الدراسات والبحوث

دلالة الفتوَّة في القرآن والتصوُّف

دلالة الفتوَّة في القرآن والتصوُّف

د. أحمد ماجد

رئيس قسم الدراسات في معهد المعارف الحكمية- بيروت

 

ملخَّص إجمالي:

 

يُعالج هذا البحث دلالة مفهوم “الفتوَّة”، ويبدأ بمقاربة سريعة لكيفيَّة حضوره في الجاهليَّة من خلال قيم اجتماعيَّة كالصدق والوفاء وإغاثة الملهوف وإكرام الضيف، ويوضح أنَّ هذه الدلالات تجتمع في قيمة أساسيَّة هي المروءة، التي ميَّزتها عن “الصعلكة”، ثم ينتقل إلى المرحلة الإسلاميَّة التي أقرَّت هذا المفهوم ولكنَّها أشبعته بالمعاني الدينيَّة، وربطت بينه وبين حركة النبوَّة في الاجتماع الإنسانيّ. من هنا، يذهب لينظر إلى كيفيَّة حضور المفهوم في الدلالات القرآنيَّة، فيستعرض عددًا من الأمثلة التي تعطي صورة واضحة عنه. وبعد أن يرسم الإطار، ينتقل إلى الصوفيَّة ورصد حضور المفهوم فيها.

في المقابل، يؤثر البحث عدم الدخول في القراءة التاريخيَّة الخاصَّة بـ”الفتوَّة” انطلاقًا من وجهة نظر ترى أنَّ حركاتها التي عرفتها المجتمعات الإسلاميَّة في القرنين الثاني والثالث للهجرة، لها علاقة بالصراع السياسيِّ الذي عمل على الاستثمار بالمفاهيم الإسلاميَّة ليبني على أرضيَّتها قاعدة للسلطة أو المعارضة. وبالتالي، فمجال البحث فيها ليس هذا المورد الذي نشتغل عليه.

 

الكلمات المفتاحيَّة:

القرآن، الفتوَّة، المروءة، الجاهليَّة، الإسلام، النبيّ، الأنبياء، النبيُّ يوسف، النبيُّ إبراهيم، أهل الكهف، القِيَم.

 

This research deals with the significance of the concept of “futuwa”, and begins with a quick approach to how it was present in the Jahiliyyah through social values such as honesty, loyalty, and relief to the guest… It explains that these connotations combine in a basic value, which is “mouraa”, which distinguished it from the “saalaka”, and then moves to the Islamic stage Which endorsed this concept, but saturated it with religious meanings, and linked it to the prophecy movement in the human society. From here, the research went to look at how the concept is present in the Qur’anic connotations, and it reviewed a number of examples that give a clear picture of it. Having drawn the framework, he moved on to Sufism and observed the presence of the concept.

The research chose not to enter into the historical reading of the “futuwa” from a point of view that considers that the movements of the futuwa known to Islamic societies in the second and third centuries of the Hijrah are related to the political struggle, which worked to invest in Islamic concepts to build on its ground a base for power or opposition. Therefore, the field of research in it is not this resource that we work on.

Keywords: the Qur’an, futuwa, women, pre-Islamic times, Islam, the Prophet, prophets, Prophet Yusuf, Prophet Ibrahim, people of the cave, values.

 

 

 

 

 

البحث:

 

يقود الحديث عن الفتوَّة في الإسلام إلى التصوُّف، وإن كان لا يحصر فيه، فهذا المصطلح أكثر سعة بحيث يشمل “فتوَّة الفرسان” و”فتوَّة العيارين” و”فتوَّة الصوفية” و”فتوَّة الماجنين”، وهذه التوجُّهات تتَّصل في ما بينها بالشكل الذي يؤشِّر إلى حالة اجتماعيَّة تجتمع حول غرض معيَّن، ولكنّها تفترق في الغايات التي تسعى بها.

وهذا الأمر يقودنا إلى تحديد حقل البحث وحصره في المجال الصوفيِّ، حتى لا يلتبس الأمر على القارىء، وهو سيعمل على تبيين كيفيَّة ظهور التسمية، وإبراز العلاقة بينها وبين التصوُّف عبر تحديد المعايير التي يتمُّ من خلالها إطلاق هذه التسمية على مجموعة محدَّدة.

 

  • تحديد سريع لأصل المفهوم:

 

الفتوَّة من الألفاظ العربيَّة التي تدلُّ على مرحلة عمريَّة معيَّنة، وعندما يُقال فتِيّ -بالكسر- يُراد منها فتيُّ السنِّ، الذي يتميَّز بالنشاط والحيويَّة، ولكن هذه الدلالة أخذت بالتوسُّع في الشعر الجاهليِّ، لتحمل مفاهيمٍ قيميَّة تُؤشِّر إلى جملة من الخصال التي يجب أن يتحلَّى بها الإنسان، وهذا ما يظهر من خلال قول طرفة بن العبد:

 

إذا القوم قالوا من فتًى خلتُ أنَّني      دُعيتُ فلم أكسل ولم أتبلَّدِ

          ولستُ بحلَّالِ التِّلاعِ مخافةً            ولكن متى يسترفد القوم أرفدِ

              فإنْ تبغِني في حلقةِ القوم تلقَني     وإن تلتمْسني في الحوانيتِ تصطدِ[1]

 

ومن خلال أبياته هذه نلاحظ أنَّ الفتوَّة تحمل معنى نجدة الآخر، والمشورة الصالحة، والإقدام على مواجهة الأعداء، كما أنّها تقترن بالَّلهو والَّلذة والاستمتاع بشرب الخمرة في الحوانيت.

في السياق عينه، يقول مسكين الدارمي:

 

وفتيان صدقٍ لستُ مُطلِعَ بعضهم     على سرِّ بعض غير أنّي جماعُها

لكلِّ أمرئٍ شِعْبٌ من القلب فارغٌ     وموضعُ نجوى لا يرامُ اطلاعُها

       يظلَّون شتَّى في البلادِ وسرُّهم           إلى صخرةٍ أعيا الرّجالَ انصداعُها[2]

 

وهنا أضاف الشاعر الصدق إلى الفتيان، وجعل نفسه حافظًا للأسرار، فكان كالعقد الذي يجمع الحبَّات، ولكلِّ رجل جانب من قلبه ينفرد به عن غيره، لا يطَّلع عليه آخر، وهو من خلال قوله هذا، وضع  صفة جديدة للفتوَّة، هي حفظ السرّ.

بدوره، يقول كعب بن زهير:

 

لعَمرُكَ ما خَشيتُ عَلى أُبَيٍّ     مَصارِعَ بَينَ قَوٍّ فَالسُلَيِّ

وَلَكِنّي خَشيتُ عَلى أُبَيٍّ      جَريرَةَ رُمحِهِ في كُلَّ حَيِّ

مِنَ الفِتيانِ مُحلَولٍ مُمِرٌّ             وَأَمَارٌ بِإِرشادٍ وَغَيِّ

أَلا لَهفَ الأَرامِلِ وَاليَتامى     وَلَهفَ الباكِياتِ عَلى أُبَيِّ[3]

يعتبر الشاعر هنا أنَّه لم يخشَ على الرجل أن يُصرع بين هذين الموضعين، أي أن يموت حتفَ أنفِه، وإنَّما خشيَ عليه جرائره وطعنه في الأحياء: “ومحلُّ الشاهد في أنَّه وصفه بأنَّه سهل الخلق وطيّب الجانب، يتناهى في الحلاوةـ وإن استدعت الظروف، يتناهى في المرارة إن استدعت الظروف، وأنَّه نافذ الإرادة، يأمر أحيانًا بالرَّشاد، وأحيانًا بالغيّ، وهذا الوصف بالصعلوك الخيّر أشبه”[4].

إلى هذا، يقول امرؤ القيس:

 

عليها فتىً لم تحملِ الأرضُ مثلَه      أبرَّ بميثاقٍ وأوفى وأصبرا[5]

 

وهنا يحدُّد بقوله صفات الفتوَّة التي تتمثَّل بالوفاء والصبر.

إذا نظرنا إلى الصِّفات التي تحدَّث عنها الشعراء في الجاهليَّة، نلاحظ أنَّها وسَّعت من دلالة الفتوَّة لتشمل عناوين تدخل في إطار الفضائل الأخلاقيَّة باستثناء ما يتعلَّق بالنساء والخمرة والسرقة والنهب، وهذا الجانب الأخير كان أكثر التصاقًا بفكرة “الصعلكة”، بل من الممكن أن نراه عنصرًا يميّز بينهما، حيث تصبح الفتوَّة لصيقة بالخصال الحميدة في حين أنَّ الثانية تدخل فيها العناصر التي سبق أن ذكرناها، وهي لا تقدح في الشخصيَّة الجاهليَّة التي كانت لا تنظر إليها باعتبارها أمورًا مستغرَبة. ولعلّ هذا ما دفع المستشرق غولدتسهير إلى اعتبار أنَّها: “مبدأ معنويٌّ تدور عليه الأخلاق الكريمة من حيث أنَّها كانت تجمع بين السَّخاء والوفاء وحفظ الجوار والأخذ بالثأر”[6]، وتجتمع تحت عنوان واحد هو المروءة، وإن كان أبو الريحان البيروني يعتبر أنَّ: “المروءة تقتصر على الرَّجل في نفسه وذويه وحاله، والفتوَّة تتعدَّاه وإياها إلى غيره، والمرء لا يملك غير نفسه وقيمته التي لا ينازع في أنَّها له، فإذا احتمل مغارم الناس وتحمَّل المشاقَّ في إراحتهم، ولم يضنّ بما أحلَّ اللّه له وحرَّمه على من سواه فهو الفتى الذي اشتهر بالقدرة عليها […]، ولهذا حُدِّدت الفتوَّة بأنَّها بشر مقبول، ونائل مبذول، وعفاف معروف، وأذى مكفوف”[7]. وبهذا يرى البيروني أنَّ المروءة فضيلة ذاتيَّة للإنسان في حين أنَّ الفتوَّة تتعدَّاها باتِّجاه الواقع العمليِّ، فتنعكس من خلال سلوكيَّات مع الآخرين.

وينبغي القول هنا أنَّ الإسلام الذي جاء بثورة شاملة على الجاهليَّة، لم يلغِ الفتوَّة بل أقرَّها وعمل على تعميمها، وأدخلها في صلب تعاليمه، ولا يوجد فرق جليٌّ بين الفتوَّة الجاهليَّة والإسلاميَّة من حيث سعيهما إلى الفضائل، وإن اكتسبت مزايا الخلق الدينيِّ الطاهرة، وغدت إحدى المثل الرئيسيَّة العليا للدين الإسلاميّ[8] ، وتورد الكتب أحاديث عن النبيِّ يصف نفسه بهذه التسمية: “ففي معاني الأخبار، بإسناده عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن جدِّه عليهم السّلام، قال: إنَّ أعرابيًّا أتى رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله فخرج إليه في رداء ممشّق[9] فقال: يا محمد لقد خرجت إليَّ كأنك فتى!! فقال صلّى اللَّه عليه وآله: نعم يا أعرابيّ أنا الفتى بن الفتى وأخو الفتى، فقال: يا محمد أمَّا الفتى فنعم وكيف ابن الفتى وأخو الفتى؟ أما سمعت اللَّه عزَّ وجلَّ يقول: ﴿سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ‏﴾[10] فأنا ابن إبراهيم، وأما أخو الفتى فإنّ مناديًا نادى في السماء يوم أحد: لا سيف إلَّا ذو الفقار ولا فتى إلَّا علي، فعلي أخي وأنا أخوه، فحينئذٍ يكون معناه السلام عليكم يا أهل بيت الفتوَّة، وأمَّا كونهم أهل المجد والشرف والحسب فأظهر من الشمس وأبيَن من الأمس كما لا يخفى”[11]. وإلى هذا المعنى يشير أبو العلا عفيفي حين يقول:   “وُجِدَت الفُتوَّة قبل الإسلام وفي الصَّدر الأول منه في بلاد العرَب وفارس. وبها لُقِّبَ عليُّ بن أبي طالب وأهلُ بَيته. ولكنَّها كانت إلى ذلك العهد أمرًا فرديًّا لا وجود له في جماعةٍ مُنظَّمة”[12].

على أيِّ حال، بقيت هذه التسمية فاعلة، ويُنظر إلى حياة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله باعتبارها خير ممثِّل للفتوَّة، حيث تعكس حياته ذلك الترابط العميق بين الأبعاد الروحيَّة والأخلاقيَّة والجسديَّة، وتلاقي الظاهر بالباطن والحسَّ بالمعنى، في السيرة النبويَّة هو ارتباط الظاهر بالباطن، ارتباط الجسم بالرُّوح، ارتباط الحسِّ بالمعنى، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾[13]، حيث تتحدَّث هذه الآية عن معايير وُجدَت في النبيِّ، تجمع بشكل وفير الظاهر المتمثِّل بالجسم والباطن المتمثّل بالعلم، فإذا كانت الفتوَّة هذه الجامعيَّة المتمثِّلة بالفروسيَّة والإقدام والباطن والعلم والبذل والعطاء والإيثار والنشاط، يكون النبيُّ الخاتم هو التمثُّل الأتمَّ، وهذا الأصل هو الذي جعل “ابن عربي” يعتبر أنَّ مقام الفتوَّة هو مقام القوَّة: “ومن لا قوَّة له لا فتوَّة له”[14]، وهذا ما يلتقي مع قول النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: “المؤمن القويُّ خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك[15]. وإذا نظرنا إلى كلام السيدة خديجة عليها السلام عندما جاءها مخبر بنزول الوحي، نستطيع أن نتعرَّف على بعض الصفات والخصال الحميدة التي هي بحقٍّ صفات الفتيان، إذ قالت: “أبشر يا ابن العم واثبت، فوالذي نفسُ خديجة بيده، إنّي لأرجو أن تكون نبيَّ هذه الأمَّة، والله لا يخزيك أبدًا، إنَّك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلَّ، وتقري الضيف، وتعين على النوائب”[16].

وتُستكمل هذه الصورة بما وصف الإمام عليّ عليه السلام رسول الله بأنّه: “جليل المشاش والكتد… ششن الكفين والقدمين… أي أنّ عظام رؤوس المفاصل وخاصة ما بين الكتفين فيها جلال وقوَّة، غليظ الكفَّين والقدمين دليلًا على قوَّتهم. ووصفه من الناحية الخلقيَّة بما تتضمَّنه الفتوَّة المعنويَّة من صفات وذلك في قوله: “أجود الناس كفًّا وأجرأ الناس صدرًا، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمَّة، وأليَنهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبه”[17].

إنَّ الكلام الذي سُقناه، يؤكِّد على إقرار الإسلام للفتوَّة، بل إنَّ هذا المفهوم ورد في القرآن الكريم، ولكنّه أعطاه دلالات خاصَّة، ووصله بحركة النبوَّة، وهذا ما يجعل منه مفهومًا إسلاميًّا بكلّ ما للكلمة من معنى.

 

  • الدلالات القرآنيَّة للفتوَّة:

 

نلاحظ أنَّ لفظ الفتوَّة ورد في أكثر من مورد في القرآن الكريم، وحمل دلالات متعدِّدة، وهي ارتبطت بحركة النبوَّة والصالحين، كما في الآية الكريمة: ﴿قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُۥٓ إِبْرَٰهِيمُ﴾[18]، حيث ورد لقب “فتى” على ألسنة عبَدة الأصنام، وهم عندما سمُّوه بهذا الَّلقب، أرادوا إظهار وقوفه بمواجهتهم وإنكاره لما هم عليه، فالنبيُّ إبراهيم عليه السلام جاهر في دعوته، وصعَّد من مواجهته من أجل الله، وهذا الأمر يوضحه الكاشاني بقوله: “أوّل نقطة الولاية ومفتتحها الذي انتشر منه الوحدة وظهر عليه الفتوَّة والولاية هي النفس المقدَّسة الإبراهيميَّة، إذ كان خليل الله عليه السلام أوَّل من تجرَّد عن الدنيا ولذَّاتها، وتخلّى عن زينتها وشهواتها واعتزل عن أبيه وقومه وتحمَّل المشاقَّ والمتاعب في محبَّة ربِّه وهاجر إلى الله عن الأهل والأعزَّة والأوطان والمألوفات والملذَّة وصبر على الغربة والمجاهدة وتشجَّع بكسر الأصنام ومخالفة القوم حتى شهد له أعداؤه بالفتوَّة، كما حكى الله – تعالى- […] والفضل ما شهد به الأعداء! فهو منبع القوَّة ومظهرها باطنًا وظاهرًا ومؤسِّس قواعدها ومشدها أولًا وآخرًا، ولهذا سنّ الضيافة والقرى، ونذر أن لا يأكل وحده إلى أن يُتوفّى، وبلغ من فتوَّته إلى المباشرة لذبح الولد والخروج عن جميع المال عند طيب الخلد بسماع ذكر الخليل وتحقيره في جنب اسمه الجليل”[19].

لا ريب في أنَّ الكلام الذي أشار إليه الكاشاني من خلال وصفه للنبيِّ إبراهيم عليه السلام، يُظهر أنَّ الفتوَّة تحمل الدلالات التالية:

  • الخضوع التامّ لله عزَّ وجلَّ بحيث لا يرى في الكون سواه.
  • جعل الله هو المقصد والغاية التي يهون في سبيلها كلُّ نفيس حتى التضحية بالأبناء.
  • الكرم والبذل في سبيل الله.
  • الابتعاد عن كلِّ ملذَّات الدنيا.

ويوضح أبو المكارم هذا الأمر قائلًا: “أمَّا مبدأ الفتوَّة ومنشؤها، فإبراهيم الخليل، خليل الله الرحمن، وهو أبو الفتيان، حيث كسر الأصنام، وأعرض عن الأنام، حين قال له جبرائيل: هل لك حاجة؟ وقد ألقوا به إلى النار، فقال أما إليك فلا. فتولَّى الحق قضاء حاجته بنفسه، فقال: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ﴾[20]، ومدحه فقال: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ﴾[21] ووصف أضيافه بأنَّهم مكرمون، فقال: ﴿هَلْ أَتَىٰكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَٰهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ﴾[22] لما قام على خدمتهم بنفسه، ولقيهم بوجه طلق”[23]

وورد لفظ الفتى في الآية الكريمة: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾[24]، والفتوَّة هنا تقوم على مبدأ إيثار المشقَّة في الله تعالى على لذَّة نفسه، وذلك مصداقًا لقوله تعالى: “قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ”[25]، فهكذا: “ينبغي للعبد أن يكون؛ يختار ما يبقى على ما يفنى؛ فرُبَّ شهوة ساعة أورثت حزنًا طويلًا، ورُبَّ صبر ساعة أورثت نعيمًا جزيلًا”[26]، فخصائص الفتوَّة التي يمكن أن نستخلصها من خلال النبيِّ يوسف عليه السلام، تتمثَّل بالعفَّة والأمانة والصبر، الذي يقسم إلى أنواع متعدِّدة:

أ- صبر على إيذاء أخوته له، وتجريده من ثوبه، وإلقائه في الجبِّ بقصد إهلاكه، وقد أخبرنا الحقُّ تعالى بهذا الموقف من جانب أخوة يوسف في قوله تعالى: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾[27].

ب- صبر على استرقاقه وبيعه في السُّوق: قال تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍۢ دَرَٰهِمَ مَعْدُودَةٍۢ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّٰهِدِينَ﴾[28].

ج- صبر على الشهوة: وقد هُيِئت له طائفة من المغريات تحفُّ به من كلِّ جانب إلَّا أنَّه تغلَّب عليها بعون الله وقدرته.

د- الصبر على الحبس والسجن: عندما أحاطت المغريات بيوسف من كلِّ جانب، آثر دخول السجن خوفًا من هذه الإغراءات، إذ إنَّ السجن في هذه الحالة أحبُّ إليه ممَّا يدعونه إليه. ليس هذا فحسب، إنَّما رفض أيضًا الخروج من السجن بعد تأويل رؤيا الملك ما لم تظهر الحقيقة، ويعلم الملك موقفه من امرأة العزيز، وأنّه دخل السجن ظلمًا وكيدًا من جانبها. قال تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾[29]، فهو رفض الخروج من السجن قبل براءته، حتى لا يكون المنّ للملك في إخراجه منه، بل يكون الله صاحب الفضل. لقد كان عليه السلام يرى في القضيَّة المسجون بها قدحًا لعدالته، وهذا ما يشوِّه عصمته، ويُضعف موقف المؤمنين بالله، وهو رفض الحضور بين يدي الملك حتى لا يُقال إنَّ الحكم نتيحة الحياء منه.

إضافة إلى الخصائص السابقة للنبيِّ يوسف، لا بدَّ من التوقُّف عند خصيصة أخيرة، وهي العفو، فبعدما خرج من السجن، ومكَّن الله له الأرض في مصر، وجعله على خزائنها، لم يُعامل أخوته مثلما عاملوه، بل قابل شرَّهم بإحسان، وقد أخبر الله عن ذلك، فقال تعالى: ﴿قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ﴾.[30]

وورد لفظ الفتوَّة في سورة الكهف، حيث قصّ القرآن الكريم سيرة أهل الكهف، وقال تعالى:  ﴿ نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾[31]. في هذه الآية وصفهم عزَّ وجلَّ بالفتوَّة لأنَّهم: “آمنوا من غير مهلة، لمّا أتتهك دواعي الوصلة. ويُقال فتية لأنّهم قاموا لله، وما استقروا حتى وصلوا إلى الله”[32]، وأظهر النصّ خصائص هؤلاء، فقال تعالى: ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ﴾[33]. ويقول القشيري في شرح هاتين الآيتين: “لاطَفهم بإحضارهم، ثمَّ كاشف في أسرارهم، بما زاد من أنوارهم، فلقاهم أولًا النبيين، ثم رقَّاهم عن ذلك باليقين. [وقوله تعالى] ﴿وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ﴾ بزيادة اليقين حتى متع نهار معارفهم[34]، واستضاءت شموس تقديرهم، ولم يبق للتردُّد بحال في خواطرهم […][35] في التجريد أسرارهم، وتمَّت سكينة قلوبهم. ويُقال﴿وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ﴾: بأن أفنيناهم عن الأغياؤ، وأغنيناهم عن التفكُّر بما أوليناهم من أنوار التبصُّر ويُقال﴿وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ﴾  بما أسكنّا فيها من شواهد الغيب، فلم تسنح فيها هواجس التخمين ولا وساوس الشياطين”[36]

وقال تعالى: ﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾[37]، فسَّر القشيري هذه الآية بقوله: “آواهم إلى الكهف، وقام عنهم فأجرى عليهم الأحةال ةهم غائبون عن شواهدهم. وأخبر عن ابتداء أمرهم[…] أنّهم أخذوا في التبري من حولهم وقوتهم، ورجعوا إلىى الله بصدق فاقتهم، فاستجاب لهم دعوتهم، ودفه عنهم ضرورتهم، وبوأهم في كنف الإيواء مقيلا حسنًا”[38]

بالتالي، نرى من خلال ما عُرض أنّ الفتوة، تقوم على مبدأ التسليم التام الله، بحيث لا يرى العبد سواه في هذا الكون، وتطهير النفس من كلّ خبيث، وجعل الله هو المقصد والغاية النهائية، وإذا اقتضى الأمر اعتزال الناس والتبري منهم، وفي كلّ ذلك على العبد أن يثق بباريه بأنّه حافظه وموصله إلى ما يسعى إليه.

من خلال ما استعرضنا، وسنكتفي بهذا المقدار، يظهر لدينا بشكل جليٍّ، أنَّ أصول المفهوم موجود في القرآن الكريم، بل ويذهب النابلسي إلى القول أنَّ الفتوَّة موجودة في أصل كلِّ دعوة نبويَّة، ويقول: “وقال اللّه تعالى عن إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام- إنَّه قال للنمرود اللعين لما ادَّعى الربوبيَّة مع اللّه تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾[39]، و قال تعالى: ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ‏ قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ‏ قالُوا سَمِعْنا فَتًى‏ يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ‏ قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى‏ أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ‏ قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ‏ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ‏ فَرَجَعُوا إِلى‏ أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ‏ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى‏ رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ﴾[40]. ونحو هذا فى القرآن والسنَّة ممَّا حكاه اللّه تعالى ورسوله ممَّا وقع بين الأنبياء وأممهم، و كان من الحكمة الإلهيَّة أنَّ اللّه تعالى لم يرسل نبيًّا ولا رسولًا إلى أمَّة من الأمم فى حمية من قومه وعصبة من جماعته ينصفونه ممن يكذبه، و كان اللّه تعالى يتولَّى النصرة وحده كما قال سبحانه: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ﴾[41][…] وهذا المعنى كثير فى القرآن، ثم لما أرسل اللّه تعالى محمدًا صلى اللّه عليه و[آله] وسلم وجعله خاتم النبيين أيده بعصابة من قومه بالمهاجرين والأنصار، وجعل له أتباعًا و أعوانًا، وأيدهم على الحق”[42].

ويذهب السلميّ إلى القول بأنّ الفتوَّة أصل في الدعوة الدينيَّة، ويُنقل عنه: ” [الله] جعل منهاج الفتوَّة واضح الملاحب، يؤول ويرشد إلى كلِّ حسن واجب، ونزَّهها عن الفواحش والمعايب، وأرقاها إلى أعلى المراتب؛ وارتضى لها من أنبيائه المرسلين وأصفيائه المقرَّبين كلَّ من كتب اسمه على صفاء لوح الصدق، وبان له طريق الحقِّ؛ فقام بواجبه، ودام جالسًا على مراتبه. فأول من أجاب الى دعوة الفتوة، وحبا مكرمات المروّة آدم بديع الفطرة، رفيع الاسرة، المشتقّ من أديم الأرض اسمه، الثابت فى محلِّ الإرادة رسمه؛ الساكن فى دار الحشمة، المؤيّد بالأنوار والعصمة؛ المتوَّج بتاج الكرامة، الحالّ بدار السلامة، وقبل بها هابيل لما طرد عنه قابيل؛ ودام بحقّها شيث، ونزّهها عن كلّ أمر خبيث ورفع بها إلى المكان العلىّ إدريس، فنجا من كيد إبليس؛ وبحبّها كثرت نياحة نوح وكان نورها عليه يلوح وتسمَّى بها عاد [..]، ولقّب بها ابراهيم الخليل، فكسر رؤوس الأصنام والتماثيل؛ وفدى بها اسمعيل، بأمر الملك الجليل، ورقيّ بها لوط إلى مقام ليس بعده هبوط، وكان بها إسحق، قائمًا إلى يوم التلاق، ونهض بأسبابها يعقوب، وكشف بها ضرّ أيوب. سلك بها يوسف الصدّيق أكرم طريق، ودام له بها التوفيق، وانقاد ذو الكفل إلى رتبتها العلياء، وقام بأمورها المرضيّة الحسناء، وحاز قصباتها شعيب، فنزّه عن كلِّ ريب وعيب، رفل لها موسى أرفالا، وأجاب هارون فأحسن مقالا. شرف بها أهل الكهف والرقيم، ففازوا بدار النعيم، عمر بها قلب داود، ولذلّه بها الركوع والسجود، وورثها منه سليمان، وسخّر له بها الإنس والجانّ، وصحَّت ليونس شروطها فوفَّى، وورد بها زكريّا مورد الصّفا، وصدّق بها يحيى فنجا من الغمّ، وعظم بها لما همّ فما اهتمّ، وبالألم ما ألمّ، وجلابها العسعس عيسى بالنّور الصريح، ولقّب بها الرّوح والمسيح، وفتح بها لمحمّد صلَّى اللّه عليه وآله فتحًا مبينًا فجعل عليها أخاه وابن عمّه أمير المؤمنين عليّا أمينًا”[43].

 

  • الفتوَّة أصل في التصوُّف الإسلاميّ:

 

تلقَّف المتصوِّفة باكرًا مفهوم الفتوَّة، وأفردوا له مساحة واسعة في منظومتهم الفكريَّة، لذلك سنلاحظ حضوره ابتداءً من القرن الثاني للهجرة وقبل أن يكتمل التصوُّف كعلم، وفي هذا المجال نلاحظ ميلًا تنظيريًّا باتجاه تحديد الإطار العامِّ الخاصِّ به. وقد سُئل أنّ سفيان الثوريَّ عن الفتوَّة فقال: “العفو عن زلل الإخوان”[44]. وأورد السلمي أنَّها: “أن يحفظ الفتى على نفسه هذه الخمسة أشياء، وهي: الأمانة، والصيانة، والصّدق، والأخوَّة الصالحة، وإصلاح السريرة”[45]، واعتبر أنَّ من ضيَّع واحدة منهنَّ، فقد خرج عن شرط الفتوَّة. وقال على لسان بعض الحكماء: “من وُجِدَت  فيه ستُّ خصال، فاحكم له بالفتوَّة التامَّة؛ وهو أن يكون شاكرًا للقليل من النعمة، صابرًا على الكثير من الشدائد، يداري الجاهل بحلمه، ويؤدّب البخيل بسخائه ولا يطلب عوضًا كما يطلبه أحد من الناس، ولا ينقض ما كان بناه من الإحسان من قبل”[46]. ونقل عن عمرو بن عبيد[47]: “لا تكمل مروءة الرجل حتى تجتمع فيه ثلاث خصال: يقطع رجاءه عمَّا في أيدي الناس، ويسمع الأذى فيحتمله، ويحبُّ للناس ما يحبُّه لنفسه”[48].

كما نلاحظ أنّ هناك اقتراب للدلالة الصوفيَّة في بدايتها الأولى من الدلالة القرآنيَّة، ولكن الحلَّاج أخذ المفهوم باتِّجاه جديد، حيث يبرز مناظرة بينه وبين إبليس وفرعون حول الفتوَّة في كتابه “الطواسين” ورد فيها: ” تناظرت مع إبليس وفرعون في الفتوَّة؛ فقال إبليس: إن سجدت سقط عنّي اسم الفتوّة، وقال فرعون: إن آمنت برسوله سقطت من منزل الفتوّة. وقلت أنا: إن رجعت عن دعواي سقطت من منزل الفتوّة، وقال إبليس: أنا خير منه حين لم يراء (ير) غيره غيرًا، وقال فرعون: ما علمت لكم من إله غيري، حين لم يعرف في قومه من يميّز بين الحقّ والباطل. وقلت أنا إن لم تعرفوه فاعرفوا آثاره، وأنا ذلك الأثر وأنا الحق، لأنيّ ما زلت أبدًا بالحقّ حقًا[…].

ومع أن الحلّاج ذكر بنفسه أنه طالما اتُّهم بالزندقة في قوله: “المنكر في دائرة البرّاني وأنكر حالي حين لم يراني (يرني) وبالزندقة سمّاني وبالسوء رماني”[…]، لم يرد في محاضر المحاكمة شي‏ء يتّصل بمسؤوليَته عن تلك العبارة ولا هذا الرأي. والنتيجة أن الموت صار الحكم على هذا الصوفيِّ المتّهم[49]، وهذا يعني أن الفتوَّة هو أن تستسلم وتُضحّي في سبيل من تحب، وهو في ذلك قدَّم نفسه قربانًا لله، وهذا ما دفعه في لحظة الموت أن يخاطب الله بلغة العاشقين.

ولكن مع الضبط الذي حصل في نهاية القرن الثالث للهجرة، سنرى أنَّ الفتوَّة ستعيد علاقتها بالنصِّ مع الأنصاريِّ الذي أفرد بابًا خاصًّا في كتابه “منازل السائرين”، وقال: “نكتة الفتوّة أن لا تشهد لك فضلًا، ولا ترى لك حقًّا. وهي على ثلاث درجات: الدرجة الأولى ترك الخصومة، والتغافل عن الزلّة، ونسيان الأذيَّة. والدرجة الثانية أن تقرّب من يقصيك‏، وتكرم من يؤذيك، وتعتذر إلى من يجني عليك، سماحًا لا كظمًا، وبراحًا لا مصابرة. والدرجة الثالثة: أن لا تتعلّق في المسير بدليل، ولا تشوب إجابتك بعوض، ولا تقف في شهودك على رسم. واعلم أنّ من أحوج عدوّه إلى شفاعة، ولم يخجل من المعذرة إليه، لم يشمّ رائحة الفتوَّة. ثمّ في علم الخصوص، من طلب نور الحقيقة على قدم الاستدلال، لم يحلّ له دعوى الفتوّة أبدًا”[50]. ومن خلال هذه المقاربة، نرى أن الأنصاريَّ يُقرب هذا المفهوم من المروءة.

ومفهوم المروءة الذي قارب من خلاله سيتحوَّل مع الغزالي إلى كلمة مفتاحيَّة لفهم الفتوَّة، حيث اعتبر أنها: “ترجع إلى أخلاق المروءة، فمن قام بواجب الشرع وواجب المروءة فهو الفتى، ومن شارك أبناء الدنيا فيما هم فيه فلا فتوَّة له ولا مروءة”[51]، في هذا الكلام ربط الغزالي بين المروءة والشرع، وجعل الثاني عبارة عن واجبات وأفعال يقوم بها الإنسان. هذا وقسم الفتوَّة إلى أنواع:

– فتوَّة العامَّة بالأموال.

– وفتوَّة الخاصَّة بالأموال والأفعال.

– فتوَّة خاصّ الخواصِّ بهما وبالأحوال.

– فتوَّة الأنبياء بهما وبالأسرار، وهو الذي ليس في باطنه دعوى ولا في ظاهره تصنع ومراءاة، وسرُّه الذي بينه وبين اللّه تعالى لا يطلع عليه صدره، فكيف الخلق.

ويصل إلى القول: “من شأن الفتى النظر إلى الخلق بعين الرضى وإلى نفسه بعين السَّخط ومعرفة حقوق من هو فوقه ومثله ودونه ولا يتعرَّض لإخوانه بزلَّة أو حقرة أو كذب، وينظر إلى الخلق كأنهم أولياء غير مستقبح منهم”[52].

من جانبه، يذهب ابن عربي إلى اعتبار الفتوَّة مقامًا يعبِّر عن القوة، ويقول في “الفتوحات المكيَّة”: “اعلم أنَّ للفتوَّة مقام القوة وما خلق اللَّه من الطبيعة أقوى من الهواء وخلق الإنسان أقوى من الهواء إذا كان مؤمنًا”[53]، فبالنسبة إليه أنّ هذا المقام لا يصل إليه إلا من سلّم نفسه لربِّه وبذل في سبيله كلّ ما يملك من مال، ومن أجل إثبات هذه الفكرة، يرادف بين الفتوَّة والرازقيَّة، فالله عزَّ وجلَّ يرزق الناس مع كفرهم به، ولهذا وصف تعالى نفسه بقوله عزَّ وجلّ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾[54]، فهو لا يمنع عنهم الرزق والإنعام والإحسان بكفرهم مع أنّ الكفر بالنِّعم سبب مانع يمنع النعمة فلا يرزق الكافر مع وجود الكفر منه لما رزقه إلَّا من له القوَّة، فلهذا نعته بذي القوَّة المتين، فإنَّ المتانة في القوَّة تضاعفها. وما اكتفى سبحانه بالقوَّة حتى وصف نفسه بأنَّه المتين فيها إذ كانت لقوَّة لها طبقات في التمكُّن من القويِّ فوصف نفسه بالمتانة و: “هذه صفة أهل الفتوَّة، فإنَّ الفتوَّة ليس فيها شي‏ء من الضعف، إذ هي حالة بين الطفولة والكهولة، وهو عمر الإنسان من زمان بلوغه إلى تمام الأربعين من ولادته”[55].

خلاصة القول، أنَّ الفتوَّة، كما رأينا من خلال هذا البحث، لا تشير إلى دلالة عمريَّة إنَّما هي عبارة عن مرتبة من مراتب الكمال يصل إليها عبر الإلتزام بالأوامر الشرعيَّة، يبذل نفسه وماله من دون أن يكون له مصلحة في ما يقوم به، وهي وإن حملت معالم المروءة، ولكنّها تجعلها خدمة لهدف أسمى هو الوصل بالله. وما ورد في هذا البحث آثر الابتعاد عن أمرين الأول الذهاب باتجاه التاريخ الإسلاميِّ للنظر إلى من أُطلق عليهم اسم “الفتوَة”، فهذا مورد بحث منفصل بحاجة إلى كثير من التدقيق، وهو وإن استفاد من مفهوم الفتوَّة، ولكنّه جعله خدمة لأهداف سياسيَّة خاصَّة، وهذا ما يجعل دراسة هذه الظاهرة تحتاج إلى تدقيق وفرز ليس هنا مورد القيام به، كما أنَّنا آثرنا عدم التوسُّع في شرح “الفتوة” والدخول في تفصيلات قد تكون منهكة للمتابع، كما أنَّها قد لا تستوفي ولا تعطي الموضوع حقه.

 

[1] – أحمد بن أمين الشنقيطي، المعلَّقات العشر وأخبار شعرائها، القاهرة، مؤسَّسة الهنداوي، 2018، الصفحة 84.

[2] – أحمد أمين، الصعلكة والفتوَّة في الإسلام، القاهرة، مؤسَّسة الهنداوي، 2018، الصفحة 10.

[3] – المصدر نفسه.

[4] – المصدر نفسه، الصفحة 11.

[5] – امرىء القيس، ديوان امرىء القيس، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، دار المعارف، د.ت، الصفحة 65.

[6] – الكساندر خاتشاتريان، أهل الفتوَّة والفتيان في المجتمع الإسلامي، ترجمة: صالح زهر الدين، بيروت، المركز العربي للأبحاث والتوثيق، 1998، الصفحة 20.

[7] – أبو الريحان البيروني، الجماهر في معرفة الجواهر، القاهرة، مكتبة المتنبّي، د.ت، الصفحة 4. استخدمنا طبعة إلكترونية على هذا الرابط

https://turkistanilibrary.com/ar/content/ktb-ljmhr-fy-mrf-ljwhr.

[8] – MM. Bravmann, The spiritual Background of Early of Early Islam and the History of its principal concepts, Leiden, pp. 1-7.

[9] – مصبوغ بالمشق وهو طين أحمر يستعمل للصبغ.

[10] – سورة الأنبياء، الآية 39.

[11] – جواد بن عباس الكربلائي، الأنوار الساطعة في شرح الزيارة الجامعة، بيروت، مؤسَّسة الأعلمي، 2007، الجزء1، الصفحة 304.

[12] – أبو العلا عفيفي، الملامتيَّة والصوفيَّة وأهل الفتوَّة، القاهرة، مؤسَّسة هنداوي، 2017، الصفحة 23.

[13] – سورة البقرة، الآية 247.

[14] – ابن عربي، الفتوحات المكيَّة، بيروت، مكتبة صادر، د.ت، الجزء 4، الصفحة 53.

[15] – رواه مسلم في كتاب: القدر، باب: في الأمر بالقوَّة وترك العجز، والاستعانة بالله، وتفويض المقادير لله.

[16] – ابن هشام، السيرة النبويَّة، القاهرة، الكليَّات الأزهريَّة، 1974، الجزء 1، الصفحة 122.

[17] – المصدر نفسه، الجزء2، الصفحة 35.

[18] – سورة الأنبياء، الآية 30.

[19] – محسن فيض الكاشاني، مجموعة رسائل ومصنَّفات مولى محسن، طهران، مؤسَّسه نشر میراث مکتوب، 1379، الصفحة 539.

[20] – سورة الأنبياء، الآية 69.

[21] – سورة هود، الآية 75.

[22] – سورة الذاريات، الآية 24.

[23] – عبد الله محمد بن أبي المكارم، كتاب الفتوة، تحقيق: مصطفى جواد، محمد تقي الدين الهلالي، عبد الحليم نجار، أحمد ناحي القيسي، القاهرة، كطبعة شفيق، 1958، الصفحة 140- 141.

[24] – سورة يوسف، الآية 30.

[25] – سورة يوسف، الآية 33.

[26] -أحمد بن عجيبة الحسني، البحر المديد، تحقيق: أحمد عبد الله القرشي الرسلان، القاهرة، حسن عباس زكي، 1419، الجزء2 الصفحة 594.

[27] – سورة يوسف، الآيتان 9-10.

[28] – سورة يوسف، الآية 20.

[29] – سورة يوسف، الآية 50.

[30] – سورة يوسف، الآية 92.

[31] – سورة الكهف، الآية 13.

[32] – القشيري، “لطائف الإشارات”، تحقيق: إبراهيم بسيوني، القاهرة، الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب، 200، الجزء 3، الصفحة 380.

[33] – سورة الكهف، الآيتان 14-15.

[34] – متوع النهار اصطلاح يأتي في مذهب القشيري بعد الَّلوائح والظالع واللوامع، وهو يلتقي في المعنى من حيث الُّلغة (يُقال متع النهار أي بلغ غاية ارتفاعه).

[35] – يقول محقِّق الكتاب: مشتبهة وهي قريبة في الرَّسم من “واتخذوا” ومصوبة في الهامش “وانحدروا”، لأجل هذا لم نستطع أن نحسم فيها برأي، وهي على العموم كلمة تفيد خلوص أسرارهم في التجريد وإلَّا لم حدثت سكينة في قلوبهم.

[36] – القشيري، لطائف الإشارات، المصدر نفس، الجزء 3 الصفحة 381.

[37] -سورة الكهف، الآية 10.

[38]– القشيري، لطائف الإشارات، المصدر نفس، الجزء 3، الصفحة 379.

[39] – سورة البقرة، الآية 258.

[40] – سورة الأنبياء، الآيات من 58 حتى 65.

[41] – سورة غافر، الآية 51.

[42] – عبد الغني النابلسي، كتاب الوجود، تحقيق: السيد يوسف أحمد، بيروت، دار الكتب العلميَّة، 1424، الصفحة 145.

[43] – أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، مجموعة آثار السلمي، طهران، مركز النشر الجامعي، 1411، الجزء2، الصفحة 225.

[44] – أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، تسعة كتب في أصول التصوف والزهد، تحقيق: سليمان إبراهيم آتس، الناشر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، 1414، 329.

[45] – المصدر نفسه، المعطيات نفسها.

[46] – المصدر نفسه، المعطيات نفسها.

[47] – في الأصل عمر. وهو عمرو بن عبيد بن باب التميمي- مولاهم- أبو عثمان البصري (244 ه/ 858 م)، رأس المعتزلة على زهده. كان أبوه نسّاجًا، ثم صار شرط الحجاج. وقد تركوا حديثه، بل رموه بالكذب. ولعلّ الذي جرَّ ذلك عليه هو الاعتزال. وكان المنصور العباسي يعتقد صلاحه. (خلاصة تذهيب تهذيب الكمال: 247).

[48] – أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، تسعة كتب في أصول التصوف والزهد، مصدر سابق، الصفحة 330.

[49] – كامل مصطفى الشيبي، شرح ديوان الحلَّاج، بيروت، دار الجيل، الصفحة 6.

[50] – عبد الله الأنصاري، منازل السائرين، تحقيق: علي شيرواني، طهران، دار العلم، 1417، الصفحتان 89-80.

[51] – أبو حامد محمد الغزالي، مجموعة رسائل الإمام الغزالي، بيروت، دار الفكر، 1416 ه، الصفحة 156.

[52] – المصدر نفسه، الصفحة 157.

[53] – المصدر نفسه، المعطيات نفسها.

[54] – سورة الذارايات، الآية 58.

[55] – ابن عربي، الفتوحات المكيَّة، مصدر سابق، الجزء1، الصفحة 242.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى