن سيالة في متن الحكمة المتعالية، حتى فاضت بها. ولأنها كما شاء واضعها، أن تؤلف نظيراً فلسفياً للكلام الإلهي، فقد كانت أدنى إلى وعاء يفاض عليه ثم، ليتولى هذا بدوره الإفاضة على ما دونه. وكلما كان الإستعداد أقوى، اتسع الوعاء، ليبدأ طور آخر من الفهم، يشق سيره عبر تلقي المزيد مما تلقيه عليه الحكمة البالغة[32].

ذلك يعني أن الخريطة المعرفية للحكمة المتعالية بلغت تمامها بفعل تلك الفيوضات، وبسبب من قيومية الحكمة البالغة. إذ بناء على هذه القيومية ستصبح المرجعية القرآنية عاملاً مكوِّناً وتأسيسياً لمجمل المسارات الهادية لفلسفته السياسية. ولما كانت آليات عمل الفلسفة تنطلق من الأدنى إلى الأعلى لفهم العالم، كموجود بما هو موجود، انبرت اشتغالات ملَّا صدرا إلى البناء على منهجية معاكسة مؤدَّاها الأخذ بالمتعالي، عبر إنجاز فهم الوجود بما هو وجود، من الأعلى إلى الأدنى. وذلك ما يظهر المائز العميق في سيْريّات ومناهج كل من العلم الحصولي والعلم الحضوري لجهة الإختلاف الجوهري في المقدمات والنتائج. ولنا في هذا الصدد تمثيل:

– المتَّفق عليه أن مقدمات العلم الحصولي تقوم على الإستدلال العقلي بواسطة المنطق والمفاهيم الكلِّية، أي بوساطة الماهيَّات. لذا فإن من المنطقي عندما يكون ابتداء العلم الحصولي بالماهيَّات أن يكون منتهاه إلى الماهيَّات. ومدار هذا العلم ينحصر ضمن حدود الإمكان أو عالم الوجود الفقري كما يصفه صدر المتألِّهين.

– أما مقدِّمات العلم الحضوري، فهي تقوم على السعي إلى إدراك حقيقة العالم عبر الإتصال بالملكوت، أي من الأعلى إلى الأدنى. وذلك ما بيَّنته الحكمة المتعالية حين اتخذت سبيلها لبلوغ غايتها القصوى، بتنقية الباطن، وتصفية القلب، وتنوير الروح.

مع ذلك يبقى التنبُّه ضرورياً إلى أن إثبات الوجود في العلم الحضوري هو إثبات شخصي (فردي) من جانب المثبِت. وبالنسبة إليه هو حقيقي وإدراكي وحسِّي وشعوري، لكن لا يقدر مثبته لنفسه أن يثبتَه لغيره. لأن ما تمَّ له عن طريق الكشف لا يستطيع أن ينقله إلى الغير عن طريق البيان باللسان، وبالتالي لا يستطيع الغير أن يتلقَّاه بالإدراك الحقيقي والحسِّي والشعوري إلاَّ إذا شَهِدَهُ بالمعاينة.

وبوصفها علماً جامعاً للعلم بالماهيَّات وحقائقها، وعلماً حضورياً في الآن عينه، كان لنا أن نرى إلى نمو الحكمة المتعالية في إطار حركة مثلثَّة الأبعاد: تبدأ من الألوهة، ثم إلى الطبيعة، ثم عودة إلى الألوهيَّة.

وليست أسفار العقل الأربعة سوى تأصيل لهذه الأبعاد على مبدأ الظهور والسير من الوحدة إلى الكثرة، ثم الرجوع والسير المعاكس من الكثرة إلى الوحدة.

مع هذه الجدلية يصير كل شيء في الوجود أصيلاً وحقيقياً.

– فالوحدة موجودة (حقيقة).

– والكثرة موجودة (حقيقة).

– وظهور الوحدة في الكثرة (حقيقة).

– ورجوع الكثرة إلى الوحدة (حقيقة).[33]

الجدلية نفسها في حركة الوحدة والكثرة هي ثمرة ما ذهب إليه صدر المتألِّهين، عندما رأى أن للسلَّاك من العرفاء والأولياء أسفاراً أربعة:

  • أوَّلها من الخلق إلى الحق.
  • وثانيها بالحق في الحق.
  • وثالثها يقابل الأوَّل وهو السفر من الحق إلى الخلق بالحق.
  • ورابعها يقابل الثاني لأنه سفرٌ بالحق في الخلق[34].

أما الأطوار التطبيقية لهذه الأسفار فهي تجري، حسب صدر المتألِّهين، مجرى السير والسلوك المؤيَّد بالآيات وعلى مبدأ لا إفراط ولا تفريط بل أمرٌ بين الأمرين. وكان ذلك يتطلب بالنسبة إليه إنجاز أربع مراتب سلوكية وهي:

– التخلية: بترك مذمومات الأفعال.

– التجلية: بالتزام الإعتقادات (أركان الدين).

– التحلية: بإتباع الصفات المحمودة (الأخلاق).

– الفناء في الله (العرفان والإتِّصاف بصفات الله) وهي السفر الأخير في الرحمانية[35].

يشكِّل الجمع بين أركان هذا المثلث أساس العرفان العملي. في هذا المورد يقرر مُلَّا صدرا أن بلوغ كمال معرفة التوحيد لا مناص له من السير والسلوك المسدَّد بالتقوى. ذلك أن من أهم الأركان الأساسية لإدراك الحقائق من وجهة نظره هو تقوية العقل العملي وتكميل النفس عن طريق العبادات والرياضات، وترك المشتهيات، والإعراض عن المعاصي، وتطهير النفس، وتعزيز أسس المعرفة، والإستعداد الروحي لتلقي الأنوار القدسية (…) فالعقل – بحسب الناظر – ليس بمقدوره أن يرتقي إلى درجة معينة في المسائل المتعلقة بعلم الإلهيَّات وحقائق المبدأ والمعاد ما لم يتنوَّر بنور الشرع؛ لأن إدراك مسائل من هذا القبيل، فقط باستخدام القوة النظرية ليس ميسوراً، رغم كون صاحب هذه القوة يقع في أعلى مراتب الإدراك (…) ومن هنا كانت أمرية التقوى في القرآن الكريم شرطاً لتعلم الحقائق الإلهية “إتقوا الله يعلمكم الله” (…) ومن هذا المنطلق راح صدر المتألِّهين يستكشف ويختبر ليستنبط أساس المعارف والمباني المتعلقة بعلوم المبدأ والمعاد. وهو ما بيَّنه في كتبه ممَّا حصَّله من معارف وحقائق تلقَّاها من مشكاة النبوة والولاية.

4-الوليُّ المدبِّر للسفر الرابع

لبيان الغاية العليا من مشروعه سيمضي صدر المتألهين إلى الأخذ بسبيل السير والسلوك وفقاً لمنظومة الأسفار العقلية. ومثل هذا السبيل لا يتباين ولا يفارق الصلة الوطيدة الجامعة بين المنازل الثلاثة للحكمة المتعالية: القرآن والبرهان والعرفان. وهو ما يستدل عليه من القاعدة التي تنتظم حركة السير والسلوك:

فالسالك وجود، والمسلك وجود، والسلوك منه وجود، والمسلوك إليه وجود.

وإذاً، فعلى هذه المراتب الوجودية يتحقق السالكون من حقيقة سلوكهم حين يدركونه بالمعاينة. أي أنه تعالى واجب الوجود وهو دالٌ على ذاته بذاته”.. ربما لهذا السبب كان إبن سينا يقول قوله الشهير: “وا عجزاه أن تكون الحركة هي السبيل إلى إثبات الحق الذي هو مبدأ كل شيء”… وعندما علَّق ملَّا صدرا على برهان الصدِّيقين للشيخ الرئيس قال: “وهذا المسلك هو أقرب المسالك إلى منهج الصدِّيقين لأن هناك في الحكمة المتعالية يكون النظر إلى حقيقة الوجود وها هنا (أي عند إبن سينا) يكون النظر إلى مفهوم الوجود. ذلك يعني أن الفيلسوف هو الذي يطلب علم اليقين بينما مطلب الحكيم العارف، هو عين اليقين[36]

  • غاية المدبِّر في السفر الرابع

لقد مرَّ معنا أن ما بين الحكمة المتعالية والحكمة البالغة صلة قيام وتظهير. بالثانية قامت معارف الأولى، وبالأولى ستظهر الآيات البيِّنات على حسن مقامها في عالم الولاية. وتأسيساً على هذه القاعدة سيمضي ملَّا صدرا إلى تظهير خاتمة السفر الرابع من الأسفار الأربعة برسم القواعد التفصيلية التي ينبغي للعارف المؤيَّد بكلام الوحي، أن يأخذ بها في تدبيره السياسي. فقد أقام ملَّا صدرا هذه القواعد استناداً إلى مفهوم الولاية القرآنية على الوجه التالي:

أولاً: الولاية السياسيَّة للأنبياء والأولياء:

خصَّ ملَّا صدرا الإشراق العاشر من المشهد الخامس من كتاب “الشواهد الربوبية” لبيان الصفات التي لا بد للمدبِّر السياسي الذي هو للإنسان الكامل أن يكون عليها. وهذه الصفات تدحض وجهة نظر الذين لا يعتقدون بكون الحكومة والزعامة السياسية من شؤون النبي والولي وبالتالي من شؤون العرفاء على امتداد الأزمنة. وقد أوردها صدرا في منظومته ضمن مجموعتين”.[37].

 أ- الكمالات والشرائط الأولية، ومن مقتضياتها أن يكون إنساناً كَمُلَت نفسُه وصارت عقلاً بالفعل، وأن تستكمل قوته المتخيلة بالطبع غاية الكمال، وأن تكون قوَّته الحساسة والمحركة في غاية الكمال[38].

ب- الكمالات والصفات الثانوية، ومن مقتضياتها أن يكون جيِّد الفهم لكل ما يسمعه، وما يقال له على ما يقصده القائل، وعلى ما هو الأمر عليه.

– وأن يكون حفوظاً لما يفهمه ويحسُّه حتى لا يكاد ينساه.

– وأن يكون صحيح الفطرة والطبيعة، معتدل المزاج، تام الخلقة، قوي الآلات على الأعمال التي من شأنه أن يفعلها، وكيف لا والكمال الأوفى يفيض على المزاج الأتم؟

– وأن يكون حسن العبارة، يوافيه لسانه على إبانة كل ما يضمره إبانة تامة، وكيف لا وشأنه التعليم والإرشاد والهداية إلى طريق الخير للعباد؟

– وأن يكون محباً للعمل والحكمة، لا يؤلمه التأمُّل في المعقولات، ولا يؤذيه الكد الذي يناله منها، وكيف لا والملائم للشيء ملذُّ إدراكه؛ لأنه يتقوى به؟

– وأن يكون بالطبع غير شره على الشهوات، متجنِّباً بالطبع اللعب، ومبغضاً للذات النفسانية، وكيف لا وهي حجاب عن عالم النور، ووصلة بعالم الغرور؟ فيكون ممقوتاً عند أهل الله ومجاوري عالم القدس.

– وأن يكون كبير النفس، محبَّاً للكرامة، تكبر نفسه عن كل ما يشين ويضع من الأمور، ويسمو نفسه بالطبع إلى الأرفع منها، ويختار من كل جنس عقيلته، ويجتنب عن سفساف الأمور، ويكره خداجها وسقطها، ألَّلهم إلا لرياضة النفس والاكتفاء بأيسر أمور هذه الدار وأخفها؛ وذلك لأن في الأشرف مزيد قرب من العناية الأولى.

– وأن يكون رؤوفاً عطوفاً على خلق الله أجمع، لا يعتريه الغضب عند مشاهدة المنكر، ولا يعطل حدود الله من غير أن يهمه التجسُّس، وكيف لا وهو شاهد لسر الله في لوازم القدر؟

– وأن يكون شجاع القلب، غير خائف من الموت، وكيف لا والآخرة خير له من الأولى؟ فيكون قوي العزيمة على ما يرى أنه ينبغي أن يفعل، جسوراً مقدماً عليه، لا ضعيف النفس.

– وأن يكون جوَّاداً؛ لأنه عارف بأن خزائن رحمة الله “لا تبيد ولا تنقص”.

– وأن يكون أهشَّ خلق الله إذا خلي بربه؛ لأنه عارف بالحق، وهو أجل الموجودات بهجة وبهاء.

– وأن يكون غير جموح، ولا لجوج، سلس القياد إذا دُعي إلى العدل، صعب القياد إذا دُعي إلى الجور أو القبيح[39].

وحسب تقريرات الحكمة المتعالية، فإن جميع هذه الصفات الاثنتي عشرة هي من لوازم الشروط والصفات الثلاث السابقة. وعلى هذا الأساس كان اجتماعها في شخص واحد نادراً جداً وأن تحصيلها لا يكون إلا لواحدٍ بعد واحد[40].

أما ما يخصُّ الولاية السياسية التي سيتولى القيام بها العارف الواصل، فهي ذروة مقصد السفر الرابع، وهو ما تكلم عنه صدر المتألِّهين في موارد متعددة ولا سيما حين تمحور الكلام على الإمامة والولاية السياسية للأئمة. ومنها قوله: “أما إن الأرض لا بد فيها بعد انقراض زمن النبوة من إمام، فعليه اتفاق الأمة سلفاً وخلفاً، إلا شاذاً لا يعبأ به، مع اختلافهم في أن وجوب نصبه علينا سمعاً، أو علينا عقلاً، أو على الله تعالى عقلاً، فالأول مذهب جمهور أهل السنَّة وأكثر المعتزلة، والثاني مذهب الجاحظ والكعبي وأبي الحسن البصري، والثالث مذهب الشيعة[41].

ولسوف نقرأ هذا الموضوع بتفصيل حين يبني ملَّا صدرا مشروعية النظام السياسي على النظر إلى: الإمامة بوصف كونها باطن النبوة إلى يوم القيامة، ولذا فلا بد في كل زمان بعد زمان الرسالة النبوية من وجود وليٍّ يعبد الله على الشهود الكشفي، ويكون عنده علم الكتاب، ومأخذ علوم العلماء والمجتهدين، وله الرسالة المطلقة والإمامة في أمر الدين والدنيا سواء الرعية أطاعوه أم عصوه، والناس أجابوه أم أنكروه، وكما كان الرسول رسولاً وإن لم يؤمن برسالته أحد، فكذلك الإمام إمام، وإن لم يطعه أحد من الرعية.[42]

وفي نهاية شرحه المفَّصل على الحديث المذكور، أشار ملَّا صدرا إلى النتائج التي حصل عليها وهي:

إن العالم الحقيقي والعارف الربَّاني له الولاية على الدين والدنيا، وله الرئاسة الكبرى. وإن سلسلة العرفان بالله والولاية المطلقة لا تنقطع أبداً. وإن عمارة العالم الأرضي وبقاء الأنواع فيها يكون بوجود العالم الربَّاني. وإن هذا القائم بحجة الله لا يجب أن يكون ظاهراً مشهوراً، في أوقات تمكنه من الخلافة، بل ربما يكون خافياً ومستوراً. وأخيراً، إن العلم الحقيقي حاصل للأولياء بإلهام تام من الله[43].

تأسيساً على ما مرَّ من عروض لمباني العرفان السياسي عند صدر الدين الشيرازي، فإن ما يمكن التوصل إليه من استخلاصات يفضي إلى أن السفر الرابع هو الحقل الفسيح الذي تجتمع فيه رؤيته الأنطولوجية للتوحيد، مع فلسفته السياسية الآيلة إلى تدبير دنيا الخلق على نصاب العدل الإلهي. في حين تتبوَّأ الحكمة القرآنية البالغة مقام الإشراف والقيومية والتسديد لمجمل منظومته المعرفية.

 

[1] – محمد بن ابراهيم القوامي، المعروف بصدر المتألِّهين الشيرازي والملقب بـ “ملَّا صدرا”، ولد في مدينة شيراز جنوب إيران عام 979هـ – 1571م، وكان والده صاحب نفوذ على المستويين الإجتماعي والسياسي، وحاكماً على إحدى مقاطعات البلاد. هو حكيم وفيلسوف وعارف وفقيه فضلاً عن إلمامه بالرياضيات والمنطق. من أشهر مؤلَّفاته كتاب “الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة”.

[2] – أنظر مقدمة مُلاَّ صدرا لكتاب “رسالة الأصول الثلاثة- رؤوس الشيطان في علاقة الفقيه بالسلطان”- دراسة وتحقيق: أحمد ماجد – دار المعارف الحِكْميَّة – بيروت 2008- ص 21.

[3] – سورة يوسف – الآية 39.

[4]– الشيرازي، صدر الدين- المظاهر الإلهية – تحقيق: جلال الدين الآشتياني- مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي- قم- إيران 1419هـ – ص 57.

[5] – حيدر، محمود- الحكمة البالغة في الحكمة المتعالية- موقعية القرآن في فلسفة صدر الدين الشيرازي- حوليَّات كلِّية الفلسفة والعلوم الإنسانية- جامعة الروح القدس- العدد 26- 2011.

[6] – الديناني، غلام حسين- المصدر نفسه – ص 100.

[7] – سورة الكهف – الآية 49.

[8] – سورة القصص – الآية 88.

[9] – سورة الأنبياء – الآية 108.

[10] – سورة النحل – الآية 51.

[11] – سورة الكهف – الآية 49.

[12] – الشيرازي، صدر الدين- مفاتيح الغيب – الجزء الثاني- تقديم: محمد خواجوي- مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر- بيروت – 2008- ص 153.

[13] – المظاهر الإلهية – تحقيق السيد جلال الدين الآشيباني – مكتب الإعلام الإسلامي- قم 1419هـ – ص 62.

[14] – الشيرازي، صدر الدين – شرح أصول الكافي – كتاب التوحيد- الجزء الرابع – تحقيق: محمود فاضل يزدي مطلق- إشراف: سيد محمد خامنئي – مركز دراسات الحكمة المتعالية – طهران 1385هـ- ص 1313.

[15] – الشيرازي، صدر الدين محمد بن بن إبراهيم – الشواهد الربوبية – تحقيق: جلال الدين الآشيتاني- مركز النشر الجامعي – طهران – 1340هـ- ص365.

[16] – انظر خنجر حمية في مقدمته لكتاب: رسالة الأصول الثلاثة- رؤوس الشيطان في علاقة الفقيه بالسلطان- دراسة وتحقيق: أحمد ماجد- دار المعارف الحكمية – بيروت – 2008 – ص 8.

[17] – انظر مقدمة ملاَّ صدرا لرسالة الأصول الثلاثة- المصدر نفسه – ص 20.

[18] – ملَّا صدرا، رسالة الأصول الثلاثة، ص 68.

[19] – ملَّا صدرا، المظاهر الإلهيَّة في أسرار العلوم الكماليَّة، ص 146-147.

*- عاصر ملَّا صدرا خمسة من ملوك السلسلة الصفوية، هم: طهماسب الأول “930-984هـ” وإسماعيل الثاني “984-985هـ”، ومحمد خدابنده “985-986هـ”، وعباس الأول “986-1038هـ”، والصفي الأول “1038-1052هـ”، وقد كانت معظم نشاطات صدر المتألِّهين المهمة قد حصلت في فترة الملك عباس الأول والصفي الأول، فلقد كان عصر الملك عباس الأول يمثل فترة ازدهار السلسلة الصفوية، وبعد وفاته بدأت مرحلة انحطاط هذه الأسرة.

وكان من أهم الأعمال التي أنجزت في فترة تأسيس وتثبيت السلسلة الصفوية هي: اعتبار المذهب الشيعي المذهب الرسمي في البلاد، وإدغام تشكيلات الصوفيين في نظام حكومي موحد، والصلح بين رجال السيف “قزلباش” ورجال القلم  (ديوان الأشراف الإيرانيين)، وتحكيم أركان الدولة في الدخل والخارج ومواجهة الهجمات الخارجية، وخصوصاً هجوم العثمانيين في معركة “جالدران” سنة 920 هجرية التي انتهت بهزيمة إسماعيل الأول، وصلح (آماسية) الذي انعقد بين الملك طهماسب والدولة العثمانية في سنة 962 هجرية، ومنها نقل العاصمة من تبريز إلى قزوين أيضاً. وقد بدأت هذه الفترة من عهد الملك إسماعيل الأول، واستمرت إلى بداية عهد الملك عباس الأول في سنة 996 هجرية. (راجع نجف لكزاني_ آفاق الفكر السياسي عند صدر المتألِّهين، ترجمة: وليد محسن – دار الغدير – بيروت- 2005 – ص 19).

[20] – المصدر نفسه – ص 20.

[21] – داوري، رضا “رئيس المدينة الأول بنظر الملَّا صدرا”. مجلة “نامه فرهنك” [رسالة الثقافة] طهران – 1999- العدد 31، ص 70.

[22] – داوري، رضا – المصدر نفسه.

[23] – نجف لكزائي- آفاق الفكر السياسي عند صدر المتألِّهين- الشيرازي- ترجمة وليد محسن- دار المعارف الإسلاميَّة- قم- إيران- 2005 – ص 113.

[24] – المصدر نفسه – ص 115.

[25] – ملَّا صدرا، شرح أصول الكافي- كتاب التوحيد- الجزء الرابع- مركز دراسات الحكمة المتعالية – طهران 1385هـ- ص 1313.

[26] – الشيرازي، صدر الدين، الشواهد الربوبية، ص 425.

[27] – أنظر: الفصل الأول من كتاب “المظاهر الإلهية” – مصدر سابق- ص 58-59-60.

[28] – حيدر، محمود- الحكمة البالغة في الحكمة المتعالية- سبق ذكره.

[29] – سورة القمر – الآيات 2-3-4.

[30] – ملَّا صدرا- الشواهد الربوبية – مصدر سابق – ص 425.

[31] – المصدر نفسه – ص 427.

[32] – حيدر، محمود- الحكمة البالغة في الحكمة المتعالية – مصدر سابق.

[33] – الشيرازي- الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة- المجلَّد الأول- تقديم: سيد محمد خامنئي- تحقيق: غلام رضا أعواني- المكتبة الوطنية – 1390هـ – ص 18.

[34] – المصدر نفسه.

[35] – الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة- المصدر نفسه-  ص 18.

[36] – راجع: الشيرازي، صدر الدين- الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة – المجلَّد الأول- ص 25.

[37] – لكزائي، نجف – آفاق الفكر السياسي عند صدر المتألِّهين الشيرازي – مصدر سابق- ص 122.

[38] – لكزائي- المصدر نفسه- ص 123.

[39] – أنظر: ملَّا صدرا- الشواهد الربوبية – مصدر سابق – ص 419.

[40] – المصدر نفسه – ص 420- 422.

[41] – ملَّا صدرا، شرح أصول الكافي، مصدر سابق – ص 461.

[42] – المصدر نفسه، ص 468-469.

[43] – ملَّا صدرا، شرح أصول الكافي، مصدر سابق-  ص 471.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى