الدراسات والبحوث

بطلان الحجَّة على عدم وجود الكائن الواجب

روبرت آندرو آرييل

بطلان الحجَّة على عدم وجود الكائن الواجب

روبرت آندرو آرييل

تتحرك هذه المقالة في نطاق معرفيّ شديد الحساسية في فلسفة كانط، وهو الذي نجده في فرضيته التي أوردها في “نقد العقل المحض” حول أن الأدلة اللاهوتية تستعصي على الصياغة بطبيعتها.

يحاول الكاتب، إعادة تفكيك الفرضية الكانطية وتقديم الأدلة على فشلها وبطلانها. ذلك لأنها تشكل أكثر العوائق فعّالية تلك التي يواجهها أي اعتقاد عقلاني بوجود الله.

تجدرُ الإشارة إلى أنّ هذه المقالة كانت قد فازت عام 1972 بجائزة Richard Fletcher التي تُمنح عادة من كلية دارتموث للمقالات القيّمة.

المحرر

في الماضي، تضمّنت المهامُ الموكولة للعلماء اللاهوتيين تقديمَ دفاعٍ فلسفيٍ عن العقائد الدينية المختلفة، وعلى وجه الخصوص الدفاع عن العقيدة الرئيسة في العديد من الأديان ألا وهي وجود الله. بالفعل، قام المدافعون عن الدين تاريخياً بصرف طاقةٍ كبيرة في محاولةٍ منهم لصياغة الأدلة على وجود الله. وعلى الرغم من جهودهم، فقد حُكم على العديد من هذه الأدلة الناشئة بالنقصان حين تمّ إخضاعها للتدقيق الفلسفي المعاصر. أدّى هذا الإخفاق الغريب ظاهرياً في صياغة الأدلة اللاهوتية إلى انخفاضٍ عام في الاهتمام بكامل الموضوع حتّى وصل الأمر مع حلول الربع الثاني من القرن العشرين إلى قيام قلة قليلة من العلماء فقط -إلى جانب اللاهوتيين الكاثوليكيين- بتقديم البراهين المعهودة على وجود الله. ولكن إذا صدقتْ مُلاحظاتي، يبدو أنّ أعوام الستينيات وأوائل السبعينيات قد شهدت تجدُّدَ اهتمام الفلاسفة بالأدلة اللاهوتية كما يتّضحُ من عدد المؤلَّفات الرفيعة المنشورة في هذا الميدان.

من بين الأمور التي اضطرَّ صائغو الأدلة اللاهوتية الجديدة لمواجهتها هو الاعتقاد المنتشِر في المجتمع الفلسفي بعدم إمكانية إصدار دليلٍ على وجود الله. نجَمَ هذا الاعتقاد إلى حدٍّ كبير من إيمانويل كانط الذي حاول أن يحتجّ في كتابه «نقد العقل المحض» على أنّ الأدلة اللاهوتية تستعصي على الصياغة بطبيعتها. بالفعل، ما زال عدد كبير من الفلاسفة اليوم يرى أنّ انتقادات كانط حاسمة، ويَستنتجُ أحدُ العلماء المعاصرين على سبيل المثال أنهّ: «قد قام كانط بتفحُّص البراهين اللاهوتية التقليدية…وأخضعها لانتقاداتٍ قويةٍ وثاقبة اعتُبرت مُهلِكةً بشكلٍ واسع منذ ذلك الحين…»[1]. إذا أمكن إظهار فشل احتجاجات كانط في مقابل هذه الأدلة، لعلّه يُمكن التقليل من ثقل تأثيره في هذه القضية. قد يتسبَّبُ الانخفاض في نفوذه بجدالٍ أوسع في المجتمع الفلسفي حول جدارة الأدلة اللاهوتية، وقد لاحظ أنطوني كيني (Anthony Kenny) مؤخراً أنّه «من المؤكَّد أنّ انتقادات كانط ما زالت أكثر العوائق فعاليةً تلك التي يُواجهها أيُّ اعتقادٍ عقلاني بوجود الله؛…وسوف يُشكِّلُ تفنيدُ انتقاد كانط تمهيداً لهذه الاحتجاجات (الإلهية الجديدة)»[2]. كخطوةٍ لتشجيع النقاش في هذا الميدان، أهدفُ في هذه المقالة إلى بحث احتجاجات إمانويل كانط على امتناع الأدلة اللاهوتية ومحاولة إظهار عدم سلامتها وفي الواقع فشلها ليس مرّةً واحدة فحسب بل إخفاقها في عدّة خطواتٍ حاسمة.

فلننظر بشكلٍ موجَز إلى المسار الإجمالي لمقاربة كانط حيث يقومُ بافتتاح هجومه على الأدلة اللاهوتية بالاعتراض على الدليل الأنطولوجي في نقطتين رئيسيتن، ويرى أنّ هذه الاعتراضات تُظهِر عدم صلاحية هذا الدليل. من ثم، ينتقلُ كانط إلى الدليل الكوزمولوجي ويحاول توضيح أنّ هذا الدليل بالفعل هو الدليل الأنطولوجي نفسه الذي «يُغيِّرُ حلّته ولهجته كي نظن أنّه (شاهدٌ) آخر»[3]. بما أنّ كانط يرى أنّه تمّ إظهار عدم صلاحية الدليل الأنطولوجي، فإنّه يرى أنّ في إمكانه أيضاً رفض الدليل الكوزمولوجي.

في النهاية، يتناولُ كانط الدليل الغائي المنبثق من النظام (أو ما يُسمِّيه الدليل الفيزيائي ـ اللاهوتي) ويُوضِّح أنّ النظام الذي يُلاحظه الإنسان في الأشياء الممكنة لا يُمكنه أن يدفع عقله على الإطلاق نحو استنتاج وجود شيءٍ سوى مُنظِّمٍ مُمكن فحسب وليس إلهاً. بما أنّ هذه هي الحال، يدّعي كانط أنّ العودة إلى الدليل الكوزمولوجي تتمُّ من أجل سدِّ الفجوة بين المنظِّم الممكن المحض الذي يُبيِّن الدليل الغائي وجوده، والموجود الواجب القدير الذي هو الله. ولكن بما أنّ كانط قد سبق وأظهر بُطلانَ الدليل الكوزمولوجي، فإنّ الدليل الغائي الذي يستلزمُ الدليل الكوزمولوجي على أنه أساس له هو باطلٌ كذلك. بالتالي، يرى كانط أنّ الدليل الغائي يفشلُ بسبب اعتماده على الدليل الكوزمولوجي، وهذا الأخير يفشلُ بدوره بسبب اعتماده على الدليل الأنطولوجي الذي هو باطلٌ بذاته. بما أنّ نقد كانط للدليل الأنطولوجي هو ركيزةُ كامل سلسلة اعتراضاته، سوف نبدأُ دراستنا لدعواه بالتطرُّق لنقده الدليل الأنطولوجي.

نقد الدليل الأنطولوجي

دعونا نذكر المسارَ الاستدلالي في الدليل الأنطولوجي بإيجاز لكي تتوفّر لنا قاعدةٌ متينة نستطيعُ الانطلاقَ منها لتقييم اعتراضات كانط.

على وجه الدِّقة، لا يوجد «دليلٌ أنطولوجي» واحد، فقد تمَّ تطبيقُ مصطلح «الأنطولوجي» على عدد من الأدلة الأولية على وجود الله. في الواقع، يرى الفلاسفة المعاصرون أنّ الصياغة الأصلية لهذا الدليل لدى القدّيس أنسِلم (St.Anselm) قد تضمّنتْ مسارَيْن استدلاليَّيْن مُنفصلَيْن[4]. تتمثّلُ المحاولات المبكِّرة في إظهار أنّنا إذا امتلكنا فكرة الموجود الكامل في أذهاننا، ينبغي أن يتحقّق هذا الموجود في الواقع أيضاً لأنّ وجوده في الذهن والواقع هو أكمل من وجوده في الذهن فحسب. لا يجدُ هذا الدليلُ المحدَّد الكثيرَ من المدافعين في يومنا الحالي، ولكنّ المسار الاستدلالي الثاني لأنسِلم قد تلقّى اهتماماً نقدياً وموافقةً أكبر بكثير. أودُّ أن أضع هذا الدليل الثاني في مقابل انتقادات كانط، ويُمكن صياغةُ المسار الاستدلالي الثاني بتعابير معاصرة كالتالي:

دعونا نفترض أنّه حينما نقول «الله» تنطوي هذه الكلمة على معنى ثابت، فيتجلّى إذاً التعريف المعقول للإله التقليدي في عبارة أنسِلم التي تنصُّ على أنّه «الكائن الذي لا يُمكن تصوُّر وجودٍ أعظم منه»[5]. نحنُ الآن أمام شيئين يمتلكان صفاتٍ مُتشابهة لكنّ أحدهما واجب الوجود والآخر ليس كذلك، فأرى أنّه من المسلَّم أنّ واجب الوجود هو أعظم أو أعلى من ذاك الذي لا يتمتّع بالوجود الضروري. بطريقةٍ مُماثلة، إذا تصوّرتُ أنّ الله هو واجب الوجود أو أنّ الله ليس كذلك، يترتّبُ على ذلك أنّ الله الذي يتمتّع بالوجود الضروري هو أعظم من الله الذي لا يحظى به. ولكن ينبغي أن نتذكّر أنّنا قد عرَّفنا الله بـ»الكائن الذي لا يُمكن تصوُّر وجودٍ أعظم منه»، وهذا يعني أنّه يجب علينا أن ننسب إليه أيَّ عظمةٍ مُمكنة الانتساب إليه. إذا كان الوجود الضروري أعظم من الوجود غير الضروري، يستلزمُ ذلك ضرورةَ أن ننسب عظمة الوجود الضروري إلى الله ويترتّب على ذلك بشكلٍ مُباشر أنّ الله موجود.

في تمام العملية الاستدلالية السابقة، تمثّل الادّعاء الرئيس الخالي من البرهان بالعبارة الأولى: «دعونا نفترض أنّه حينما نقول ’الله‘ تنطوي هذه الكلمة على معنى». إذا كان هذا الافتراض صادقاً –أي إنّ فكرة الله هي ثابتة منطقياً- فقد أثبتنا وجود الله وضرورة هذا الوجود، ولكن إذا كان هذا الافتراض باطلاً وتتناقض فكرةُ الله ذاتياً فإنّ الله هو –كجميع الأشياء المتناقضة ذاتياً- غيرُ موجود بالضرورة. بالتالي، نتوصّل إلى الانقسام الذي يُشكِّلُ نتيجةَ الدليل الأنطولوجي وهو: إمّا أنّ الله موجودٌ أو أنّ وجوده مستحيلٌ منطقياً.

في مقابل الدليل الأنطولوجي الذي قدّمناه آنفاً، يُثيرُ كانط اعتراضَين: 1) إذا رفضنا موضوع «الله» مع محموله المتمثِّل بالوجود الضروري، لا يُمكن أن ينشأ التناقض؛ و2) الوجود ليس محمولاً. سوف نقومُ بمعالجة كلٍّ من هذين الاعتراضين تباعاً.

لكي ندحض العبارة الواردة في الدليل الأنطولوجي التي تُفيد أنّ التناقض ينشأ إذا ادّعينا عدم وجود «الكائن الذي لا يُمكن تصوُّر وجودٍ أعظم منه»، يكتبُ كانط:

«إذا كان وجوده مرفوضاً، فإننا نرفضُ الشيء في حدِّ ذاته مع كلِّ محمولاته. لقد شهدنا أنّه إذا تمّ رفضُ محمول الحُكم بالإضافة إلى الموضوع، لا يُمكن أن ينتجَ تناقضٌ داخلي وهذا الأمر يَثْبتُ بغضّ النظر عن ماهية المحمول. إنّ الطريقة الوحيدة لتفادي هذه النتيجة هي الاحتجاج بوجود موضوعاتٍ لا يُمكن رفضُها وينبغي استمرارها على الدوام، ولكنّ هذا يُشكِّل طريقةً أخرى للقول بوجود موضوعات واجبة؛ وهذا هو نفس الافتراض الذي…يزعمُ الدليل (الأنطولوجي) إقامته.»[6]

كانط مُصيبٌ حتماً في قوله إن هذا هو الافتراض الذي يزعمُ الدليل الأنطولوجي إقامته، ولكن ينبغي أن نُلاحظ أنّ كانط نفسه هو من يُعلنُ من دون دليلٍ عدمَ وجود موضوعاتٍ واجبة وبالتالي إمكان رفض كلِّ موضوع. من جهةٍ أخرى، يتركُ الدليلُ مسألةَ الموضوعات الواجبة مفتوحة، ومن ثمّ يُظهِرُ وجودَ موضوعٍ واجبٍ واحد ويفعلُ ذلك بطريقةٍ لا يُمكن معها في أيِّ وقتٍ من الأوقات رفض كلٍّ من الموضوع والمحمول معاً. يُبيِّنُ الدليلُ أنّ الموضوع الواجب (الله) يُستنتجُ وجوده من خاصيّةٍ واجبة (الوجود الضروري) تُنسَبُ إلى موضوع خيالي (فكرة الله)، ويُفترض أنّ الفكرة وحدها هي الموجودة. إذا قام كانط برفض موضوع (الله) مع المحمول (الوجود الضروري)، ينبغي أن يرفض أيضاً الموضوع الخيالي (الفكرة الثابتة منطقياً المتمثّلة بالله) الذي يُستَخرج الوجود الضروري منه، ولكنّ هناك إقراراً بأنّ الموضوع الخيالي هو مُسلَّمة في البحث. قد يقولُ كانط إن هذا الموضوع الخيالي هو غير موجود في الواقع –أي إنّه متناقضٌ ذاتياً- ولكنّه بذلك يعترفُ بنتيجة الدليل الأنطولوجي، أي إنّ الله موجودٌ أو إنّ فكرة الله متناقضة ذاتياً.

قام البروفيسور نورمان مالكوم (Norman Malcolm) بتوجيه نقدٍ آخر على ادِّعاء كانط بعدم إمكان نشوء التناقض إذا قُمنا برفض الموضوع والمحمول معاً[7]. يُشير البروفيسور مالكوم إلى أنّه في أساس نقد كانط الدليل الأنطولوجي، يكمنُ الافتراض بأنّ نتيجة هذا الدليل –أي إنّ الله موجودٌ بالضرورة- يُساوي القول إنه «إذا كان الله موجوداً، فإنّه موجودٌ بالضرورة». يبدو أنّ كانط يوحي بالفعل أنّ هذه الفكرة تدورُ في خلده لأنّه حينما يتمُّ التعبير عنها بهذه الصيغة فقط يُمكننا «رفض الموضوع بالإضافة إلى المحمول». ولكن يُلفت البروفيسور مالكوم النظر إلى التناقض الكامن في عبارة «إذا كان الله موجوداً، فإنّه موجودٌ بالضرورة» لأنّها تعني أنّه «إذا كان الله موجوداً (ولعلّه ليس كذلك)، فإنّه موجودٌ بالضرورة». إنّ مجرد احتمال عدم وجود الله في هذه العبارة يكفي لمعارضة رأي كانط المعلَن بأنّ عبارة «يوجد الله بالضرورة» هي حقيقة ضرورية. (ينبغي أن نتذكّر أنّ عبارة «يوجد الله بالضرورة» ليست تعبيراً حقيقياً عن اعتراض كانط على الدليل الأنطولوجي لأنّه كان يرى هذه العبارة غير قابلة للإنكار، بل يكمنُ اعتراضه على الادّعاء بإمكان انطلاقنا من هذه الحقيقة الضرورية. كذلك، ينبغي أن نتذكّر أنّ اعتراض كانط على الدليل الأنطولوجي لم يتمّ عبر الخطأ المنطقي فقط، ولا يُمكن لكانط رفض الموضوع والمحمول معاً عبر حالةِ تناقض فحسب.)

لعلّه يُمكن صياغة أسلوبٍ أكثر فاعليةً لانتقاد كانط بشأن هذه النقطة نفسها ويتمثّل بالتالي: إذا كان مالكوم مُحقاً (وأظنُّ أنّه كذلك)، فإنّ كانط يرى ضمنياً أنّه:

1) إذا كان الله موجوداً، فإنّه موجودٌ بالضرورة.

من خلال العودة إلى الحشو الكلامي الذي يُفيد أنّه إذا كان (أ) هو (ب)، وبالتالي نفي (ب) يعني نفي (أ)، فبإمكاننا تحويل رقم (1) ليُفيد أنّه:

2) إذا لم يكن الله موجوداً بالضرورة، فإنّه غير موجود. ولكن أيّ «وجود» نقصد في المقطع الثاني من هذا القسم؟ بالنسبة لكانط، الافتراضان (1) و(2) تحليليان، وبما أنّ الافتراضات التحليلية لا يُمكنها أن تقود أبداً إلى الأحكام الوجودية المحتملة، ينبغي أن نستنتج أنّ عبارة «غير موجود» في المقطع الثاني من (2) تُشيرُ إلى العدم الضروري، ولكن هذا يعني إمكان إعادة صياغة (2) كالتالي:

3) إذا لم تمثّل القضية وجودَ الله الضروري، فإنّ الله هو غير موجود وجوباً.

يُفترض على كانط القبول بـ(3) لأنّه يُعادل (2) الذي بدوره يُستَشفُّ من الافتراض (1) الذي ينبغي أن يُوافِق عليه إذا أراد «رفضَ الموضوع والمحمول معاً»، ولكنّ (3) هو نفسُ استنتاج الدليل الأنطولوجي الذي يرفضه كانط! من الواضح أنّ الافتراض الثالث يُغلق المجال أمام وجود الله الممكن، وهذا هو كلّ ما يدّعي الدليل الأنطولوجي فعله، ومن الواضح أيضاً أنّ هذا الافتراض يُصرِّحُ بأنّ وجود الله هو إمّا واجب أو ممتنع. وعليه، حينما يُحاولُ كانط دحضَ الدليل الأنطولوجي عبر هذا الاعتراض، يقوم بوضع نفسه في محلِّ الإذعان بافتراضٍ يُساوي نفسَ نتيجة الدليل الأنطولوجي.

على الرغم من ذلك، ينبغي ألا ننسى أنّ كانط قد أثار اعتراضَين على الدليل الأنطولوجي، ولقد أجبنا عن الاعتراض الأول والآن نتوجّه إلى الاعتراض الثاني للردّ عليه.

يتضمّن الاعتراضُ الثاني دعوى كانط الشهيرة بأنّ «الوجود ليس محمولاً» لأنّه «عندما نفكِّر بشيء، أيّاً ما كانت المحمولات التي نفكِّر به من خلالها ومهما كان عددها -حتى في التعيين الشامل- فإنّنا لا نضيفُ شيئاً على الإطلاق إلى الشيء عندما نُعلن وجوده، وإلا فإنّه لن يوجد كما هو بالضبط، بل على العكس، سيوجد أكثر ممّا فكّرنا به في الأفهوم…»[8]. بما أنّ صياغات أنسلم (Anselm) البرهان والصياغات اللاحقة لديكارت  (Descartes) وغيره تقتضي ضرورة أن ننسب إلى الله جميع المحمولات الإيجابية، فإن لم يكن الوجود محمولاً فلا حاجة لأن ننسبه إليه وبالتالي لا ضرورة لاستنتاج وجوده.

يُمكن الإجابة على الاعتراض من خلال التمييز الدقيق بأننا هل نتحدث عن الوجود الواجب أو الممكن حينما نقول إن «الوجود ليس محمولاً». فلنفترض في هذا النقاش أنّ الوجود الممكن ليس محمولاً، ولكن لا ينتجُ من ذلك أنّ الوجود الواجب هو أيضاً ليس محمولاً. بما أنّنا قد افترضنا أنّ الوجود الممكن ليس محمولاً، فإنّنا قد قبلنا بالحقيقة التي تُفيدُ أنّه «أيّاً ما كانت المحمولات التي نُفكِّر بالشيء من خلالها ومهما كان عددها… فإنّنا لا نضيفُ شيئاً على الإطلاق إلى الشيء عندما نُعلن وجوده الممكن». على سبيل المثال، تُمثّل فكرة الوردة ممكنة الوجود والوردة ممكنة العدم نفسَ الفكرة لأنّ كليهما يعادل التأكيد بأنّ الوردة ممكنة فحسب. ولكنّه من غير الصحيح أن نساوي بين فكرة الوردة الموجودة بالضرورة والوردة الموجودة بغير ضرورة، فنحنُ نقومُ بالفعل بإجراء إضافةٍ إلى الشيء حينما نُعلن بأنّه موجودٌ بالضرورة. نفكّر بالتالي: حينما تتوافر فكرة الوردة الموجودة بغير ضرورة، يخطرُ في أذهاننا ما قد رأيناه جميعاً في نوافذ بائعي الأزهار، ولكن حينما نُفكّر بالوردة الموجودة بالضرورة فإنّنا في الواقع لا نُفكِّر بشيءٍ على الإطلاق لأنّ هذه الفكرة هي متناقضة ذاتياً (لأنّ فكرة الموجود المادي الضروري هي فكرةٌ متناقضة ذاتياً). بالتالي، على خلاف قضية الوردة الموجودة بالإمكان والوردة المعدومة بالإمكان حيثُ تتطابق الفكرتان، فإنّ فكرتيّ الوردة الموجودة بالضرورة والوردة الموجودة بغير الضرورة يختلفان بشدّة لأنّ الفكرة الأخيرة معقولةٌ تماماً بينما الأولى متناقضة ذاتياً. نظراً إلى هذا الاختلاف، قد يبدو من الخطأ أن نقول إنه «أيّاً ما كانت المحمولات التي نُحدِّد الشيءَ من خلالها ومهما كان عددها…فإنّنا لا نضيفُ شيئاً على الإطلاق إلى الشيء عندما نُعلن وجوده الضروري»، لأنّنا قد أجرينا إضافةً إلى قضية الوردة التي قدّمناها للتوّ من خلال التأكيد على وجودها الضروري أي تناقضها الذاتي. وعليه، يبدو أنّه حتّى إذا لم يكن الوجود الممكن محمولاً، لكنّ الوجود الضروري محمول بشكل كافٍ نوعاً ما، إذ إنّنا حين ننسبُ إلى الله جميع المحمولات الإيجابية التي ينبغي أن يمتلكها «الكائن الذي لا يُمكن تصوُّر وجودٍ أعظم منه» ينبغي أن ننسب الوجود الضروري إليه أيضاً. وعليه، يبدو أنّ اعتراض كانط الثاني على الدليل الأنطولوجي لا يصمُد وأنّه من جرّاء نسب الوجود الضروري إلى الله يُمكننا الوصول إلى استنتاج الدليل أي: وجود الله[9].

أرجو أن يكون الردّان السابقان على اعتراضات كانط كافيَيْن لإظهار عدم نجاح انتقاداته في إسقاط صلاحية الدليل الأنطولوجي. بما أنّ كانط يربط رفضه الدليل الكوزمولوجي والغائي برفضه الدليل الأنطولوجي، فمن خلال إظهاري عدم صحّة اعتراضاته على الدليل الأنطولوجي أكون قد أوضحتُ أيضاً عدم صحة اعتراضاته على الدليل الكوزمولوجي والغائي. لقد قُمتُ على وجه التحديد بالرد على اعتراضات كانط وفي إمكاني الآن على المستوى المنطقي الرسمي إنهاء ردودي على اعتراضاته الموجَّهة ضدّ البراهين اللاهوتية.

نقد الدليل الكوزمولوجي

ولكن لا بدّ من التذكير أنّ أحد أسباب ردِّي على اعتراضات كانط هو اعتقادي بأنّ وجهة النظر المنتشرة حول استحالة صياغة البراهين اللاهوتية تعودُ بشكلٍ كبير إلى حُكمه بذلك. وعليه، سوف أواصلُ الآن توجيهَ الاعتراضات على تحليل كانط حول إمكان العثور على دليلٍ على وجود الله لأنّ هدفي الجريء هو دحض آرائه بشكلٍ كامل قدرَ المستطاع. دعونا نمضِ إذن لتناول آراء كانط حول الدليل الكوزمولوجي لنرى إذا كانت صحيحة.

ينفي كانط الدليل الكوزمولوجي لأنّه يدّعي اعتماده على الدليل الأنطولوجي، فلننظر بعناية إلى الاستدلال الذي يتبنّاه في ربطه بين الدليلَين الكوزمولوجي والأنطولوجي،  لكي نرى إن كان بإمكاننا العثور على خطأ في الصلة التي يتخيّلها.

حينما يُقال «الدليل الكوزمولوجي»، لا يبدو أنّ كانط يقصدُ جميع الأدلة التي نُسمّيها في يومنا الحالي «كوزمولوجية» لأننا نميل إلى الاعتقاد أنّ الأدلة الكوزمولوجية هي التي توظِّفُ المعلومات التجريبية لإثبات وجود الله. استناداً إلى كانط، يجري الدليل الكوزمولوجي كالتالي: «إن وُجِد شيء، فيجب أن يوجد أيضاً كائن ضروري ضرورة مُطلقة»[10]. بناءً عليه، يبدو أنّ كانط يقومُ تحديداً بمهاجمة «الأسلوب الثالث» التابع لتوما الإكويني (Aquinas) والأدلة من هذا النوع المنبثقة من إمكان العالم[11]. بالتالي، لا يوجد أيُّ سبب لأن نفترض أنّ هجوم كانط على هذا الدليل له تأثيرٌ في مجموعة الأدلة الكوزمولوجية الأخرى، ولكن سوف نتجاوزُ هذه النقطة في الوقت الراهن ونفترض أنّه إذا قام اعتراضُه بإسقاط هذا النموذج من الدليل الكوزمولوجي فإنّه يثبتُ كذلك أمام سائر الأدلة الكوزمولوجية.

يكتبُ كانط: «يستخدمُ الدليلُ الكوزمولوجي هذه التجربة (للشيء) لكي يقوم بخطوةٍ واحدة في الاحتجاج، أعني لكي يستنتج وجودَ كائنٍ ضروري. ولا يُمكن للمباني التجريبية أن تُخبرنا شيئاً عن صفات هذا الكائن»[12]. لذلك، ينبغي أن نعتمد على الدليل الأنطولوجي لنطّلع على هذه الصفات.

دعوني أُشِر إلى أنّه حتّى لو لم نستطع الاطّلاع على أيٍّ من صفات هذا الكائن الواجب، ولكنّ مجرد معرفتنا بوجود كائن بالضرورة يُعدُّ معلومةً ثمينة للغاية. بالطبع، إنّ هذه هي خطوةٌ أولى ممتازة في طريق إثبات وجود الإله، ولكنّنا سوف نتجاوزُ هذه النقطة أيضاً ونفترضُ أنّه إذا لم نستطع التعرُّف إلى طبيعة هذا الوجود الذي أثبتناه فإنّ الدليل الكوزمولوجي ليس له قيمةٌ كبيرة.

يقدِّمُ كانط خمسة اعتراضاتٍ ممُكنة على الدليل الكوزمولوجي لكنه يقومُ بمجرد تعداد أربعة منها ويُوكِلُ «مهمة استكشافها إلى القارئ الذي أصبح الآن يمتلكُ الخبرة الوافية في هذه الأمور»[13]. بما أنّ كانط يقومُ «بمجرّد تعداد» هذه الاعتراضات الأربعة ولا يُعلن بشكلٍ تام عن ماهيتها، لن أقوم بتقديم الردود عليها لكيلا أُتَّهم بمهاجمة مغالطات بهلوانية[14] قد وضعتها بدلاً من اعتراضاته الواقعية. يبدو أنّ تفسيري الخاص للاعتراضات الأربعة يُشيرُ إلى أنّ كانط يُثيرُ الاعتراضات المعهودة على الدليل الكوزمولوجي (على سبيل المثال: استبيان شمول قانون السببية، الحاجة إلى «علّة أولى» في سلسلة العلل، وما إلى ذلك). إذا كانت هذه هي بالفعل اعتراضات كانط، دعوني أذكر أنّه قد قام آخرون[15] بالإجابة عن هذه الإشكالات بشكلٍ يُرضي نفسي على الأقل.

يحملُ اعتراض كانط الخامس على الدليل الكوزمولوجي أهميةً أكبر بكثير بالنسبة لي، وقد قام بتفصيله ولذلك سوف أُجيبُ عنه. يتألّف هذا الاعتراض من ادّعاء كانط بأنّه حتى لو علمنا بوجود كائنٍ ضروري إلا أنّ استنتاجنا بأنّه «أكثر الكائنات واقعية» (ens realisimum) يقتضي استخدام الدليل الأنطولوجي.

يتّخذُ دليل كانط المسار التالي[16]: نحنُ نعلم بوجود كائنٍ ضروري وننطلقُ من هذه المعلومة لنحتجَّ بأنّ:

أ) الكائن الضروري ينبغي أن يكون كاملاً.

إذا كان (أ) صحيحاً، ينبغي أن يكون من الممكن تحويله إلى:

ب) بعض الكائنات الكاملة ضرورية الوجود،

لأنّه إذا كان كلُّ x هو y، ينبغي أن يكون بعض y هو x (على فرض وجود بعض x). ولكن لا يوجد اختلافٌ بين كائنٍ كامل وكائنٍ كامل آخر، وبالتالي يُمكن تحويلُ (ب) إلى:

ج) كل الكائنات الكاملة هي موجوداتٌ ضرورية.

ولكن كما يُشير كانط بحق، هذه هي الفكرة الأساسية وراء الدليل الأنطولوجي. بما أنّ (أ) فرضية الدليل الكوزمولوجي تُعادل (ج) فرضية الدليل الأنطولوجي، فإنّ الدليل الكوزمولوجي يعتمدُ في الواقع على الدليل الأنطولوجي.

ينبغي أن نُلاحظَ المغالطة في هذه المعادلة! حينما نقولُ في الدليل الأنطولوجي إنّ «الكائن الكامل ينبغي أن يكون كائناً ضرورياً» فإنّنا نعني أنّ «الكائن الكامل المتصوَّر (أو في الذهن) ينبغي أن يكون كائناً ضرورياً موجوداً بالفعل» بينما حينما نقولُ في الدليل الكوزمولوجي إنّ «الكائن الضروري ينبغي أن يكون كاملاً» فإنّنا نعني أنّ «الكائن الضروري الموجود (حيث إننا قد سبق وأثبتنا وجودَ كائن ضروري من خلال الدليل الكوزمولوجي) ينبغي أن يكون كائناً موجوداً كاملاً. كم يبلغُ الاختلاف بين الاثنين! ننتقلُ في الدليل الأنطولوجي من فكرةٍ أولية لندرك أنّه ينبغي تحقيق هذه الفكرة، أمّا في الدليل الكوزمولوجي فننتقلُ من شيءٍ نعلمُ أنّه مُتحقِّق –أي الكائن الضروري- ونستنتجُ أنّه ينبغي أن يكون أيضاً كاملاً. ننتقلُ في الدليل الأنطولوجي من الفكرة إلى الواقع، بينما ننتقلُ في الدليل الكوزمولوجي من الواقع إلى الواقع. من الواضح أنّ محاولة كانط لمساواة (أ) و(ج) تتضمّنُ مغالطةً منطقية وبالتالي ينبغي رفضُ اعتراضه على الدليل الكوزمولوجي[17].

كان هدفي في هذه المقالة بحث هجوم كانط على إمكان البراهين اللاهوتية وتقديم الردود عليها بقدر استطاعتي. من أجل الوصول إلى هذه الغاية، بدأتُ ببحث الاعتراضين اللَّذَين أثارهما كانط ضدّ الدليل الأنطولوجي. لقد شهدنا كيف أنّ اعتراضه الأول –أي عدم ضرورة نشوء التناقض إذا رفضنا موضوع «الله» مع المحمول «الوجود الضروري» على خلاف دعوى الدليل- يفترضُ صحة بعض العبارات التي يُمكن إظهار دلالتها المنطقية على نتيجة الدليل الأنطولوجي الذي رفضه كانط. لقد رأينا كيف أنّ اعتراضه الثاني بأن الوجود ليس محمولاً، على الرغم من إمكان انطباقه على الوجود الممكن، يبدو أنّه يصدقُ أيضاً على الوجود الضروري الذي يشتملُ عليه الدليل الأنطولوجي. وفقاً لذلك، توصّلنا إلى أنّ كانط قد فشل في الحالتين في نفي إمكانية صياغة دليلٍ أنطولوجي. ثمّ انتقلنا إلى بحث الوسائل التي سعى كانط من خلالها إلى إظهار استلزام الدليل الكوزمولوجي للدليل الأنطولوجي ووجدنا أنّه قد أرسى هذه التبعية فقط عبر خطأٍ منطقي، ولكننا لم نبحث اعتراضات كانط على الدليل الغائي. بما أنّ كانط كان يشعرُ أن «الدليل الفيزيائي-اللاهوتي (الغائي) على وجود كائنٍ أصلي أو أسمى يعتمدُ على الدليل الكوزمولوجي، والدليل الكوزمولوجي يعتمد على الأنطولوجي»[18]، فإننا من خلال نقض اعتراضاته على الدليلَين الكوزمولوجي والأنطولوجي قد قمنا مرَّتين بدحض ادّعائه أنّ الدليل الغائي باطلٌ بسبب اعتماده على هذين الدليلين.

[1]– John Hick, Arguments for the Existence of God (New York 1971), p.55

 

[2]– Kenny, The Five Ways, pp.3- 4

 

[3]– Immanuel Kant, Critique of Pure Reason, trans. N.K. Smith (London, 1934), p.286

 

[4]– See Charles Hartshorne, The Logic of Perfection and Anselm’s Discovery; Norman Malcolm, “Anselm’s Ontological Arguments”, The Philosophical Review 69 (1960)

 

[5]– Proslogion, chaps.2- 4

 

[6]– Kant, Critique of Pure Reason, pp.278- 284

 

[7]– Malcolm, “Anselm’s Ontological Arguments”

 

[8]– Kant, Critique of Pure Reason, pp.282- 283

 

[9]–  إنني مدينٌ لكتاب Charles Hartshorne تحت عنوان Anselm’s Discovery الصفحات 208-234 لإيراده للملاحظة حول كيفية قيام الاختلاف بين الوجود الواجب والممكن بإبطال اعتراض كانط الثاني.

 

[10]– Kant, Critique of Pure Reason, p.285

 

[11]– Summa Theologica, Q.2,Art.3

 

[12]– Kant, Critique of Pure Reason, p.298

 

[13]– Ibid.,p.298

 

[14]–  المغالطة البهلوانية: هي نوعٌ من الادّعاءات القائمة على تحريف الموقف المعارض بتفنيد شكل الحجة بحيث يوحي أنّ الحجة المعاكسة صحيحة.

 

[15]– Richard Taylor, Metaphysics (Englewood Cliffs, 1963), Jacques Maritain, Approaches to God (New York, 1954), and Edward Sillem, Ways of Thinking about God (New York, 1961).

هذه المؤلفات هي أمثلة تُقدِّم أبعاداً من الدفاع عن الأدلة من الصنف الكوزمولوجي. يُمكن أيضاً مراجعة مقالات William L.Rowe وBarry Miller في دورية The Monist 54 الصادرة في تموز 1970.

 

[16]– Kant, Critique of Pure Reason, pp.287- 288

 

[17]– أُخذت الإشارة إلى هذا الرد من كتاب The Dream of Descartes بقلم Jacques Maritain إصدار نيويورك العام 1944، الصفحات 138-141.

 

[18]– Kant, Critique of Pure Reason, p.298

 

* عن مجلة الاستغراب-العدد التاسع- السنة الثالثة- 1439هـ – خريف 2017.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى