الكرامة عند الصوفيَّة
الكرامة عند الصوفيَّة
د. طارق العلمي
من المظاهر التي يتميز بها التصوف الجنيدي هو عدم الالتفات إلى الكرامات، واعتبارها من أسباب الاستدراج التي قد تعود على السالك بالتوقف في سيره إذا ما تعلق بها واستكان إليها.
فكان رجال التربية لا يُظهِرون الكرامات إلا حينما تدعو الحاجة إلى ذلك، أي أن يكون في إظهارها فائدة تربوية، من شأنها أن ترفع مواطن الشك التي قد تعتري المُتشكِّك في أمر التصوف، أو في أحد مبادئه الأساسية، وإلا فإن الظهور بوجه عادي يبقى هو ديدن أهل الولاية في غالب أحوالهم.
ومما يُظهِر هذا المعنى التربوي للكرامات، ما رواه الإمام الجنيد عن أبي حفص النيسابوري حينما عارضه هذا الأخير أحد تلامذته، بكونه لا تظهر على يديه أية كرامة، بخلاف من كان قبله الذين أُيِّدوا بهذه الخوارق، فكان من أمر الشيخ أبي حفص النيسابوري “أن عمد إلى كور عظيم محميٍّ، فيه حديدة عظيمة، فأدخل يده في الكورفأخذ الحديدة المحمّاة، فبردت في يده، فقال له: يجزيك هذا. فسئل بعضهم عن معنى إظهار ذلك من نفسه، فقال الجنيد: كان مُشرفاً على حاله، فخشي على حاله أن يتغير عليه إن لم يُظهر ذلك له، فخصّه بذلك شفقة عليه، وصيانة لحاله، وزيادة لإيمانه”.[1]
فيظهر أن لجوء الشيخ إلى إظهار الكرامة لم يكن عن رغبة ذاتية، ولانزعة نفسية، وإنما دعا إلى ذلك أمر توجيهي، يتمثل في زرع الثقة التي ينبغي أن تسود بين المريد وشيخه، وهي الأساس في سلوك طريق القوم.
ولقد استثمر صوفية المغرب هذا المبدأ، حيث أدخلوا الكرامات في باب الرخص، فلا ينبغي إظهار شيء منها، إلا حينما يُضطر إلى ذلك، حيث يقول الإمام الشاطبي بعد ما ذكر مذهب القوم من عدم التفاتهم إلى لكرامات بقوله: ” وهذا كله يدلك على ما تقدم من كونها في حكم الرخصة، لا في حكم العزيمة”.[2]
ويضيف قائلا: ” بل كان منهم من استعاذ منها ومن طلبها، والتشوف إليها، كما يُحكى عن أبي يزيد البسطامي. ومنهم من استوت عنده مع غيرها من العادات، من حيث شاهد خروج الجميع من تحت يد المنّة، وواردة من جهة مجرد الإنعام. فالعادة في نظر هؤلاء خوارق للعادات. فكيف يتشوف إلى خارقة ؟ ومن بين يديه ومن خلفه، ومن فوقه، ومن تحته مثلُها. مع أن ما لديه منها أتم في تحقيق العبودية كما مرّ في الشواهد. وعدُّوا من ركن إليها مستدرجاً، من حيث كانت ابتلاءً لا من جهة كونها آية أونعمة”.[3]
وذلك أن الراسخين في مقامات القرب، قد تجردوا عن حظوظهم، فليس لهم قصد إلا طلب وجه الله تعالى، لذلك كان “للولي أن يقصد إظهار الكرامة الخارقة لمعنى شرعي مبرإ من طلبه لحظ نفسه … وعلى هذا المعنى ظهرت كرامات الأولياء الراقين عن الأحوال، حسبما دلّ عليه الاستقراء”.[4]
ومن ثمة فإن التوجه العام الذي اتخذه صوفية المغرب، أنهم عملوا على الظهور بمظهر لا يخرج عما يألفه الجمهور، وذلك نابع من خصوصية المسلك الجنيدي، الذي يعتبر مجال الكرامة من المسائل التي لا ينبني عليها ادعاء الرسوخ في المعرفة الربانية، بل يمكن أن يظهر الله تعالى الكرامة على من لم يستقم حاله، فيكون ذلك امتحانا له ولغيره، لذلك اعتبر الراسخون من الصوفية، بأن أعظم كرامة أن يكون العبد على استقامة.
فالتصوف المغربي يعطي لجانب السلوك أهمية كبرى باعتباره قوام الرقي في مدارج الكمال المحمدي، ولا يمكن ادعاء الوصول إلى مقامات القرب إلا بانغماس المريد بالعمل على جهة التعبد، رغم ما يحصل لديه من معان ذوقية وفتوحات وهبية، التي ينبغي يتعامل معها السالك بحكمة وفق الآداب التي حددها أهل الرسوخ المعرفي.
وبالنظر إلى المصادر التي أرّخت للمئات من رجالاتِ التصوف بالمغرب منذ بدايةِ القرن الخامس الهجري وما بعده، نجدها تنحو وتؤكد هذا المسلك الجنيدي الذي اتخذه أهل الولاية بالمغرب،منها:
– كتاب: “المستفاد في مناقب العباد بفاس وما يليها من البلاد”، للتميمي (ألّفه قبل عام 572 هـ)، وهو في التعريف بصلحاء فاس.
– كتاب: “التشوف إلى رجال التصوف”، لابن الزيات (ألّفه عام 617 هـ)، وهو في التعريف بصلحاء الجنوب خصوصا مراكش وأغمات وما جاورهما.
– كتاب: “المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف”، للبادسي، وقد أرَّخ فيه لرجالات التصوف بالريف من الفترة الممتدة ما بين منتصف القرن السادس الهجري إلى أوائل الثامن الهجري.
– كتاب: “دوحة الناشر بمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر”، لابن عسكر الشفشاوني.
– كتاب: “نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني”، لمحمد بن الطيب القادري.
– وكتب الأسانيدِ، مثل: “تحفة أهل الصديقية بأسانيد الطريقة الجزولية الشاذلية”، و”الترجمان المعرب عن أشهر فروع الشاذلية بالمغرب”، لعبد الحفيظ الفاسي، و”ممتع الأسماع في الجزولي والتباع وما لهما من الأتباع”، و “المعزى في مناقب أبي يعزى”، لأحمد التادليالصومعي، و”أخبار أبي العباس السبتي”، لابن الزيات التادلي، و”المنهاج الواضح في تحقيق كرامات أبي محمد صالح”، لأبي العباس الماجري، و “مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن”، لمحمد العربي الفاسي…
فالناظر في هذه المؤلفات وفي كثرتها يُدرك من جهة،المغرب كان وما يزال بلد التصوف والأولياء بامتياز، كما يدرك من خلالها ما ميّز ويُميِّز هؤلاء الأعلام ذوي المنحى الأخلاقي والذوق الإسلامي الصادق بعيدا عن الشطحات الإشراقية والحقائق المبهمة؛ فمن ذلك: ما صرّح به ابن الزيات في أوائل القرن السابع الهجري (617 هـ) في مقدمة كتابه، أنه جرّده من “الحقائق”، وأنه خبر رجالات الصلاح والولاية في عصره، ومن قبلهم، وأكد تمسكهم “بالسنة والجماعة، وطهارتهم من البدع والإحداث في الدين، والاقتفاء لآثار من مضى من السلف الصالح..”.[5]
وعليه فإن الكرامة عند الصوفية لا تعبر بالضرورة على منزلة في العرفان الصوفي، بقدر ما يمكن أن تكون تحفيزا للمريد على السير، كما يمكن أن تكون استدراجا له، وفتنة عليه إن هو سكن إليها، ولذلك كان الصوفية يحذرون السالكين من هذه الخوارق حتى لا يخرج على المنهج المطلوب، والمقصد المنشود، فكان أعظم كرامة يمكن أن يتشوف إليها المريد هو طلب الاستقامة.
هوامش:
[1] سعاد الحكيم : تاج العارفين، ص: 196.
[2] الشاطبي : الموافقات،1/268.
[3] الشاطبي: الموافقات 1/267.
[4] نفس المصدر: 1/264.
[5] ابن الزيات: التشوف، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ص: 14.
______________________
*نقلاً عن موقع ” التصوف الإسلامي”.