ثلاث نظريات حول العرفان
ثلاث نظريات حول العرفان
إنّ البحث عن مصادر العرفان الإسلامي من جملة الأبحاث ذات الأهمية الكبيرة، إذ يمكن من خلال ذلك معرفة أصالة هذا العلم ومقدار نسبته للإسلام، أو دخوله إلى العالم الإسلامي عبر الأديان والتيّارات الفكرية الأخرى. فالسؤال المطروح هنا: هل نشأ العرفان الإسلامي في ظلّ تعاليم الدين الإسلامي، أم أنّه تأثّر بغير الإسلام؟
يتحدّث الشهيد مرتضى مطهري عن نظريات ثلاث في هذا الإطار1:
1- النظرية الأولى: التي ينسبها الشهيد مطهري إلى العرفاء، تبيّن أنّ العرفان قد استمدّ كافة مواده الأساسية من دين الإسلام على أساس أنّ الفكر العرفاني يقوم على عقيدة التوحيد، وهي عقيدة قد اقتبس العرفاء كافة تفصيلاتها ممّا ذكر في دين الإسلام، هذا في خصوص العرفان النظري. أمّا في العرفان العملي، فيتحدّث العرفاء عن أنّهم استعانوا بالنصوص القرآنية وسيرة المعصومين عليهم السلام وكلماتهم, لتحديد إطار السير والسلوك، وما المفاهيم التي استعملها العرفاء في عملية السير والسلوك إلا استجابة لما ورد في النصّ الديني.
2- النظرية الثانية: المنسوبة إلى المستشرقين، تبيّن أنّ العرفان الإسلامي دخل إلى العالم الإسلامي من خارجه، وأوضحوا أنّ جذور العرفان تعود إمّا إلى المسيحية من خلال الارتباط بين المسلمين والرهبان المسيحيين، وإمّا أنّها تعود إلى تيّارات إيرانية، وإمّا أنّها تعود إلى تطوّر الفلسفة الأفلاطونية الجديدة والتي هي تركيب من أفكار أرسطو وأفلاطون وفيثاغورس. وقد أوضح المستشرق ماسينيون الآراء في مصادر التصوّف فاعتبره دخيلاً على الإسلام، مُسْتمدّاً إمّا من رهبانية الشام، وإمّا من أفلاطونية اليونان الجديدة، وإمّا من زرادشتية الفرس أو قيد الهنود2.
3- النظرية الثالثة: تشير هذه النظرية إلى أنّ العرفان قد استوحى أصوله الأولى من الإسلام، وقد وضع العرفاء أصول وقواعد وضوابط لهذه الحالة، ومع ذلك استفادوا من التطوّرات والتحوّلات الخارجية. وهذا يعني أنّ العرفان يعود إلى الإسلام من حيث الأصول والمبادئ، وإن كان العرفاء قد استعانوا بالتجارب العرفانية للشعوب الأخرى ما دامت لا تتعارض مع الأصول. ثمّ إنّ الشهيد مطهري، وبعد عرضه للرأيين الأولين بيّن أنّ المسلّم به أنّ العرفان قد استمدّ مواده الأولى من الإسلام، حيث بدأ ذكر نماذج على ذلك3. وفيما يلي نركّز البحث على أبرز المصادر الإسلامية للعرفان.
القرآن الكريم
يوضّح العرفاء أنّ العديد من آيات القرآن الكريم تدعو إلى الابتعاد عن الدنيا والعمل للآخرة، وهذا ما يجعل النفوس نقية بعيدة من الآثام والمعاصي. يضاف إلى ذلك أنّ القرآن الكريم يصوّر وبشكل واضح الأفكار والعقائد والسلوكيّات التي يؤمن ويعمل بها العرفاء.
يتحدّث القرآن الكريم حول الله تعالى باعتباره خالق العالم، وهو الموجود في كلّ مكان: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ﴾4، وقوله تعالى ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ﴾5.
ويتحدّث القرآن الكريم حول تزكية النفس: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَ﴾6.
والقرآن يحثّ على الزهد والتوكّل والتوبة والصبر: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ﴾7. وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾8. وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُو﴾9، وكذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحً﴾10.
الحديث
يعتبر الحديث منبعاً أساسياً وكبيراً للعرفاء، فقد اعتمد العرفاء، في أغلب نظرياتهم ومفاهيمهم والمصطلحات التي استخدموها، على الحديث، ولا فرق في ذلك بين الأحاديث القدسية والأحاديث الواردة عن المعصومين عليهم السلام. لعلّ من أبرز الأحاديث القدسية التي تمسّك بها العرفاء، الحديث الآتي: “كنت كنزاً مخفياً، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق كي أعرف…”11. وقد أراد العرفاء من خلال هذا الحديث تصوير حقيقة العلاقة بين الله والكون بكلّ ما فيه, إذ بناءً عليه يمكن استخراج أهمّ نظريات العرفاء, أي الوحدة الشخصية للوجود، وأنّ الكون بما فيه ما هو إلا مظهر وتجلٍّ للوجود الواحد.
وفي مجال الفناء في الله يتمسّك العرفاء بالحديث الشريف: “لا يزال العبد يتقرّب إليَّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يسعى بها, فبي يسمع وبي يبصر، وبي ينطق، وبي يعقل، وبي يبطش، وبي يمشي…”12.
أمّا الأحاديث المنقولة عن المعصومين عليهم السلام فكثيرة, لعلّ من أبرزها قصّة الحوار بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشاب في المسجد، وقد سأله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: كيف أصبحت يا فلان؟ قال: أصبحت يا رسول الله موقناً. تعجّب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من قوله، وقال: إنّ لكلّ يقين حقيقة، فما حقيقة يقينك؟ فسرد عليه الشاب حقيقة يقينه. عند ذلك خاطب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه: “هذا عبد نوّر الله قلبه بالإيمان”13.
جاء عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: “إنّ الله سبحانه وتعالى جعل الذكر جلاءً للقلوب، تسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به بعد المعاندة، وما برح لله عزّت آلاؤه في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات، عباد ناجاهم في فكرهم، وكلّمهم في ذوات عقولهم…”14.
سيرة المعصومين عليهم السلام
تشكّل سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة الأئمة الأطهار عليهم السلام أحد مصادر العرفان الإسلامي، حيث كان المعصومون عليهم السلام المثال الأعلى في العبادة والزهد والتواضع والابتعاد عن الدنيا… في سلوكهم العملي وفي حياتهم مع المجتمع.
المعروف أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان كثير العبادة، وكان زاهداً متعبداً، حياته بسيطة، ولم يهتمّ بزخارف الدنيا وزبرجها. يروى أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يتهجّد حتى تتورّم قدماه. روي عن إمامنا الباقر عليه السلام أنّه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند عائشة ليلتها، فقالت: يا رسول الله لِمَ تُتْعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال: يا عائشة، ألا أكون عبداً شكوراً”15.
وروي أنّ الإمام الصادق عليه السلام ارتدى لباس الصوف، فقال له الراوي: إنّ الناس لا يرغبون في رؤية من يلبس الصوف, فردّ عليه الإمام عليه السلام بقوله: “إنّ أبي وعلي بن الحسين كانا أثناء الصلاة يلبسان خشناً ـ من الصوف ـ ونحن نفعل كذلك”16، وفي هذا السلوك دلالة على زهد المعصوم عليه السلام في الدنيا.
والأخبار في هذا الخصوص كثيرة نحن في غنى عن ذكرها, إذ إنّ حياة المعصومين عليهم السلام شكّلت المصدر الأساس لسلوك العرفاء, لذلك نراهم في الأمور التي كانوا يقومون بها ينسبونها إلى المعصومين عليهم السلام ليشيروا إلى صحّتها.
الشريعة
يعتقد العرفاء أنّ الغاية التي أُرسل الأنبياء لأجلها، إيصال الخلق إلى كمالهم المحدّد لهم والمتناسب مع استعدادهم وقابليّاتهم، ونقلهم من ظلمات الجهل إلى نور الكمال والعلم. وأمّا هذه الغاية فلا تتحقّق إلا إذا تمكّن الإنسان من تكميل قوّتي العلم والعمل. فالإنسان يجب أن يمتلك العزيمة للعمل بما جاء لأجله الأنبياء، حيث يصل إلى الكمال بواسطة ذلك دون سواه. وهذا يعني أنّ الإنسان إذا عزم على المسير في طريق الشرع أمكنه الوصول إلى حيث الكمال. ويبيّن العرفاء أنّ طريق الشرع هو أقرب الطرق لتكميل قوّتي العلم والعمل، والالتزام بضوابطه كفيل بإيصاله إلى ذلك17.
من هنا، بحث العرفاء حول أصول الاعتقادات، وبيّنوا أعدادها، واستدلّوا على ضرورتها ووجودها، والنصوص التي تؤكّدها، وكذلك رأيهم العرفاني فيها، وإلى جانب ذلك تحدّثوا حول فروع الاعتقادات، وبيّنوا ضرورتها ودورها في عملية السلوك العرفاني. يقول السيد حيدر الآملي حول حقيقة الشرع وضرورة العمل به: “إنّ الله كامل حكيم، والأنبياء والرسل – كما سبق – أطباء النفوس… وقوانينهم في الشرائع كالمعالجين لمرض الناس… فلو عرفوا هناك دواءً لدائهم أنفع وأنسب من هذا لأمروا به، وأظهروه للناس ليستعملوه في إزاله أمراضهم, لأنّ ذلك واجب عليهم من باب اللطف… فعرفنا أنّ هذا الدواء المعبَّر عنه بالفروع كافٍ في إزالة مرض الجهل والكفر والشكّ والنفاق”18.
* المصدر: كتاب “علم العرفان”، نشر “جمعية المعارف الإسلامية الثقافية”.
الهوامش:
1- مطهري مرتضى، العرفان، ص 34 ـ 45.
2- كيلاني، قمر، في التصوّف الإسلامي، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، بيروت 1962، ص 15.
3- مطهري، مرتضى، العرفان، ص 34-45.
4- سورة البقرة، الآية 115.
5- سورة الواقعة، الآية 85.
6- سورة الشمس، الآيتان 9 ـ 10.
7- سورة الحديد، الآية 20.
8- سورة فاطر، الآية 5.
9- سورة آل عمران، الآية 200.
10- سورة التحريم، الآية 8.
11- ابن عربي، الفتوحات المكّية، دار إحياء التراث العربي، ج 2، ص 112.
12- ابن عربي، التفسير، تصحيح وضبط الشيخ عبد الوارث محمد علي، دار الكتب العلمية، ط 1، 2001،ج 1، ص 35.
13- الكليني، الكافي، تحقيق علي أكبر غفاري، ط 5، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج 2، ص 53.
14- نقلاً عن: مغنية، محمد جواد، نظرات في التصوّف والكرامات، بيروت، المكتبة الأهلية، ص 16.
15- الكافي: ج2، ص95.
16- نقلاً عن: سجادي، ضياء الدين، مقدمات تأسيسية في التصوّف والعرفان والحقيقة المحمدية، ص 6. وجاء في رواية أبي علي الأشعري عن محمد بن عبد الجبار… قال: رأيت أبا عبدالله عليه السلام وعليه قميص غليظ خشن تحت ثيابه، وفوقها جبّة صوف، وفوقها قميص غليظ، فمسستها، فقلت: إنّ الناس يكرهون لباس الصوف، فقال عليه السلام: “كلا، كان أبي محمد بن علي عليهما السلام يلبسها، وكان علي بن الحسين عليهما السلام يلبسها، وكانوا عليهم السلام يلبسون أغلظ ثيابهم إذا قاموا إلى الصلاة, ونحن نفعل ذلك ” (الكافي، الشيخ الكليني، ج 6، ص 450).
17- حمية، خنجر، العرفان الشيعي، ص 587.
18- الآملي حيدر، أسرار الشريعة وأطوار الطريقة وأنوار الحقيقة، تحقيق محمد خواجوي، ط 1، طهران، مؤسسة الدراسات والتحقيقات الثقافية، 1362 ش، ص 175.