الدراسات والبحوث

خطاب التصوُّف التبيان الاصطلاحيُّ في النَّظر والاختبار

د. محمد المصطفى عزام

خطاب التصوُّف التبيان الاصطلاحيُّ في النَّظر والاختبار

د. محمد المصطفى عزام

تقديم:

يطرح بحثنا هذا إشكاليَّة خاصَّة هي “التأويل والاصطلاح” في جانب من الإنتاج الثقافيِّ الإسلاميِّ، وتحديداً هو جانب الخطاب الصوفيِّ؛ وتتمثَّل هذه الإشكاليَّة في التعارض بين عمليَّة التأويل وعمليَّة الإصطلاح. فالتأويل إبداع ذاتيٌّ متحرِّر، أمَّا الاصطلاح فهو إجراء موضوعيٌّ متحدِّد، والتأويل ينطلق غالباً من نصٍّ معيَّن، في حين أنَّ الاصطلاح مكوَّن من مكوِّنات النصّْ. ويكاد يكون هذا التعارض قانوناً عامَّاً يجري على النصِّ التأويليِّ والمصطلح التقنيِّ معاً، لكننا في ما يخصُّ الخطاب الصوفيَّ، نجد أنفسنا أمام تمازج كامل بين التأويل والإصطلاح، بحيث لا يعارض أحدهما الآخر، ولا يتميَّز عنه، تماماً كما يحدث في النصِّ الإبداعيِّ بين المضمون ولغته الخاصَّة.

وإذا كانت أغلب حقول الثقافة الإسلاميَّة قد قامت حول القرآن الكريم ولخدمته، فأقامت أجهزتها المفهوميَّة والاصطلاحيَّة على لغته وما يفسِّر هذه اللُّغة من

___________________________________

*باحث في الفلسفة والتصوُّف – جامعة الرباط – المغرب.

العرف العربيِّ، وقامت تلك الحقول بتأويل القرآن أحياناً من دون أيِّ تعالق بين التأويل والمصطلح، فإنَّ مصطلحات الخطاب الصوفيَّ، على العكس منها، قد تولَّد أغلبها من تأويل النصِّ القرآنيِّ، هذا التأويل الذي هو عبارة عن تبيان للمقاصد الخُلقيَّة للنصِّ المؤوَّل. أمَّا الوسيط الذي عن طريقه يتحوَّل هذا النصُّ إلى مصطلحات صوفيَّة فتجسِّده التجربة الصوفيَّة، هذه التجربة التي تحوِّل تلقِّي القرآن لدى الصوفيِّ من مستوى في الفهم إلى مستوى آخر، ويتحوَّل التأويل تبعاً لذلك من مستوى إلى آخر، باعتبار أنَّ السلوك الصوفيُّ ليس إلَّا تفاعلاً بين التجربة والقرآن ينتج مزيداً من الفهم عن  الله في كلامه كلَّما تعمَّقت التجربة. فالقاعدة عند الصوفيَّة هي أنَّه “لا يفهم إشارات القرآن إلاَّ من طهُر سرُّه عن الأكوان وما فيها”.

نتناول في ما يلي مفهوم المصطلح بوجه عامٍّ والمصطلح الصوفيَّ بوجه خاصٍّ، وذلك تأسيساً على التجربة الروحيَّة وعلى العلاقة بالنصِّ القرآنيّْ.

 

1- “المصطلح” لغويّاً ووظيفيّاً:

لفظ “الاصطلاح” مصدر لفعل “اصطلح” اللاَّزم أصلاً بمعنى تصالح (من الصلح)(1)، ويتعدَّى فعل اصطلح” بحرف الجرِّ” على “فيطلق على “اتفاق القوم على وضع الشيء”. وقد تحدَّدت دلالة “المصطلح” في الحقل اللُّغويِّ “باتِّفاق طائفة على اللفظ بإزاء المعنى”، ثم إنَّ “الإصطلاح” نقل إلى الأسميَّة فأصبح يُعرف بأنَّه “لفظ معيَّن بين قوم معيَّنين”(2)، مثله في ذلك مثل اسم المفعول “مصطلح”؛ وهذا التعريف يشمل لغة التخاطب التي اصطلحت عليها مجموعة بشريَّة ما، في ما يُسمَّى “العرف العام”. أمَّا مجموع الألفاظ التي تتداولها الفئة المختصَّة بحقل معرفيٍّ خاصٍّ فهي ما يُسمَّى “العرف الخاص”، وهو المقصود بالمصطلح إذا أُطلِق.

وتخضع أكثر الألفاظ لشروط معيَّنة قبل أن تنتقل من العرف العامِّ إلى العرف الخاصِّ، ومن هذه الشروط ما يقتضي تغييراً في معاني هذه الألفاظ، ومنها ما يقتضي تغييراً في مبانيها، وقد يحتاج حقل معيَّن إلى ألفاظ من لغة أخرى عندما لا يجد في لغته ما يعبِّر عن بعض المفاهيم، فيلجأ إمَّا إلى ترجمة تلك الألفاظ الأجنبيَّة، أو إخضاعها لقوالب لغته، أو تركها على حالها إن لم يتأتَّ شيء من ذلك، (وهو ما سُمِّي “الدَّخيل” في العربيَّة).

لا بدَّ من القول أنَّ الإصطلاحات الفنيَّة الخاصَّة ضرورة إنسانيَّة يفرضها التطوُّر الفكريُّ والعلميُّ، وتدعو إليها التجارب الحياتيَّة، كما يؤدِّي اليها تلاقح الحضارات، ويحتاج إليها في الوقت نفسه هذا التلاقح.

ويؤدِّي استقلال العلوم وتشعُّب اختصاصاتها عادة إلى انفراد كلِّ علم بشبكة مفهوميَّة تعبِّر عنها مجموعة من المصطلحات التي يطمح ذلك العلم إلى الاستئثار بها، ولكنَّها مع ذلك تبقى مشدودة إلى مفاهيم العرف العامِّ بوشائج تقوى أو تضعف؛ وقد تنجح بعض الحقول في تملُّك بعض الألفاظ، فلا تستعمل بعدُ في غير ذلك الحقل، وتنسى دلالاتها اللُّغويَّة والعرفيَّة الأصليَّة. وبامتلاك حقل معيَّن للغته التقنيَّة الخاصَّة تغدو لغة التخاطب ضعيفة عن تبليغ مفاهيمه وربما عاجزة(3).

إلى ذلك، تتحرَّى المصطلحات الاختصاص والتحديد والدقَّة، فتتحاشى ما في لغة التخاطب من الاشتراك اللُّغويِّ والترادف والغموض ما أمكنها ذلك، ومن أهمِّ أهداف الإصطلاح الفنيِّ ما يلي:

– حصر العلم وتمييز حقائقه وقواعده عن مفاهيم العرف العامَّة، أو مفاهيم غيره من العلوم.

– توحيد لغة المختصِّين بالعلم من أجل تطوير البحث والإنتاج.

– تمكين المتعلِّم من حقائق العلم بيُسر وسرعة(4).

وتختلف علاقة المصطلح بالمعرفة حسب حقلها الذي يحدِّد موقف الإنسان من العالم ويوجِّه تأويله للوجود. والمصطلح المعرفيُّ أدقُّ ما يلخِّص التجارب المعرفيَّة، فهو أولى درجات التحصيل، إذ من دونه لا يهتدي المتعلِّم إلى علم سبيلاً، وهو أعلى مقامات التوصيل، إذ به يفتح المعلِّم أبواب العلم ليتحقَّق المتعلِّم بالمعرفة، أو قل باختصار إنَّ المصطلح هو جسر المعرفة الخاصَّة الذي تنتقل عبره المضامين بين المعلِّم والمتعلِّم، كما أنَّ اللُّغة الطبيعيَّة جسر تواصليٌّ عامٌّ لتناقل التجارب العامَّة؛ فمصطلحات كلِّ حقل معرفيٍّ عبارة عن نسق من التصوُّرات العاكسة لمواضيع ذلك الحقل وللعلاقات بينها في الفكر، وبحصول تصوُّر تلك المواضيع وعلاقاتها يحصل “العلم” بذلك الموضوع. فالجهاز الإصطلاحيُّ نسق مفهوميٌّ ينوب عن مواضيع العلم، والعلم هو صورة المعلوم في نفس العالم بتعبير بعض القدماء(5).

 

2: المصطلح بين التصوُّر والذوق:

عُرف مفهوم “التصوُّر” في التراث الفلسفيِّ عموماً بأنَّه يقابل مفهوم “التصديق” من وجوه عدَّة، كما أنَّه خضع لتقسيمات عديدة منها تقسيمه إلى عامٍّ وخاصّْ. وما يهمُّنا في إطار دراسة المصطلح، هو التصوُّر الخاصُّ الذي يُعرِّفه أبو البقاء الكفوي بأنَّه “الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع”(6)، وما يعنينا في هذا التعريف هو عنصر “الثبات” الذي يتَّصف به، أمَّا المطابقة للواقع فلا يمكن تعميمها على كلِّ التصوُّرات الخاصَّة. في نظرنا، إذا ما كان الواقع يعني الحقيقة الموضوعيَّة خارج الذات؛ ذلك أنَّ صورة الشيء الخارجيِّ في الذِّهن ليست إلاَّ خطاطة (scheme) نسبيَّة وتقريبيَّة وخياليَّة لبعض الأشكال الخالصة في القضاء ينتجها الخيال من غير أن تنحاز إلى صورة بعينها(7)، وعلى ذلك لا يبقى التصوُّر تطابقاً للصور الذهنيَّة مع الشيء في الخارج أو نيابة عنه عند غيابه كما ظنَّ القدماء، وكما نجد في الذهنويَّة (mentalisme) حسب تعبير “ألان راي” الذي يُعرِّف التصوُّر بالقدرة على تكوين صورة أو فكرة عن الأشياء وعند غيابها(8). وتجاوزاً للوصف الظاهراتيِّ للواقع وكذلك للاشتغال بالمعنى والمدلول، فقد تمَّ توسيع مفهوم “التصوُّر” ليشمل “أيَّة وحدة فكريَّة”(9). وبتأثير من العلوم الدقيقة تطوَّر تعريف التصوُّر إلى أنَّه “مجموعة أحكام متناسقة على موضوع، نواته مؤسَّسة بواسطة أحكام تعكس الطبائع الملاصقة للموضوع”(10).

تعود القوَّة التعيينيَّة والإشارة للعلامة، سواء كانت رمزاً لغويّاً أم مصطلحاً، إلى رتبة المسمَّيات (référemts) التي ترتبط بها، وذلك من وجهة النظر المسمَّياتيَّة (onomasiologique)، لأنَّ هذه الرتب هي المؤسِّسة للتصوُّر(11)؛ فعلى أساس المسمَّيات ترتكز الأنشطة الذهنيَّة اللاَّزمة لتكوين التصوُّرات(12)، بمعنى أنَّ الحقول المعيَّنة هي المؤسِّسة للمصطلحات المعبِّرة عن التصوُّرات التي تتحدَّد بعد العمليَّات الذهنيَّة كالمقارنة والتأمُّل والتجريد أو التحديد.

هذا المنهج نفسه ينطبق على المصطلحيَّة الصوفيَّة من دون أن تكون المفاهيم والغايات متطابقة بين الميدانين، لأنَّ طبيعة حقول العلوم التجريبيَّة والعقليَّة تختلف  عن طبيعة الحقول الدينيَّة الروحيَّة؛ لكن الصوفيَّة حينما يجعلون مرجعيَّتهم هي التجربة الروحيَّة (انطلاقاً من نصوص القرآن والحديث)، ويعدُّون الذوق الوجدانيَّ الذاتيَّ بديلاً عن التصوُّر الذهنيِّ، فإنَّ مصطلحاتهم تصبح معبِّرة عن أذواقهم الوجدانيَّة التي تتحدَّد أنواعها ورتبها عن طريق التجربة الحيَّة، ومن ثمَّ فإنَّ القوة التعيينيَّة للمصطلح الصوفيِّ تعود أيضاً إلى درجة التجربة، حتى أنَّهم في تجربة “التوبة” مثلاً (وهي مرجع مصطلح التوبة) يسعون لتحقيق هذه الدرجة في مستوى التجربة وذوقه في مستوى الوجدان؛ ومثل ذلك “علم اليقين”، و”عين اليقين”، و”حق اليقين”؛ وكذلك “التواجد” و”الوجدان” و”الوجد” و”الوجود” الخ…؛ وما يقال عن مرجعيَّة التجربة في الإشارة إلى القوَّة التعيينيَّة للمصطلح في النوع الواحد من التجارب (كالأمثلة السابقة)، يُقال عن الأنواع المختلفة من التجارب.

وكما أنَّ التصوُّرات في أيِّ حقل من الحقول (في إطار التصوُّريَّة)، ليست مستقلَّة بعضها عن بعض، بل إنَّ أيّاً منها لا يتحدَّد إلاَّ بعلاقته بباقي التصوُّرات الأخرى المكوِّنة للحقل، فكذلك نجد المعاني (أو الأذواق) الصوفيَّة التي تترجمها مصطلحاتهم لا ينفصل بعضها عن بعض، بحيث تكون منظومة سلوكيَّة يتدرَّج في تجربتها المتصوِّف منتقلاً من حال إلى حال، أو من مقام إلى مقام؛ وربما لم يتَّفق جميع الصوفيَّة على ترتيب هذه المراحل، ولكن المرحلة (الحال أو المقام) المعيَّنة مرتبطة بما قبلها وما بعدها، لا يتمُّ تحقيق إحداها إلاَّ بتمام التحقُّق بما قبلها، فلا تكتمل الخارطة الكليَّة لتجربة صوفيٍّ معيَّن (أو للتصوُّف عموماً) إلاَّ بتصنيف تلك المراحل السلوكيَّة التي تنتظم التجربة في نسق محدَّد يشكِّل منظومة وجوديَّة ذاتيَّة، وقد يعلنها هذا الصوفيُّ أو ذاك في نظام معيَّن يستمدُّه من تجربته. وإذا كانت العلاقات بين التصوُّرات في العلوم المختلفة تصنَّف إلى فئتين من العلائق: علائق منطقيَّة مباشرة مبنيَّة على أساس تشابه الخصائص المشتركة، بين تصوُّرين من حيث  المقاصد؛ وعلائق وجوديَّة غير مباشرة مبنيَّة على أساس المجاورة بين مفردات المواضيع، من حيث الزمان والمكان أو السببية(13)، فإنَّ العلاقات بين أذواق التجربة الصوفيَّة ومواجيدها علاقات وجوديَّة، ولكنها غير العلاقات الوجوديَّة في العلوم الأخرى،  فوجوديَّة العلاقات بين الأحوال الصوفيَّة وأذواقها باطنيَّة ذاتيَّة خاصَّة وجزئيَّة أيضاً، ولكنها ليست خارجيَّة إلاَّ ما تعلق منها بالمعاملات والآداب الظاهرة.

ولم يتقرَّر في أوساط المصطلحين أنَّ الجهاز الإصطلاحيَّ لأيِّ حقل معرفيٍّ يشكِّل نسقاً تصوُّريّاً إلاَّ في النصف الثاني من القرن العشرين، وذلك عن طريق وضع تصنيف لترتيب التصوُّرات على شكل مسارد تحدَّد فيها العلاقات بين التصوُّرات متدرِّجة من العامِّ إلى الخاصِّ؛ فيسهل تحديد مكان كلِّ تصوُّر في المنظومة المعرفيَّة المعيَّنة، كما تُحلُّ مشاكل التواصل بين أهل الاختصاص في حقولهم(14)؛ لكننا نجد أنَّ الصوفيَّة منذ المحاولات المتقدِّمة على يد السراج الطوسي (ت378هـ) والمكي(ت186هـ)، في وضع مسارد المصطلحات التي تشمل الأحوال والمقامات السلوكيَّة للقوم، نجد نوعاً من الترتيب المنظَّم للتجربة الروحيَّة، ونلاحظ أنَّ هذا الترتيب يكتمل بشكل دقيق على يد الهروى(481هـ) في كتابه “منازل السائرين” حيث يصنِّف “مسرده” المشروح إلى أقسام (عشرة)، ويجعل لكلِّ قسم أبواباً (عشرة كذلك)، وتلك الأقسام مرتَّبة حسب النظام التجربيِّ للسالك من “قسم البدايات” (وهو الأول)، إلى “قسم النهايات” (وهو العاشر)، كما أنَّ الأبواب داخل كل قسم تجري على نسق التدرُّج الروحيِّ والذوقيِّ والخلقيّْ.

 

3: المصطلح واللُّغة:

المصطلح لغة ندر ما تكون هذه الأخيرة وسيطاً للمعرفة، فكما أن نسق اللُّغة الطبيعيَّة مغاير لنسق الوجود الذي تحمل تصوُّراته، فكذلك الجهاز المصطلحيُّ لحقل ما إنَّما يصف ذلك الحقل وهو مغاير له. واللغة مع ذلك أهمُّ وسيلة لتصوُّر العالم تصوُّراً متشابهاً بين أفراد كلِّ مجموعة لغويَّة متجانسة، بل هي وسيلة الوجود في العالم(كما عند الفلاسفة الوجوديين). ومصطلحيَّة الحقل المعرفيِّ المعيَّن كذلك هي جهاز تصوُّر المفاهيم المشتركة بين المتخصِّصين في ذلك الحقل؛ وهذا النوع من التناظر يجعلنا نتصوَّر ثالوثين بين عناصرهما المتناظرة، حيث إنَّ الثالوث الأكبر الذي هو العالم واللغة والتصوُّر يشتمل على الثالوث الأصغر الذي هو الموضوع والمصطلح والعلم. فالمصطلح المعرفيُّ، بما هو جزء متضمَّن في اللغة الطبيعيَّة(نظرياً)، إنَّما هو وسيلة تعرُّف على مكوِّنات حقل معرفيٍّ خاصٍّ بكلِّ ما يمكن أن يحقِّقه ذلك التعرُّف من إدراك أو تعقُّل أو تمثُّل لمواضيع هذا الحق. والمصطلح في الوقت ذاته أداة تعريف تلك المعلومات لمن يريد معرفتها، إنَّه لغة خاصَّة داخل لغة عامَّة يمنح منها ليكوِّن نسقه المفهوميَّ الكامل الذي ينوب عن حقائق الحقل المعيَّن، كما هو الشأن في اللُّغة مع العالم. إنَّ المصطلح مثال أصغر للتواضع اللسانيِّ بداية ونموذج أمثل للتواصل الإنسانيِّ غاية؛ هذه الغاية التي تحدِّدها في تقديرنا الوظيفة الأساسيَّة للغة، وهي أنَّها أداة للبيان الإنسانيِّ تحصيلاً وتوصيلاً؛ ولا نفهم من هذه المقارنة أنَّ هناك تطابقاً بين المصطلحات وألفاظ اللُّغة الطبيعيَّة من حيث القيمة الدلاليَّة، ذلك أنّ ألفاظ اللُّغة العامَّة تتوقَّف دلالتها على السياق(مقاليّاً أو مقاميّاً) المتغيِّر باستمرار. أمَّا المصطلحات التقنيَّة فإنَّ حقلها المعرفيَّ وأنساقه التصوُّريَّة هو سياقها الذي يجعل دلالتها ثابتة في الغالب؛ فالطبيعة الرمزيَّة للوحدة المعجميَّة في القاموس المشترك إذن هي غيرها في معجم الحقل الخاصِّ حيث يكون التلازم الثابت بين التصوُّرات والمصطلحات السبيل الأوثق لتحقيق تواصل معرفيٍّ غير ملتبس في الحقل الواحد، وحيث يكون للمصطلح معنى محدَّد يتمُّ إلحاقه بنظام محدَّد من التصوُّرات، ويظلُّ هذا المعنى المحدَّد لصيقاً به(15).

بناءً على ما قدَّمنا، نحاول رصد ثلاثة أنوع من العلاقات الممكنة بين المصطلح الفنيِّ واللُّغة الطبيعيَّة التي يولد منها، وهي علاقة التضمُّن، وعلاقة التباين، وعلاقة التناظر، ونبسط القول في كلٍّ منها:

-علاقة التضمُّن:

تتجلَّى علاقة التضمُّن بين اللُّغة الطبيعيَّة والمصطلح الفنيِّ (المولد من تلك اللُّغة) بحسب اعتبارين: اعتبار كميٍّ واعتبار دلاليّْ.

أ- الاعتبار الأول: يتضمَّن القاموس اللسانيُّ للغة معيَّنة مسردَ الإصطلاحات الفنيَّة الموضوعة في تلك اللُّغة. فطابع هذه العلاقة إحصائيٌّ، بحيث إنَّ قسماً معيَّناً من دوال اللُّغة العامَّة هو الذي يستعمل مصطلحات خاصَّة، ممَّا يتحصَّل معه أن عدد المصطلحات الفنيَّة أقلُّ من عدد المفردات اللُّغويَّة، فهذه كلٌّ وتلك جزءٌّ، ومردُّ ذلك إلى أنَّ أكثر ألفاظ اللُّغة تحتفظ بصلاحيَّة التداول العامِّ بعد اتِّخاذها مصطلحات فنيَّة لمدلولات خاصَّة، وبعض الألفاظ لا يختلف مدلولها في اللُّغة العامَّة عنه في اللغة الخاصَّة(16)، كما أنَّ كثيراً من المصطلحات الفنيَّة يشيع استعماله بمدلولاته الخاصَّة في اللُّغة العامَّة؛ فيتعذَّر مع كلِّ ذلك الفصل فصلاً قاطعاً بين الكلِّ والجزء للتداخل الحاصل بينهما. هذا من الوجهة الآنيَّة (synchronique)؛ أمَّا على الخطِّ التطوُّريِّ (diachronique)  فنجد الانتقال المستمرَّ للألفاظ في الاتجاهين المتقابلين (دلاليّاً)، فبعضها يتَّجه من الدلالة العامَّة إلى الدلالة الخاصَّة (حسب مبدأ التضييق أو التخصيص)، وبعضها الآخر يتَّجه من الدلالة الخاصَّة إلى الدلالة العامَّة (حسب مبدأ التوسيع)، وبعضها الثالث تتعدَّد اتجاهاته: فمن العامِّ إلى الخاصِّ، ثم من هذا إلى العامِّ مرَّة أخرى(17)؛ ولكن الثابت أنَّ المصطلحات الفنيَّة تظلُّ جزءاً من اللُّغة المشتركة لأنَّها هي التي “تستثمر” ألفاظها عادة في الحقول الفنيَّة، بحيث إنَّها تمدُّ هذه الحقول بالدوال فتكتسب داخلها مدلولات جديدة عن طريق التوليد المعنويِّ أو اللَّفظيِّ، ثم يعود كثير من تلك المدلولات الجديدة إلى رصيد اللُّغة العامَّة، ويتجلى إغناء الحقول الخاصَّة لدلالات اللُّغة الطبيعيَّة على الخصوص في ما تفيده اللُّغة من العلوم الإنسانيَّة وبعض المعارف التي لها مساس بمصالح الإنسان مثل الطبِّ وعلوم الطبيعة…

ب- الاعتبار الثاني (الدلالي): هو تضمُّن المفردة اللُّغويَّة (المفترض) للمصطلح الفنيِّ منطقيّاً ودلاليّاً، لكن هذه العلاقة تطرح إشكالاً على هذين المستويين، فحتى لو سلَّمنا بأنَّ تخصيص المصطلح للوحدة المعجميَّة من الوجهة الدلاليَّة(18) يفيد تضمُّن هذه الوحدة لمدلول المصطلح، فإنَّ الإشكال يبقى مطروحاً من الوجهة المنطقيَّة بين النوع والجنس؛ فإذا نظر إلى العلاقة من جانب توسيع دلالة الوحدة المعجميَّة، فإنَّ المصطلح يكون هو المتضمِّن لمعنى اللَّفظ اللغويِّ بالإضافة إلى معناه الخاصِّ في حقله(19)، وهو ما يتَّفق وفكرة الأصل والفرع القديمة التي يكون الفرع فيها متضمِّناً للأصل وزيادة؛ لكنَّنا إذا نظرنا إلى أنَّ القيمة الدلاليَّة المعجميَّة والعرفيَّة والإصطلاحيَّة، فضلاً عن أنَّ بعض الإصطلاحات يعود إلى أصل الوضع اللغويِّ متخطِّياً المعنى العرفيِّ، سلَّمنا ببقاء المدلول الإصطلاحيِّ جزءاً من المدلول الكلِّيِّ للوحدة المعجميَّة(20).

وقد تزول علاقة التضمُّن كلِّيَّاً أو جزئيَّاً من بعض المصطلحات التي تتحرَّر من هيمنة المعجم اللسانيِّ وتصفو لحقلها المعرفيِّ بالكليَّة، مثل بعض مصطلحات الفقه كالزواج والطلاق والوضوء والإحرام والسجود وغيرها، وإن كان العلماء في الإطار التعليميِّ يذكّرون بأصولها اللُّغويَّة قبل تعريفها الشرعيِّ؛ ومع ذلك فإنَّ علاقة التضمُّن بين اللُّغة والمصطلح تبرز في أكثر وجوه الاستعمال اللُّغويِّ وهو المجاز.

– الإصطلاح والمجاز:

المصطلح الفنيُّ وضع أو تواضع ثان على نفس الدال بسبب علاقة ما بين المدلول الأول والمدلول الثاني(21)؛ فحين وضعه يكون بمثابة المجاز في المفردة اللُّغويَّة حين استعمالها في تعبير جديد. ولذلك فإنَّ تعريف المصطلح بأنه “إخراج اللفظ من معنى لغويٍّ إلى آخر لمناسبة بينهما”(22) يماثل تعريف المجاز اللغويِّ بأنه “اسم لما أريد به ما وضع له لمناسبة بينهما”(23)؛ وفي نظر اللُّغويين والأصوليين المسلمين أنَّ “الحقيقة” وهي الوضع الأول أو الدلالة الأصليَّة كلٌّ، وأنَّ المجاز وهو الوضع الثانيِّ أو الدلالة الفرعية جزء، وهو تقسيم للعرف الخاص(24) الذي هو المصطلح، وكلاهما (المجاز والعرف الخاص) يتفرَّع عن العرف العام؛ ووجه الاختلاف ين المجاز اللغويِّ والمصطلح أنَّ المجاز داخل في الإبداعيَّة اللغويَّة المتاحة للمجتمع بجميع شرائحه ونشاطاته، وأنَّ المصطلح وحدة في جهاز خاص بمنظومة مفهوميَّة معيَّنة تستعمله فئة خاصَّة يجمعها حقل تصوُّريٌّ متخصِّص؛ ثم إنَّ المجاز لا يمثِّل إلاَّ أداة من جملة أدوات لوضع المصطلح(25)، كما أنَّه أداة من أدوات التوليد اللغويِّ والإبداع الأدبيِّ فهو يعمُّ المجاز العرفيَّ والإصطلاحيّْ(26)، وإنما حدُّ الاصطلاح بما يماثل حدَّ المجاز لغلبة هذه الأداة على الوضع الإصطلاحيِّ بسبب سهولتها، هذه السهولة الناتجة عن علاقة المشابهة والمجاورة(27) التي تكون بين المدلول الأصليِّ(اللغويِّ) والمدلول الفرعيِّ (المجازيِّ أو الاصطلاحيِّ). أمَّا المحقِّق لإحدى العلاقتين فهو التجربة الجديدة المنطلقة من التصوُّر الأول الذي هو أصل له(28). من هنا أمكن القول بعلاقة التضمُّن بين المدلول الإصطلاحيِّ (المجازيِّ) للفظ وبين مدلوله اللغويِّ (الحقيقيِّ)، ويخرج عن هذه العلاقة التضمُّنيَّة من المصطلحات ما كان مرتجلاً أو موضوعاً وضعاً أوَّل في صناعة أو فن(29).

-علاقة التباين:

ننظر أيضاً إلى علاقة التباين بين المصطلحات الفنيَّة الخاصَّة وبين ألفاظ اللغة العامَّة بحسب الاعتبارين السابقين في علاقة التضمُّن وهما: التباين بين المعجم الإصطلاحيِّ كُلاً والمعجم اللساني كُلاً، والتباين بين الوحدة الإصطلاحيَّة والوحدة المعجميَّة.

-الاعتبار الأول: في الاعتبار الأول نلاحظ ما يلي:

أ- تباين اللغة المصطلحيَّة لغة التخاطب من حيث إنَّ الأولى تملك بعض ملامح اللُّغة الواصفة (métalangage)، ولكنها حين تسعى للسيطرة على وقائع وتطبيقات غير لغويَّة تكون بالنسبة إلى المعجم (اللسانيِّ) في وضعيَّة خارجيَّة (30) (situation d’exteriotité).

ب- تكون اصطلاحات الحقول المعرفيَّة المأخوذة من لغة ما أنساقاً مفهوميَّة تنبني على أنظمة إسميَّة وأنظمة تحديديَّة، وبحسب تبويب يقوم على كليَّات منطقيَّة، ممَّا يؤدِّي إلى التقابل بين نظام المصطلحات ونظام الأسماء اللغويَّة(31)؛ فالمعجم الإصطلاحيُّ نظام قصديٌّ مبنيٌّ على أساس بنية تصوُّريَّة مكوَّنة من أسماء المفاهيم المنتمية إلى حقل معرفيٍّ معيَّن والتي هي مصطلحات، وذلك بخلاف نظام اللسان العامِّ الذي يبقى مفتوحاً على العرف الاجتماعيِّ والتطوُّر الدلاليِّ والإبداع الفرديِّ؛ ونتيجة هذا التباين أن المعاجم الإصطلاحية تتصف نسبياً باستمرار الصلاحية، ولا تحتاج إلى أنَّ تغير بالتنقيح أو التعديل مثلما تحتاج إلى ذلك قواميس اللُّغة العامَّة.

-الاعتبار الثاني: أما في الاعتبار الثاني (تباين الوحدات) فنسجل الملاحظات الآتية:

أ- إنَّ التقابل بين نظام المصطلحات ونظام الأسماء اللغويَّة يتجلَّى على صعيد مفردات كلِّ نظام في التقابل بين التواضعيَّة المطلقة(أو التحكُّميَّة) وبين التعليل النسبيِّ للتواضعيَّة، فيكون من نتائج التواضعيَّة التوسيع الدلاليُّ، ويكون من نتائج التعليل القصد الدلاليُّ، فالوحدة الإصطلاحيَّة غالباً ما تكون معلَّلة لأنَّها تنتقل إلى حقلها الخاصِّ ومعها حمولتها الدلاليَّة التي اكتسبتها بالتداول وأكسبها إيَّاها حقلها الدلاليُّ، وكثيراً ما تلازمها تلك الحمولة أو شيء منها وهي داخل حقلها المفهوميِّ الجديد. أمَّا الوحدة المعجميَّة فأصل التواضع عليها تحكُّميٌّ في الغالب غير معلل، لذلك فإنَّ قصديَّة الوضع تتحكَّم في المصطلح واختياره؛ أمَّا وحدات اللُّغة الطبيعيَّة فلا سبيل إلى القصديَّة فيها إلاَّ من حيث الاستعمال والتوجيه حسب قواعد تداوليَّة معيَّنة، من مكوِّناتها مدلول الوحدة اللُّغويَّة (الكلمة) المعجميِّ وعلائقها داخل حقلها الدلاليِّ، بحيث إنَّ مستعملها خاضع لكثير من القيود المتنوِّعة التي لا يخضع لها واضع المصطلح، لكن مستعمل هذا المصطلح داخل حقله المفهوميِّ يصبح ملزماً أيضاً بقيود الاستعمال الخاصِّ به؛ وننبِّه إلى أنَّ قصدنا من التعليليَّة والتحكُّميَّة وصف العلاقة بين الدالِّ والمرجع.

ب- إنَّ الوحدة الاصطلاحيَّة قابلة لاستبدال غيرها بها قبل أن ترسخ في الاستعمال، وذلك لعدم التطابق المسبق بين الدالِّ والمدلول في تلك الوحدة بفعل المكوِّن التصوُّريِّ الجديد الذي تُدخله التجربة في الحقل المفهوميِّ المعيَّن على المدلول المعجميِّ لتلك الوحدة، وقد يحيل ذلك المكوِّن إلى وحدة معجميَّة تنتمي إلى حقل دلاليٍّ آخر، وتمتُّ بصلة ما إلى ذلك الحقل المفهوميِّ في المجال التصوُّريِّ لواضع المصطلح (حسب المقتضيات التداوليَّة)، فيرى أنَّها أنسب من الوحدة الإصطلاحيَّة الأولى للتعبير عن التجربة الجديدة؛ ويتمُّ هذا التغيير بإرادة فرديَّة أو جماعيَّة وبقرار يمكن رصده زمانيّاً؛ ولكن الوحدة الإصطلاحيَّة بعد رسوخ استعمالها تكتسب ثباتاً ومطابقة في دلالاتها على مفهومها بحيث لا تخضع غالباً للتطوُّر؛ وهذا بخلاف الوحدة المعجميَّة المتداولة التي يتعذَّر فكُّ التطابق الحاصل فيها عن تلازم الدالِّ والمدلول بطول التداول، وهي في الوقت نفسه خاضعة للتطوُّر في علاقة الدالِّ بالمدلول، ولكن هذا التطوُّر يحدث بصورة انسيابيَّة بطيئة وخفيَّة داخل المجتمع بحيث لا يمكن التأريخ له.

ويمكن أن تنقل بعض الوحدات المعجميَّة المتداولة إلى حقل مفهوميٍّ معيَّن من دون أيِّ تغيير في مدلولها الأول، فيكون هذا التطابق ضامناً لاستقرار المدلول الاصطلاحيِّ لتلك الوحدة وثباته لأنَّه يستمدُّ بقاءه من التطابق الدلاليِّ (بين الدال والمدلول) في التجربة العامة، وهذا ما يمكن التعبير عنه بتطابق العرف العام مع العرف الخاصِّ، وتتجلَّى هذه الظاهرة في الأسماء الكليَّة للمواضيع والمعاني والعلوم من دون أجزائها غالباً.

ج- وحدات الجهاز الإصطلاحيِّ هي علامات كاملة ذات إيماء تصوُّريِّ، وتتجسَّد في الكلمات والوحدات الكبيرة مثل بعض الأسماء والتراكيب، وهي تحيل على مواضيع يوماً إليها بتلك الوحدات؛ بخلاف الوحدات المعجميَّة التي ينعدم في بعضها أو ينحرف الإيماء التصوُّريِّ أو الوظيفة الإحاليَّة مثل بعض الضمائر والروابط وظروف الزمان المكان.

د- عدم احتياج الوحدات الإصطلاحيَّة إلى المقام الخطابيِّ، بحيث لا يكون مفهومها محتاجاً إلاَّ إلى نسقيَّتها داخل الحقل المفهوميِّ المعيَّن الذي يحدِّد المقصود منها، ولاينطبق هذا على الكلمة التي تفتقر إلى السياق في الجملة أو الخطاب(32).

-علاقة التناظر(أو التشابه):

تندرج علاقة التناظر بين اللُّغة والمصطلح في وظيفتي التبيُّن والتبيان الشاملين لكلِّ تجارب الإنسان(كما قدَّمنا)، فعن طريق وظيفة التبيُّن تتنوَّع التجارب الإنسانيَّة مع العالم ومع اللُّغة نفسها (وذلك مستوى التجربة العامَّة)، ولكنَّها تتخصِّص في حقل معرفيٍّ معيَّن (مستوى التجربة الخاصَّة)؛ وعن طريق وظيفة التبيان يحاول الإنسان وصف تلك الممارسات العامَّة كما يروم وصف الممارسة الخاصَّة؛ وكما أن التغيُّر اللسانيِّ يستجيب في مظهره المرجعيِّ للحاجة الحيويَّة للمعرفة اتي تقترن بتطوُّر العالم، وللحاجة إلى التواصل في كلِّ التجارب الجديدة، ومن دون هذه الحاجة الحياتيَّة لا تكون لغة، فكذلك تلبِّي الإمكانيَّة الإصطلاحيَّة الحاجة إلى “الإبداع المعجميِّ” عند كلِّ الناس في جميع المستويات، سواء في الاكتشاف العلميِّ أم التقدُّم الصناعيِّ، أو التغيير الاجتماعيِّ، أو حركة الفكر، أو طريقة الإحساس والفهم، أو في النشاط الروحيّْ(33). فعلاقة المصطلحات بالفكر وبمفاهيم الحقل الذي يستعمل تلك المصطلحات هي العلاقة نفسها المعقودة بين ألفاظ اللُّغة الطبيعيَّة وبين الفكر ومفاهيم الوجود، ذلك أنَّ التقابل الأساسيَّ بين “مفهوم” و”مصطلح” قد عُدَّ بمثابة تقابل زوجيٍّ بين “فكر” و”لغة”. أمَّا المصطلح في تمثيله للإسم والمسمَّى في حقل معرفيٍّ ما فليس إلاَّ نموذجاً لقضيَّة اللُّغة والمعنى أو اللَّفظ ومدلوله في اللُّغة العامَّة(34).

لننظر الآن في وجهي التناظر الحاصل بين النظامين المعجميِّ والاصطلاحيِّ، ثم في التناظر بين الوحدتين المعجميَّة والاصطلاحيَّة، ونبدأ بتناظر النظامين.

أ- تناظر النظامين: يتمثل في ما يلي:

– إنَّ النظام في المعجم اللُّغويِّ العامِّ عبارة عن مجموعة من الأسماء الخاضعة لترتيب تصنيفيٍّ، بيد أنَّ النظام في المعجم الإصطلاحيِّ عبارة عن نسق من القيم المتماثلة التحديد(35).

– إنَّ الحقول المعجميَّة (في إطار الدلاليَّات المعجميَّة) تمثِّل بنية عامَّة لمجموعات الكلمات المترابطة دلاليّاً، أمَّا الحقول الإصطلاحيَّة (في المصطلحيَّة) المستندة إلى الإطار نفسه، فتمثِّل بُنى خاصَّة لمجموعات الأسماء المحيلة على الموضوعات المجمعة في مراتب بواسطة مقاييس معبِّرة عن حدود تلك الأسماء؛ فالمصطلحيَّة تهتمُّ بالأنساق المعجميَّة للمواضيع والمنظِّمة للعلوم والتقنيَّات، أمَّا المعجميَّة العامَّة فهي أنظمة تحتيَّة للُّغة المستعملة(36).

ب- تناظر الوحدات: يتمثَّل في ما يلي:

– إنَّ الرمز اللسانيَّ سواءً كان وحدة معجميَّة أم وحدة اصطلاحيَّة له أبعاد أربعة: الأوَّل، بُعدٌ لغويٌّ يحدِّد خصائصه الصوتيَّة والصرفيَّة والنحويَّة والدلاليَّة. والثاني بُعدٌ فلسفيٌّ منطقيٌّ يعكس قدرة الإنسان على التجريد والتصنيف. والثالث، وظيفة معرفيَّة تراكميَّة تمكِّن من التبيُّن. والرابع، بُعدٌ اجتماعيٌّ يحدِّد وظيفته التواصليَّة الممكِّنة من التبيان(37). وتتناظر هذه الأبعاد في الوحدتين المعجميَّة والاصطلاحيَّة، على أنَّ أبعاد الأولى تتعلَّق بالنشاط الإنسانيِّ العام، وأبعاد الثانية ترتبط بالنشاط الخاصِّ بحقل معرفيٍّ معيَّن.

– إنَّ علاقة التناظر بين المدلولين (اللُّغويِّ والاصطلاحيِّ) في الرمز اللُّغويِّ الواحد تعني الوجه الدلاليَّ في الاستعمالين المختلفين لذلك الرمز، حيث تختلف دلالة كل استعمال باختلاف مرجع الرمز الذي يتغيَّر من دون أن يتغيَّر هذا الرمز(38).

– تخضع الوحدات الاصطلاحيَّة مثل الوحدات المعجميَّة للأصول والضوابط الصوتيَّة والصرفيَّة والتركيبيَّة والدلاليَّة.

– في المعجم العامِّ يتعالق مدلول كل وحدة مع وحدات أخرى من حقل معجميِّ معيَّن لتمثيل الحقول الدلاليَّة المختلفة؛ وفي المعجم الخاص تتعالق الوحدات الاصطلاحيَّة أيضاً حيث تعمل كلُّ واحدة منها على تحديد مجال أختها في حقل معرفيٍّ معيَّن. فتكون تلك الوحدات جهازاً كاشفاً للبنية الداخليَّة لذلك الحقل؛ فقيمة المصطلح مؤسَّسة فقط على علاقات واختلافات مع المصطلحات الأخرى، لا ينظر إلى مفهوم معيَّن إلاَّ في علاقته بنظام من المفاهيم داخل الحقل المعيَّن، كما هو الشأن تماماً في مدلول كلمة معيَّنة بالنسبة إلى المفردات التي يتعالق معها الحقل الدلاليُّ ذاته(39).

– نجد الاختلافات المتنوِّعة بين مفردات اللُّغة صرفاً وتركيباً ودلالة، تناظرها اختلافات مماثلة بين المصطلحات، ويقع هذا التناظر داخل اللُّغة الواحدة كما هو واقع بشكل أكثر تنوُّعاً بين اللُّغات المختلفة، إن على مستوى المعجم العامِّ أو على مستوى المعجم الخاصّْ(40).

– كما يبدأ المجاز اللُّغويُّ معلالاً بمحاورته للمعنى الحقيقيِّ أو مشابهته له، ثم ينسى الوجه المجازيَّ للَّفظ اللُّغويِّ (الوحدة المعجميَّة) في الغالب، ويمسي كأنَّه حقيقة لغويَّة، كذلك المصطلح يوضع معلالاً بنوع من الصلة بالمدلول اللُّغويِّ (الأصليِّ) للَّفظ ثم يُنسى التعليل غالباً(41).

– كما تنشأ مدلولات جديدة مؤثِّرة لبعض الدوال في الإبداعات المختلفة نتيجة تجارب المبدعين وانفعالاتهم، ثم يضعف عنصر القوة الإنفعاليَّة في تلك الدوال بعد طول الاستعمال، كذلك المصطلح، وخصوصاً في حقول العلوم الإنسانيَّة يبدأ قويَّ التأثير ثم يتحوَّل إلى دلالة اصطلاحيَّة عاديَّة باردة(42).

– التناظر حاصل أيضاً في درجة مقبولة المولّد(لغويّاً كان أم اصطلاحيّاً). ذلك أن المولّد لا ينجح إلاَّ إذا تجاوز استعماله واضعه أو المتَّفقين عليه إلى أكبر عدد من المتخاطبين(43). فمقاييس رواج مصطلح ما بين المشتغلين به هي نفسها مقاييس رواج المولِّد اللُّغويِّ بين المتخاطبين به؛ إلاَّ أننا نلاحظ أن المولِّد في اللُّغة العامَّة أكثر مقبوليَّة وأسرع شيوعاً من المصطلح التقنيِّ؛ وقد يرجع ذلك في عموم اللُّغة إلى تلقائية التوليد وارتباطه بالمعيش اليوميِّ وإلى طبيعته الجماعيَّة(بما في ذلك التأثير الإيحائيِّ للعقل الجماعيِّ)، وفي المصطلح الفنيِّ إلى تحكُّميَّة التوليد وتخصيصه وفرديَّة واضعه.

– التناظر في “الإبداعيَّة” (:(la créativité بما أنَّ العالم بوجهيه الظاهر والباطن في إنتاجيَّة متجدِّدة لا نهائيَّة، فإنَّ تأويله في البنية التصوُّريَّة للإنسان يتَّصف بالإنتاجيَّة المتجدِّدة غير المحدودة ذاتها، بحيث إنَّ البيان الإنسانيِّ يرتبط ببيان العالم في جدليَّة إنتاج وتأويل، وهذه الجدليَّة هي المولِّدة، في تقديرنا، لما دُعي “الإبداعيَّة” في النشاط اللغويِّ، وتتبدَّى هذه الإبداعيَّة على مستويين، الأول مستوى الرموز اللُّغويَّة العامَّة باعتبار أنَّها علامات للواقع المدرك بالحواسِّ والمتمثِّل في الذهن، سواء في مظهر الكلمة المفردة أم في مظهر الجملة؛ والثاني مستوى الرموز الخاصَّة وهي المصطلحات التقنيَّة. وإذا كان التوليد المعجميُّ داخلاً في الرمزيَّة اللغويَّة بما هي آلة ملاحقة للتفاوت بين لا محدوديّة الواقع التدريبيِّ العام ومحدوديَّة العناصر الصالحة للتعبير عنه، فإنَّ المصطلح بما هو رابط بين الآليَّة اللغويَّة والتجربة الإنسانيَّة الخاصَّة داخل في صميم القضيَّة اللُّغويَّة والإبداعيَّة المعجميَّة بالذات، ويصدق عليه أيضاً تحديد التوليد المعجميِّ، وهو أنَّه القدرة على خلق وحدات معجميَّة جديدة بموجب قواعد الإنتاج المتضمَّنة في النسق المعجميِّ(44)؛ بحيث إنَّ القواعد الساري مفعولها على الألفاظ المولدة في اللغة هي نفسها القواعد التي يسري مفعولها على المصطلحات التقنية إلا ما ندر.

 

4: من مشاكل الاصطلاح:

إذا كان الوضع الأول لكلمات اللُّغة لا يُلزم الدالَّ بمدلوله إلاَّ بقدر ما تعارف عليه مستعملو اللغة، فإنَّ المصطلح المعرفيَّ، الذي هو بمثابة وضع ثانٍ في الأغلب، أكثر تحلُّلاً من هذا الإلزام، ومن ثم قد يطلق المصطلح على مواضيع عديدة وقد تُطلق مصطلحات عديدة على موضوع واحد، كما قد لا يُتفق على معنى وحد للمصطلح، ولعلَّ ذلك راجع بالأساس إلى اقتناع المتخصِّصين في حقولهم المعرفيَّة، وربما حتى غير المتخصِّصين، بالطبيعة التواضعيَّة والإختياريَّة (إلى حدٍّ ما) للمصطلحات، على اعتبار انها مجرد وسيلة للتوصيل وأنهم ليسوا في حاجة إلى “إذن أو شرع متقدِّم” لوضع أسماء محدثة أو توليدها لما يتعاطونه من المعارف، بخلاف لغة التخاطب التي تترسَّخ لدى أهلها بالمحاكاة والتعليم والممارسة منذ نشوء الإدراك العقليِّ للمتكلِّم، حتى تغدو قدرته على إنجازها سليقيَّة بحيث يتطابق الدال ومدلوله في ذهنه تطابقاً كليَّاً (بما في ذلك المظهر الصوتيُّ والصورة الذهنيَّة لمرجع الدالّ)، يتعذَّر مع هذا التطابق زعزعة عناصره، ومع ذلك فإنَّه قد يحصل الخلل في فهم مراد المتكلِّم أحياناً كثيرة لما تحتمله كلمات اللُّغة من الإشتراك والمجاز والنقل والتضمين وغير ذلك.

أمَّا الشعور بالحريَّة في إطلاق المصطلحات على المفاهيم، فقد نجده عند المتخصِّص الواحد مثلما نجده في اختلاف متخصِّصين عديدين، فقد نُقل عن أبي العباس المبرد مثلاً أنَّه كان يجيز إطلاق مصطلح “الإسم” على كلِّ من الإسم والفعل الحرف (في النحو)، وقد يصل ذلك التحرُّر ببعضهم إلى أن يضع مصطلحاً جديداً يبتدعه لمفهوم مصطلحه الذي يوفِّيه حقَّه، وقد لا يكون الدافع إلى ذلك إلا التعالم أو التعصُّب أو الجهل(45).

على ذلك، فقد يعتري المصطلح المعرفيَّ صور من التعدُّد في المعنى أو اللفظ، رغم طموح المتخصِّصين في كلِّ حقل معرفيٍّ إلى تحقيق التميُّز المفهوميِّ لكلِّ مصطلح، هذا التميُّز الذي يتمُّ بواسطة قيمتين: أولاهما “قيمة التفرُّد” وتتعلَّق بالمصطلح، وثانيتهما “قيمة التوحُّد” وتتعلَّق بالمتخصِّصين في حقل معرفيٍّ معيَّن؛ ونعني بقيمة التفرُّد أن يتمخّض مصطلح وحيد للمفهوم لا يشاركه في ذلك لفظٌ آخر (عدم الترادف)، وأن يكون للمصطلح مدلول وحيد في حقله (عدم الاشتراك)؛ أمَّا المقصود بقيمة التوحُّد، فأن يتفق المتخصِّصون في كلِّ حقل معرفيٍّ على المصطلح الخاصِّ بمفهومه من غير أن يختلفوا في تصوُّر ذلك المفهوم؛ ومتى ما تحقَّقت في مصطلحات المعارف الإنسانيَّة قيمتا التفرُّد والتوحُّد على أوسع نطاق، كانت تلك المعارف مساعدة للإنسان على أداء وظيفتي التبيُّن والتبيان اللتين على أساسهما يقوم البيان الإنساني.

ونُبسط في ما يلي الكلام على ما يعتري قيمتَي التفرُّد والتوحُّد من تعدُّد ومن اختلاف.

التعدُّد:

يعتري التعدُّد المصطلح من جهتين: إمَّا في المعنى(الاشتراك الإصطلاحيِّ)، أو في اللَّفظ (الترادف الإصطلاحيِّ)، وتتجلَّى كلٌّ منهما إمَّا في نفس الحقل المعرفيِّ أو في حقلين أو أكثر، ونفصِّل ذلك في ما يلي:

أ-التعدُّد في المعنى: وتناظر هذه الظاهرة ما يقع في لغة التخاطف من مجاز ونقل واشتراك لفظيٍّ وتضادٍّ(في اللَّفظ الواحد)، وتجتمع كلُّها في إطار ما يعبَّر عنه “بالتوسُّع الدلاليِّ” الذي يساعد عليه تداخل التصوُّرات في التجربة الإنسانيَّة، وهو عامل سلبيٌّ في الحقل المعرفيِّ الذي يسعى أهله لتخصيص المصطلح بمفهوم وحيد في إطار ما يسمَّى “التضييق الدلاليِّ”، ولكنَّه يصطدم بالحمولات الدلاليَّة للَّفظ سواء في تصوُّر المستعمل أو تصوُّر المتلقِّي؛ وإذا كان الدالُّ الحقيقيُّ في اللُّغة الطبيعيَّة هو المتكلم، فإن المخصص  الحقيقي أيضاً في جهاز الإصطلاح هو واضع المصطلح أو مستعمله في حقل معيَّن، وهو الذي يحدِّد مرجعيَّة هذا المصطلح(46)؛ ونتبيَّن التعدُّد المفهوميَّ الممكن للمصطلح الواحد في مجلَيَين:

أ/1- مجلى حقل واحد: وقد يقع بسبب توسيع مفهوم المصطلح من لدن الواضع كما فعل المبرد في المثال المذكور آنفاً، وكما أطلق النحَّاة مصطلح “المفرد” مثلاً على الجنس وبعضه وواحده وعلى ما يقابل المثنى والجمع وما يقابل المركب والمضاف والجملة(47)؛ كما أنَّ التعدُّد يمكن أن يقع بسبب الطبيعة التجريديَّة والتطوُّريَّة لبعض الحقول المعرفيَّة كالفلسفة مثلاً، حيث تختلف فيها المذاهب أحياناً بسبب الاختلاف في مفاهيم الألفاظ، أو بسبب التطوُّر الذي يصيبها؛ فقد عرف الفكر في حقلي الدين والفلسفة اختلافات شتَّى في مثل مفاهيم “الروح” و”القلب” و”النفس” و”العقل” و”الحريَّة” و”الديمقراطيَّة” و”الأيديولوجيا” وغيرها؛ كما أنَّ بعض مفاهيم هذين الحقلين تطوَّرت عبر العصور مثل مفهوم الفقه ومفهوم العلم (في الدين) ومفهوم الاشتراكيَّة (في الفلسفة)(48).

أ/2- مجلى حقول مختلفة: ومردُّ التعدُّد المفهوميِّ للمصطلح إلى سببين: الأول هو الاشتراك في أصل واحد وهو اللُّغة الطبيعيَّة التي منها الحمولة الأصليَّة لدلالة المصطلح، لذلك نجد أنَّ من أراد تحديد مصطلح بدأ بمعناه اللُّغويِّ، والسبب الثاني اقتباس بعض الحقول من بعض، ومن ثمَّ أمكن الحديث عن “المشترك الاصطلاحيِّ” و”الاقتراض” و”النقل” بين حقول معرفيَّة مختلفة. فلفظ “التأسيس” مثلاً عند اللغويين يُطلق على لفظ يفيد معنى جديداً وهو خلاف “التأكيد”، وفي علم العروض يُطلق على ألف ساكنة بينها وبين الرويِّ حرف؛ وتأسيسات القمر عند المنجِّمين تُطلق على مراكز مداره؛ كما أنَّ لفظ “المع” في الرياضيَّات زيادة عدد على آخر، وفي علم البديع الجمع بين شيئين أو أشياء في حكم واحد، وفي علم أصول الفقه أن يجمع بين الأصل والفرع لعلَّة مشتركة بينهما ليصحَّ القياس (ويقابله الفرق)، وفي المنطق معناه أن يصدق المعرِّف (بالكسر) على جميع أفراد المعرَّف (بالفتح) وهو مدلوله عند المتكلِّمين أيضاً، وفي النحو والصرف يعرفون الجمع بأنَّه صيغة مبنيَّة من الواحد للدلالة على العدد الزائد على الاثنين؛ أمَّا عند بعض الصوفية فهو إشارة إلى شهود الحقِّ بلا خلق(49).

ب- التعدُّد في اللَّفظ: وتناظر هذه الظاهرة في المصطلح ظاهرة الترادف في لغة الخطاب العام، هذه الظاهرة التي اختلف في أمرها اللغويّون من قديم بين مُثبِت لوجودها ومُنكِر له أصلاً؛ ومردُّ هذا الاختلاف إمَّا إلى خلط الدارسين بين المنهج التزامنيِّ (synchronie) والمنهج التطوُّريِّ (Diachtonie) إذ إنَّهم دمجوا اللَّهجات العربيَّة المختلفة ومستويات الأداء المتفاوتة فيها بعضها ببعض؛ وإمَّا بسبب ندرة الترادف التامِّ في اللُّغة المستعملة عادة، وقصر الزمن الذي يبدأ فيه وينتهي ذلك الترادف، إذ سرعان ما تظهر فروق معنويَّة دقيقة بين مدلولات الألفاظ المترادفة فيتخصَّص كلُّ لفظ للتعبير عن جانب معيَّن من المعنى الجامع لتلك المدلولات، ثم تتجمَّع بعض تلك الألفاظ من جديد في ما بينها أو مع غيرها في استعمال خاصٍّ وزمن معيَّن؛ فهي دوماً في تقارب وتباعد عبر التطوُّر اللغويِّ؛ وكثيراً ما يُوظَّف الترادف الكلِّيُّ أو الجزئيُّ في تنويع وسائل التعبير سعياً لتوضيح المعاني الغامضة، وتنويع أساليب النظم والكتابة، وتلوين الظلال والإيحاءات المتفاوتة في تلك الأساليب؛ ولكن الإسراف في حشد المترادفات قد يصبح اصطناعاً لا روح فيه إذا فرغ محتواه(50).

أمَّا حصول الترادف في المصطلح التقنيِّ الخاصِّ فإنه ظاهرة سلبيَّة غالباً ما تؤدِّي إلى انعدام التحديد النافي للدقَّة المتوخَّاة في هذا المصطلح. ولنبحث عن أسباب وقوع الترادف في كل مجلى، كما فعلنا في ظاهرة الاشتراك.

ب/1- مجلى حقل واحد: ويرجع سبب وجود الترادف الاصطلاحيِّ في الحقل الواحد إلى أسباب أهمُّها:

-تعدُّد الواضعين للمصطلح أفراداً كانوا أو جماعات(منظَّمات او اتجاهات أو بلداناً أو غير ذلك)؛ ففي المصطلحات السياسيَّة والقانونيَّة مثلاً نجد أنَّ”الدستور” في المغرب ومصر ولبنان وسوريا يسمَّى “القانون الأساسي”: في العراق والأردن؛ و”المرسوم” في مصر ولبنان وسوريا هو “الإرادة الملكيَّة” (في العهد الملكيِّ) في العراق؛ و”محكمة التمييز” في سوريا ولبنان هي “محكمة النقض والإبرام” في مصر؛ و”السلك الدبلوماسي” في المغرب وسوريا هو “السلك السياسي” في مصر. أمَّا المصطلحات العسكريَّة فهي أشدُّ اختلافاً بين هذه البلدان “العربيَّة”، وذلك راجع بالدرجة الأولى إلى اختلاف الـ”تيرمات” عن الإنكليزيَّة والفرنسيَّة؛ وربما كان هذا الاختلاف أهون ممَّا وقع في المصطلحات العلميَّة، فمثلاً “علم الطبيعة” في مصر هو”الفيزياء” في العراق والمغرب؛ و”النظريَّة” في مصر والعراق وتسمَّى “الفرضيَّة” في الشام؛ وعُرب “البندول” في مصر “بالخطار” وفي العراق “بالرقَّاص” وفي سوريا “بالنواس”؛ وفي الرياضيَّات يُقال في المغرب وفي الشام “الصورة والمخرج” لجزأي الكسر العاديِّ، وفي مصر يُقال”البسط والمقام”.

– اختلاف الزمان: نجد اختلافاً بين المتقدِّمين والمتأخِّرين في اصطلاحات بعض المعارف والعلوم، مثل مصطلح “علم العدد” قديماً إلى تطوُّر إلى مصطلحيٍّ “الحساب” و”الرياضيَّات”؛ ومصطلح “علم المناظر” الذي تطوَّر إلى “الهندسة المستوية”؛ ومصطلح “علم الحبل” الذي أصبح “علم الميكانيكا”؛ ومصطلح “العين”(في علم الكلام والفلسفة) الذي استعيض عنه بمصطلح “الجوهر”.

-التعليم والتأليف: يقتضي هذان النشاطان زيادة شرح أو توضيح أو تحديد بما يراه المعلِّم أو المؤلِّف مناسباً للتلاميذ أو القراء، أو بما يرتاح إليه، فينساق إلى وضع مرادفات للمصطلحات الموجودة أو الاستعاضة عن هذه المصطلحات بأخرى من وضعه(51).

ب/2- مجلى حقول مختلفة: وهذا القسم نادر جداً ذلك أن اقتضاء الاختلاف بين الحقول المعرفيَّة للتباين بين مصطلحاتها أولى من اقتضاء الحقل الواحد للتمايز بين مصطلحاته، ورغم ذلك نجد مثلاً أنَّ مصطلح “التواصل” مختصٌّ بالقرآن وهو ما يسمَّى “رويا” او “قافية” في الشعر و”مقاطع السجع” في النثر(52)؛ ونجد أن المحدَثين استعملوا مصطلح “الخبر” في ما يُروى عن السلف في حين استعمل الفقهاء لذلك مصطلح “الأثر”(53).

الاختلاف:

ذكرنا من قبل أنَّ قيمة “التوحُّد” بين المتخصِّصين في حقل واحد حول معنى المصطلح، تُعتبر من أهمِّ شروط التقارب والتفاهم والإنتاج في ذلك الحقل، لكن “الاختلاف” كثيراً ما يقع حول ذلك المفهوم، وخصوصاً في غير العلوم الدقيقة والمادِّيَّة كالسياسة والقانون والفلسفة، حيث قد يشتدُّ الخلاف ويطول حول وضع اللفظ المناسب، أو تأويله بين المشتغلين في الحقل الواحد من هذه الحقول، وإذا لم يقع التراضي بين المختلفين على مصطلح واحد أو معنى واحد للمصطلح، فإنَّ الخلاف يكون سبباً في توليد المشترك والترادف الإصطلاحيين. وقد نبّه بعض علماء السلف من المسلمين إلى أنَّ أكثر الخلاف إنَّما نتج “من جهل أقوام طلبوا الحقائق من الألفاظ فتخبَّطوا فيها لتخبُّط اصطلاحات الناس من الألفاظ”(54).

ويمكن أن نجمل القول عن المصطلح الصوفيِ، تعقيباً على ما سبق، فنقول إنَّ هذا المصطلح عرف التعدُّد والاختلاف أيضاً في صور محدودة من حيث صِيَغهِ اللفظيَّة، ولكن في معان غير محدودة بسبب تنوُّع التجارب الروحيَّة وتفاوتها، وهذا التفاوت وذاك التنوُّع هما اللذان يتحكَّمان في مضامين المعجم الصوفيِّ، بحيث إنَّهما ينشئان علائق خاصَّة بين الدوال ومدلولاتها من جهة، وبينهما وبين مصطلحات أخرى في المنظومة الإصلاحيَّة للسلوك الصوفيِّ، وتلك العلائق تختلف أحياناً كثيرة عن علائق الألفاظ نفسها في المعجم اللغويِّ أو في الحقول الدلاليَّة لتلك الألفاظ؛ فتجد  المعنى في مصطلح “التوبة” مثلاً، راجعاً إلى تدرُّج السلوك أو تصنيف التائبين،  فـ”توبة العامَّة” تختلف عن “توبة الخاصَّة” وهذه هي “توبة خاصَّة الخاصَّة”، ممَّا يصبح معه لفظ  التوبة من “المشترك الصطلاحي” عند القوم؛ ونجد أنَّ مصطلح “الخوف” مثلاً مرادف لمصطلح “القبض” ولكن باعتبار التدرُّج أو التصنيف كذلك؛ أمَّا اختلاف التعاريف للمصطلح الواحد فهو بحسب الذوق (أو المشرب أو المقام أو الوقت) عند كلِّ صوفيٍّ، هذا الذوق الذي يُحكم عليه عادة من وجهة النظر العامَّة بأنَّه ذاتيٌّ (غير موضوعي). ولكنَّه عند الصوفيَّة عين “الموضوعيَّة الروحيَّة” التي يعتبرونها أوسع من كلِّ موضوعيَّة “وضعيَّة”، ذلك أنَّ كلَّ صوفيٍّ “يسلم” للآخر فهمه أو ذوقه باعتبار مقامه أو وقته (حاله)؛ وفي الوقت ذاته فإنَّ الصوفيَّة أكثر إدراكاً من غيرهم للطبيعة”المجازيَّة” و”التحكميَّة”(الاعتباطيَّة) للُّغة، ذلك أنَّ اختلاف تجربتهم الروحيَّة عن الحياة العام يجعلهم يفرِّقون بين مدلول اللَّفظ بحسب “العرف العامِّ” ومدلوله بحسب “العرف الخاصِّ” الذي يشعرون به ولا يدرك منه غيرهُم إلاَّ المعنى العرفيِّ العامِّ؛ ومن ثم فإنَّهم اعتبروا اصطلاحاتهم وتعريفاتها مجرَّد “إشارات” إلى معان هم أدرى بحقيقتها، وهذه الحقيقة ليست هي المصطلح المشار إليه، كما أنَّ اللَّفظ اللغويَّ ليس هو ما يدلُّ عليه(55).

على ذلك، فإنَّ الإشكاليَّة الكبرى في التراث الصوفيِّ المكتوب أو المنطوق، هي إشكاليَّة “المعرفة واللُّغة” التي تتمثَّل عند القول في التجربة الروحيَّة الخاصَّة والتعبير عنها بلغة الناس العام، أو في الحقيقة الوجدانيَّة وتأويلها بالعبارة (الإشاريَّة) أو المصطلح.

 

 

 

(1) المصباح المنير، الفيومي، مادة “ص ل ح”.

(2) التعريفات، الشريف الجرجاني، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة، عالم الكتب، بيروت 1987، ص 50؛ الكليَّات، ص 53.

(3) مفاتيح العلوم، الخوارزمي الكاتب، دار الكتب العلميَّة، بيروت، د ت ص 2؛ كشاف إصطلاحات الفنون، ج1، ص 1.

(4) البيان والتبيين، الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، د.ت. ج1، ص 140؛ المغني في أبواب التوحيد والعدل، القاضي عبد الجبار، تحقيق محمود محمد الخضري، القاهرة، 1965، ج5، ص 175؛ في اللغة والأدب، د. إبراهيم مدكور، دار المعارف، مصر 1971، ص 81.

(5) الهوامل والشوامل، أبوحيان التوحيدي ومسكويه، نشر أحمد أمين والسيد أحمد صقر، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1370هـ/1951م، ص 137؛ رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، دار صادر، بيروت 1377هـ/1957م، ج1، ص 262.

(6) الكليَّات، ص 290-291.

(7) وذلك حسب كانظ، critique de la raison pure, KANT, trad. A. Tremesaygues et B.Pacaud, P.U.F. 4eme edit, Paris, 1965 pp. 150-156.

(8) la terminologie, A,REY, P.U.F. paris, 1979, pp. 32

(9) حسب توصية: ISO/R 1087 منذ سنة 1969؛ أنظر مجلَّة “اللسان العربي”، عدد 29، الرباط، 1987، ص 113.

(10) وذلك في توصية ISO/R 704 سنة 1977؛ أنظر: la terminologie, pp. 30

(11) ibid. p. 35.

(12) “التصوُّريَّة والدلاليَّة” نيد وبيتي، ترجمة محمد حلمي هليل، مجلَّة “اللسان العربي”، عدد 29، الرباط، 1987، ص 113-114.

(13) المقال السابق، ص 114-115.

(14) المصدر نفسه، ص 115 و117.

(15) المصدر نفسه، ص 111.

(16) كتاب الألفاظ المستعملة في المنطلق، الفارابي، تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، 1968، ص 43.

(17) الحيوان، ج1، ص 332؛ الصاحبي، ص 63؛ سرُّ الفصاحة، الخفاجي، دار الكتب العلميَّة، بيروت، 1402هـ/1982م، ص 128؛ أساس التقديس، ص 160و170و177؛ دورالكلمة في اللغة. س. أولمان، ترجمة د.كمال بشر، مكتبةالشباب، القاهرة، 1975، ص 765؛ Du sensKpp..14.

(18) المستصفى، ج1، ص 326.

(19) Elémemts de sémantique, p7

(20) la terminologie, p7؛ علم المصطلح بين المعجميَّة وعلم الدلالة” د. عثمان بن طالب، وقائع الندوة الدوليَّة لجمعيَّة اللسانيَّات بالمغرب، منشورات عكاظ، الرباط، 1987، ص 155.

(21) شرح شمس الدين المحلى على جمع الجوامع للسبكي، ج1، ص 308.

(22) التعريفات، تحقيق د. عميرة، ص 50.

(23) الإحكام في أصول الأحكام، سيف الدين الآمدي، دار الكتب العلميَّة، 1403ه/ 1983م، ج1، ص 28 و38؛ التعريفات، ت.د. عميرة، ص 255.

(24) المستصفى، ج1، ص 326.

(25) المصطلحات العلميَّة في اللغة العربيَّة، مصطفى الشهابي، مجمع اللغة العربيَّة بدمشق، مصورة عن ط 2، 1409هـ/1988م، ص 9-16.

(26) الكليَّات، ص 322.

(27) الإحكام، الآمدي، ج1، ص 39؛ مفتاح العلوم، أبو يعقوب السكاكي، ضبط نعيم زرزور، دار الكتب العلميَّة، بيروت 1403هـ/ 1983م، ص 164؛ ويقول الشهابي: “لا بدَّ في كلِّ مصطلح من وجود مناسبة أو مشاركة أ, مشابهة… بين مدلوله اللغويِّ ومدلوله الإصطلاحي” المصطلحات العلميَّة، ص 4.

(28) الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم الأندلسي، ج1، ص 44؛ دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، تحقيق محمود شاكر، مكتبة الخانجي، ط2، القاهرة، 1410هـ/1989م،  293-303.

(29) المستصفى، ج1، ص 326.

(30) la terminologie, p. 18

(31) ibid p. 26

(32) دور الكلمة، ص 89؛ la terminologie, pp. 34.

(33) la créatvité lexical, L. GUILBERT, Larousse, paris, 1975, pp. 15

(34) la terminologie, pp. 3 et 17.

(35) ibid, pp. 7

(36) ibid. pp, 23-24.

(37) مقال: “علم المصطلح…” ص 172.

(38) la terminologie, pp. 7؛ المقال السابق ، ص 155.

(39) دور الكلمة، ص 89؛ clefs pour la sémantique. G. mounin, Seghers, Paris, 1975. Pp 70

(40) اللسانيَّات واللغة العربيَّة، عبد القادر الفسي، دار توبقال، الرباط 1985، ج2، ص 288-299.

(41) علم الدلالة، بيير غيرو، ترجمة أنطوان أبو زيد، منشورات عويدات، بيروت 1986، ص 29-39.

(42) المرجع نفسه،  ص 46.

(43) la créativité, pp. 44.

(44) ibd. Pp.11 et 14-15.

(45) الإيضاح في علل النحو، أبو القاشسم الزجاجي، تحقيق مازن المبارك، دار النفائس، ط2، بيروت 1973م ص 44؛ المغني،/ ج 5، ص 175؛ إرشاد الفحول، الشوكاني، دار الفكر، بيروت، د.ت.ص 27.

(46) إرشاد الفحول، ص 145؛ la terminologie, pp. 21-clefs, 16 et 243

(47) الإيضاح في علل النحو، ص 44؛ الحدود في النحو، أبو الحسن الرماني، دار الجمهوريَّة، بغداد، 1969م، ص 39، الكليَّات، ص 859.

(48) دور الكلمة، ص 211-212؛ خريف الفكر اليوناني، عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصريَّة، ط3؛ القاهرة، 1959، ص 153-154؛ المعجم الفلسفي، جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني، بيروت، د.. ج1، ص 7-8 و14.

(49) الحدود في النحو، ص 39، ص 416؛ كشاف اصطلاحات الفنون، ج 1، ص 106-107 و 330-335.

(50) المزهر، ج1، ص 402-407؛ جور الكلمة، هامش ص 97-112.

(51) إحصاء العلوم، الفارابي، تحقيق عثمان أحمد، مكتبة الأنجلو المصريَّة، ط3، القاهرة 1968، ص 93-110؛ البيان والتبيين، ج1، ص 140؛ المزهر، ج 1، ص 406؛ المصطلحات العلميَّة، ص 128-142؛ في اللغة والأدب، ص 91؛ وقد أرجع ديدرو أسباب الترادف في لغة الفنون إلى الوضعيَّة الإجتماعيَّة والمهنيَّة للواضعين، وخُطِّئ رأيه في ما بعد، أنظر: 6-5. La terminologie, pp. 5-6.

(52) إعجاز القرآن، ص 61.

(53) كشاف إصطلاحات الفنون، ج2، ص 17.

(54) إحياء علوم الدين، ج 1، ص 84.

(55) يرجع د. طه سبب اعتبار اللُّغة محدودة وغير ملائمة ولا دقيقة إلى أنَّه أريد منها أن تنطق بالأشياء نفسها التي تدلُّ عليها، وأن تصبح العلامات اللسانيَّة موجودات مطابقة لأعيان الموجودات الخارجيَّة. أنظر: langage et

philosophie, A. TAHA, inprimerie de fedala, 1979, pp. 155.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى