السماع دوره وخصوصيته
السماع دوره وخصوصيته
مفهوم السماع:
السماع يعني السماع من الحق، ما يحمل معه نسمات القرب، تهب على قلوب الذاكرين، وتحرك أشجار المعاني المغروسة في أرواحهم، أغصان المحبة والشوق إلى معرفته تعالى، وذلك بترديد قصائد تحمل المعاني السامية الخالدة، والفضائل والمكارم النبيلة، والأخلاق الحميدة، والأمداح النبوية، وما فيه حكمة ورقة وذكرى وموعظة حسنة، أو يضع المعالم في طريق السلوك الرباني وحقيقة الصدق والإخلاص، ويرشد إلى الحقيقة الشرعية، باعتبارها مدخلا إلى الحقيقة القلبية الإلهية.
إن الأصل في السماع الشرعي لفظا ومعنى وإنشادا وتأثرا، ما أخرجه البخاري ومسلم عن سلمة بن الأكوع قال: “خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فسرنا ليلا، فقال رجل للشاعر عامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هُنيْهَاتِك؟ فأخذ يحدو ويسوق، وأسمعهم من شعر ابن رواحة الأبيات مطلعها:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فقال رسول الله صل الله عليه وسلم : «من هذا السائق ؟» فقالوا: عامر بن الأكوع، فقال: «يرحمه الله»”. فاستحق الشاعر عامر بن الأكوع الرحمة من نبي الله، جزاء أن أسمع الرسول وصحابته كلاما حسنا مستمدا من الحقيقة الإلهية. في وقت يتناطح فيه البعض في صرف الألفاظ، بين جواز السماع ومنعه، جاهلين أن السماع الصوفي لا يطلق لفظا ومعنى إلا على ما يستحسن سماعه، وهو النوع الذي سمعه الرسول صل الله عليه وسلم وأصحابه، وطلب من الله أن يرحم منشده، بخلاف الشعر الذي يطلق عادة على ما يجوز سماعه وما لا يجوز، إذ كان لفظا مجملا يشمل ما هو حق و باطل، وحسن وقبيح، وهداية وضلالة، وحكمة وفضيلة، وخلاعة ومجون..فجمع بين الإيجابيات والسلبيات، والسماع الصوفي بكل ألوانه يعرف الإيجابيات ويجهل السلبيات، ويحتضن الحسن ويرفض القبيح، والحسن يعني الحق، والقبيح يعني الباطل،إذ الحسن ما استحسنه الشرع، والقبيح ما استقبحه. والذين أخطأوا وأنكروا جهلا بغير علم، هم الذين التبس عليهم الأمر ما بين السماع والشعر، أو بين الشعر الإيجابي والسلبي أو بين الحسن والقبيح.[1]
إن التصوف يعني الذكر، والذكر يعني طهارة القلب وصفاء السريرة، والخروج من ظلمة الغفلة إلى نور اليقظة «لكل شيء جلاء وجلاء القلوب ذكر الله»”حديث” إن ذكر الله وسماع آياته وأسمائه وصفاته، والمعاني القلبية تتلى، يجعل العبد مع الله، والله مع العبد، كما في الحديث القدسي: «أنا مع عبدي إن ذكرني : إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه» وهو ملأ الملائكة. وفيه يذكر تعالى الذاكرين له، وليس الغافلين عنه.
وإذا كان الذكر بالمفهوم التربوي يعني ما يُذكر بالله، ويزيل الغفلة عن القلب، ويزيد في الإيمان، وينشط الباطن، ويحركه نحو محبة الله ورسوله، فالسماع الصوفي الحقيقي ذكر يضمن هذه الفوائد، ويعمل عمله في القلب. وهو ذكر تربوي شعوري وجداني، ومن خصائصه أن ظلمة الغفلة لا تقع في مجلس تضاء أرجاؤه بأنواره.[2]
إن السماع الصوفي الحقيقي، عند أصحاب الحقيقة القلبية الصوفية، ليس بالشعر والإنشاد والغناء، كما يقال، أو ينحصر في الدندنة بين الأذن والنفس، كما هو شأن التغني بالألفاظ. وإنما هو دروس علمية توجيهية، تكوينية باطنية شعورية وجدانية، توحيدية معنوية خلقية ربانية… قصد تقويم الفهم عن الله وبه، وتنشيط القلب والروح، وتقوية الباطن على تحمل أعباء العمل بالكتاب والسنة… إن التصوف المثالي القائم على الذكر وتلاوة القرآن، وسماع المعاني القلبية، والحقائق الإلهية، والأمداح النبوية له هدف سام، ومنهاج متكامل جمع بين صلاح الظاهر وصلاح الباطن من جهة، بين الالتزام بالكتاب والسنة والتعرض للفيض الروحي من جهة أخرى. وأساسه التقوى، والإدمان على الذكر وتلاوة القرآن، والعبودية لله وعبادته، والخضوع لعظمته ومراقبته.[3]
قال أبو القاسم الجنيد رحمه الله وقدس سره: “السماع لا يحدث في القلوب شيئا وإنما هو مهيج ما فيها فتراهم يهيجون من وجدهم وينطقون من حيث قصدهم ويتواجدون من حيث كامنات سرائرهم، لا من حيث قول الشاعر، ولا يلتفتون إلى الألفاظ لأن الفهم سبق إلى ما يتخيله الذهن”.[4]
ولما كانت الغاية من السماع أو الإنشاد، الإرشاد والمواعظ والفوائد، حيث أن من طبيعة سماعه إثارة كوامن النفوس، وتهييج مكنونات القلب، بم فيها من الأنس بالحضرة القدسية، والشوق إلى الأنوار المحمدية، بما اتصف به السادة الصوفية الذين لم يحتجبوا بالأصوات لهوا، ولا يجتمعون عبثا، وهم في واد والناس في واد آخر، والسر أنهم سمعوا ما لم يسمع الناس، وعرفوا ما لم يعرف الناس، فسماعهم يثير أحوالهم الحسنة، ويظهر وجدهم، ويبعث ساكن الشوق ويحرك القلب،ولما كانت قلوبهم بربهم متعلقة، وعليه عاكفة، في حضرة قربه قائمة، فالسماع يسقي أرواحهم، ويسرع في سيرهم إلى الله تعالى.[5]
فالمحترق بحب الله تعالى لا تمنعه الألفاظ الكثيفة عن فهم المعاني اللطيفة حيث لم يكن واقفا مع نغمة، ولا مشاهدة صورة، فمن ظن أن السماع يرجع إلى رقة المعنى، وطيب النغمة، فهو بعيد من السماع.[6]
إن السماع الصوفي يعتبر من أجمل ما أنتجته هذه الأمة من فن ونشيد كله ينشد معناه في كلام الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كتعبير عن صفاء القلوب وذوقها لحلاوة التوحيد الذي يربطها بعالم الذر والتجريد.
مقاصد السماع:
يقول الشيخ سيدي حمزة القادري بودشيش رضي الله عنه: “ربوا الفقراء على المقصود، أي من وجدتم فهمه قصر عن المقصود من الصحبة فارشدوه إلى الغاية من التربية، طلب وجه تعالى والتعلق به لا بسواه من الحظوظ”.
السماع أداة ووسيلة تربوية وروحية تُوَجه عبرها رسائل نورانية، “تحقق سمو الأخلاق، وصفاء الروح وترقيها في معارج القرب علاوة على ماتتعرض له من فيوضات ونفحات وأنوار تزود روح الصوفي من كل العبادات بالزاد الأوفى فتسمو وتتقوى”.
قالوا: وإنما السماع حقيقة ربانية ولطيفة روحانية، تسرى من السميع المسمع إلى الأسرار بلطائف التحف والأنوار، فتمحق من القلب ما لم يكن ويبقى فيه ما لم يزل، فهو سماع حق بحق من حق.[7]
إن السماع بأبعاده المختلفة المتنوعة رسالة تهذيبية تخليقية من خلال ما تتضمنه القصائد والأشعار من معاني سامية في توجيه الغافل وإنهاض همته وإحياء القلوب وتنشيط البواطن واستحضار عظمة الخالق والارتواء من معين سيد الخلق وسرد سيرته والعمل بها لما يكون لها من الأثر الفاعل في تهذيب النفس وتزويد المستمع من سيرة العارفين وسيرة سيد الخلق أجمعين من أخلاق وفضائل توجيهة وتربوية.
المراجع المعتمدة:
[1] أحمد لسان الحق: “الحقيقة القلبية الصوفية” الطبعة الأولى 1999، ص 303/304. [2] أحمد لسان الحق: “الحقيقة القلبية الصوفية” الطبعة الأولى 1999، ص 343. [3] أحمد لسان الحق: “الحقيقة القلبية الصوفية” الطبعة الأولى 1999، ص 345 [4] محمد الموضح: “وظيفة السماع الصوفي” مجلة الإشارة العدد 26، السنة الرابعة، مارس 2003، ص17. [5] عبد القادر عيسى: “حقائق عن التصوف”، ص 205. [6] عبد القادر عيسى: “حقائق عن التصوف”، ص208/209. [7] عبد القادر عيسى: مرجع سابق، ص 209.
*نقلاً عن موقع ” نفحات الطريق “.