الدراسات والبحوث

قراءة تقابليَّة في منهاجَيْ محيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي

د. ليلى عبد الكريم خليفة

قراءة تقابليَّة في منهاجَيْ محيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي

د. ليلى عبد الكريم خليفة

باحثة في تاريخ الحضارة وأستاذة متخصصة في التصوف – الأردن.

 

كثيراً ما يُنظر إلى الاختلاف بين مدرستى محيى الدين وجلال الدين، كالاختلاف بين الجمال والجلال، والليل والنهار، والواضح والمبهم، والصعب والسهل الممتنع، والمشرق والمغرب، وقد حرصنا على إدراج هذه المتغيرات تحت مفهوم فتوح «العربية والأعجمية»، تناولنا إطارها النظرى العلمى العرفانى من وجهة نظر ابن عربى.

وحرصنا على بيان أصل وحدتها، وحدة علمية عرفانية وجودية. فلكل ليل نهاره، ولكل مشرق مغربه. كتب ابن عربى للخاصة، إذ إن مؤلفاته تحتاج إلى التأهيل والتأسيس، والإحاطة بعلوم مختلفة، منها علوم اللغة وبيانها وأساليب بلاغتها، والشعر والأدب، وعلوم التفسير والحديث والفقه. وكتب جلال الدين بأسلوب بلاغى أدبى شعرى رفيع المستوى.

وهو فى متناول عامة الناس كما يتوجه للخاصة. ضمّن ابن عربى الحكمة المغربية الحسية المبهمة فى كلامه المشرقى العربى الواضح، فأخبر عما يقابل العلوم المعنوية من عالم الحس.

وأوضح الرومى وضمن الحكمة المشرقية حكمة مغرب الحس، وأخبر عما يقابل عالم الحس من العلوم المعنوية. كان الإيضاح والإفهام مقصودا كلاهما، بالإعراب والبيان الموضح تارة، وبالرمز المبهم بالإعجام تارة أخرى. نهجا كما بينا منهاجين مختلفين، ولكن عادت أحكامهما لأصل واحد جمعهما هو القرآن الكريم.

اشتهر محيى الدين بن عربى (638هـ/ 1240م) بأدب العرفان الفلسفى والفقه الروحانى، فعرف «بالشيخ الأكبر» وذاع صيت جلال الدين الرومى ( 672 هـ/ 1273 م) فى ميدان الوجد والعشق الإلهى فعرف «بمولانا». اختلف منهاجاهما كاختلاف الشرق والغرب، والليل والنهار، والعربى والأعجمى. جاء ابن عربى من أقصى المغرب، من الأندلس بطلاسم وعلوم غيب وأسرار فتوحات، وجواهر فصوص حاملاً فى وجدانه أريج أندلس اشبيلية وقرطبة، ونزل فى مغرب فاس ومراكش وبجاية وتونس ليستقر فى دمشق حيث دفن.

وجاء جلال الدين من أقصى الشرق من بلخ أيضاً بجواهر علوم وأسرار وطلاسم وحكايات بشر وغير بشر، حاملاً أخبار مدن الشرق وعبقه، من بلخ ونيسابور وسمرقند وبغداد ليستقر فى قونية، (كانت تعرف ببلاد الروم آنذاك فعرف بالرومي)، حيث دفن. اشتهرت كلتا مدرستيهما.

وصارت كل منهما معلماً عرفانياً تقابل الواحدة الأخرى وتكاملها. تُدرّس وتترجم تعاليمهما فى مراكز علمية عالمية، فى العالم الغربى كما فى العالم الشرقى. ونحن فى هذه الورقة لقراءةٍ تُقابل منهاجيهما وتتلمس مجمع بحريهما من خلال دراساتنا فى مؤلفات الشيخ الأكبر خاصة.

توسع الخطاب العرفاني الصوفي وقامت له قائمة متينة فى التفسير والفقه والفلسفة العرفانية، وانخرط فى التراث الأدبى بما فيه من حِكم وأمثال ومواقف، وكذلك فى التراث الشعبى من مقامات وحكايات وروايات عن كرامات. أبدع الخطاب الصوفى تفصيلا وإيجازاً ونظما ونثراً.

وشمل جميع فنون البيان والبلاغة اللغوية. لم يترك منهاجاً إلا وطرقه، ولم يترك علما ولا فناً إلا ووظفه. من علوم الطبيعة واللغة وفنون الشعر وعلوم الفقه والشريعة، ومبادئ العرفان والغيبيات، وشمل كلا من التفكر العقلانى والتفكر القلبى. وقد وصل هذا المسار العلمى العرفانى إلى قمة أوجه مع هذين القطبين، ابن عربى وجلال الدين الرومى، تجلت علوم العرفان فى آثارهما ومؤلفاتهما.

عربي وأعجمي في حمى العلم العرفاني:
كتب ابن عربى مؤلفاته وأهمها «الفتوحات المكية» «وفصوص الحكم» بالعربية، وكتب جلال الدين الرومى بالفارسية(وإن تخللتها العربية وغيرهاأحياناً)، وكانت أهم مؤلفاته «المثنوي» وكتاب «فيه ما فيه». كان هدف كل من ابن عربى الأندلسى المغربى، والرومى، البلخى المشرقى، إيصال وبيان علوم وحقائق العرفان لطالبيها. أخذ كل منهما على عاتقه إيصال الحكمة الإلهية إلى أهلها، وسلك كل منهما «بظعينته» درباً شائكاً متعرضاً لعقبات كـئود وصعوبات ومخاطر مهلكة، حتى حل بها فى حوزة وحمى أهلها، أهل العلم والعرفان. اعتمد جلال الدين الأسلوب القصصى الشعري، يَعبُرُ به بالقارئ من الحكاية والقصة أو الرواية إلى عالم الأمثال والحكمة، من عالم الحس والشهادة إلى عالم الغيب.

ومن الظاهر إلى الباطن. كل ذلك بلغة فارسية بليغة فصيحة وبشعر موزون رفيع، يبين لمريدين طريق الحق وسالكى درب العشق الإلهى خفايا الطريق وما يتربص بهم من صعوبات مبهمة. «يُعرّب» عالم الحس المبهم الأعجمى.

ويعبر به إلى عالم المعانى ورقائقها معطياً لوجدان «السماع» الصولة والجولة يكاد قارئ مؤلفاته أن يتواجد سماعاً معه. وكتب ابن عربى بالعربية الفصحى، فتناول حقائق وأسرار عالم المعانى والغيبيات موضحاً مبهماتها.

وأقبل على أسرار الشريعة مبيناً فقهها الروحانى، مرسياً بذلك علماً عرفانيا وتفكراً قلبياً وعقلياً. تميز خطابه بدرجة عالية من البيان والفصاحة العربية الواضحة. بها تمكن ابن عربى أن يوصل عالم المعانى بأنوار عالم الشهادة والحس، لذالك كان لمفهوم «الشهود» و«التجلي» حضور أساسى للبعد الوجدانى عنده.

نقرأ مثنوى جلال الدين الرومى فى ضوء الآية الكريمة «واضرب لهم مثلاً»، بمعنى أعط لهم مثلاً. ولو تأملنا هذه الآية الكريمة لوجدنا أن المثل كما هو فى كلام العرب يأتى بالضرب. ومعنى كلمة الضرب، يشمل القوة والشدة ومعنى السرعة واللحظية. وتتجلى هذه المعانى فى صورة ضرب موسى عليه السلام الحجر بعصاه. فجلال الدين الرومى يُنطق ويُشهد كل شىء فى قصصه، من إنسان وجماد ونبات.

وتتوالى القصص عنده لتصبح وكأنها عصى موسى جاءت فى اعتبارات التفاسير الصوفية، تضرب حجور العقول ليسيل ماء العلوم فهماً فى النفوس، كما جاء فى التنزيل العزيز: «اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً»فكيفية فعل المثل القصصى، كما هو الحال فى مثنوى جلال الدين الرومى فى إفهام المعانى الحسية للعقول، يتم بنوع من «الضرب» سريع وآنى يفجر عيون المعانى.

وإن القصص والأمثال، هى من أساليب القرآن الكريم، قوله تعالى: «نحن نقص عليك أحسن القصص» و«إن هذا لهو القصص الحق» وأيضاً «ولقد ضربنا للناس فى هذا القرآن من كل مثل». كثيرة هى الآيات التى تتحدث فى القصد الإلهى من الأمثال والقصص، فهى للاعتبار تارة، وللتفكر وللتذكر وللبرهان تارة أخرى.

 

وتأتى للتثبيت وإزالة الخوف والترغيب من جهة، وللترهيب والوعيد من جهة أخرى. ويواكب المثل والقصة الشرح والتفسير مثل قصة موسى والخضر عليهما السلام، فموسى فى البدء لا يفهم سلوك الخضر الغريب ويستنكره، ومن ثم يشرح له الخضر أسباب سلوكه ويبين له مقاصده. بعبارة أخرى يعرّب الخضر لموسى ما استعجم عليه من سلوكه فى عالم الحس.

إن من يفهم دور القصص والأمثال القرآنية، يستطيع أن يتلمس ويتحرى خفايا أسرار «المثنوي» التى جاءت من المشرب نفسه، وجمعت كل هذه الأحوال والمقامات والحكم الإلهية. فغالبا ما تكون القصة على مرحلتين : الأولى مبهمة غريبة وغير واضحة المقاصد، تليها مرحلة التوضيح والإعراب والإفصاح. كان مقصد كاتب «المثنوي»، هو الإفهام وإيضاح المبهم، فجاء كلامه بليغاً مبيناً.

وأما فتوحات ابن عربى، وإن كان لها نصيب وافر من علوم «ضرب المثل»، وإن لم يكن بنفس أسلوب جلال الدين القصصى المميز، إلا أنه يشتمل على نوع آخر من الضرب، وهو ضرب زناد الفكر بنار ما تكشف من الفيض الإلهى من مقام «ما وراء طور العقل»، مقام النبوة والولاية. نقرأ فتوحاته فى ضوء الآية الكريمة بحق السيدة مريم عليها السلام، «وهُزّى إليك بجذعِ النخلةِ تُساقِطْ عليكِ رُطَباً جَنيّاً». وكأن زمان هز النخلة وسقوط الرطب وجمعها يوحى بالجهد وامتداد فى الزمان.

ولا عجب فإن معنى الفتوحات يتضمن معانى الفتح من عند الله، والجهاد من عند العبد. وإن الجهد والزمان المستغرق فى دراسة الفتوحات ممتد ولا شك. فقد وسعت مؤلفات ابن عربى آفاقاً بعيدة فى العلوم العرفانية بالتفصيل والشرح والتفسير، نثراً ونظماً، بالإشارة وبفصيح العبارة. كما اعتنت مؤلفاته بعلوم أحكام الفقه والحديث وشملت المذاهب الفقهية المختلفة. ولا يجانبنا الصواب إن قلنا إن ابن عربى هو أيضاً صاحب مذهب خاص به، فنراه يبسط أحكام المسائل الشرعية فى العبادات بالتفصيل وقد يذكر ما يوافق منها أصحاب المذاهب الأخرى، مثلاً الحنبلى أو الشافعى أو المالكى أو الظاهرى.

ويبين أين يوافقه، أو لا يوافقه، موضحاً السبب. كما أنه يطرح مسائل فلسفية «حكمية»، أو كلامية مبيناً أين يلتقى معها وأين يختلف، وما هى أسباب خلافه معها، ونراه قد يوافق المعتزلى فى مكان ما فيقول «صدق المعتزلة»، ولا يوافق أبا حامد الغزالى فى مكان آخر. فمؤلفات ابن عربى أمرها ليس بالسهل، يستدعى الاجتهاد والدراسة المعمقة.

يصل كلا العارفين ابن عربى والرومى، بظعينة علمه وسريرة عرفانه، إلى حمى العلم العرفانى القرآنى وحوزته. وفى هذا الحمى، فإن مفاهيم الوحدة والكثرة، الجمع والتفصيل ومبدأ الانتقال من أحدهما إلى الآخر، تشكل أهم قواعد التأسيس والتأنيس لعلوم العرفان الصوفية. فهنا يستوى الزمان والمكان، ولا زمان ولا مكان، وهنا يكون التنقل والاسترسال، والإسراء والمعراج بين مفاهيم الفرقان والقرآن، والمحكم والمتشابه.

وظاهر الشريعة وحقيقة باطنها، مسامرات ليلية، وشد رحال نهارية، بفصل خطاب ومجمل كلام. بانتشار فى كثرة، واجتماع فى وحدة. فتتوالى الأحوال وتبنى المقامات للسائرين فى طريق العلم والعرفان. يسود مريدى هذه العلوم يقين الإيمان وعلومه عند تحققهم بمفهوم الوحدة، وتطفو «حيرة غراء»عند تحققهم بعلوم الفرقان.

يبسط الشيخ الأكبر ويفصل دقائق العلوم فى خضم بحوره متعمقاً تارة، متوسعاً تارة، إلا أنه يُجملها أيضاً، ويحسن الإجمال. وليأخذ بيدنا أمام الحيرة التى تلازم ظاهرة الانتشار والتبدد فى الكون، وتعدد النفوس والعقول والأرواح والأصول والفروع والألسن واللغات، فإنه يختزل خلق الإنسان، وهو العالم الصغير الذى يقابل العالم الكبير فى نشأتين، حسية ومعنوية. معنوية واضحة «عربية»، وحسية مبهمة «أعجمية».

وقد كان لنا اهتمام خاص بمفهوم العربية والأعجمية تناولناه فى دراساتنا لتعاليم ابن عربى، وسنعتمدها فى هذه الورقة، وذلك أن مفهوم العربية والأعجمية عند ابن عربى يفرض نفسه بقوة فى هذه القراءة التمهيدية التقابلية لتعاليم كل من ابن عربى والرومى.

ونتناول موضوع العربية والأعجمية بإيجاز هنابالعودة للمعنى اللغوى للسانين فنجد أن العربية تعنى الإبانة والإيضاح. والأعجمية، وإن تمثل ما هو غير عربى من اللغات (الفارسية)، إلا أن المعنى الأول يفيد الإبهام. فأمرٌ مُعجِم «إذا اعتاص» و«كلام أعجمى بيّن العُجُمة»، ونجد أيضاً أن «الأعجم الأخرس» و «العجماء هى كل بهيمة لا تتكلم». ولا بد لنا هنا من التنبيه إلى أن صحة ارتباط معنى الأعجمى بالمبهم، لا يعنى أن كلَّ مبهم هو لسان أعجمى فقد يكون عربى اللسان به عجمة، إذا كان غير واضح.

الأعجمية من منظور ابن عربى محلها الحواس الإنسانية وعوالم الطبيعة، وترتبط بالغرب أو «مغرب الجسد»، فهو فى الاعتبار البلد الغريب. والعربية الواضحة هى لسان القلب القرآنى المحمدى، المشرقى. وكما هو متعارف عليه فى كتب التفسير ومنطق العرفان الصوفى: جاء الخطاب الإلهى كتباً وصحفاً وحكماً، فرقاناً، حتى جاء زمان قرآنه فكان عربياً مبيناً واضحاً، يبين للناس ما استعجم عليهم. لهذا اللسان المجد والكرم وعظمة الشأن، يقول ابن عربى :« البيان والشرف والامتنان والمجد العظيم الشان إنما ظهر فى اللسان عند البيان»، فهوهنا يمثل لسان القلب يبين ويوضح ما يبهمه الحس.

وعليه فإن علاقة العربية بالأعجمية أشبه ما تكون بعلاقة الروح بالجسد، فلا تقوم قائمة للأعجمية، لسان الهياكل الليلية «المغربية» الحسية الجسدية المبهمة إلا بلغة الروح المشرقى الواضح. من هنا نفهم إشارة ابن خلا الشهيرة كما أوردها الشعرانى (ت973هـ): «ما يأتيك بأعجمية حسك فسره بعربية قلبك، تجدْ هدىً». وكأن نور القلب، عرش القرآن وحى محمد صلى الله عليه وسلم، يزيل ما استعجم وأُبهم على المريد السالك مما يلقاه متفرقاً من مغرب حسه المبهم. وبهذا المعنى نفهم نصيحة ابن العربى:

 خذ سر هذا الأمر من عين غربه وخذ نوره للكشف من عين شرقه:
إن علو شأن العربية، لا يعنى بتاتاً الاستهانة باللسان الأعجمى الحسى. فاللسان الأعجمى له «الشرف كل الشرف»، يقول ابن عربى، ذلك أن القوى الحسية أتم القوى لها الاسم الوهاب، لأنها هى التى تهب للقوى الروحانية، ما تتصرف فيه وما يكون به حياتها العلمية، من قوة خيال، وفكر وحفظ وتصور ووهم وعقل.

وكل ذلك من مواد هذه القوى الحسية». «فمنزلة القوى الروحانية منزلة الافتقار إلى الحواس، والحق لا يفتقر إلى غيره والحواس مفتقرة إلى الله لا إلى غيره، يؤخذ عنها ولا تأخذ هى من سائر القوى إلا من الله» فللحس «العلم المجهول الذى لايصل إليه كل أحد وهو العلم بسرائر المحسوسات والحواس والإحساس والمحس» بذلك يكون للأعجمية شأن إلهى شريف فات الناس. وإن مقصودها أيضاً الإيضاح والبيان.

فنتساءل هنا: كيف يكون القصد من الأعجمية ومعناها الإبهام، الإيضاح أيضاً؟
بإيجاز نقول، إن أمر بيان الأعجمية، قد يفهم من خلال مقولة «رب إشارة أبلغ من عبارة». وهى من العلوم العزيزة المنال، التى لا يمكن بيانها وفهمها إلا فى حال أعجميتها. وينبه ابن عربى، إن رام أحد أن يوضحها وينورها، لن يزيدها إلا عجمةً وإبهاماً، ويقول :

«طـه ويـس لا تـعربهمـا فـهمـا» من الذى أبهـم النـبراسُ حين أضـا»
فالأعجمية بأعجميتها توضح مادتها العلمية، وفى هذا السياق تتضح إشارة ابن عربى فى كتابه العبادلة: «ومن أعجـم أفهـم».

فى إطار هذين النمطين من المعانى عربى وأعجمى وحسى ومعنوى، عند ابن عربى، تندرج أنماط الفتوح والكشوف، والتجليات والشهود والسماع، فكل كشف وتجلى هو فى الحقيقة «كلام» أو «خطاب»، وكل خطاب أو أمر أو حال، فإنه يندرج فى ثنائية الحس والمعنى، والعربى والأعجمى. ولا يخلو مخلوق من أن يكون على حال ما، وحاله عين كلامه، يكون عربياً أو أعجمياً. وتندرج فى هذه الثنائية معانى ومفاهيم: المشرق والمغرب، والجسد والروح، والفوق والتحت، وتنساق معانى الظاهر والباطن، والليل والنهار يقول ابن العربى:

 وصيرت قلبى لها شرقاً وأضلعى لبدرها أفقاً

ويقول:
سبحان من صار لنا مطلباً   أطلبه شرّق أم غرّبا.
فباطنى صيره مشرقـاً «وظاهرى صيره مغرباً.
ويقول:
«لو أننا نعلم أرواحنا  بالوجه فى الصبح إذا أسفرا.
كما علمنا بالجسوم التى  «عينـها اللـيل إذا أدبـرا».
تأخذ هذ الرموز عند الشيخ الأكبر، اعتبارات تتغير نسبها، وخير مثال على ذلك هو مثال الليل والنهار فى القرآن الكريم، يكون التكوير لليل على النهار من حيثية، ثم يكون التكوير للنهار على الليل من حيثية أخرى. تتقلب هذه النسب وتتقابل وقتاً، عند شيخنا وتجتمع وقتاً دون أن تُفنى الواحدة الأخرى، والشيخ فى كل ذلك مرجعه قرآنى، فكما جاء قوله تعالى فى عدم التقاء الشمس والقمر «لا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل فى فلك يسبحون» جاء قوله تعالى.

«وجمع الشمس والقمر» يكون فى وقت آخر. فتكون القلوب تارة محل المشرق وتارة أخرى محل المغرب، وتكونمحل التقاء المشرق والمغرب أيضاً، ويوافق هذا القول، قول نجم الدين كبرى (ت 618هـ) فى تأويلاته النجمية: «القلوب مشارق هبوب الأشواق ومغاربها والله فى مشرق كل قلب ومغربه شارق وطارق». وإننا فى هذا السياق، نرى تقابل ابن عربى والرومى بحيث يكون الواحد منهما تارة، فى الاعتبار مشرق القلب وتارة مغربه. تارة نهاره وتاره ليله.

وكأنهما الشمس والقمر دليلين على هذين النمطين من الفتوح والكشوف، واضح، ومبهم. عربى، وأعجمى. يقول ابن عربى مفتتحاً كتابه «الإسراء إلى المقام الأسرى»: «الحمد لله الذى سلخ نهاره من ليله المظلم وأطلع فيهما شمسه المنيرة وبدره المعتم ونصبهما دليلين على الموضح والمبهم».

وظف كل من ابن عربى والرومى مفاهيم الواضح والمبهم، الحسى المعنوى، وتنقل بينها بمنهاجه الخاص، كل منهما أوضح وبيّن، ورمز وأبهم، وعرّب وأعجم، وشرق وغرب، إذ لا بد للعارف من تحصيل مجمعهما، يقول ابن عربى «ويُعلم شرف الإنسان بتحصيله أسرار الشرق والغرب على سائر الأكوان». فصراط الحق يقتضى اكتمال التقاء القوى الحسية والعقلية، يقول: «وإذا انقادت إليه القوى الحسية والعقلية فمشت معه على طريقه الذى هو صراط الله» فلا يستوى كمال العرفان إلا بجمعهما، وبقائهما معاً. حساً ومعنىً، دنيا وآخرة.

يمثل القلب إذاً، مجمع بحرى الحس والمعنى، فهذا القلب الإنسانى، يقول ابن عربى، لا يضاهيه لا العقل، ولا الحس؛فهو فوق طور العقلويحتوى الحس. كل من العقل والحس تحت سلطانه، وقد أُوتى من القوة الإلهية بحيث يكون محلاً للوحى الإلهى، و«كأساً» لشراب الحب الإلهى. شرب منه كل من الشيخ الأكبر ومولانا، وهما اساتذة العشق الإلهى، تحدث به وابدع مولانا من فلك «شمس» العشق والغرام، وكان لابن عربى من تعلقاته نظماً و«نظاما»، ديواناً وترجماناً لأشواقه بديعاً. يشرح ابن عربى أسباب ارتباط الحب بالقوة (الفتوة)قائلاً: « فالحب له أحكام كثيرة مختلفة متضادة فلا يقبلها إلا من فى قوته الانقلاب معه فيها.

وذلك لا يكون إلا للقلب». ويقول إنه أوتى من القوة بحيث إنه «يتقلب من حال إلى حال كما أن الله الذى هو المحبوب كل يوم هو فى شأن، فيتنوع المحب فى تعلق حبه بتنوع المحبوب فى أفعاله»، حتى يكون لهذا السالك المحب أعلى درجات التحقق العرفانى من حيث كونه «مظهراً للحق لا ظاهراً». وهنا ينتج له علوم الأسرار من باب «علم نفث روح القدس فى الروع». وهذا العلم يعطيه الكشف، ويؤكد ابن عربى قائلاً:«وجزء منه يدرك بالعقل».

وهنا لا بد أن نلفت انتباه القارئ، إلى أن كون القلب محل لقاء الحس والمعنى، لا يعنى ذلك أن اللقاء مثالى، فى عالم الوهم، بل هو حقيقة حسية معنوية يؤكدهاويدافع عنها العارفون. ومتعلقها كمال مقام «الرجوع» و«البقاء» فى اليقظة، يكون بعد «الفناء».

وإن أكمل تجلى لهذا الحب فى حال البقاء هو حب الرسول صلى الله عليه وسلم. يذهب المحب فانياً فى حب ليلى ومى، ونظام وشمس، ويعود متحققاً فى حب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويتواجد المحبون حتى يومنا هذا لدى سماع فن نشيد المدح، وهو موضوع يحتاج لإبحار بعيد، فقد بقى عالقاً بين ماهو من علوم العرفان من جهة والتراث الشعبى من جهة أخرى، بين ممارسات العامة واعتبارات الخاصة، وينشد المدّاح قول الشاعر:

 

آنستنا يا أنيس الروح والجسد  مهما أغب عنك حيناً غبت فى كبد
حتى يقول : خذ ما ملكت وهب لى منك عرف شذى تُحيى به الروح فى الجسم إلى الأبد.
يكمن السر وكل السر، هنا، فى رابط الحب الإلهى وقوة القلب الإلهية، ونفهم أن الكشف فى هذا الموضوع هو أس معادلة الفهم. ومفعول الفهم هو اليقظة عند الشيخ الأكبر، يقول «إذا فهمت انتبهت»».

وإن الحب الإلهى هو أيضاً «يقظة»، وإن تغنى المحبين بحالات السكر والغيبة والوجد، فهذه حالات يحكمها الحب النفسى أو الطبيعى، ولكن شراب الحب الإلهى، فأمره ليس كذلك، يقول مولانا: «وشراب الحق ختامه المسك الخالص وأما ختام الخمر فهو النتن والعذاب».

وإن اختلف على الناس خمر الدنيا من خمر الآخرة «شراب الحق»، كما جاء قوله تعالى: «أنهارٌ من خمرٍ لذةٍ للشاربين»فإن شراب الحق»الحب الإلهي»، عند كل من محيى الدين وجلال الدين، يتميز بأنه لا يُغيّب المحب «السكران»بل يزيده يقظة وقوة. فهو خمر سكره من نوع آخر «لذة للشاربين»، لا يغيب أثر لذتها «المسكية»بداية ونهاية عن الشاربين. فمعنى «ختامه» يحوى معنى كونه مختوما عليه، لم يفض ختمة بعد، بدايةً، كما يعنى نهايته وأثره الباقى عند الشارب.

وإن هذا الأثر هو سكر قوة ويقظة، فإن المسك، وإن يكن رمزاً لما هو من أطيب الطيب، فإنه أيضا رمز للقوة والنشاط (اليقظة). فيصبح لدى شاربه، مزيد قوة ويقظة، تمكنه أن يصل حسه بمعناه، ودنياه بآخرته. وإن تظهر عليه حالات من «مسك الآخرة»، يجهلها أكثر الناس ويلومونه عليها، فإنهوقد أصبح لديه من القوة، تؤهله لتحمل ملامتهم والحلم على أذيتهم بالرجوع إلى الأمر الإلهى النافذ فى خلقه، مقاماً إبراهيمياً، كما جاء قوله تعالى فى حق ابراهيم عليه السلام إنه « لحليم أواه منيب».

وهذا ما يتحقق به كبار العارفين، أمثال الرومى وابن عربى، نعود قصصاً على آثرهما.
فمن يظن أن الرومى أعلى شأن الحس والوجد على العقل، فإن جلال الدين الرومى كتب وشرح وحلل ودعا للتفكر. ومن يظن أن ابن عربى أعلى شأن الفكر والتجريد على حساب الوجد والحس فهو واهم، فالحس وقواه شهود عدل يشهدون على صاحبهم بالحق، وهم براء من النفس الشهوانية الغضبية والظلمانية، وينبه ابن عربى صاحب الفكر الذى قد يُعلى الفكر على الحس، فيقول :

«فالحس أفضل ما تعطاه من منح «وصاحب الفكر منصور مخذول». 
يشرح الشيخ هذه المسألة قائلاً: «إذا سريت بفكرك فى عالم المعانى انحجب حسك عن التلذذ بالمغاني»، بينما لا ينطبق ذلك على حالة سريان السر فى مغنى الحس، يقول: «وإذا سرى سرك فى المغنى لم ينحجب سرك عن مشاهدة المعنى». ويخلص ابن عربى للقول: «فالبقاء مع الحس أولى فى الآخرة والأولى».

ويؤكد مبشراً «وسيبدو لك شرفه عند الرؤية فى جنة المنية». هنا فى الحقيقة مربط الفرس، وبيت القصيد لفهم المسائل العرفانية الشائكة، فنشأة الآخرة عند العارفين، كنشأة الدنيا، يكون تمام كمالها بالحس والمعنى، وإن اختلفت طبيعة نشأة كل منهما، يقول الشيخ: «فقد اشتركت الجنة والدنيا فى اللبن والبناء، وإن كانت الواحدة من طين وتبن والأخرى من عسجد ولجين».
ويعتبر المحققون أن الاستخفاف والتقليل من شأن الأعجمية «الحسية»، خطأ لا يقع فيه إلا المبتدئون فى هذا الطريق، فإن التحقق بالعلم الإلهى للمريد، لا يكتمل إلا بحيازه معانى ونواشئ ومتعلقات مفهوم الأعجمية. إذ لا تقوم قائمة الجسم، كما ذكرنا، إلا بالروح.

ولا يقوم ميزان علم الروح (المشرقى الواضح القلبي)، إلا بحضور هذا الجسد (الهيكل الليلى المبهم الحسي). لأن الروح كما يقول الشيخ «ذو جسد»، «ولا يعقل نفسه إلا مع هذا الجسد». وإن المعاد إلى رب العالمين عند ابن العربى لا يكون إلا حسا ً «بالحس والمحسوس» كما يؤكده. فلا تكتمل معرفة الإنسان بربه إلا بمعرفته بنفسه معنىً وحسّاً تعريفاً ربانياً إلهياً.

ويحث ابن عربى المريد فى الباب السادس والأربعين والثلاثمئة من فتوحاته، وعنوانه «فى معرفة منزل صدق فيه بعض العارفين فرأى نوره كيف ينبعث من جوانب ذلك المنزل عليه وهو من الحضرة المحمدية»، يقول: «فاعرف يا ولى منزلتك من هذه الصورة الإنسانية التى محمد صلى الله عليه وسلم روحها ونفسها الناطقة، هل أنت من قِواها أو من محال قواها، وما أنت من قِواهها؟ أهل بصرها أم سمعها أم شمها أم لمسها».

ويؤكد شيخنا أنه هو نفسه، قد تحقق بهذه المرتبة وعلم أى قوة، هو من قواها، ولكنه يحذر: «لا تظن يا ولى أن اختصاصنا فى المنزلة من هذه الصورة بمنزلة القوى الحسية من الإنسان، بل من الحيوان، أن ذلك نقص بنا عن منزلة القوى الروحانية، لا تظن ذلك بل هى (القوى الحسية) أتم القوى»، كما ذكرنا أعلاه، »لها الاسم الوهاب، لأنها هى التى تهب للقوى الروحانية، ما تتصرف فيه وما يكون به حياتها العلمية، من قوة خيال، وفكر وحفظ وتصور ووهم وعقل، وكل ذلك من مواد هذه القوى الحسية».

ويعطى ابن عربى برهانه على ذلك، فيقول إن الله تعالى قال فى الذى أحبه من عباده: «كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به». ويلاحظ أن الله سبحانه وتعالى «ذكر الصورة المحسوسه وما ذكر من القوى الروحانية شيئاً ولا أنزل نفسه منزلتها»، ويفسر شيخنا شارحاً السبب كما ذكرنا: «لأن منزلتها (القوى الروحانية) منزلة الافتقار إلى الحواس، والحق لا يفتقر إلى غيره والحواس مفتقرة إلى الله لا إلى غيره، فنزل(الحق) لمن هو مفتقر إليه لم يشرك به أحدا. فأعطاها الغنى».

ويلاحظ : «فهى يؤخذ عنها ولا تأخذ هى من سائر القوى إلا من الله»، وهنا يختم الشيخ كلامه منبهاً: «فاعرف شرف الحس وقدره».
مجمع الحس والمعنى: مجمع «نعم لا».

نقرأ فى لقاء الحس والمعنى دنيا وآخرة، عند ابن عربى، إذاً، لقاء حقيقياً وليس مثالياً خيالياً. ويمكننا تتبع هذا الحضور الحسى المعنوى للمتحقق بعلوم العرفان، عند الرومى، خاصة فيما أرساه فى أصول وأسس ممارسة السماع، فأمر السماع عنده ليس كمالياً أو جمالياً أو ارتفاعاً خيالياً، ولكنه تحقق علمى عرفانى حسى معنوى دنيوى أخروى. ويستدعى المزيد من البحث والتأمل، تعيننا دراسة مذهب ابن عربى فى ذلك. فقد وعى ابن عربى هذا البعد الجمعى للحسى والمعنوى الدنيوى والأخروى، منذ صباه، فى هذا السياق علينا أن نقرأ قصة اللقاء الشهير الذى دار بينه وكان فتىً يافعاً، وبيشيخ الفلسفة والحكمة ابن رشد (ت 595هـ/1198م) قاضى قرطبة.

ونسردها على لسان ابن عربى نفسه، إذ يقول: «ولقد دخلت يوماً بقرطبة على قاضيها أبى الوليد بن رشد، وكان يرغب فى لقائى لما سمع وبلغه ما فتح الله به عليّ فى خلوتى، فكان يُظهر التعجب مما سمع، فبعثنى والدى إليه فى حاجة قصداً منه حتى يجتمع بى فإنه كان من أصدقائه وأنا صبى ما بقل وجهى ولا طر شاربى، فعندما دخلت عليه قام من مكانه إلى محبة وإعظاماً فعانقنى وقال لى: نعم، قلت له: نعم، فزاد فرحه بى لفهمى عنه ثم إنى استشعرت بما أفرحه من ذلك، فقلت له: لا، فانقبض وتغير لونه وشك فيما عنده وقال: كيف وجدتم الأمر فى الكشف والفيض الإلهى هل هو ما أعطاه لنا النظر؟ قلت له: نعم لا، وبين نعم ولا، تطير الأرواح من موادها، والأعناق من أجسادها».
لقد تحير الناس فى هذا اللقاء بين صاحب النظر حكيم الفلسفة «من أرباب الفكر والنظر العقلي»، وصاحب الفتوحات والعرفان الإلهى من أرباب الخلوة والفتوح الإلهى، وفيما دار بينهما من حديث «غريب»، وما كان من عجبٍ، فهمهما بعضهما بعضاً بالإشارة. فواضح، أن حديث ابن عربى فيما يحصل بين النعم واللا، إنما يتم ويتحصل «فوق طور العقل»، «هناك» فى الآخرة، ولكن «هنا» أيضاً «والآن» فى الدنيا. وهذا لا يستوعبه العقل بنظره، ولكن العقل «العاقل» عندما يسلم وينقاد وتأتيه الفتوح، فإنه قادر أن يستوعب الأمر. ولا يفوتنا أن ابن رشد، فهم واستوعب تماماً مقصد ابن عربى فى كلامه المبهم من «فوق طور العقل»، كما أكده ابن عربى، فقال: «وعرف (ابن رشد) ما أشرت به إليه».
وإذ يعتقد بعض الباحثين أن المسألة متعلقها البعث الحسى فى الآخرة، وأن ابن عربى فى كلامه لابن رشد، إنما كان يشير إلى أن البعث فى الآخرة يكون حسياً، فإن للمسألة بقية فى نفوسنا. فمسألة البعث الحسى، مسألة كثر تناولها من قبل العلماء والفقهاء والفلاسفة على مر قرون من تاريخ الحضارة الإسلامية، لا يمكن أن يستعصى على أمثال ابن رشد تخيلها أو الخوض فيها، ولا يمكن أن يهوله أمر فكرتها، إذ وصف ابن عربى حال ابن رشد عندما قال له ما يكون بين النعم واللا من أرواح تطير من موادها وأعناق من أجسادها، قال: «فاصفر لونه وأخذه الأفكل وقعد يحوقل وعرف ما أشرت به إليه».

فردة الفعل هذه من حكيم قرطبة إنما تدل على فهمه تأكيد ابن عربى على ما يكون فى قدرة بعض الناس من تذوق نشأة الآخرة الحسية يحصل لهم فى زمان دنياهم، قول ابن عربى: «ونحن نعلم أن فى نشأة الآخرة قوى لا تكون فى نشأة الدنيا ولا يحكم بها عقل هنا ولا تنال إلا بالذوق عند من أوجدها الله فيه، وتحصل لبعض الناس هنا». فسر «نعم لا»، عند شيخنا الأكبر، هى عين هذه المسألة الوجودية تكون دنيا وآخرة، ومن حيث إن الوجود واحد يمكن للإنسان إن اجتمع على نفسه بربه أن يتحقق به. وإن التحقق ببرزخ هذه المسألة العظيمة كما ينبه الشيخ، تجلب الراحة، يقول: «فمن عرفها استراح».
إن الحديث فى هذه المسائل يبقى موضوعاً شائكاً ولا شك، إذ يبدو الأخذ بظاهر المعنى ضربا من الجنون أو السذاجة. يقول ابن عربى وقد وعى صعوبة تصور هذه المسائل: «إن ثمة علوما لا تعرف ولا تفهم إلا عن طريق التبليغ والكشف والفتح الإلهى.

وليس للمنطق العقلى (وهو من العالم العنصري) فيها نصيب، إلا من حيث عقلها تسليماً وانقياداً. فعلوم الآخرة، حسية ومعنوية فى مقام ما هو «فوق طور العقل»، ويؤكد قائلاً: «وفى طريق الله ما يقوله أهل الطريق فى إثبات المقام الذى فوق طور العقل وهى قوة يوجدها الله فى بعض عباده من رسول ونبى وولى تعطى خلاف ما أعطته قوة العقل حتى أن بعض العقلاء أنكر ذلك والشرع أثبته. ونحن نعلم أن فى نشأة الآخرة قوى لا تكون فى نشأة الدنيا ولا يحكم بها عقل هنا ولا تنال إلا بالذوق عند من أوجدها الله فيه، وتحصل لبعض الناس هنا فلا تعلم نفس ما أخفى لها من قرة أعين، وفى الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فخرج عن طور العقل».

تناول عارفون كثر مفهوم «ما وراء طور العقل» من حيث العلم به نظرياً، وإن لم يكن بالإحاطة التى قدمها ابن عربى، إلا أنهم نبهوا على أهمية هذ البعد فى الوجود، ودعوا للتسليم به. وهذا عين القضاة الهمذانى (ت 525هـ)تناوله فى كتابه «زبدة الحقائق»، فتساءل : «هل ينبغى لكل عاقل أن يصل فى الدنيا إلى الطور الذى فوق طور العقل؟» وتحدث بإيجاز عن «علاقة العقل بالأطوار التى وراء العقل»، وقال «فاعلم يقيناً أن العقل الإنسانى للطور الذى وراءه، بمنزلة البدن للنفس والعارفون الكاملون فى المعرفة، يستدلون بمشاهدة قوالب العقول على تفاوت أرواح الأطوار الكامنة فيها كمون النار فى الحجر، ويسهله عليهم إدراك الفرق بين عقل عبئ فيه أطوار كثيرة، وبين عقل لا شيئ فيه من تلك الأطوار». وقال مؤكداً فى رسالته «رسالة شكوى الغريب عن الأوطان»: «ويجوز أن يحصل للعاقل من طريق العقل تصديق طور لم يبلغه فى نفسه بعد، كما أن من حرم ذوق الشعر فقد يحصل له تصديق بوجود شيئ لصاحب ذوق مع انه معترف بإن لا خبر عنده من حقيقة ذلك شيئ».
يتبين لنا، أن «نعم لا» عند ابن عربى، تمثل ما يمكن أن نسميه ظرفاً زمانياً مكانياً (نعم)، لا زمانياً لا مكانياً (لا)، برزخ مجمع بحرى الدنيا والآخرة، والحس والمعنى، والعربى والأعجمى. منه تطير الارواح والرؤس لتعود إلى موادها، وتحط ثانية على أجسادها، فهو سفر معنوى حسى فى بقاء يقظة. منه وفيه يمكن اعتبار ما يكون من معجزات الأنبياء، وإسراء الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو فى عرف العارفين مثل ابن عربى والرومى كان إسراء حسيا، وليس فقط روحياً.

فالعارفون وقد تحققوا بعين وحدتهم وهو حال فطرتهم، يدخلون فى أطوار من وجودهم غابت عن عقولهم. يقول عين القضاة الهمذانى فى كتابه «زبدة الحقائق» فى باب «المعرفة انعتاق من أسر الزمان والمكان : «لازم سلوك الطريق فلعل الشمس تطلع لك فتشاهد جمال الفطرة المذكورة فى قوله تعالى: «فطرة الله التى فطر الناس عليها» وحينئذ تنفك رقبتك من أسر الزمان والمكان، ويصير تحت قدمك كل ما كان عليه وضر الحدثان.

وعند ذلك تبذل لك خلعة الاجتباء، ويكون ذهابك إلى الله تعالى طبعاً لا تكلف فيه، كما قال عليه الصلاة والسلام: أنا وأتقياء أمتى براء من التكلف». فيلتقى معنى السفر والذهاب طبعاً بالفطرة، بمعنى الاستراحة، التى تحدث عنها ابن عربى، ثمرة التحقق بهذه المسألة خاصة. أى يستريح السالك عن التكلف والاجتهاد فى طلبها لأنه تحقق بكون تذوّقها لا يأتى بالتكلف، ولكن بالعودة إلى وحدة الفطرة، يصبح عندها سفره بالطبع، أى بالحس وقد شمل معناه.

وفقاً لأصول علم العرفان الصوفى، يلتقى البعد «الدنيوي»»لكل نشء وخلق ببعده «الأخروى»، وإن علوم الدنيا متصلة بعلوم الآخرة لا تنفك عنها أبداً. وينعكس هذا الأمر فى كل تفاصيل الكون، لأن الوجود واحد، كما يقول ابن عربى، وإن وحدة الوجود تعطى وحدة العلم، يقول: «العلم واحد». كذلك حال الواضح والمبهم، والمشرقى والمغربى، والعربى والأعجمى. وكل هذه المفاهيم يطلبها العارف وهى فى الأصل، أمرها واحد، يقول شيخنا المشرقى المغربى، الطائى الأندلسى:

عين ما أوضحه  عين ما أبهمه:
إن صعوبة هذه المسائل العرفانية وإشكاليتها، لم تثن أصحاب المؤلفات من العارفين عن الخوض فيها، فأعربوا عنها بصريح عبارة، وأعجموا رمزاً وإشارة وغمزاً. تحدثوا عن لمعات وبوارق وومضات ومواقف ومشاهد وتجليات، كما أسهبوا نثراً ونظماً منها كانت «الفتوحات مكية» لابن عربى، «والمثنوي» لجلال الدين الرومى. تركوا تراثاً عرفانياً غنياً جداً. يعبر بالقارئ إلى عالم المجاز والحقيقة، بالشرح والتفسير، وفك المعميات وحل المسائل المشكلة. يتلمس طالب هذه العلم، الأبعاد المختلفة للوجود، المعنوية والحسية، الطبيعية وما فوقها، والعقلية، وما فوق طورها. ليفهم، ويتحقق بوحدة وجوده، وبفطرته تحققاً علمياً عرفانياً.

_________________

*نقلًا عن بوابة ” أخبار اليوم” المصرية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى