الدراسات والبحوث

الخيال ومعيقات المعرفيَّة

الخيال ومعيقات المعرفيَّة

 آمنة عبايدية*

     

” الخيال أهمُّ من المعرفة، فالمعرفة محدودة بما نعرفه الآن وما نفهمه، بينما الخيال يحتوي العالم كلَّه وكلَّ ما سيتمُّ معرفته أو فهمه إلى الأبد “.

 

“ألبرت آينشتاين”

 1- أزمة المعرفة:

يعاني العالم اليوم أزمة فقدان الحقيقة، وذلك بسبب الإعلام المضلِّل وقوَّة التقنيَّات الإعلاميَّة سواء الأدواتيَّة أم الفكريَّة التقنيَّة، وفي هذه الفوضى المعرفيَّة العارمة والمفبركة بأسلوب فائق الدقّة يستحيل اكتشاف الحقيقة والواقع. «إذا ذهب صدقي فقد عميت، فإذا أردت المعرفة فقد أردت الصدق أعني الشدَّة والتضييق على نفسي والقساوة لا تلين. وهذا ما يقتضيه السرد الموضوعي»[1]“.

منذ القدم والأسئلة والتساؤلات حول الوجود وماهيَّته أو مصدره بشكل خاصٍّ ومكوِّنات هذا الكون الفسيح وعلاقاته بعضها مع بعض بشكل عام، تتزايد وتتشعَّب كمًّا ونوعًا، إلى درجة ظهرت العديد من الأطر والمضامين والفلسفات المتباينة حول هذا الموضوع، وتشكل المجموعة المتَّسقة والمنسجمة من الآراء والأفكار الفلسفيَّة حول هذا الموضوع، نسقًا ونظريَّة للمعرفة  البشريَّة التي تفسَّر على أساس أنَّها العلاقة الذهنيَّة بين الإنسان والموضوع الخارجيِّ – أي العلاقة التي تكون بين قوى إدراكنا وبين الأشياء التي ندركها. والبحث في نظريَّة المعرفة يشتمل على مجموعة قضايا ومسائل أساسية في طرح هذه الأسئلة ومحاولة الإجابة عنها:

– ما هي طبيعة المعرفة الخياليَّة ؟

– ما هي موضوعات المعرفة  والخيال ؟

– ما هي مصادر المعرفة الخيالَّية ومقاييسها ومدى إمكانيَّة إدراكها ؟

للإجابة عن تلك التساؤلات والأمور تتباين تبعًا للمذاهب والنزعات الفلسفيَّة والنظريَّة الكونيَّة التي تعتنقها المذاهب والأفراد في المجتمع.

يمكن القول أن ما اتَّصف به هذا العصر بـــ (عصر تفجُّر المعرفة)، وما شهده من تطوُّر فكريٍّ وتقدُّم علميٍّ، هو نتاج لنشاط عقليٍّ أولى ضرورة البحث في المعرفة ماهيَّة وقيمة ومصدرًا. والحقيقة أنَّ البحث في المعرفة مطلب لا غنى عنه في أيِّ مسألة ثقافيّة وعمل فكريٍّ، حيث أنَّه باعتماد المعرفة الوافية والشاملة يمكن تجاوز مشكلات من حيث المنهج والتخطيط في إطار العقائد والقيم، وتوجيه المسار وتحديد الموقف. وبما أنَّ المعرفة بوصفها علاقة تنمو بالتأثير المتبادل بين الذات والموضوع تظلُّ مصدرًا لتكون الثقافات المتعدِّدة، وما تفرَّع منها من علوم وازدهار حضاريّ. والمعرفة بوصفها نتاجًا يتنامى بالتأثير الفعَّال والفاعل للإنسان في الكون والحياة، كانت في فترات من التاريخ حاجة عقليَّة ورغبة ملحَّة للبحث عن الحقيقة وكشفها وإدراك عللها، ومن هنا نشأت الفلسفة بتيّاراتها المتعدِّدة، ومذاهبها المختلفة، وكان طبيعيًّا أن تختلف نزعات الفلاسفة بدرجات متفاوتة تجاه هذه الحقيقة، وقد جاءت آراؤهم في شكل “افتراضات” قد تصدر عن تأمُّل أو تحليل، أو الحدس أو الحسِّ أو التخيُّل، أو غير ذلك.

ولقد تعدَّدت المذاهب والتيّارات، واحتدم بينها النزاع، فبينما يرى العقليون أن العقل هو المصدر الأول للمعرفة، ينكر أصحاب الفلسفات الواقعيّة اعتبار العقل أداة للمعرفة، ويرفض أصحاب الوجوديَّة قدرة العقل على إدراك التجربة الإنسانيَّة الحيةَّ، والإلمام بعلاقة الإنسان بالكون –  أي الذات بالموضوع – ويحاول أصحاب فلسفة الذرائع (البرغماتيَّة) التوحيد بين معنى الفكرة وآثارها العمليَّة، ويصرُّ أصحاب النزعة العلميَّة على أنَّ الحقائق لا تكون إلَّا في العلم الطبيعيِّ وحده، والمتتبِّع للمسائل الفلسفيَّة، يرى أنَّه  رغم منوجود جوهر المعرفة وجودًا محقّقًا، إلَّا أنَّ نعت المعرفة من قلَّة وكثرة، أو نسبيَّة وإطلاق، أو فطريَّة واكتسابيَّة، هي موضوع الاختلاف بين الفلاسفة منذ أقدم عصور الفلسفة الإنسانيَّة إلى يومنا هذا. فهي تارة نسبية وأخرى مطلقة، أو أنها فطريَّة فقط تارة أخرى كلها مكتسبة مصدرها التجارب، وعلى المنوال نفسه بالنسبة إلى أدواتها و مصادرها، فتارة تختصُّ فقط في الحواسّ كما عند هيراقليطيس، و أخرى هي الحواسّ مع العقل كما يرى أرسطو، وثالثة هي البصيرة كما يرى أفلاطون، ورابعة هي العقل وحده كمذهب ديكارت، وتارة أخرى هي القلب والإلهام، وأخرى الوحي و …

 

1.1 منطلقات الفكر بين الوعي والَّلاوعي:

يمتلك الإنسان الرغبة في البحث والمعرفة والاكتشاف، مع اختلاف مستوياته العلميَّة والثقافيَّة وهي نزعة إنسانيَّة، وبحسب ما تسمح به قوى قياديَّة مخفيَّة لاواعية تدفعه إلى التمرُّد على الرأي الواعي “القسري” الذي يقف ضدَّ الانحراف والخطأ، ولعدم التكافؤ في القوى ينهزم الرأي الواعي، لأنه بالمقارنة مع الرأي اللَّاواعي يظلَّ ضئيل الفاعلية على توجيه الإنسان إلى الطريق الأصوب. وهذه القوى اللَّاواعية التي تسيطر على الإنسان في سلوكه وفكره هي ما يعبَّر عنها بضمير الإنسان ووجدانه، وهي ما ذكرها الله في كتابه العزيز بـ “الشاكلة ” {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا }[2]

 

 1.1.1 الشاكلة الإنسانيَّة [3].

 سنحاول ضبط معرفة الشاكلة الإنسانيَّة سعيًا لتحديد الأدوار التي ينبغي أن تُناط بكلِّ شخص حسب شاكلته.

ما هي الشاكلة ؟

كيف تتشكَّل وتقود الإنسان .. ما هو منشأها ؟

إنَّ الشاكلة  تستبطن المعاني الآتية: الطبيعة، الخليقة، السجيّة، الملكة، الحالات النفسيَّة، المزاج، البنية، المذهب والطريقة. وتتكوَّن الشاكلة في اللَّاوعي عند الإنسان تتشكَّل بشكل بسيط منذ بدايته، ويقال عنها أيضًا جبلة، فينشأ منقادًا إليها يتموضع حسب قوالبها التي يتشرَّبها من كلِّ ما يحيط به، فتكون عنوان ضلالة الإنسان ومصدر إغوائه. وتتمثَّل هذه الشاكلة في قوالب نمطيَّة في الذهن، إذ إنها تركيبة ذهنية تتمظهر في الانطباعات، وتسيّر الإنسان في كلِّ أبعاد الحياة، ولا تدع له مجالًا للخيار. ولقد تحدَّث عنها الله تعالى في سورة الإسراء وهي بصمة من الله. إنها الشاكلة كلُّها في ضلالة “ربكم أعلم”.. هي كناية، والكناية أبلغ من التصريح فهذه القوالب اللاَّواعية التلقائيَّة اللَّاإراديَّة في الدماغ هي مصدر الكارثة في الإنسان. وتتشكَّل هذه القوالب منذ نشأة الإنسان في بيئة في أسرته في كلِّ من يحيطون به، وتظهر في طريقة تفكيره وسلوكه وطباعه لتستمر مع الإنسان بل وتقوده إلى آخر حياته.

قد يلاحظ اختلاف هائل في كلِّ المجالات السياسيَّة الدينيَّة الاجتماعيَّة، عندما تطرح قضيَّة ما تجد لها انطباعات مختلفة وآراء تتقابل وأخرى ترفض هذا التنوُّع في الفكر هو ما يسمَّى “الشاكلة”. فالكلُّ يعمل و يقاتل على نظريَّته في البحث والمراء وينساق “كل يعمل على شاكلته”. وقد تؤدّي الشاكلة إلى مهالك إذا ما انساق الإنسان وراءها من دون اعتماد الموضوعيَّة في البحث عن الحقيقة المطلقة الصواب، ففي مسألة الدين مثلًا ثمَّة نزعات على الإنسان التخلُّص منها، إذ ليس بالضرورة أنَّ ما نشأ عليه هو الدين القويم؛ بمعنى أوضح، لقد ذكرنا أنَّ الشاكلة هي مجموعة أفكار ومواقف تتشكَّل في اللَّاوعي عند الإنسان، كما ذكرنا أنَّها يمكن أن تكون محطَّمة ومدمِّرة لحياته الاجتماعيَّة أو العلميَّة والدينيَّة لأنَّها أقوى بكثير من الخطابات الواعية في الإنسان، وبالتالي هذا الخطابات قد لا تجدي، إذ يمكن للإنسان أن يعي المفاسد التي تترتَّب على الشاكلة، ويمكنه أن يحدّث نفسه بها ويرى آثارها  ويحتكَّ مع عبر كثيرة، لكن كلُّها تصنَّف بعنوان الوعي، وتكاد تكون غير مؤثِّرة في اللَّاوعي، لكن الأشياء التي تنطبع في اللاوعي لا تتغيَّر إلَّا إذا كان الخطاب الانضباطيُّ الواعي حاسمًا مكلفًا للنفس، لأنَّ الشيء اللَّاواعي يحرِّك الإنسان بشكل تلقائيٍّ، ويصعب إصلاحه بأمر انضباط واع ربما يمكن الحدُّ منه، أما الوقوف أمامه وصده فهذا يحتاج إلى طاقة روحية كبيرة.

 

 2.1.1. الشاكلة في تعريف علم النفس وتفرُّعاته:

إنَّ تحديد شاكلة الإنسان النفسيَّة وشخصيَّته الحقيقيَّة، يُعدُّ أكثر من ضرورة كي يحدِّد الشخص موقفه من الدور الذي يجب أن يضطلع  في علاقاته الاجتماعيَّة أو الأسريَّة أو علاقته تجاه ربه، كما أنَّ معرفة الشاكلة تساعد على أن يحدِّد الإنسان موقفه في مرحلة تخطيطه لبناء مستقبله برسم مبدأ لمساره.

قدَّم علماء النفس تعريفات عدَّة للشاكلةً ننتخب منها أربعة:

أولًا: هي مجموعة من الصفات الجسديَّة والنفسيَّة الموروثة والمكتسبة ومجموعة من القيم والتقاليد والعواطف والقيم مثل قيمة العدالة والرَّحمة والإحسان وغيرها، فمن شاكلته النفسيَّة الرحيمة والإنسانيَّة يكون تعامله مع الفقراء والمساكين والأيتام والضعفاء بشكل عامٍّ على نحو مختلف تمامًا عمَّن تشكِّل القسوة والظلم شاكلته النفسيَّة.                                      

ثانيًا: هي المجموع الكلّيُّ للأنماط السلوكيَّة الظاهرة والكامنة المقرَّرة بالوراثة والمحيط.

ثالثًا: هي مجموع المفاتيح التي تقرِّر متى يستجيب الفرد وكيف يستجيب و نوع الاستجابة.

رابعًا: هي تلك السمات والأنساق الفرديَّة الثابتة نسبيًّا والتي تبلورت عبر الزمان على شكل نمط يميّز الفرد عن غيره.

ولقد اختلف العلماء في محدَّدات السلوك الإنسانيِّ إلى مدارس، أبرزها مدرستان: المدرسة البيولوجيَّة، والمدرسة السلوكيَّة.

المدرسة البيولوجيَّة: هي التي ترى أنَّ المحدَّد الرئيس للسلوك الإنسانيِّ ولصناعة شخصيَّته هو المورّثات أو الجينات الوراثيَّة، ولا تأثير لعوامل التربية والبيئة وغيرها في صناعة الشخصيَّة. وتعتبر دراسة حالة التوائم من أقوى أدلَّتهم على ذلك. كما يرى هؤلاء أنه كما أنَّ الجينات الوراثيَّة هي المسؤولة عن تحديد لون العين والبشرة وشكل الإنسان وحجمه ومختلف أجهزة بدنه، فكذلك هي المسؤولة عن شاكلته النفسيَّة وشخصيَّته السيكولوجيَّة. أمَّا الاعتراض بأننا نرى كثيرًا من الأبناء يمتلكون لونًا أو شعرًا أو هيكلًا يختلف تمام الاختلاف عمَّا يمتلكه آباؤهم، فقد تكون عيناه زرقاوين أو عسليَّتين وعيون الأبوين سوداء مثلاً، فقد أجابوا عن هذا الاعتراض بأنَّ ذلك من الطفرة الوراثيَّة، وأنَّ أحد أجداده كان يحمل تلك الصفات فانتقلت عبر قفزة وراثية إلى بعض الأحفاد.

المدرسة السلوكيَّة: ترى أنَّ للبيئة اليد الطولى في بناء الشخصيَّة، وأنها نتاج التفاعل بين الفرد وبيئته.

من الواضح أنَّ وجه الخطأ الأساس في هذه النظريَّات هو تطرُّفها وعدم اعتدالها، ونظرتها الأحاديَّة غير الموضوعيَّة للعوامل المؤثِّرة في بناء الشخصيَّة، فكلُّ تلك العوامل وغيرها ممَّا سيأتي تؤثِّر بدرجة ما، وبنحو المقتضي لا العلَّة التامة، وقد يتم تحييد تأثيرها بطرق مختلفة  كما سنسعى لتبيانه.

 

3.1.1. نظريَّة اختلاف أفراد البشر بالجوهر والماهيَّة عند الرازي:

ذهب الفخر الرازي إلى أنَّ الناس أنواع مختلفة بالماهيَّة والجواهر، وأنَّ الأفعال الشريرة تصدر من الإنسان لأنَّ شاكلته وجوهر نفسه وماهيَّته شريرة، على العكس من الأفعال الخيِّرة التي تصدر منه لأنَّ شاكلته هي شاكلة النور والجوهر. وقد صرَّح بأنَّ ماهيَّات الناس تختلف بالنوع والجوهر، وأفاد، بما يشبه التصريح وبما هو لازم كلامه قهرًا، بأنَّ الأفعال الخيّرة والشرّيرة وليدة حتميَّة للنفوس الخيّرة والشرّيرة، وكذا الصفات الحسنة كالكرم والشجاعة والفتوَّة والحميَّة والتواضع، والصفات السيِّئة كالجُبن والحسد والحقد وغير ذلك. “قال: ثم قال تعالى {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} قال الزجاج: الشاكلة الطريقة والمذهب، والدليل عليه أنَّه يقال هذا طريق ذو شواكل أي يتشعَّب منه طرق كثيرة، ثم الذي يقوي عندي أنَّ المراد من الآية ذلك قوله تعالى: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} وفيه وجه آخر وهو أنَّ المراد أنَّ كل أحد يفعل على وفق ما شاكل جوهر نفسه ومقتضى روحه فإن كانت نفسه نفسًا مشرقة خيِّرة طاهرة علويَّة صدرت عنه أفعال فاضلة كريمة، وإن كانت نفسه نفسًا كَدِرة نذلة خبيثة مضلّة ظلمانيَّة صدرت عنه أفعال خسيسة فاسدة. “وأقول: العقلاء اختلفوا في أنَّ النفوس الناطقة البشريَّة هل هي مختلفة بالماهيَّة أم لا ؟ منهم من قال: إنَّها مختلفة بالماهيَّة، وإن اختلاف أفعالها وأحوالها لأجل اختلاف جواهرها وماهيَّاتها، ومنهم من قال إنَّها متساوية في الماهيَّة واختلاف أفعالها لأجل اختلاف أمزجتها. والمختار عندي هو القسم الأول والقرآن مشعر بذلك، وذلك لأنَّه تعالى بيّن في الآية المتقدِّمة أنَّ القرآن بالنسبة إلى البعض يفيد الشفاء والرَّحمة وبالنسبة إلى أقوام آخرين يفيد الخسارة والخزي، ثم أتبعه بقوله: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} ومعناه أن اللَّائق بتلك النفوس الطاهرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الذكاء والكمال، وبتلك النفوس الكدرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الخزي والضلال، كما أنَّ الشمس تعقّد الملح، وتليّن الدهن، وتبيّض ثوب القصّار، وتسوّد وجهه. هذا الكلام إنما المقصود منه إذا كانت الأرواح والنفوس مختلفة بماهيَّاتها فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نور على نور، وبعضها كدرة ظلمانيَّة يظهر فيها من القرآن ضلال على ضلال ونكال على نكال”. غير أنَّ الدعوى باختلاف النفوس الناطقة البشريَّة هو اختلافٌ بالماهيَّة، وأنَّ اختلاف أفعالها وأحوالها لأجل اختلاف جواهرها وماهيَّاتها يكذِّبها الوجدان والفطرة كما يدرك العقل المستقلُّ بطلانها؛ وذلك لبداهة أنَّ الشجاعة والجبن والكرم والبخل والتكبُّر والتواضع وغيرها حالات عارضة للإنسان وليست جزء ذاته أو نفس حقيقته، وليس الشجاع أو الكريم أو المتواضع مختلفًا بالجوهر والماهيَّة والحقيقة والذات والذاتيَّات عن الجبان والبخيل والمتكبِّر، بل هي إعراض مفارقة؛ ولذا أمكن أن يتحوَّل الشجاع جبانًا أو العكس، وأن يتحوَّل الكريم بخيلًا أو العكس. والحاصل أنَّه يدلُّ على عدم الاختلاف الذاتيِّ باختلافها. لعلَّها مفارقة غير لازمة مع أنَّ الذات والذاتيَّ لا تختلف ولا تتخلَّف و”ذاتي شي‌ء لم يكن معلَّلاً” حتى عرَّف الذاتيَّ بما لا يعلّل والعرضيّ بما يعلّل‌، و”كان‌” خاصَّته الأخرى أنه‌ “ما يسبقه تعقُّلًا. وكان أيضًا بيّن الثبوت له‌” إذا تعقَّل ذلك الشيء بالكنه. “وعرضّيه‌” أي عرضي الشيء “اعرفن‌” في كلِّ من المقامات‌ “مقابله .

إنَّ بعض الصفات، وإن كانت لازمة، فإنها تبقى كيفيَّةً وصفةً وعرضًا من الأعراض؛ ألا ترى أن العلم كيفيَّة نفسيَّة وليس ذات الإنسان؟ والبداهة تشهد بأنَّ الجبان لو صار شجاعًا فإنَّه قد تعاقبت صفتان على نفسه الإنسانيَّة واختلفتا عليه مع وحدته وليس أنَّه كان نوعًا (كالأسد) فصار نوعًا آخر (كالكلب مثلًا). هذا كله إضافة إلى بداهة أنَّ الرجل والمرأة من نوع واحد وكلاهما إنسان، ولكن على كلامه يلزم أن تكون المرأة من ماهيَّة أخرى غير الإنسان! وكذلك يلزم أن يكون الأسود من ماهيَّة أخرى غير ماهيَّة الإنسان الذي هو الأبيض فقط. والأدهى من ذلك قوله بأنَّ اختلاف أفعالها إنما هو لاختلاف جواهرها، إذ يلزمه إضافة إلى ما سبق: أنَّ الإنسان لو عصى الله بغيبة انقلبت ماهيَّته إلى ماهيَّة أخرى، ثم لو أطاع انقلبت ماهيَّته مرة أخرى، ثم لو عصى انقلبت ماهيَّته مرة ثالثة، وهكذا قد تنقلب ماهيَّته باليوم والليلة مائة مرة أو ألف مرة!

من جانب آخر، إن استظهار الرازي من الآية باطل لأنَّ قوله تعالى أعمُّ من كون عمله على شاكلته عن اختيار أو اضطرار فإنه صادق على كليهما لو لم نقل باختصاصه بالأول بقرينة إسناد الفعل إليه الظاهر في صدوره عن إرادة وقصد، وأعمّ من كون الشاكلة علّة تامّة لعمله أو علّة ناقصة، فقوله (وهذا الكلام إنما يتمُّ المقصود منه إذا كانت الأرواح والنفوس مختلفة بماهيَّاتها فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نور على نور وبعضها كدرة ظلمانيَّة يظهر فيها من القرآن ضلال على ضلال ونكال على نكال) [4]“. هذا الكلام يتمّ أيضًا مع كون النفوس ذات ماهيَّة واحدة وكون اختلاف تأثير القرآن عليها لاختلاف أمزجتها المتكوِّنة بإرادتها وببعض أفعاله على امتداد الزمن، بل يتمُّ أيضًا مع كون النفس حرَّة مختارة (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) فلها أن تختار الاستشفاء بالقرآن، ولها أن تختار العناد والتعصُّب، فهو مختار في الميل لأحدهما: إمَّا العناد والأهواء والشهوات ولقاءات الشياطين، أو لاهتداء والعقل والملائكة والتوفيق الربّاني.

بعبارة أخرى: كما أن قول (الدواء للشفاء) لا يفيد أنه عِلّة تامَّة له بل هو مقتضٍ له فكذلك (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ للمُؤْمِنِينَ }[5]، فإنه مقتضٍ لشفائهم، ويمكن: ألَّا يستجيب المؤمن لنداء القرآن فيتحوَّل عليه نقمة ويكون ضارًّا به، وكذلك حال الظالم فإنَّ القرآن مقتضٍ ليزيده عنادًا وجحودًا لكن يمكن له أن يستجيب له ويتغيَّر.. ولذا قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [6]. كما يشهد لذلك أنه على مرّ التاريخ كان الكفَّار هم الذين يسلمون إذ كانوا يستمعون إلى القرآن الكريم فيهتدون، فقد نزل عليهم شفاء ورحمة، كما أنَّ بعض المسلمين ارتدّوا إذ شكَّكوا في إعجاز القرآن أو في بعض آياته، فكان عليهم خسارًا ونقمة.

 

2.1. الشاكلة والعقيدة :

الشاكلة هي تلك القوالب التي تشكِّل ضمير الإنسان ووجدانه وتفكيره لا تتأثَّر خصوصًا في الجانب الإيمانيِّ. فمثلًا يعيش الإنسان في شهر رمضان حالات معنويَّة وروحانيَّة وطاقة تأثيريَّة كبيرة ينوي الاستمرار عليها بعد قضاء رمضان، لكن بمجرَّد انتهاء الشهر ويعود إلى سلوكه وطباعه وطرق تفكيره، تجبره تلك القيادة المخفيَّة اللَّاواعية للتمرُّد على الرأي  القسريِّ الواعي الذي يقف ضدَّ الانحراف والخطأ  لعدم المتكافئ في القوى والتأثير على النفس، إلَّا في حال القطع التام مع العصبيَّة النفسيَّة والفكريَّة والعقديَّة وهي طاقة معنويَّة جديدة تضاف للإنسان تنصهر في اللَّاوعي والوعي وتسير بشكل متوازٍ يمكِّن الإنسان من السيطرة على تلك القوالب، ومعالجة ما يجب معالجته باستحداث مفاهيم جديدة تولّد عنده طاقة تمكّن من الانتصار على تلك القوالب المتزامنة معه هذه المفاهيم هي “الإخلاص الى الله والتسليم له سبحانه وتعالى”. وما يعبّر عنه بالموعظة خصَّ الله بها عباده المسلمين من دون سائر الأمم السابقة، فخاطب رسوله محمد بــــ “قل” ” قل إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاِحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ”، وهي أم المواعظ وهي نقطة انطلاق إصلاح النفس وبداية الهداية والوعي الصحيح.

 

1.2.1. الشاكلة في العلم الحديث:

الشاكلة تتكوَّن من أمور عديدة منها: النيَّة والقصد والعزم والمزاج، والسجيَّة، كما نعتقد أنَّ منها: العقل الباطن أو العقل اللَّاواعي.

 

 2.2.1. العقل الباطن “أرشيف” ضخم متطوِّر:

كان علماء النفس يعتقدون بأنَّ اللَّاوعي يشكِّل مخزنًا للصور والمسموعات والذكريات بل كانوا يعدّونه أرشيفًا متطوِّرًا تنطبع فيه كلُّ ما تراه أو تسمعه أو تقرأه، والغريب أنهم اكتشفوا أنَّ كلَّ ما تقع عليه العين، وإن لم تلتفت إليه النفس، ينطبع بكلِّ تفاصيله في اللَّاوعي حتى التفاصيل الدقيقة جدًّا، فلو نظرت إلى غابة كبيرة فإنَّ صورتها تنطبع بكلِّ التفاصيل الدقيقة التي نالها البصر، في اللَّاوعي وفي منطقة محدَّدة من المخِّ، ولو تطوَّرت قدرات الإنسان بأنواع من الرياضة الروحيَّة والعقليَّة، أو لو تطوَّر العلم فلربما أمكنه صناعة عقارات وأدوية تمكِّن منطقة الوعي من الإشراف على منطقة اللَّاوعي وعلى الأرشيف كلّه، وحينئذٍ سيذهل الإنسان لكميَّة المعلومات الهائلة التي اختزنها في ذهنه وهو لا يعلم، ومع تطوُّر علم النفس وعلم الأعصاب والمخّ توصَّل العلماء إلى نتيجة أعظم، وهي أنَّ اللَّاوعي ليس مجرَّد مخزن ضخم، أو أرشيف عظيم، أو جهاز متطوِّر لحفظ المعلومات، بل إنَّه فوق ذلك يقوم بدور نشط في عمليَّات صنع القرار واتخاذ المواقف، فليس كأي أرشيف آخر مجرَّد مستودع للصور والذكريات بل إنه يمتلك تأثيرًا على الإنسان من حيث لا يدري في صناعة قراراته. ويتجلَّى تأثير منطقة اللَّاوعي أكثر فأكثر عند المنعطفات الخطيرة وفي مواطن الامتحان الصعبة.

 

3.2.1. عوامل تكوين الشاكلة:

هناك عوامل كثيرة تؤثّر في تكوين الشاكلة منها منبِّهات دُوَين العتبة [7]“. والمقصود بـ(العتبة) عتبة الإحساس، فإنَّ من الثابت علميًّا أنَّ الحواسَّ إنما تلتقط المسموعات والمبصرات وغيرها إذا كانت بين حدَّين محصورين. فمثلًا العين لا تبصر من الألوان إلَّا الأحمر وصولًا إلى البنفسجيِّ فلا تبصر الألوان تحت الحمراء ولا فوق البنفسجيَّة، أي أنَّها تبصر موجات الضوء المحصورة بين طوله موجات الضوء الأحمر وهي 625 إلى 760 نانومتر وطول موجات الضوء البنفسجيِّ وهي 380 إلى 420 نانومتر.[8]“. وكذلك القوة السامعة فإنَّها لا تسمع إلَّا الأصوات التي يتراوح تردُّد موجاتها بين 20 ذبذبة في الثانية إلى 20 ألف ذبذبة في الثانية، فلا تسمع الأصوات إذا كانت أقل من 20 أو أكثر من 20 ألف، عكس بعض الحيوانات كالكلب مثلًا الذي يسمع ما لا نسمعه أبدًا لاختلاف تركيبة جهازه السمعي.

 

  1.3.2.1. المؤثِّرات الخفيَّة:

على ضوء ذلك بنى علماء النفس والاجتماع في دراساتهم حول سيكولوجيَّة الجماهير، وقد بنى علماء الأعلام نظريَّاتهم في كيفيَّة التأثير على المشاهد والمستمع عبر استخدام ذكيٍّ لمنبِّهات دُوَين العتبة (ودُوَين تصغير دون، والعتبة كما سبق هي عتبة الإحساس). فهذه المنبِّهات هي منبِّهات غير محسوسة لذلك لا يدركها العقل الواعي كي يحكم عليها بالسلب أو الإيجاب، بل تصل إلى العقل الباطن مباشرة فتفرُّ من حكومة العقل الواعي عليها.

والسرُّ في الأمر أنَّ المنبِّهات لو كانت حسّيَّة، كصورة امرأة متكشِّفة، فإنَّ الوعي الظاهر يتَّخذ منها موقفًا بعد أن يصنِّفها في خانة الرذائل أو المحرَّمات أو خادشات الحياء مثلًا، لذا يقلُّ تأثيرها اللَّاشعوري على الإنسان، ولكن الصورة إذا دخلت إلى اللَّاوعي عبر ما هو دون مساحة الحسِّ فإنَّ العقل الواعي لا يمكنه أن يصنِّفها إذ لم تمرّ عبره بل كانت قد دخلت للعقل الباطن مباشرة، وهي غير مصنَّفة فتثير في الإنسان الشهوة البهيميَّة من حيث لا يدري السبب. لذلك كلّه، قام صنَّاع الأفلام في هوليوود وغيرها باستغلال نقطة الضعف الإنسانيَّة هذه أسوأ استغلال حيث استعانوا بما أثبته العلم من أنَّ الصورة إذا مرَّت أمام الإنسان بسرعة جزء من مائة جزء من الثانية، فإنَّ الإنسان لا يشعر أنَّه رآها لكن العين تسجِّلها كأية كاميرا دقيقة جدًّا وتنقلها لمنطقة اللَّاوعي، ولأجل ذلك، ولأجل التأثير على الناس وإفسادهم، وضعوا في الكثير من الأفلام حتى البريئة منها (كأفلام الطبيعة أو الأفلام العلميَّة) صورًا خليعة جدًّا لا ترى بالعين المجرَّدة أبدًا أو وضعوا صورًا دعويَّة معيَّنة كصورة كنيسة رائعة أو قسيس يعطف على الفقراء أو غير ذلك.. والأثر الخفيُّ لمثل هذه الصور يتراوح بين الكبير جدًّا والمتوسِّط والضعيف حسب اختلاف الأنفس ودرجات الحصانة ومراتب ذكر الله، وغير ذلك. بل لقد ضمَّنوا أفلام الكارتون، والإعلانات التجاريَّة، والملصقات، والعروض المسرحيَّة والتجاريَّة، وغيرها، الكثير من الرسائل (المكتوبة أو المصورة) التي تستهدف التأثير على زوايا خاصَّة في الفكر البشريِّ، أو في العاطفة الإنسانيَّة، أو في الأهواء والشهوات، أو حتى في المواقف السياسيَّة والاقتصاديَّة والحقوقيَّة.

كان المنهج العقليُّ التحليليُّ والاجتهاديُّ والتاريخيُّ أكثر المناهج التي اعتمدناها للاستعانة بالقراءة في بعض نصوص التفاسير والتاريخ والتأويليِّ، وصولًا إلى الهرمنيوطيقا التي حاولنا  تطبيقها على النصِّ القرآنيِّ، حتى يكون لنا هامش من الاجتهاد في النصِّ الدينيِّ. ثم كانت لنا عودة إلى أعماق الماضي نستمدُّ منه أعرق أشكال السرد في القصِّ القرآني، وإطلالة على أنواع من سرودات ومحاولة منا لإضافة أنواع أخرى كالسرد الأليغوري والسرد الكرونولوجي والسرد الميتافيزيقي، وهي نواة لبحث آخر سنعمل إن شاء الله على تطويرها والتوسُّع فيها .

قد يكون المسلم بشكل خاصٍّ في غنى عن الهِرمينوطيقا بهذا المعنى، مادام يؤمن بأن القرآن الكريم هو كتاب الله المنزل المحفوظ بحفظ الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}”[9]  ومادام يؤمن أن الرسول: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى- إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [10]، ومادام يؤمن (المسلم) بأنَّ الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، معصوم عن الزلل والخطأ والجهل. وعلى ذلك، فإنَّ كلَّ كلمة صادرة عن الرسول هي عين الحقيقة وذات الواقع، ولا يعقل أن تكون مناقضة للعقل السليم الفطري([11])، أو للعلم المطابق للواقع، فأيَّة حاجة بعدها إلى التمسُّك بالرمزيَّة الهرمنيوطيقا كسلاح للدفاع عن القرآن الكريم لكن بمنهجية {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ}[12] ؟

إنَّ الهرمنيوطيقا التي شكَّلت الدفاع المنطقيَّ كما يزعمون عن الإنجيل المحرَّف، تعدُّ في الوقت نفسه السلاح الخطير السريَّ لمنهجيَّة التحريف المعنويِّ للقرآن الكريم، و(التفسير الباطني) الذي لا يستند إلى ضوابط إلهيَّة، أو إلى تفسير وتأويل من نزل القرآن في بيوتهم. وهذا يستبطن في ما يستبطن: أن (الهرمنيوطيقا) ببعض مدارسها قد تستخدم بل قد استخدمت بالفعل لضرب القيم القرآنيَّة وإلغاء الأحكام والقوانين الإلهيَّة، كما وردت في الكتاب والسنَّة، بمظهر عصريٍّ حداثويّ. كما أنَّ (الهرمنيوطيقا الفلسفيَّة) التي تذهب إلى نسبيَّة الحقيقة أو إلى نسبيَّة المعرفة ـ بعدد من معانيها، ـ تعدُّ السلاح الأبرز للتملُّص من القوانين والأحكام والشريعة الإلهيَّة المتجسِّدة في القرآن الكريم، والرسول، بل هي السلاح الخطير لضرب كلِّ القيم الإنسانيَّة وكلِّ الأحكام العقليَّة ـ كما حاولنا أن نبيّن مطاوي البحث.

ويجدر القول أنَّ (الهرمنيوطيقا اللغويَّة)، إذا لم تمارس بطريقة منهجيَّة ذات ضوابط وأسُس علميَّة، تعتبر الطريق المعبَّد للتلاعب بالنصوص على حسب الأهواء والرغبات، بل إنها الطريق الواسع للفوضى المعرفيَّة الشاملة، أو إنَّها الوجه المعاصر للسفسطائيَّة بأحد تجلّياتها، أو هي عوائق أبستيمولوجيَّة للمعرفة العلميَّة، ولذا، نجد أحد أكبر فلاسفة الغرب شلاير ماخر، عرف الهرمنيوطيقا بـ (فن امتلاك الشروط الضروريَّة للفهم) “[13].

لقد تغافل بعض علمانيّي المسلمين عن المذاهب الأخرى الهرمنيوطيقيَّة، والتي يمثّلها فلاسفة غربيون أهمُّهم شلاير ماخر، التي تعترف بـ(قصد المؤلف ومراداته) الكامنة وراء النص، وضرورة البحث عنها مطلقًا أو في الجملة، كما تعترف بـ(سوء الفهم) كأمر واقع وحقيقة لا تنكر، والتي حاولت أيضًا اكتشاف ضوابط لعصمة القارئ عن سوء الفهم، وسعت لوضع القوانين والمعايير التي تضمن الفهم الصحيح للنصوص”[14]ـ وسوء الفهم عن قسمين: سوء فهم دلالات النصِّ على مفاداته بنفسه، وسوء فهم مقاصد المؤلّف من النص.

إنَّ مسألة البحث عن خالق الكون والاعتقاد به، بات أمرًا يهمُّ جميع الأفراد والشعوب من دون اختصاص بجماعة أو بفرد، لأن القضايا المطروحة في حياة الإنسان على نوعين: نوع يختصُّ بطائفة معيَّنة من الناس كالمسائل الفيزيائيَّة والكيميائيَّة، ونوع لا يختصُّ بطائفة أو فئة معيَّنة، بل يهمُّ جميع الناس وهي مسألة الاعتقاد بالله الخالق لهذا الكون، وهو هاجس كلِّ عاقل: من أين جاء؟ ولماذا جاء؟ وإلى أين يذهب؟

لقد اجتهدت الأبحاث الاعتقاديَّة في الإجابة عن هذه التساؤلات المطروحة، بالإضافة إلى بعض الدراسات والتحقيقات التاريخيَّة والنفسيَّة التي أثبتت أن العقيدة كانت دائمًا سببًا للتحوُّلات والتطوُّرات العظيمة في الحياة البشريَّة، وكان الفكر الدينيُّ ملهمًا ومصدرها للعلوم والفلسفة والآداب والفنون. في هذا السياق، كتب شارلز داروين في كتابه “بعد مليون سنة” : “إنّ الإنسان سيحتفظ بالعقيد الدينيَّة في المليون سنة المقبلة، قياسًا على المعهود من تاريخه القديم والحديث، لهذا كانت العقائد على جانب من الأهميَّة بالنظر إلى المستقبل، لأنَّ العقيدة الأمل في دوامها بعد صاحبها وفي سيطرة الإنسان على مصيره بفضلها”[15]“.

إنَّ عودة شيوع الأفكار الإلحاديَّة في هذا العصر والإصرار على تسطيح الفكر، يحفِّزنا على العمل في إظهار قيمة الفكر الدينيِّ الذي  تألَّفت لأجله مئات الكتب الكلاميَّة والفلسفيَّة والأدبيَّة بما يتناسب مع كلِّ العصور، ورغم الجهود المبذولة في الدفاع عن العقيدة وبيان مسائلها ومنهاج بحثها وفلسفتها، والردّ عن الفلسفات المادّيَّة الحديثة منها القديمة، إلَّا أنَّ تيارات الفكر الإلحاديِّ خيَّمت بقوَّة شديدة على شبابنا المسلم. وقد صوَّب أعداء الإسلام معاولهم لهدم وزعزة الفكر الدينيِّ بكلِّ وسيلة عبر منشوراتهم الواسعة الانتشار في مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من المنابر بإثارة الشبهات ونشر الإلحاد. لأنَّهم أدركوا ما لدور العقيدة في إيقاظ الأفكار وإثارة الهمم وتحصين الأفراد والمجتمعات. ولا شكَّ في أنَّ العصر الحاضر وما فيه من أوضاع يفرض على كلِّ مثقَّف أن ينهض بواجبه في توضيح ورسم ملامح العقيدة الدينيَّة بشكل يناسب لغة هذا العصر ومتطلّباته، وأبحاث اعتقاديَّة تستعرض الآراء المختلفة في معرفة الخالق وتفسير الكون ونشأته ونظامه بأسلوب علميٍّ رصين.

لقد حاولنا مقاربة آراء ونظريَّات مطروحة من قبل المفكِّرين الإلهيين والماديين لتفسير الظاهرة الكونيَّة وتعليل وجودها بالاستناد إلى النصِّ القرآنيِّ كمصدر أساسيٍّ ثم إلى الأحاديث الشريفة. وكانت قصة الخلق ماثلة في كامل البحث ومخصوصة بقصة آدم (ع) التي يكتنفها الخيال والغموض لما هي غيبيَّة من جهة، ومحوريَّة من جهة أخرى.

 

قائمة المراجع:

 

  • القرآن الكريم.
    • الرازي، فخر الدين : “تفسير الفخر الرازي”، ط1، .دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، سنة 1981، ج 21.
  • شرفي، عبد الكريم : ” من فلسفات التأويل إلى نظريَّات القراءة”، دراستة تحليليَّة نقديَّة في النظريَّات الغربيَّة الحديثة، الدار منشورات الاختلاف، الجزائر/ الدار العربيَّة للعلوم – ناشرون بيروت لبنان، ط1 سنة 2007.
  • نيتشه أورده المسعدي محمود، حدث أبو هريرة قال، دار نشر الجنوب، سلسلة عيون المعاصرة، تونس 1979، ص 15.

[1] – نيتشه أورده المسعدي محمود، حدث أبو هريرة قال، دار نشر الجنوب، سلسلة عيون المعاصرة، تونس 1979، ص 15.

  • سورة الإسراء، آية 84.
  • الشاكلة : او السجية – الطبع – الجبلة.. /  لغويا : 1 الشكل او الشِكل : الشَكل أحد معانيها القيد يقال شكلت الدابة او شكلت الكتابة اي قيّدته بالاعراب، أي القيود الذاتية الموجود في الإنسان بتعبير اخر كوابح . وثاني معاني للشكل هو الشبه – النظير – المثل /{كلٌ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} اي سنخ وجنس النفس والعمل هو مجلي للنفس الإنسانية، العمل مظهر والشاكلة هي المخبر، الواقع /الظاهر، الكمون /البروز ؛ معنى شاكلته اي على نظير ما هو عليه في واقعه. 2 الشِكل : الهيأة أي على حسب الهيئة النفسية أي حسب صورته المحسوسة او المتوهمة.
    • الرازي، فخر الدين : “تفسير الفخر الرازي”، ط1، .دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، سنة 1981، ج 21، ص 36.
    • سورة الإسراء، آية 82.
    • سورة سبأ، آية 46.
  • دوين العتبة (دوين” هي تصغير “دون”، “العتبة” المقصود بها “الدرجة” ) الادراك الخفي او الادراك في اللاشعور هو معلومات بصرية او سمعية يزعم انه يتم تمييزها تحت درجة الادراك وان لها القدر على التأثير على سلوك الانسان

-مصطلح في علم النفس والأعصاب يطلق على المثيرات التي تكون تحت عتبة ادراك الحواس. مثل الرسائل المخفية في وسائط مثل الفيديو او الصوت او الصور الكارتونية المتحركة. لا يدعم هذه الفكرة أدلة قوية ويصنف كثير مما تتضمنه ضمن مفهوم الإستسقاط ومفاهيم العلوم الزائفة الأخرى. من الأمثلة عليه إظهار صورة تدوم لمدة 1/100 من الثانية اثناء عرض فيلم معين، تدعو هذه الصورة المشاهدين إلى اقتناء شئ معين مثل شراء مشروب غازي بماركة معينة، فيقوم المشاهدون بشراء ذلك المشروب زعماً من مروجي مفهوم المنبه دوين العتبة أو الادراك الخفي.

  • زيارة موقع ويكيبيديا بتاريخ 08/08/2019 .
  • سورة الحجر،آية 9 .
  • سورة النجم، آية  3- 4 .
  • حول معاني العقل، ومقاييس تمييز (العقل) كقوة إلهية كاشفة عن الحقائق، عن (العقل) الواقع تحت أسر الأهواء والشهوات.
  • سورة النساء: 46 . سورة المائدة: 13 .
  • شرفي، عبد الكريم : ” من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة”، دراستة تحليلية نقدية في النظريات الغربية الحديثة، الدار منشورات الاختلاف، الجزائر/ الدار العربية للعلوم –ناشرون بيروت لبنان، ط1 سنة 2007، ص 26 .
  • من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة”، المرجع السابق، ص 26 .

“في مليون السنة المقبلة” هو عنوان كتاب (The Next Million years) ألفه السير شارل داروين العالم الطبيعي المشهور في العصر الحاضر. وهو بالبداهة، غير شارل داروين صاحب مذهب التطور، فهو حفيده وواحد من أسرة كبيرة كاد أفرادها جميعًا أن يشتهروا بالعلم والثقافة ويبلغوا في دراساتهم الخاصة مبلغ الإمامة والرئاسة، ومنذ أيام جدهم الأكبر أراسموس داروين الذي نشأ في أوائل القرن الثامن عشر لم تخلُ الأسرة من عالِم نابه يتخصص في علم من العلوم الطبيعية أو الرياضية، ويطرد هذا في أبناء العمومة من أسرة جالتون (Galton) كما يطرد في أسرة داروين. وأهم المقترحات التي جاءت في الكتاب: أن يعمد المصلحون إلى الوسائل البيولوجية لترقية السلالة البشرية، فلا نظن أن المؤلف يقترح هذا المقترح إلا وقد قام لديه دليل الحس من أسرته نفسها على إمكان هذه الترقية البيولوجية وتطبيقها في الجماعات الكبيرة والآماد الطويلة. يقرر داروين العصري أن الإنسان سيحتفظ بالعقيدة الدينية في المليون السنة المقبلة قياسًا على المعهود من تاريخه القديم والحديث، وهو يتكلم عن العقيدة (Creed) كأنها صفحة من الصفحات في تاريخ الديانة تستغرق نحو مائتي سنة، وتبقى الديانة العظمى مع تجدد العقائد فيها إلى أجلها المحتوم، لا يقدح في هذا التعميم أن العقائد عرضة للمخالفة في كل زمن، فتلك طبيعة في بعض الناس أن يخرجوا من الصف ولا يطيقوا الصبر على نظام القطيع.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى