السَّماع الصوفيُّ وتجلِّياتُه
رزقي بن عومر
تمهيـــد:
يتميَّز التصوُّف والعرفان الإسلاميُّ بخاصِّيَّة الذوق ممَّا يجعل مفاهيمه غير قابلة لأن تحصل عن طريق الدَّرس والتحصيل العقليِّ. وصبغت هذه الخاصِّيَّة كلَّ مفاهيمه حتى أصبح الطريق والمنهج اللاَّئق بفهمها. أمَّا التحقُّق منها وبها معرفيَّاً فيمرُّ بالممارسة وخوض تجربة سلوكيَّة تُغيِّر رؤية الإنسان للحياة وللوجود، من رؤية مقيَّدة ترى الفروقات الوجوديَّة حقيقة واقعيَّة نتيجة الفصل الذي يعيشه صاحبها، إلى رؤية لا ترى إلاَّ الإطلاق في ذاته وظاهراً ومتجلِّياً في صور مقيَّدة، وبالتالي لا مجال لإثنينيَّة وجوديَّة.
بناءً على ذلك، يمكن إدراج مفهوم السَّماع وحقيقته بحيث لا يشذُّ عن هذه القاعدة.
قبل تناوُل مفهوم السَّماع عند صوفيَّة الإسلام، سنحاول أن نعرِّج على دلالاته بين أهل اللُّغة وضمن الرؤية الدينيَّة من خلال ما توافق عليه المفسِّرون والعلماء استلهاماً للدلالة من النصوص الدينيَّة من كتاب وسنَّة، ونقف كذلك بإيجاز أمام هذه اللَّفظة، والمعاني التي انصبغت بها ضمن المنظومة الفكريَّة الإسلاميَّة من خلال المتكلِّمين والفلاسفة، ونستقرُّ عند دلالتها الصوفيَّة وأبعادها المعرفيَّة والوجوديَّة والقيميَّة.
1 ـ السَّماع، الدلالة والاصطلاح:
أ ـ السَّماع في اللُّغة:
في البحث اللُّغويِّ، قد يكون السَّماع بقصد، وهو الذي يشير إليه لفظ الاستماع، وقد يكون بقصد وبغيره من خلال لفظ السَّماع. وثمَّة فرق بين السَّماع والاستماع، وقد يكون مدلول السَّماع القبول والإجابة: “استمع لما كان يقصد، وسمع يكون بقصد ومن دونه. وسمعت كلامه: أي فهمت معنى لفظه. وسمع الله قولك: علمه. و”سمع الله لمن حمده “أجاب الله حمد من حمده وتقبَّله، لأنَّ غرض السَّماع الإجابة. ومنه الدعاء ” أعوذ بك من دعاء لا يُسمع”، أي لا يُستجاب ولا يُعتدُّ به، ويُقال: دعوت الله حتى خفت أن لا يكون الله ليسمع ما أقول: أي لا يجيب ما أدعو به. و” أي دعاء أسمع يا رسول الله “، أي أرجى للإجابة”[1].
ومن دلالات السَّماع الغناء، “والسَّماعُ الغناء. والمِسْمَعَة: القينة المغنِّية. ويُقَالُ: هذا قبيحٌ في السَّماع وحسنٌ في السمَّاع، أيْ إذا تكلَّم به والسَّماعُ الغناء والمِسْمَعَةُ: القينة المغنيِّة والسُّمعَةُ: ما سمِّعت به من طعام على ختان وغيره من الأشياء كلَّها تقول: فعل ذاك رياءً وسُمْعَةً أيْ: كي يُرَى ذلك ويُسْمَع وسمَّعَ به تسميعاً إذا نوَّه به في النَّاس، والمِسْمَعُ من المزادة ما جاوز خُرْتَ العُروة إلى الظَّرف والجميع: المسامع ومِسْمَعُ الدَّلو والغرب: عروة في وسطه يُجْعَل فيه حبل ليعتد”[2].
إذن، السَّماع بوجه عام حسُّ الأذن، ويرد في الغالب بما يؤدِّي إلى الإنصات إلى الموسيقى والغناء، كما يُطلق في أصول اللُّغة والنحو على السماعيِّ بمعنى ما يُضادُّ القياس، وهي الدلالة نفسها في علم الكلام. ويقال السَّمع في مقابل العقل.
ب ـ السَّماع في القرآن الكريم والسنَّة النبويَّة:
ورد ذكر السَّماع كمفردة في القرآن الكريم في 22 موضعاً، على أنَّ المعنى الغالب يؤوَّل إلى القبول والطاعة والتصديق، ممَّا يجعل له علاقة مباشرة بالقلب لا الأذن، على أساس أنَّ الأذن أداة تنقل الأمر أو النهي، ويكون حظها نقل التكليف، بينما الذي يتحقَّق له السَّمع هو القلب باعتباره محلَّ التكليف من إجابة أو رفض، وهذا المعنى الذي استنتجه أغلب المفسِّرين الذين تناولوا الآيات الكريمة التي وجدت فيها مفردة السَّماع. وهنا نستعرض بعض الإيرادات التي تناولها المفسر شهاب الدين الألوسي في كتابه “روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني“[3]
ففي معرض تفسيره للآية {يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} [ الأنفال: 20 ] يقول: “لأنَّ ثمرة السَّماع الفهم والتصديق وثمرتهما الإرادة وثمرتها الطاعة، فلا تصحُّ دعوى السَّماع مع الإعراض، {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [ الأنفال: 21 ]، لكونهم محجوبين عن الفهم، {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الصم} عن السَّماع {البُكم } عن القبول، { الذين لاَ يَعْقِلُونَ } [الأنفال: 22 ]، لماذا خلقوا { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا } استعداداً صالحاً { لأسمعهم } سماع تفهُّم { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ } مع عدم علم الخير فيهم”[4].
ويستنتج الألوسيُّ من جملة هذه الآيات التصديق والقبول والفهم، وهذه كلُّها متعلِّقات القلب لا الأذن، لأنَّ الأذن لا يمكن في حقِّها القبول أو الرفض، ولا التصديق أو الكذب، لأنَّها معدودة ضمن الجوارح التي تنقل الخبر أو الإنشاء لا غير. لذا كانت الأذن ممَّن يشهد على الإنسان يوم المحشر وإلاَّ لكانت ممَّن يحاسب ما دام ينسب إليها فعل القبول والرفض، أو التصديق والتكذيب. هذه المواصفات هي متعلقات القلب محلَّ الإرادة والتوجه، التي بها يُقبِل العبد على التكاليف أو يعرض عنها.
كذلك في قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ” [الأنفال/ 20]، يقول الألوسي: “{ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ } جملة حالة واردة لتأكيد وجوب الانتهاء عن التولِّي مطلقاً لا لتقييد النهي عنه بحال السماع: أي لا تتولُّوا عنه، والحال أنَّكم تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته والمواعظ الزاجرة عن مخالفته سماع تفهُّم وإذعان. وقد يُراد بالسَّماع التصديق، وقد يبقى الكلام على ظاهره من غير ارتكاب تجوز أصلاً، وقوله سبحانه: “وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ” [الأنفال/ 21]، { وَلاَ تَكُونُواْ } تقريراً لما قبله أي لا تكونوا بمخالفة الأمر والنهي { كالذين قَالُواْ سَمِعْنَا } كالكفرة والمنافقين الذين يدَّعون السَّماع، {وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ }، أي سماعاً ينتفعون به لأنَّهم لا يصدِّقون ما سمعوه ولا يفهمونه حقَّ فهمه”[5].
إذن، المُراد بالسَّماع كما فهمه المفسِّرون هو القبول والإجابة بحيث لا يجتمع سماع مع اعتراض، “{واسمعوا } … والمُراد سماع القبول والطاعة فيكون تعريضاً لليهود حيث قالوا: { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } [ البقرة: 3 9 ]، وإذا كان المُراد سماع هذا الأمر والنهي يكون تأكيداً لما تقدَّم”[6].
يتعدَّى السَّماع دلالة الإنصات، التي لا تفيد الإجابة بل تفيد تلقِّي رسالة الإخبار عند المتلقِّي فحسب، فالإنصات جزء السَّماع. ما يمكن قوله في سياق البحث التفسيريِّ هو إهمال الفروقات بين مختلف اشتقاقات السمع، إذ لم يفرِّقوا بين الاستماع والسَّماع، كما فعل أهل معاجم اللُّغة وحتى الصوفيَّة كما سنشير إلى ذلك لاحقاً.
كما ورد السَّماع في الأحاديث النبويَّة الشريفة، بحيث دعت الروايات النبوية إليه، ومنها ما رواه البراء بن عازب، قال: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: حسِّنوا القرآن بأصواتكم، فإنَّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً” [البخاري_ الآداب/ 90].
وهو لا يقتصر على القرآن الكريم وإنَّما يمتدُّ ليشمل سماع الأشعار والأناشيد الدينيَّة التي تثير السعادة والبهجة الروحيَّة من خلال القيام بالواجبات والأوامر الإلهيَّة، وهذا ما يؤيِّده الحديث المرويُّ عن عائشة رضي الله عنها، أنَّ أباها رضي الله عنه دخل عليها وعندها جاريتان تغنِيان وتضربان على الدفَّين ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجَّى بثوبه، فانتهرهما، فكشف رسول الله(ص) عن وجهه وقال: “دعهما فإنَّها أيام عيد” [البخاري ـ باب العيدين].
ونحن نورد من السنَّة ما يحثُّ على السَّماع، كذلك لا نغفل التحذيرات النبويَّة من السَّماع المحرَّم، وهو كلُّ غناء أو إنشاد أو أشعار تشجِّع على الميوعة والتمادي في الحالة الشهوانيَّة مما يؤدِّي إلى الغفلة عن مقتضيات العبوديَّة لله تعالى. ولعلَّ الحديث السابق يشير إلى مبادرة أبي بكر رضي الله عنه إلى منع الجاريتين من الغناء، وفي هذا الأمر إشارة إلى الثقافة النبويَّة التي تلقَّاها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تمنع مثل هذا السَّماع.
ج ـ السَّماع في الاصطلاح الصوفيّْ:
السَّماع في الاصطلاح الصوفيِّ هو “سماع القرآن الكريم أو قصائد الشعر بنغمة طيِّبة موافِقة للطبائع، تؤثِّر في المستمعين إلى درجة الصعق والبكاء والغشية، وما شابه ذلك من ألوان التأثُّر، ويستدلُّون لذلك بقوله تعالى:”الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه” (الزمر/17)”[7].
استعمل الصوفيَّة السَّماع تهذيباً للنفوس، وتجلية للأرواح من خلال ربطها بموطن “ألست“، وكما يحدِّده الشيخ خالد بن تونس: “هو مايرد على السمع، وهو نعمة وهبها الله لنا من جوده وكرم إحسانه، نتوصَّل بواسطتها إلى فهم المعاني، وإدراك الأصوات على اختلافها، ومن دونها يتعذَّر توظيف حاسَّة النطق، لذلك وردت في الذِّكر الحكيم.
قبل كثير من الصفات، قال تعالى في حقِّ نفسه : “وهو السَّميع العليم”، وقال عزَّ وجلَّ مخبراً عن خلق الإنسان” فجعلناه سميعا بصيرا” 1 سميعا قبل بصيراً، وبذلك نستنتج أن تحصيل العلم وإدراك المعرفة لا يتمَّان إلا عن طريق فهو الباب، لا مدخل إليهما إلاَّ منه، قال صاحب الإحياء رضي الله عنه: لا منفذ إلى القلوب إلاَّ من دهليز الأسماع”[8].
ولا بدَّ من القول أنَّ الأصل في السَّماع، كما يذهب الغزالي، هو أنَّ حاسة الشمِّ تستلذُّ بالروائح الجميلة، وحاسة البصر تستلذُّ إلى النظرة، فإن استلذاذ السماع بالأصوات الجميلة لأنَّ السَّماع هو استماع صوت طيِّب موزون مفهوم المعنى، محرِّك للقلب، وليس في جملته إلاَّ التذاذ حاسَّة السَّمع والقلب، فهو كالتذاذ حاسَّة البصر بالنظر إلى الخضرة التذاذ القلب به.
وهو يكشف عن دلالة السَّماع بالنسبة إلى الإنسان خصوصاً فيذهب إلى أنَّ له تأثيراً غريباً عليه، فإن لم يتأثَّر بما يسمع فهو ناقص العقل، بعيد عن الشفافيَّة والروحانيَّة، ويصبح مثل الجمادات التي لا تتأثر. كما له تأثير على الحيوانات والطيور، فقد كان الطير يقف على رأس داود عليه السلام لاستلذاذه بصوته الشجيِّ، وإذا كان الطير يتأثَّر بالسَّماع فمن باب أولى أن يتأثَّر الإنسان به. ثمَّ إنَّ أهل السَّماع يتفاوتون في حال سماعهم، فمنهم من يغلب عليه حال سماعه الخوف أو الحزن أو الشوق، فيؤدِّيه ذلك إلى البكاء، والأنين، والشهقة، وتمزيق الثياب، والغيبة، والاضطراب، ومنهم من يغلب عليه الرَّجاء والفرح والاستبشار، فيؤدِّيه إلى الطرب والرقص والتصفيق كما رُوي عن داود عليه السلام أنَّه استقبل السكين بالرَّقص.
إلى ذلك، اختلف مشايخ التصوُّف ومحقَّقيه في السَّماع، فقالت طائفة إنَّه آلة الغيبة، واستدلُّوا بأنَّه يكون محالاً في المشاهدة، لأنَّه – كما يقولون – لا خبر مع عيان، فمن تحقَّق له الشهود فقد استغنى عن الخبر والسماع، بل يُعدُّ طلبه مع الشهود سوء أدب مع الحضرة الإلهيَّة، “إذ إنَّ الحبيب في محلِّ وصل الحبيب يكون مستغنياً عن السماع في حال النظر إليه، لأنَّ السماع خبر، والخبر في محلُّ العيان بعد وحجاب وشغل، وعلى هذا فهو آلة المبتدئين ليجتمعوا به من تشتُّت الغفلة، فالمجتمع به يتفرَّق لا محالة.
وقالت جماعة أخرى إنَّ السَّماع آلة الحضور، لأنَّ المحبَّة تقتضي الكلِّيَّة، وما لم يكن كلُّ المحب مستغرقاً في المحبوب يكون ناقصاً في المحبة”[9]. فكما أنَّ المحبة من نصيب القلب في حال الوصل، والمشاهدة من نصيب السرِّ، والوصل من نصيب الروح، فالخدمة من نصيب الجسد، والأذن جزء الجسد، فكان السماع بهذا الاعتبار أخسَّ من المشاهدة، طبعاً نحن نتحدَّث عن السَّماع الطبيعيِّ الذي يتشكَّل في صورة أنغام وألحان وتجويد للقرآن الكريم، أي السَّماع بالمعنى الاصطلاحيِّ، وإلاَّ فإنَّ هناك مقاماً له يصل إلى أن لا ينحصر في هذه الأشكال بحيث يغدو العارف يسمع من كلِّ الوجود، وهذا سماع الواصلين أهل الوحدة والشهود الحضور الدائم.
يستعمل الصوفيَّة السَّماع كآلة لمعنى وحقيقة، فهو غير مطلوب في ذاته بل لأمر وراءه، وهو تحقيق الوصول ومعرفة الحقِّ تعالى وجداناً وحضوراً، لذا فهو ينمِّي في المريد خاصِّيَّة الحضور، طبعاً إذا أدَّاه على شروطه التي حدَّدها مشايخ التصوُّف، فــ”السَّماع آلة الحضور لأنَّ الغائب نفسه غائب، والغائب يكون منكراً، والمنكر لا يكون أهلاً لذلك، والسَّماع على نوعين: الأول بواسطة، والثاني بلا واسطة، فما يسمعه من القارئ فهو آلة الغيبة، وما يسمعه من البارئ فهو آلة الحضور”[10].
وللسَّماع مفهوم عامٌّ يشمل كلَّ ما يسمعه الإنسان من موسيقى عذبة وغناء وأصوات مطربة، ولا شكَّ في أنَّه يستمع ويستلذُّ بسماع الأصوات الجميلة والموسيقى العذبة للترويح عن نفسه والتسلِّي عن هموم الحياة وأعبائها، فنفسه عموماً تنفعل وتتجاوب مع النغمات بلا تكلُّف، إلاَّ ما شذَّ، وفي هذا أصل وجوديٌّ قد يصطلح عليه البعض بالفطرة والجبلة كما سنشير إليه في التأصيل الوجوديِّ للسماع.
نلفت هنا إلى أنَّ الصوفيَّة جعلوا للسَّماع شروطاً أهمُّها ألاَّ يطلبه بنفسه لأنَّ ما كان من النفس فهو شهوة تردي صاحبها إن أجابها، لأنَّه كما قال الجنيد: “السَّماع وارد حقٍّ يزعج القلوب إلى الحقِّ، فمن أصغى إليه بحقٍّ تحقَّق، ومن أصغى إليه بنفس تزندق”[11]. فالمشكلة فيه أنَّه مجال للحديث عن الحقِّ تعالى وكمالاته التي تتطلَّب التخلُّص من النفس وحظوظها، وإلاَّ فإنَّ وجود النفس كما عند الصوفيَّة هو ذنب، فكيف يستقيم وجود الحقِّ تعالى مع وجود النفس وحظوظها، فوجود النفس يقتضى تحييز الحقِّ تعالى، وهذا غفلة وغيبة عنه تعالى، وهو عين البعد، وبالتالي إنكار للوجود الإلهيِّ الذي هو عين الحضور، لذلك قال الجنيد إنَّ وجود النفس وحظوظها لدى السامع يقتضي زندقة.
ومن شروط السماع أيضاً أن يكون بحضور المرشد الذي يقود المريد إلى ما ينفعه، ويقرِّبه من مولاه، وأن يفرغ قلبه من الاشتغال بالدنيا وكلِّ ما يلهي عن الحقِّ تعالى، وأن يطرح المريد كلَّ تكلُّف في حركاته وتجاوبه بأن يظهر على السَّماع لا أن يظهر عليه السماع خصوصاً أنَّه طريقه إلى التحقُّق الروحانيِّ والعرفانيِّ، وأن تكون له قوة إدراك تسمح له بقبول الوارد الإلهيِّ وتعامل معه بما يليق به، إذ كما يورد الشبلي: أنَّ” السَّماع ظاهرهُ فتنة وباطنه عبرة، فمن عرف الإشارة حلَّ له استماع العبرة، وإلاَّ فقد استدعى الفتنة، وتعرَّض للبليَّة”[12].
وثمَّة شروط تتعلَّق بالجوِّ العامِّ للسماع كأن يمنع حالة وجود العامَّة، والمقصود بالعامَّة هم غير الصوفيَّة أو غير الذين يقبلون منهجهم، “بما أنَّ للعوامِّ في السَّماع فتنة، ويتشوَّش اعتقاد الناس بسماعنا وهم محجوبون عن درجتنا فيه فيأثَمون بنا، فنحن نشفق على العامَّة، وننصح الخاصَّة، ونكفُّ عن ذلك غيرة على الوقت. وهذه طريق محمودة”[13]. بيد أنَّ هذا الامتناع عرَضي بسبب الآخر وخوفاً عليه حتى لا يقع في الإثم بسبب الصوفيَّة وأهل السَّماع منهم،. وهناك علَّة أخرى تحصر حضوره بالصوفيَّة وهو الاجتماع على قلب واحد، وبسبب ما يثيره من وجد، قد يمنع حضور العوامِّ هذه الحالة، فلا يسترسل أهل السَّماع في سماعهم بسبب تحفُّظهم من غيرهم فلا يؤدِّي السَّماع وظيفته الأساسيَّة والمتمثِّلة في الوجد والوجود، ” ولهذا من شرط أهل الله في السماع المقيَّد بالنغم، أن يكونوا على قلب واحد، وأن لا يكون فيهم من ليس من جنسهم، فلا يحضرون إلاَّ مع الأمثال، أو مع المؤمنين بأحوالهم المعتقدين فيهم، وكلُّ سماع لا يكون عنه وجد، وعن ذلك الوجد وجود، فليس بسماع، فإنَّه لولا القول ما علم مراد المريد ما يريده منا، ولولا السَّمع ما وصلنا إلى تحصيل ما قيل لنا، فبالقول نتصرَّف، وعن القول نتصرَّف مع السَّماع”[14].
كما أنَّ من شروطه، أن يكون القوَّال ـ الذي يتولى بالإنشاد ـ رجلاً محترماً وغير معلوم فسقُه، وأن يكون من يحضره من غير المترفين. ولا شكَّ في أنَّ هذه الشروط وغيرها تحصِّن السَّماع من الزيغ فينقلب لهواً ويورث بعداً، غير أنَّ له لوازم أخرى ذاتيَّة سنتناولها في تحليلنا له من خلال نصوص الصوفية.
ومن شروطه كذلك اجتماع ثلاثة شروط خارجيَّة، وهي:
– حضور جماعة الصوفيَّة فقط بحيث لا يدخل معهم غيرهم وإلاَّ لا يثمر فائدته.
– اختيار الوقت المناسب.
– توفُّر المكان اللاَّئق بحيث لا يكون مجلسهم عرضة لرؤية سواهم.
“السماع يحتاج إلى ثلاثة أشياء: الزمان والمكان والإخوان، وسئل الشبلي عن السَّماع فقال: ظاهرُه فتنة، وباطنُه عبرة، فمن عرف الإشارة حلَّ له استماع العبرة وإلاَّ فقد استدعى الفتنة وتعرَّض للبليَّة. وقيل لا يصلح السَّماع إلاَّ لمن كانت له نفس ميتة وقلب حيٌّ، فنفسه ذُبِحت بسيوف المجاهدة، وقلبه حيٌّ بنور الموافقة”[15].
ونلفت هنا إلى أنَّ العارفين بالله انقسموا في حقيقة السَّماع، هل هو حال أم مقام، فنجد أغلب الصوفيَّة يذهبون إلى كونه حالاً يرد على السالك فيأخذه، بينما الشيخ محيي الدين ابن عربي يعتبره مقاماً، وقد حلَّله في الباب الثاني والثمانين بعد المائة بعنوان “معرفة مقام السماع”[16].
2 ـ السَّماع ولوازمه:
عندما نتحدَّث عن لوازم السَّماع نرسم المعالم التي يتأطَّر بها، وإلاَّ لا يكون سماعاً، أو بلغة الشريعة يصبح حراماً يُخرج صاحبه عن طور الإرادة والخصوص. فقد سار التابعون الأوائل على سيرته كما حدَّدها الرسول (ص) وصحابته من بعده ـ نقصد هنا سماع القرآن الكريم والأشعار التي تحثُّ على الأخلاق والرقائق ـ إذ إنَّ ” البذور الأولى لرياضة السَّماع كانت موجودة عندهم، فهو نسمة روحيَّة تنثرها نفخة إلهيَّة في أصوات تعمل على هياج ما في القلوب، فإنَّ هبَّت هذه النسمة على قلوب طاهرة وأرواح صافية تحقَّقت لهذه القلوب المعرفة الإلهيَّة، وإن هبَّت على نفوس دنِسة وقلوب محجوبة أثارت من داخلها الغرائز الحيوانيَّة والنزعات الشهوانيَّة. فالسَّماع، إذن، هو إحدى الرياضات الروحيَّة التي يمارسها المُريد من أجل التطهُّر والصفاء، وهذا لا يثبت عليه إلاَّ أقدام العلماء. وقيل السَّماع مقدحة سلطانيَّة لا تقع نيرانها إلاَّ فيمن قلبه محترق بالمحبَّة ونفسه محترقة بالمجاهدة”[17].
انطلاقاً ممَّا سلف، لا بدَّ من أن يكون السَّماع معرفة بالله، وهذا من لوازمه وإلاَّ أغرق السالك في الجهل، وتتحقَّق المعرفة حينئذٍ لدى القلوب الطاهرة المهيَّأة للفيوضات والمواهب الإلهيَّة وهذا شأن النفوس الزكيَّة التي تهيَّأت له عن الحقِّ وبه من خلال واسطة القرآن الكريم والموسيقى والأشعار، لأنَّ الذي يقول به الصوفيُّ أصلُه شريف، يسري في كيانه فيؤثِّر على كينونته بحيث إذا توفَّرت شرائطه ينقله من الرتبة الخسيسة إلى أعلى المقامات. كما أنَّه عند الصوفيَّة غير محصور بالإيقاع أو النغم، لأنَّ الوزن الطبيعيَّ يؤثِّر على الأجساد فحسب ولا علاقة له بتكملة النفس والروح لدى المُريد والسالك. كما أنَّ الطَّبع لا يقتضي الفهم ولا يطلبه، “بخلاف حركة النفوس العقليَّة، وإن كان للطبيعة فيها أثرٌ في أصل وجودها، ولكن ليست لها في النفوس العاقلة تلك القوَّة إلاَّ بالفهم، فلا يحرِّكه إلاَّ الفهم، والحركة انتقال من حال إلى حال يكون عليه السامع، إلى حال يعطيه سماعه عند كلام المتكلِّم، وهو فيه بحسب فهمه، فهو مجبور على الحركة، ولهذا لا تسلم الصوفيَّة حركة الوجد الذي يبقى معه الإحساس بمن في المجلس، حتى تسلم له حركته بالله”[18].
وغنيٌّ عن القول أنَّ من لوازم السَّماع الحقيقيِّ رفع همَّة السالك وإخراجه من ضيق الطبيعة المتكرِّرة إلى أفق الجد والقول الفصل، فـ”السَّماع وارد من الحقِّ وتزكية لهذا الجسد من الهزل واللَّهو، ولا يكون طبع المبتدئ قابلاً لحديث الحقِّ بأيِّ حال”.[19]
فله وظيفة تتمثَّل في الاستجمام من تعب الوقت، واستحضار الأسرار لذوي الأشغال، واختير على غيره من وسائل التربية لأنَّ الطباع ترتاح إليه وممَّا تأباه النفوس ما دام يدفع إلى الجدِّ ويخرج عن الهزل، لأنَّ النفس تطلبه لحظوظها والصوفيَّة تعتمد على إكراه النفس، وزهقاً لحظوظها من خلال شرائط تؤدِّي هدف التربية الروحيَّة. لذلك، فإنَّ السَّماع كما عيَّنه الصوفيَّة له ظاهر غير الباطن، كأنَّه جعل لاصطياد النفوس من ميادين طباعها. وكما ينقل الطوسي صاحب اللمع في هذا المجال: السَّماع له وجهان “ظاهره فتنة، وباطنه عبرة، فمن عرف الإشارة حلَّ له استماع العبرة، وإلاَّ فقد استدعى الفتنة وتعرَّض للبليَّة”[20].
إلى ذلك، يجب أنَّ يلازم السَّماع التفكُّر من خلال إعمال العقل عند السَّالكين، لأنَّ “السماع الذي لا يقترن بالتعقُّل والفهم والالتزام بأوامر الشَّرع، فلا جدوى منه ولا طائل من ورائه. وفي هذا يقول الحسن البصريُّ: “فالعقل متبوع فيما لا يمنع منه الشَّرع، والشَّرع مسموع فيما لا يمنع منه العقل، لأنَّ الشَّرع لا يردُّ ما يمنع منه العقل، والعقل لا يتبع فيما يمنع منه الشَّرع، فلذلك توجَّه التكليف إلى من كمُل عقله”[21]. ومعنى ذلك أنَّه يجب أن تلازمه الفكرة حتى يثمر معرفة وصفاء روحياً يليق بأهل الله تعالى.
ومن لوازمه الحقُّ مضمون المسموع بحيث أنَّ كلَّ ما حرَّمه الشَّرع من قيم أو أقوال أو سلوكيَّات يجب أن يكون المسموع خلواً منها وإلاَّ حُرِّم السَّماع، خصوصاً عند المبتدئين من المريدين وعند المتوسِّطين، لأنَّ الكمَّل عرفوا الحقَّ فيعرفون كيف يضعون الأشياء موضعها، “وهكذا يرى الزهَّاد الأوائل أنَّ إباحة السَّماع تتوقَّف على نوعيَّته، فإذا كان موضوعه يعمل على مجاهدة النفس ويقظتها والتخلِّي عن أهوائها كان حسناً، أي أنَّ من صحَّ فهمه، وحسُن قصده، وتخلَّى عن الشهوات، وتطهَّر من دنس وخُبث النفس، لا يكون سماعه حراماً ولا فعله خطأ”.[22]
3 ـ السماع والوجد:
اقترن الوجد بالسَّماع فعُدَّ الوجد من ثماره، إذ هو حال يطرأ على السامع نتيجة استيلاء معنى على قلبه من خلال تفكُّره في مضمون المسموع. والوجد كما يعرِّفه القشيري: هو “ما يصادف قلبك، ويرد عليك بلا تعمُّد وتكلُّف”[23]، لأنَّ التكلُّف فيه يسمَّى التواجد، وهو شأن المبتدئين الذين يتواجدون طلباً للوجد. لذا قال القشيري بأنَّ الوجد يكون مصادفة، ذلك أنَّ الذَّاكر أو صاحب السَّماع يكون تركيزه حول معنى ذكره أو مسموعه، أو يتأمَّل نغماً يذكِّره بحبيبه ووصاله، فيأخذه ذكره وسماعه إلى المُراد فجأة من خلال ظهور المعنى في قلبه، فيملأ عليه وجوده، فتحدث جرَّاء ذلك حركة صعق، أو فرح شديد، أو حزن عميق يعبَّر عنه بالوجد. وهذا التعريف للوجد نجده كذلك عند الكلاباذي إذ يقول عنه إنَّه :” ما صادف القلب من فزع، أو غمٍّ، أو رؤية معنى من أحوال الآخرة، أو كشف حالة بين العبد والله عزَّ وجلَّ… وكذلك قال النوري: ” الوجد لهيب ينشأ في الأسرار، ويسنح عن الشوق فتضطرب الجوارح طرباً أو حزناً عند ذلك الوارد””[24].
إذن، ثمَّة ترابط ضروريٌّ بين السَّماع والوجد حتى يحصل المطلوب، وهو شهود الحقِّ بفناء الكلِّ،” ومُراد هذه الطائفة من الوجد والوجود إثبات حالين يظهران لهما في السَّماع، أحدهما مقرون بالحزن، والآخر موصول بالوجد والمُراد. وحقيقة الحزن فقد المحبوب، ومنع المُراد، وحقيقة الوجد حصول المُراد، والفرق بين الحزن والوجد هو أنَّ الحزن اسم الغمِّ الذي يكون في نصيب النفس، والوجد اسم الغمِّ الذي يكون في نصيب الغير على وجه المحبَّة”[25].
وحال الوجد ينبئ عن البعد، فهو مقدِّمة للوجود ونتيجة التواجد يطرأ على المتوسِّطين من السالكين معلِّماً لهم عن مجال أعلى وهو الشهود، “والمُراد بالوجد: لهيب يتأجَّج من شهود عارض مقلق، وذلك عندما يجد السرُّ أثر الألم والقهر العارض من العطش والقلق، وقد عرفتهما بحيث يكاد يغيِّبه. ولهذا قالوا بأنَّ الوجد ما يصادف القلب من الأحوال المفنية له عن الشهود”[26].
وكون الوجد حال المبتدئين وله علاقة ارتباط علِّي مع السَّماع ـ أي أنَّ الوجد معلول السَّماع ـ ينبئ أنَّه هو حال المتوسطين، بحيث إذا حلَّت المشاهدة فلا ضرورة له. من هنا نفهم القول الذي يورده الهجويري: “وقالت طائفة أخرى من الخواصِّ: إنَّ السماع خبر، ولذَّته إدراك المُراد، وهذا شأن الصغار، فأيُّ قدرة للخبر في العيان بعد المشاهدة؟”[27]
إذن، السماع وسيلة لا غاية، والهدف منه ربط الصوفيِّ بالحقِّ من خلال كلامه، لأنَّ الإقرار به وإيجابه بشروطه إقرار بأنَّ الحقَّ تعالى هو المتكلِّم على الحقيقة من وراء هذه الأصوات، ونجد التشدُّد عند الصوفيَّة في شرائط السَّماع وآدابه نتيجة رعونات النفس، وإلاَّ فإنَّ الكلام بجميعه هو للحقِّ تعالى إذ تقرِّر قاعدة التوحيد الأفعاليِّ أنَّ لا متكلِّم إلاَّ الله تعالى، فالزُّهاد مثلاً، وهم السالكون، “يصطنعون السَّماع للوصول إلى حال الوجد، وهو حلَّة نفسيَّة يشعر الإنسان خلالها بأنَّ قلبه معلق بالحقِّ تعالى، وأنَّ روحه تميل إلى اتصال به من خلال الشوق والحبِّ الذي يسيطر على كلِّ جوارحه. وحينئذٍ تصدر عنه شهقة أو رعدة أو تفيض عينه بالدموع أو يُغشى عليه، وفي الوقت نفسه يفني عن نفسه وجميع ما حوله، ويبقى بالحقِّ تعالى”[28].
بيد أنَّه ينبغي التنبيه إلى أنَّ للوجد أحكامه، وللحركات التي تصدر عن بعض الذين يحضرون السماع قوانين وأحكاماً يعرفها أهلها من المشايخ والعرفاء، وبالتالي ليست كلُّ حركة تصدر عن سامع تصنَّف ضمن الوجد أو الوجود وليس كل تمايل أثناء السماع يعكس حقيقة أثر السماع على المتلقي، لذلك نلاحظ أن الشيخ محيي الدين ابن عربي ينبه على هذه الظاهرة وهي ظاهرة ادِّعاء الوجد والتمايل إظهاراً لصحَّة حال السامع، وأنَّ سماعه روحانيٌّ أو إلهيٌّ يبدي فيه تفاعله مع كلام القوَّال، لا مع مجرَّد اللَّحن والنَّغم، فيقول: “فإذا ادَّعى من ادَّعى أنَّه يسمع في السماع المقيَّد بالألحان المعنى، ويقول: لولا المعنى ما تحرَّكت، ويدَّعي أنَّه قد خرج عن حكم الطبيعة في ذلك، يعني في السبب المحرِّك فهو غير صادق، فصاحب هذه الدعوى إذا لم يكن صادقاً يكون سريع الفضيحة، وذلك أنَّ المدَّعي إذا حضر مجلس السَّماع، فاجعل بالك منه، فإذا أخذ القوَّال في القول بتلك النغمات المحرِّكة بالطبع للمزاج القابل أيضاً، وسرت الأحوال في النفوس الحيوانيَّة، فحرَّكت الهياكل حركة دوريَّة، لحكم استدارة الفلك. وهنا الدور مما يدلُّك على أنَّ السماع طبيعيٌّ، لأنَّ اللطيفة الإنسانيَّة ما هي عن الفلك، وإنما هي عن الروح المنفوخ منه، وهي غير متحيِّزة، فهي فوق الفلك، فما لها في الجسم تحريك دوريٌّ ولا غير دوريٍّ، وإنَّما ذلك للروح الحيوانيِّ الذي هو تحت الطبيعة والفلك، فلا تكن جاهلاً بنشأتك ولا بمن يحرِّكك، فإذا تحرَّك هذا المدَّعي وأخذه الحال، ودار أو قفز إلى جهة فوق من غير دور، وقد غاب عن إحساسه بنفسه وبالمجلس الذي هو فيه، فإذا فزع من حاله ورجع إلى إحساسه، فاسأله ما الذي حرَّكه؟ فيقول: إنَّ القوَّال قال: كذا كذا، ففهمت منه معنى كذا وكذا. فذاك المعنى حرَّكني، فقل له: ما حرَّكك سوى حُسن النَّغمة، والفهم إنما وقع لك في حكم التبعيَّة، فالطبع حكم على حيوانيَّتك، فلا فرق بينك وبين الجمل في تأثير النَّغمة فيك”[29]. ويكون الامتحان بأن يُترك هذا المدَّعي مدَّة ليناقش بما سمعه من خلال ذكر آية قرآنيَّة تفيد معنى ما ادَّعى أنَّه حركه من كلام القوَّال، فإن لوحظ أنَّه يتفاعل مع الآية ويتحرَّك ويتفاعل بالدرجة نفسها التي حدثت له في جلسة السَّماع، فحاله صحيح ودعواه صحيحة، فإن أخذ في التجاوب مع الحوار من دون أن يكون له حركة وانفعال بما يوجب الفناء، فذلك دليل افتضاح دعواه وانكشاف أمره، فيُهمَل ولا يُلتَفت إليه، ذلك أنَّ السَّماع المعتبر، كما يحدِّده الشيخ الأكبر، هو السماع الإلهيُّ والروحانيُّ لا الطبيعي، فما كان ” من عين الفهم، هو السَّماع الإلهيُّ إذا ورد على صاحبه، وكان قوياً لما يرد به من الإجمال، فغاية فعله في الجسم أن يضجعه لا غير، ويغيب عن إحساسه، ولا يصدر منه حركة أصلاً بوجه من الوجوه، سواء كان من الرجال الأكابر أم الصغار، هذا حكم الوارد الإلهيِّ القويِّ، وهو الفارق بينه وبين حكم الوارد الطبيعيّْ”.[30]
4 ـ أقسام السَّماع وطبقات السامعين:
من الطبيعيِّ أنَّ الصوفيَّة يتفاوتون في ما بينهم من حيث الكمال والعرفان، فهناك طريق له بداية وله نهاية، والصوفيُّ يتموقع على حسب ما قطعه من أشواط في الطريق، وبالتالي ما يطرأ من أحوال وما يتمتَّع به من مقامات لا يتساوى فيه الصوفيَّة بل المقام نفسه والحال نفسه ينزل على العارف في وصوله على غير الحالة التي ينزل فيها عليه في حالة بدايته. والأمر نفسه ينطبق على السَّماع، فرغم أنَّ حاله مطلوب وبشروطه في بداية الطريق فإنَّه لا ينفكُّ عنه حتى في نهايته، إلاَّ أنَّ لأهل الوصول سماعهم، ولأهل البداية سماعهم. هذا من جهة السامع، وهناك اعتبارات أخرى تؤخذ وبناء عليها يتخصَّص السَّماع بحسب الاعتبار، وبحسب الكمال الروحيِّ وحقِّ كلِّ صنف من أهل التصوُّف. وهو يكون للصوفيِّ بمثابة الغذاء المجرَّد الذي ينمِّي حالته الروحانيَّة، ويزيده قوَّة تقرِّبه إلى مبتغاه. فهناك سماع المريدين وسماع الصدِّيقين، وهناك سماع العارفين المحقِّقين، ” فوجه منها للمريدين والمبتدئين، يستدعون بذلك الأحوال الشريفة، ويُخشى عليهم في ذلك الفتنة والمُراءاة. والوجه الثاني: للصدِّيقين يطلبون الزيادة في أحوالهم وأوقاتهم. والوجه الثالث: لأهل الاستقامة من العارفين، فهم لا يعترضون، ولا يتأبَّون على الله فيما يرد على قلوبهم في حين السَّماع من الحركة والسكون”[31].
أمَّا السماع من جهة الموضوع، وما يتحقَّق لمستمعه فهو على ضربين: سماع يورث عبرة بناء على دلالة القول ومضامينه، وسماع روحيٌّ بناء على استفادة الروح ما يقيمها في مقامها المجرَّد فتترك جرَّاء رجوعها إلى أصلها المجرَّد تدبير البدن فيسقط على الأرض: ” السماع على ضربين: فطائفة سمعت الكلام فاستخرجت منه عبرة، وهذا لا يسمع إلاَّ بالتمييز وحضور القلب، وطائفة سمعت النغمة، وهي قوت الروح، فإذا ظفر الروح بقوْتِه أشرف على مقامه، وأعرض عن تدبير الجسم، فظهر عند ذلك من المستمع الاضطراب والحركة. في هذا السياق، قال أبو عبد الله النباجي: السماع ما أثار فكرة واكتسب عبرة، وما سواه فتنة”[32]، لأنَّ الفكرة غذاء الروح وإلاَّ لا يكون حظ السامع سوى خواطر مُلهِية تلهب غرائزه وتذهب تجرُّده المقرِّب له إلى حضرة القدس.
إلى ذلك، ثمَّة تقسيم لا يختلف عمَّا سبق يجعل أقسام السَّماع بحسب ملَكة السمع، فمن يسمع بطبعه له حظٌّ نفسيٌّ وهو تلبية شهوة، وفي هذا يشترك الخاصُّ والعامُّ، لما جبلت عليه البشريَّة من تذوُّق اللَّحن الجميل والصوت الطيب مهما كان القول، وهنا يتميَّز المُريد من العاميِّ، على أنَّ المريد يجب عليه أن يستوفي شروط السَّماع حتى يكون مشروعاً له وإلاَّ كان من الفاسقين بل من الزنادقة على نعت الجنيد، ومن يسمع بروحه يذهب مع المعاني فيستولي عليه حال الفرح أو الحزن، لما يتأمَّله في الأقوال من ذكر للحبيب وأوصافه، أو وعد إلهيٍّ في العاجل أو الآجل، فيتأمَّل ما يرد عليه من ذكر عتاب، أو خطاب، أو وصل، أو هجر، أو قرب، أو بعد، أو تأسُّف، أو تعطُّش لآتٍ. وهناك من يسمع بالحقِّ فيكون الحقُّ هو المقصد في كلِّ قول أو نغم، يسمع به وله وهو خارج عمَّا يعتري القسمين العلل والحظوظ الخلقيَّة سافلةً كانت أو عالية. فهذا الفريق يسمع خطاب الحقِّ في كلِّ لسان قد غرق في بحر التوحيد، كلُّ الجهات تحيل إلى الواحد الحقِّ، قد فنوا عن نفوسهم وعن كلِّ غير بالتبع، ناهيك بحظوظهم، “وقيل أهل السَّماع على ثلاث طبقات أبناء الحقائق يرجعون في سماعهم إلى مخاطبة الحقِّ سبحانه لهم، وضرب يخاطبون الله تعالى بقلوبهم بمعاني ما يسمعون، فهم مطالبون بالصدق فيما يشيرون به إلى الله تعالى، وثالث هو فقير مجرَّد قطع العلاقات من الدنيا والآفات يسمعون بطيبة قلوبهم، وهؤلاء أقربهم إلى السلامة”[33].
نلفت هنا إلى أنَّ التقسيم الثلاثيَّ للسَّماع كان هو الغالب في التقسيم العام للصوفيَّة بحسب كمالهم، وها هو القشيري ينقل عن أستاذه أبي علي الدقاق تقسيمه بحسب مرتبة أهل التصوُّف الروحيَّة بناء على الكيفيَّة التي يسمع بها كلُّ فريق. فالمتسمع هو الذي يتكلَّف السَّماع رجاء للتطهُّر والتشبُّه بالمشايخ وصفاتهم، فيذهب إلى مجالس السَّماع رجاء اكتساب طاقة تمكِّنه من التدرُّج عبر سلَّم الكمال العرفانيِّ. والمستمع الذي لا يقف عند اللَّحن والنَّغم وشكل الكلام والقول، بل يتعدَّى ذلك إلى المعاني المتوارية وراء صور السَّماع ليزيد من حاله الذي يقرِّبه إلى المقصد، فهؤلاء لهم من السَّماع حظُّ الروح ولذَّتها. أما السامع فهو الذي يسمع بالحقِّ لا بحاله ولا بوقته، وهم أهل النهايات.
نأتي إلى تقسيم يأخذ صفة التدرُّج الوجوديِّ للسماع، مع الشيخ محيي الدين ابن عربي، الذي هو بدوره يقسمه إلى ثلاث مراتب، بحسب مرتبة الإنسان بين بُعده المادِّيِّ وبُعده الروحانيِّ وبُعده الأعمق الذي لا سبيل إلى الفكر فيه وهو سرُّه. وباعتبار هذا التقسيم فالسَّماع هو على ثلاثة خواص: سماع طبيعيٌّ، وسماع روحانيٌّ، وسماع إلهيّْ.
-السَّماع الطبيعيُّ: هو الذي لا يتحقَّق بفعله علم أو معرفة سوى نوع من الطرب يجده صاحبه في نفسه، أو حزن من خلال سماعه نغمات معيَّنة تؤثِّر ذلك بتكييفات معيَّنة تصنع ذلك الأثر بفعل مناسبة موجود بين الآلات والأصوات وطبائع الناس، مع توفُّر حال صحيح ووجد صحيح بناء على ما يطلبه الطبع. “فالإيقاع أوزان، والإيقاع للسَّماع، ولهذا فإنَّ حركة السامع فلكيَّة، إذا كانت صادقة عن فناء ملكيَّة، فإن كانت نفسيَّة، فليست بقدسيَّة، وعلامتها الإشارة بالأكمام، والمشي إلى خلف وإلى قُدَّام، والتمايل من جانب إلى جانب، والتصرُّف بين راجع وذاهب، ومن هذه حاله فما سمع، ولا أثر فيه الموقع بما وقع، فمثل هذا أجمع الشيوخ على حرمانه بين إخوانه، فمن ادَّعى سماع الإيقاع في الأسماع وما له وجود، فهو من أهل الحجاب، والمحجوب مطرود”[34].
-السَّماع الروحانيُّ: فهو سماع الأرواح أو العقول التي لها مناسبة تمكِّنها من سماع الأقلام حالة نقشها على اللَّوح المحفوظ، فالعالم بمثابة كتاب مسطور بالقلم والعقول الإلهيَّة التي يمثِّلها العقل الكلِّيُّ، وللأرواح مناسبة تمكنها من سماع صوت الكتابة والنقش الصادر من الأقلام الإلهيَّة وهذا حظ الأرواح” فالأقلام تنطق وآذان العقول تسمع، والكلمات ترتقم فتشهد، وعين شهودها عين الفهم فيها بغير زيادة، ولا ينال هذا السماع إلاَّ العقول التي ظهرت لمستوى، ولما كان السَّماع أصله على التربيع، وكان أصله عن ذات ويد وقلم وصريف قلم، فيكون الوجود للنفس الناطقة في سماع صريف هذه الأقلام، في ألواح القلوب بالتقليب والتصريف. والسَّماع الروحانيُّ يكون معه علم ومعرفة في غير موادِّ جملة واحدة. كما وقال رسول الله (ص) في الوحي: إنَّ أشدَّه عليه يأتيه كصلصلة الجرس، والسَّماع الروحاني يؤثِّر في السامع الاضطجاع”[35].
– السَّماع الإلهيُّ: يتحقَّق به الكُمَّل من الصوفية، الذين يسمعون بأسرارهم فلا يرون متكلِّماً إلاَّ الله بواسطة أو بغيرها، هؤلاء صار الحق سمعهم يسمعون به بناء على الحديث القدسيِّ الذي يرويه الكثير من الصوفيَّة، “فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها“. فالحقُّ تعالى بالنسبة إلى هذا الصنف من السامعين سار في جميع المسموعات لذا لا يخلو صوت أو نغم أو قول من قائله ومسمعه غير الحقِّ تعالى، لأن لا موجود على الحقيقة إلاَّ هو، فبالتَّبع لا متكلِّم ولا مغنٍّ إلاَّ هو، وما المسموعات والأنغام والألحان والأصوات سوى مظاهره التي فيها ظهر، “والعارف المحقِّق في سماع أبداً، إذ لا يتكلَّم عنده إلاَّ الله بكلِّ وجه، فمن خاطبه من المخلوقين، يجعل العارف ذلك مثل خطاب الرسول عن الحقِّ، فيتأهَّب لقبول ما خاطبه به ذلك الشخص، وينظر ما حكمه عند الله الذي قرَّره شرعاً، فيأخذه على ذلك الحدِّ… فليس أحد من خلق الله يجوز أن يخبر عن نفسه ولا عن غيره، وإنَّما إخبار الجميع عن الله، فإنه سبحانه هو الذي يخلق فيهم بـ”كن” ما يخبرون به، فالكلُّ كلماته، فليس للعبد على الحقيقة إلاَّ السَّماع، وكلام المخلوق سماع، فلا يرمي العارف ولا يهمل شيئاً من كلام المخلوقين”[36].
نخلص إلى تقسيم ثنائيٍّ للسَّماع، يرجعه إلى مطلق ومقيَّد:
-السَّماع المطلق: هزُّ سماع العارفين الذين لا يحصرون المسموعات في شيء سواء كان قولاً أو نغماً أو لحناً، بل يرون الكلَّ صادر من الحقِّ تعالى: “فالمطلق هو الذي عليه أهل الله، ولكن يحتاجون فيه إلى علم عظيم بالموازين، حتى يفرِّقوا بين قول الامتثال وقول الابتلاء، وليس يدرك ذلك من أحد، ومن أرسله من غير ميزان ضلَّ وأضلَّ”[37]، وهذه أيضاً أبيات للشيخ محيي الدين ابن عربي تؤكِّد السماع المطلق وتبيِّن علَّته:
خذها إليكَ نصيحةً من مُشفقِّ ليس السَّماع سوى السَّماعِ المُطلَقِ
واحذر من التقييد فيه فإنــــَّـه قولٌ يفند عند كـلِّ محقِّـــــــــــــقِ
إنَّ السَّماع من الكتاب هو الذي يدريه كـلُّ معلِّم ومطـــرقِ
إنَّ التغنِّي بالقرآن سماعنـــا والحقُّ ينطـــقُ عند كلِّ منطـــقِ
والله يسمع ما يقول عبــده من قوله فسماعـه بتحقـُّقِ”[38].
-السَّماع المقيَّد: هو المحصور بالنغمات، والمستَحسن من اللَّحن بما تميل إليه الطباع وتستلذُّه من ألحان وطيب الكلام، وهو سماع العوامِّ والمبتدئين من المُريدين على شروط السَّماع الصحيح والمشروع. فهو مقيَّد لأنَّ المسموع فيه محصور بجانب، فيجري فيه التقسيم بين ما هو سماع وما ليس بسماع، على عكس السَّماع المطلق الذي يشمل الوجود كلَّه. فكما سيأتي، الوجود كلُّه هو تجلِّي السماع لأنَّه كان عن الإيقاع الإلهيِّ والنغم الإلهيِّ المتمثِّل في “كن” التكوين، وما سماعه إلاَّ عن الكلام الإلهيِّ. فالكون مجرَّد ناقل لهذا الكلام، لذا لا يجوز للعارف أن يغفل عن هذا اللحن وهذا النغم الإلهيِّ وإلاَّ كان كمن يقيِّد الحق، وهو زندقة وكفر يوجب الطَّرد من حضرة الحقِّ تعالى.
5 ـ التأصيل الوجوديُّ للسَّماع:
من المهمِّ القول أنَّ التأصيل الوجوديَّ للمفاهيم الصوفيَّة، تحقق مع جهود الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي الذي يُعدُّ أول عارف طرق هذا الباب بشكل منتظم واستوفى البحث فيه، على أن نفهم أنَّ التحقيق الذي قام به لم يكن مطلقاً عملاً تنظيريَّاً كما الشأن في البحوث الفلسفيَّة والعلميَّة عموماً. إنَّ كلَّ ما كتبه الشيخ محيي الدين كان عن شهود ومكاشفات، أو كما يقول دوماً في سياقات متعدِّدة من خلال كتبه، وما دوَّنه كان عن إلقاء إلهيٍّ وفتح ربانيٍّ، ولم يكن له أيُّ تعامل في هذا الجانب. على كل حال، هذا ما ننقله عنه، وقد يناقشه الكثير ممَّن لا يسلِّمون له وللصوفيَّة عموماً منهجهم.
يعتبر ابن عربي أنَّه كما كان سبب ظهور العالم هو الحب الإلهيّ الذي جاء من خلال ما يرويه الكثير من الصوفيَّة عن رسول الله (ص) عن ربِّه: “كنت كنزاً مخفيَّاً لم أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني“. هذا الحديث القدسيُّ يكشف عن أصل العالم الذي كان عن توجُّه حبِّي من قبله تعالى فكان العالم ثمرة هذه المحبة، “كما أنَّ سبب التجلِّي الحب، فإنَّه أصل سبب وجود العالم، كذلك كان السَّماع سبب كونه، وكان سبب بدء حبِّنا الحقُّ، سماع كلامه سبحانه، ونحن ثابتون في جوهر العماء، فالكون لم يعلم من الحقِّ إلاَّ كلامه، وهو الذي سمع فالتذَّ في سماعه، فلم يتمكَّن له إلاَّ أن يكون، ولهذا السماع مجبول على الحركة والاضطراب والنقلة في السامعين”[39].
يجدر القول أنَّ العالم ككلٍّ كان له نحو من الثبوت العلميِّ، فكان معلوماً للحقِّ تعالى غير موجود، وعندما تعلَّقت به كلمة القدرة وهي “كن” سمع هذه الكلمة فتحرَّك من حال العدم إلى حال الوجود (المقصود بالعدم هنا ليس بمعنى الاستحالة وإنَّما بمعنى الإمكان الذي لا يملك في نفسه الوجود)، وبهذا تكون، “فمن هنا أصل حركة أهل السَّماع، وهم أصحاب وجد، ولا يلزم فيمن؟.
إنَّ الوجد لذاته يقتضي ما يقتضي، والوجد عند القوم لا بدَّ لصاحبه من فائدة يأتي بها، فإن جاء بغير فائدة ولا مزيد علم فذلك نوم القلب من حيث لا يشعر، والذي يأتيه في تلك الفجأة إنما يأتيه من الله، ليفيده علماً بما ليس عنده، ممَّا تشرف به نفسه وتكمل، وتربى على غيرها من النفوس”[40]. إنَّ الأصل هو كلمة “كن” التي سمعها الممكن حالة ثبوته العينيِّ، فأصبح سماع الألحان والنغمات يحرِّك الإنسان، لمناسبة خلقته التي كانت نتيجة سماع خطاب الحقِّ للأعيان الثابتة بـ”كن”، فسمع موسيقى “كن”، و”لهذا نتحرَّك ونطيب عند سماع النغمات، لأجل كلمة “كن” الصادرة من الصورة الإلهية غيباً وشهادة، والوجد أكثر ما يظهر في الأشخاص الإنسانيَّة عند سماع الألحان”[41]. وسماع الألحان والنغمات يندرج ضمن مرتبة السماع الطبيعيِّ في تصنيف الصوفيَّة لمراتبه، ويثبت ابن عربي للأفلاك نغمات مستطابة ومستلذَّة عند من يتمكَّن من ذلك، ولعلَّ هذا يذكِّرنا بفيثاغوراس الذي تحدَّث عن موسيقى الأفلاك، وكان ممَّن تمكَّن من سماعها طبعاً بعد رياضات خاصَّة تمرُّ عبر تطهير النفس من شوائب الميل الحسي بحيث تتمكن من التجرد من عالم المادة لتصل إلى مرتبة العالم الأثيري الممثل في الأفلاك، طبعا هذا حسب علم الهيأة التقليدي الذي ورثه المسلمون عن اليونان، وفي هذا السياق لا نذهب مثل ما يرى الكثير أن المسلمين كانوا مجرَّد نقَلة لتراث اليونان، إذ وجود اشتراك في التعبير عن المواضيع أو اشتراك المفاهيم ليس بالضرورة تقليداً أعمى فيكفي التحقُّق من المفهوم ليثبت للمقلِّد التحقُّق، لأنَّ الفكر لا جغرافيَّة له ولا تاريخ لهنَّ. هذا الذي نثبته في هذا السياق ونحن نتحدَّث عن التقاء فكريٍّ بين صوفيَّة الإسلام مع غيرهم من روحانيِّي اليونان كالفيثاغوريين، “ولحركات الأفلاك نغمات طيِّبة مستلذَّة، تستلذُّ بها الأسماع كنغمات الدولاب… والسَّماع الطبيعيُّ مبناه على أربعة أمور محقَّقة، فإنَّ الطبيعة مربَّعة، معقولة من فاعلين ومنفعلين (رطب، ويابس، وحار، وبارد)، وأظهرت الأركان الأربعة أيضاً (التراب، والماء، والهواء، والنار)، فظهرت النشأة الطبيعة على أربعة أخلاط، وأربع قوى قامت عليها هذه النشأة، وكلُّ خلط منها يطلب بذاته من يحرِّكه لبقائه وبقاء حكمه. إنَّ السكون عدم، أوجد في نفوس العلماء حين سمعوا صريف الأقلام، ما ينبغي أن يحرِّك به هذه النشأة الطبيعيَّة، فأقاموا لها أربع نغمات، لكلِّ خلط من هذه الأخلاط نغمة في آلة مخصوصة، وهي المسمَّاة في الموسيقى – وهو علم الألحان والأوزان – بالبم والزير والمثنَّى والمثلَّث”[42].
في هذا الإطار، يقيم الشيخ محيي الدين تناسباً بين الجانب التكوينيِّ للإنسان من حيث الطبيعة والآلات الموسيقيَّة المستعملة للتأثير على الجانب المزاجيِّ والطبائعيِّ له، ومن هذا الباب كان للموسيقى تأثير كبير، قد يثير حالة الوجد عند السالك، ناهيك بعوامِّ الناس. “فكلُّ واحد من هذه يحرِّك خلطاً من هذه الأخلاط، ما بين حركة فرح وحركة بكاء وأنواع هذه الحركات، وهذا لها بما هي نشأة طبيعيَّة لا بما هي روحانيَّة، فإنَّ الحركة في النشأة الطبيعيَّة، والكثائف من عالم الاستحالة، وكلُّ ما يقبل الاستحالة يقبل الصور المختلفة والمتضادَّة، والصوت بما هو صوت لا تتبدَّل صورته، فيغلظه الملحِّن في موضع ويرقِّقه في موضع، بحسب الرتبة التي يقصدها، ليؤثِّر بذلك في طبيعة السامعين ما يشاء، من فرح وسرور وانبساط، أو حزن وهم وانقباض”[43].
لذا، كان للنغمة في الكلام الإلهيِّ والقول أصل تستند إليه، بحيث لها قوَّة التأثير في الطباع، إذ لا يمكن لأحد أن يدفع عن نفسه الطرب أو أي أثر، على حين قد لا يكون للكلام أثرٌّ مثل ما للنغم واللَّحن من الأثر، لأنَّ الحقائق التي تستند إليها أقوى من الحقائق التي يستند إليها الكلام، “فإن الأسماء الإلهيَّة وإن كانت لعين واحدة، فمعلوم عند أهل الله ما بينها من التفاوت، ولما كان التفاوت معقولاً فيها، وعلم ذلك بآثارها، علمنا أنَّ الحقائق الإلهيَّة التي استندت إليها هذه النغمات، أقوى من الذي استند إليه الكلام، فإنَّا نسمع قارئاً يقرأ ومنشداً ينشد شعراً، فلا نجد في نفوسنا حركة لذلك، بل ربما نتبرَّم من ذلك في أوقات، لأنَّه جاء على غير الوزن الطبيعيِّ، فإذا سمعنا تلك الآية أو الشعر من صاحب نغمة، وفي حقِّها في الميزان، أصابنا وجد وحركنا، ووجدنا ما لم نكن نجد، فلهذا فرقنا بين ما استندت إليه النغمات الطبيعية وبين ما استند إليه القول”[44]، على أنَّ صاحب هذا الوجد الذي يجد عند تفاعله مع النغم واللَّحن ولا يستطيب الكلام الإلهيَّ إذا صدر من صوت سيِّئء التنغيم، فهذا وجده لا يعوَّل عليه، لأنَّ سماعه سماع طبيعيٌّ، وهو أخسُّ أنواع السَّماع. فالسَّماع الحقيقيُّ هو سماع العارفين والمحقِّقين الذين لا يتقيَّدون بلون منه، ولا يتقيَّدون بالنَّغم أو اللَّحن الطيِّب لأنَّهم رأوا وشهدوا أنَّ الكون كلَّه مجلى لحقيقة “كن”، فكان الوجود كلُّه كلام الحقِّ الذي لا إيقاع يشرف على إيقاعه، ولا قول إلا قوله، “فلا ينحصر في النغمات المعهودة في العرف، فإنَّ ذلك الجهل الصرف، الكون كلُّه سماع، عند صاحب الأسماع، السماع المطلق لمن تحقَّق بالحقِّ، فإنَّه ما خصَّ بـ”كن” كوناً من كون، ولا توجَّهت على عين دون عين، فالكلُّ قد سمع، بما قد صدع، فمن قيد السَّماع بالأوزان والتلحينات المقسمة بالميزان، فهو صاحب جزء لا صاحب كلِّ وهو على مولاه كلِّ… ولهذا لا يصطفيه كيف يقيِّد المطلق، من ادَّعى أنه بالحقِّ تحقَّق؟”[45].
فحتى حركة الراقص وانفعالات الجسد نتيجة ورود المعنى على قلبه بفعل السَّماع، لها مناسبة تحكمها “فإنَّ الوارد الطبيعيَّ كما قلنا يحرِّكه الحركة الدوريَّة والهيمان، والتخبُّط فعل المجنون… فإذا اشتغل الروح الإنسانيُّ المدبِّر عن تدبيره، بما يتلقَّاه من الوارد الإلهيِّ من العلوم الإلهيَّة، لم يبقَ للجسم من يحفظ عليه قيامه ولا قعوده، فرجع إلى أصله، وهو لصوقه بالأرض المعبَّر عنه بالاضطجاع… فإذا فرغ روحه من ذلك التلقِّي، وصدر الوارد إلى ربِّه، رجع الروح إلى تدبير جسده، فأقامه من ضجعته”[46]. ومن هنا ـ كما يرى ابن عربي ـ كان اضطجاع الأنبياء على ظهورهم عند نزول الوحي عليهم، شيء عند طبقة الصوفيَّة والأولياء عند ورود الوارد الإلهيِّ عليهم لأنَّه يرد عليهم بلا واسطة على خلاف الوحي عند الأنبياء (ع).
ويفسر السهروردي حركة الاهتزاز والغشي الذي يقع لأصحاب الوجد إثر السَّماع بأن يرجع هذه الحركة إلى طبيعة العلاقة التكوينيَّة بين روح الإنسان وجسده فقد يحدث الشوق عنده حركة الوثوب والدوران نتيجة اختلاف أصل الجسد عن أصل الروح، فالجسد أصله المادَّة وهي سفليَّة والروح أصلها التجرُّد وهو عُلويٌّ، وتكون حركة الدوران والاهتزاز بناء على أنَّ كلَّ جهة ترجع إلى أصلها فيقع هذا التردُّد والدوران: “وقد يحدث للمستمع في حال سماعه شوق إلى ما يذكر فيثب من مكانه فعل من يريد الذهاب إلى محبوبه، فإذا علم أن لا سبيل إليه كرَّر الوثوب مراراً ويدور دوراناً متتابعاً، وقد يكون ذلك عن تردُّد يظهر في حال السَّماع بين الجسد والروح، وذلك لأنَّ الجسد سفلانيٌّ خلق من التراب، والروح روحانيَّة عُلويَّة خلقت من الفرح. فالرُّوح تعلو من عالمها، والجسد ينزل إلى محلِّه إلى أن يقع السكون. وقد يكون ذلك منهم على سبيل التفرُّج والتفسُّح والتطايب في حال السَّماع. وليس بمحظور إلاَّ أنه ليس من صفات المحقِّقين”[47]، لأنَّ هؤلاء، كما ورد عند الشيخ الأكبر، يسمعون بكليَّتهم، وارتفع التناقض في التجاذب بين الروح والجسد عندهم، فأصبح كلُّ وجودهم إلهيَّاً، ولا معنى للفصل بين روح ومادَّة.
الجدير بالذكر أنَّ العرفاء انتبهوا إلى أهميَّة السَّماع بناء على التنبيه الإلهيِّ له، إذ جرى تقديم صفة السَّمع على صفة البصر، في الكثير من الآيات. كما أنَّ أول آلة يصل إلينا منها العلم من الخارج هي آلة السمع أي الأذن. وأساس هذا التقديم، كما يرى العرفاء، هو أنَّ الأصل في الموجودات سماعها خطاب “كن” فأجابت بقبول الوجود، وبعدها أبصرت وجودها في مظهر المكوِّنات:
أصلُ الوجودِ سماعُنا من قولِ كُن فبه نكونُ ونحنُ عينُ المُنطـــــقِ
انظُرْ إلى تقديمهِ في آيـةٍ تعثُر على العلمِ الشريفِ المرهقِ
فالسمعُ أشرفُ ما تحقـَّــق عارفٌ بتعلُّقٍ وتحقــُّـقٍ وتخــلـُّــقِ.[48]
ممَّا سبق تحليله، يمكن القول أنَّ السَّماع أداة أساسيَّة في التربية الصوفيَّة، بل أصبح من نعوتهم التي نعتهم بها غيرهم من الفِرق والطوائف، وعاد من خاصِّيَّة التصوُّف الإسلاميِّ، بحيث أنَّنا كلما ذكرنا التصوُّف تداعى إلى الذِّهن السَّماع الصوفيُّ والموسيقى الروحيَّة، وهذا اللُّزوم بين التصوُّف والموسيقى والسَّماع يعكس مدى حرص الصوفيَّة على تنمية الذوق، ودعم الأحاسيس الرقيقة لدى المُريد، وكان ذلك إدراكاً منهم لسلطان الأصوات الحسنة وهيمنتها على طباع النفوس، رغم أنَّ النفوس تمجُّ السَّماع المشروط والمقنَّن بما يفضي إلى اضمحلالها.
لقد جعل الصوفيَّة السَّماع والموسيقى طعماً يصطادون به النفوس ويخرجونها عن رعوناتها، ودخلوا به إلى القلوب لما له من تأثير عجيب على الأرواح، فمن الأصوات ما يُفرِح، ومنها ما يُحزِن، ومنها ما ينوِّم، ومنها ما يُضحِك ويُطرِب، وهذا الأثر مستقلٌّ عن الأقوال ومعانيها. فالأوتار والألحان والأنغام لها أثرها المستقل تماماً عن الأشعار والأقوال، لذلك قال الشيخ الغزالي أنَّ من لم يحرِّكه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره، فهو فاسد المزاج ليس له علاج، خارج عن الاعتدال، بعيد عن الروحانيَّة. فالنغم والصوت الحسن، وسيلتان لتطييب النفس، واستدراجها إلى محاسن الخلال المحمودة، لما للموسيقى من التأثير على النفوس التي تميل إليها بالفطرة، وبسبب ما لها من شدَّة التأثير، حذَّر الصوفيَّة من الرُّكون إلى مجرَّد الأنغام والاستئناس بها من دون التدبُّر والاعتبار، فاعتبروا السَّماع مشروطاً بحضور القلب، وإدراك الفهم، وإزالة الوهم، وإلاَّ لا يؤدِّي وظيفته على ما قُيِّد له.
[1]– فخر الدين الطريحي مجمع البحرين، موقع، (http://www.shamela.ws)،الإعداد الإلكتروني، وفق المعاجم العصريَّة محمود عادل ج1، ص3.
[2]– الفراهيدي، الخليل ابن أحمد، كتاب العين دار ومكتبة الهلال، (د.ت)، تحقيق مهدي المخزومي، وإبراهيم السامرائي، ج1، ص349.
[3]– الألوسي، محمود ابن عبد الله، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، (http://www.altafsir.com)، كتاب
مرقم غير موافق للمطبوع، ج 7، ص82
[4]– الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع الثاني، ج7، ص82.
[5] – الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع الثاني، ج6، ص489.
[6]– الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع الثاني، ج1، ص 452.
[7] – عبد الرزاق، محمود، المعجم الصوفي، دار ماجد عسيري، جدة، ط1، 2004، ج2، ص 778.
[8] – مجموعة من مريدي الطريقة العلاويَّة، السماع الصوفي، تربية آداب وسلوك، جمعية الشيخ العلاوي للتربية والثقافة الصوفيَّة، (د.ت.)، ص 4.
[9] – الهجويري، كشف المحجوب، ترجمة وتعليق: قنديل، إسعاد عبد الهادي، دار النهضة العربية، بيروت، 1980، ص654.
[10]– المصدر نفسه.
[11]– نقلاً عن، الحفني، عبد المنعم، معجم مصطلحات الصوفيَّة، دار المسيرة، بيروت، ط1، 1980، ص134.
[12]– الحفني، عبد المنعم، المعجم الصوفي، ص 134.
[13]– الهجويري، كشف المحجوب، ص 660.
[14]– ابن عربي، محيي الدين، الفتوحات المكيَّة،ج2، ص 428.
[15]– القشيري، عبد الكريم بن هوازن، الرسالة القشيريَّة، ص167.
[16]– انظر: ابن عربي، محيي الدين الفتوحات المكيَّة، ج 2، ص 366 – 367 – 368.
[17]– فؤاد، فاطمة، السماع عند صوفيَّة الإسلام، الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب، القاهرة، 1997، ص 26- 27.
[18]– ابن عربي، محيي الدين، الفتوحات المكيَّة، ج 4، ص 70.
[19]– الهجويري، كشف المحجوب، ص 655.
[20]– الطوسي، أبو السراج، اللمع في التصوُّف، تحقيق عبد الحليم محمود، دار الكتب الحديثة، القاهرة، 1960،ص 342.
[21]– الطوسي، أبو السراج، اللمع في التصوف، ص 28.
[22]– المصدر نفسه، ص29.
[23]– القشيري، عبد الكريم بن هوازن، الرسالة القشيريَّة، ص 96.
[24]– الكلاباذي، أبو بكر محمد، التعرف لمذهب أهل التصوُّف، دار الكتب العلميَّة، بيروت، ط1، 1993، ص132.
[25]– الهجويري، كشف المحجوب، ص 661.
[26]– القاشاني، عبد الرزاق، لطائف الأعلام في إشارات أهل الإلهام، دار الكتب العلميَّة، بيروت، ط1، 2004، ص 461.
[27]– الهجويري، كشف المحجوب، ص 660.
[28]– فؤاد، فاطمة، السماع عند صوفيَّة الإسلام، ص30.
[29]– ابن عربي، محيي الدين، الفتوحات المكيَّة، ج4، ص 368.
[30]– المصدر نفسه.
[31]– الطوسي، أبو السراج، اللمع في التصوُّف، ص349.
[32]– الكلاباذي، أبو بكر، التعرُّف لمذهب أهل التصوُّف، ص 127.
[33]– القشيري، عبد الكريم، الرسالة القشيريَّة، ص168.
[34]– ابن عربي محيي الدين، الفتوحات المكيَّة، ج2، ص331.
[35]– ابن عربي، محيي الدين، الفتوحات المكيَّة، ج 2، ص 367.
[36]– ابن عربي محيي الدين، الفتوحات المكيَّة، ج3، ص4.
[37]– ابن عربي، محيي الدين، الفتوحات المكيَّة، ج2، 352.
[38]– المصدر نفسه، ص366.
[39]– ابن عربي، محيي الدين، الفتوحات المكيَّة، ج2، ص352.
[40]– المصدر نفسه.
[41]– المصدر نفسه.
[42]– ابن عربي، محيي الدين، الفتوحات المكيَّة، ج2، ص 367.
[43]– المصدر نفسه.
[44]– ابن عربي، محيي الدين، الفتوحات المكية، ج2، ص 368.
[45]– ابن عربي، محيي الدين، الفتوحات المكيَّة، ، ج1، ص210.
[46]– ابن عربي، محيي الدين، الفتوحات المكيَّة، ج4، ص 368.
[47]– السهروردي، أبو النجيب، آداب المريدين، تحقيق: مناهم ميلسون، معهد الدراسات الآسيويَّة والأفريقيَّة، 1977، ص11.