الدراسات والبحوث

التصوُّف العارف استنقاذ الإنسان ممَّا هو فيه من تهافُت

الهذيلي المنصر

 التصوُّف العارف:

استنقاذ الإنسان ممَّا هو فيه من تهافُت

الهذيلي المنصر

 

مقدِّمة:

يحضر البحث والسؤال في التصوُّف ضمن سياق خاصٍّ هو سياق الحاجة إليهما، فنحن نسألُ عنهما وفيهما مُشفقين ومُضطرِّين وجزِعين، لا هو ترف فكر، ولا نزوة، ولا تحقيق في موضوع تُراثيٍّ وقديم. وليس القصدُ هو الحنين، ولا استذكاراً ببعض وقوفٍ على الأطلال، وإنَّما هو تطلُّع إلى المستقبل، وتحسُّس سُبلِ خلاص.

بتعبير أوضح، أنَّ هذا السياق ليس سياق بحث وكفى، وإنَّما يختلط  بالحاجة، وحين تطغى هذه الحاجة، وهي في العادة محفِّز قويٌّ، قد تدفع نحو مُستويات قياسيَّة من الجدِّيَّة والتعمُّق. وكي لا يطغى جانب على آخر ينبغي توفير ما يلزم، لهذا البحث تحديداً، من وسائل كمِّيَّة وكيفيَّة. ونقصد بالكمِّيَّة الأكاديميَّات، ومختبرات البحث، ومراكز الدِّراسة، وصولاً إلى الجمعيَّات المتخصِّصة، وأمَّا الكيفيَّة فمرتبطة بالصِّدق.

ولا بدَّ من القول أنَّ ورشة بهذه الحيويَّة وبهذا المُناط القيميِّ والاستراتيجيِّ تحتاج نُخباً نوعيَّة لجهة حمل الهمِّ والتَّضحية والعطاء لا مُحترفي بحث بهدف الحصول على التَّرقية والانتفاع. من جهة أخرى، يُنتظرُ من بحث تجديديٍّ كهذا أن يُنجِز لنا، وربَّما لغيرنا أيضاً، تجاوزاً لأزمة تطول منذ قرون، ومعالجة انتكاسات بالجملة عمَّقتها أزمنة انحطاط متَّصلة. ولقد رأينا خلال السنوات الماضية أثر هذه الانتكاسات المدمِّرة للإسلام ومُجتمعات المُسلمين، إذ كيف يسهُلَ استدراجُهم إلى التَّناحر والتّقاتل وهم يحملون الرُّؤية ذاتها للعالم والنَّظرة ذاتها للوجود ودور الإنسان المسلم فيه؟ ولا ريب في أنَّ إنجازاً بهذا الحجم لن يتمَّ لنا بسرعة قياسيَّة، بل يحتاج صبراً ومُكابدة قياسيَّة ويتطلبُ مزيداً من الوقت.

 

سياق أزمة مركَّبة:

ليس معلوماً إن كان حديثُ الأزمة، ونحن نبشِّر بوعود عرفانٍ وتصوُّف، يساعدُ في تجاوز الأزمة. قد يحتجُّ البعض على هذا الحديث بالقول أنَّ منطوق الأزمة في حدِّ ذاته يبثُّ طاقة سلبيَّة ويشيع أجواء خيفة وتوجُّس غير محمودة. الواقع أنَّ الحديث في الأزمة والتَّفصيل فيهما مطلوب كشرط لاكتمال الوعي ومن بعده السَّعي في الحلول. ثمَّ إنَّه بالحساب الجدليِّ لا خوف من أزمة تشتدُّ بل إنَّ اشتدادها وبلوغها ذلك الحدَّ المرير مبشِّر بذلك الانقلاب إلى الضدّْ:

اشتدِّي أزمةَ تنفرجي           قد آذن صُبحكِ بالبلجِ

من المهمِّ القول أنَّه لا تحضر مُفردة إلى الخطاب العالميِّ اليوم كما تحضرُ مُفردة الأزمة. أزمة اقتصاد، وأزمة اجتماع ومجتمع، وأزمة بيئة وطبيعة، وأزمة علاقات دوليَّة ونظام دوليٍّ، وأزمة حلول، وأزمة أفكار وقيم.. وكلُّ هذه الأزمات انصهرت في المدَّة الأخيرة في أزمة وبائيَّة عامَّة بظهور فيروس “كورونا” (كوفيد 19) وإجباره مئات الملايين من سكَّان العالم على لزوم بيوتهم، والتَّباعد، وتعطيل ما تعوَّدوا عليه قروناً متَّصلة من سفر وتزاوُر وتشارُك.

في ضوء ذلك، صار من الممكن جدَّاً الحديث عن أزمة حياة، أزمة لا تقف عند عِرق، أو وطن، أو ثقافة ولغة ودين. وهذا بلا شكٍّ يُنذرُ بارتجاجات وعي متتالية، وبهزَّات ضمير وزلازل تصوُّريَّة، ويرسُم آفاقاً واسعة وجديدة. قد تُفلحُ نُخبٌ بعينها في تقدير الموقف وتوقُّع ماذا يكون بغد قريب، ولكنَّنا نحسبُ أنَّ النَّاس جميعاً، وعلى اختلاف أمزجتهم ومشاعرهم وتعبيراتهم، يستشعرون الأزمة وبلوغها حدَّاً قياسيَّاً وفتحها على تغيير كيفيٍّ وكمِّيٍّ، وهؤلاء لا يأملون في حلول تفصيليَّة ترقيعيَّة فقد جرَّبت كلِّها على مراحل، وتبيَّن أنَّها لا تفي بالغرض.

قد تكون نيَّتنا الأولى، ونحن نتطرَّق إلى التصوُّف والعرفان، أن نعالج بعض خللنا الدينيِّ والثقافيِّ، ولكنَّ هذا التضييق في مقاربة المسألة ما عادَ يستقيم بالمرَّة، فهناك سياق معقَّد ومركَّب يفرض علينا توسيع النَّظرة، ويُضطرُّنا إلى مراعاة تداخلات وتشابكات. فتفكيرنا بالمُسلم وشأنه وخصوصيَّته يستقيمُ طبعاً ولكنَّ هذا المُسلم اليوم هو إنسان قبل أن يكون مُسلماً، ويتأثَّر رغماً عنه وعنَّا بمشهد إنسانيٍّ عامٍّ صار يتطلَّب حلولاً كلِّيَّة وعميقة. هذا ليس سيِّئاً في المطلق إذ إنَّ ما يختزنه العرفان والتصوُّف لجهة الرُّؤية وفلسفة الوجود والنَّظر في الإنسان ورسالته، هو من النَّوع الذي يلائم ما تتخبَّط فيه الإنسانيَّة اليوم من أزمة.

نلفت هنا إلى أنًّ البحث في التصوُّف والعرفان لم يغب يوماً، ولكنَّه بقي حبيس مربَّعات تخصُّصيَّة وبين نخب ضيِّقة من المتديِّنين، فكان العرفان مبحث مسلمين شيعة، والتصوُّف مبحث مسلمين سنَّة، والغريب أنَّه رغم التشابه بين المجالين ووحدة مناطاتهما، يجهلُ بعض المتصوِّفين العرفان، وينظر من هم في ضفَّة العرفان إلى التصوُّف وأهله بحذر وتوجُّس، وهناك بلا شكَّ مجهود جبَّار يجب أن يُبذلَ ليفهم أهلُ التصوُّف والعرفان أنَّهم على الضفَّة ذاتها المتَّصلة ببوصلة واحدة، وبالتَّوق نفسه يخوضون المعركة نفسها، وهي:

– أوَّلاً: معركة الإسلام الذي طرأت على الوعي به والتمرُّن عليه تحوُّلات شوَّشت جوهره، وأضعفت روحانيَّته لحساب كلام وفقه وسياسة.

– ثانياً: معركة الدِّين بصفة عامَّة إذ يُفترض في الإسلام أن يضطلع بدورٍ متقدِّم في التَّعريف بالدِّين وفلسفته ودوره لأنَّه آخر الأديان تاريخيَّاً، ولأنَّ منظومته هي الأكثر اكتمالاً بين الأديان.

– ثالثاً: معركة المعنى، وهو أوسعُ من الدِّين بل هو في الأصل مقصدُ كلِّ دين، وكلِّ دين إنَّما كان لتثبيت المعنى. وهذا الأخير يتَّسعُ الآن وينخرط فيه متديِّنون وغير متديِّنين من بناة الأفكار والرُّؤى والفلسفات.

نحن الآن في وضع آخر، فالمبحث  بعدما كان مبحث متديِّنين مُسلمين صار مبحثاً فكريَّاً وفلسفيَّاً ملحَّاً، بل نحسب أنَّه يتحرَّك ويتطوَّر ليصبح مبحثاً ثقافيَّاً بامتياز. وليس كلُّ المبحث ما ينشط فيه مُسلمون بين شيعة وسنَّة، فالمتابع للمنشورات شرقاً وغرباً يرصد من دون عناء كبير، وإن بمفردات أخرى وتحت عناوين ومُسمَّيات مُختلفة، السؤال ذاته والاهتمام نفسه. من هنا، علينا  كمُسلمين، ونحن نبحث لأمَّتنا عن حلول وعن وصل ما تباعد من ضفاف بين دين وثقافة وفكر، ونسعى في ضمان بعض التَّوازن لناشئتنا الحائرة والمُتأرجحة والمفتونة، علينا أن ننظرَ بالاهتمام المطلوب في وضع مجتمعات متديِّنة تسعى في الذي نسعى فيه وإن بلغاتها المحلِّيَّة وربطاً بمساراتها التاريخيَّة الخاصَّة.

قد نكتشفُ أنَّنا هيكليَّاً لا نختلف كثيراً كمُسلمين عن غيرنا. فهناك نُخب شرقاً وغرباً تفكِّر في الأزمة بعُمق وتُسهمُ بأفكار جيِّدة في الحلول. بل إنَّ تجلِّي ما سمَّيناه حاجة برز متأخِّراً بين المُسلمين مقارنة بالغربيين مثلاً. ويُمكن القول أنَّ التيَّار الرومنطيقيَّ في الجزء الأكبر منه مثَّل منذ أكثر من قرنين إرهاصات وازنة في الاتِّجاه الذي نشيرُ إليه. كذلك يمكن القول أنَّ الوجوديَّات بمختلف تعبيراتها وتوجُّهاتها شكَّلت محطَّة فارقة وحيويَّة على طريق الإقرار بالأزمة والانحدار الإنسانيِّ المعمَّم نحو عبث وعدميَّة. صحيح أنَّ مختلف الاحتجاجات تبقى نُخبويَّة وتحاصرُ لأسباب غير مجهولة، ولكنَّها الآن تطفو وتشيع، ولن تكون مفاجأة بالمرَّة إن هي ساهمت بفاعليَّة في بلورة وعي خلاصيٍّ جديد. ولا ريب في أنَّنا معنيّون كثيراً بهذه الديناميَّات والمخاضات، ويمكن أن تتشكَّل جبهة معنويَّة واسعة تنخرط فيها نُخب متعدِّدة المشارب ومختلفة الأصول والثقافات.

جليٌّ أنَّ الأنساق الفكريَّة والفلسفيَّة التي تكفَّلت خلال القرون والعقود الماضية بتحديد أولويَّات الفكر والفلسفة، تعيش أزمة تبلغُ حدَّاً خصوصاً عندما يتعلَّق الأمر بالعقلانيَّة ومُشتقَّاتها. الأنساق ذاتها تكفَّلت ولمدَّة طويلة بتحييد الهواجس الأنطولوجيَّة وطمر المعنويَّات ولجم الحيرة.  كما لعبت دور الكابت أو الكاتم أو الكابح، واعدة بتقديم حُلول وضمانة اليقين المتَّزن السعيد. هذه الأنساق تُعلن اليوم عن عجزها وهو عجز جليٌّ ما عاد يحتاج إعلاناً حتَّى.

في المستوى الإنسانيِّ العامِّ، وبعيداً عن مفردات تحيل على تجارب ثقافيَّة محلِّيَّة، يمكن القول أنَّ السؤال اليوم هو سؤال المعنى وسؤال المعنويَّة. فقد يربط المسيحيُّ الغربيُّ سؤال المعنى بتراثه المسيحيِّ، وقد يربطه الهندوسيُّ بتراثه الهندوسيِّ، والبوذيُّ بالبوذيَّة، وغير ذلك بحسب ما استقرَّت عليه الإنسانيَّة من تعدُّد واختلاف. لذا، من المفيد الوعي، ونحن ننتمي إلى دائرة ثقافيَّة إسلاميَّة أن نعيش ذات الهمَّ ذاته ونحن نبحث في التصوُّف والعرفان. بل يمكننا تحويل هذا البحث، نقصد ترجمته، إلى لغة كونيَّة، وإذا نجحنا في ذلك نحقِّق هدفين: الأول تطوير بحثنا، والثاني إعطاء الآخر المختلف عنَّا لغة وثقافة وتاريخاً، نصيباً من هذا البحث.

لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ خلافة الغرب والتقدُّم بمشاريع بديلة لا يُمكنُ أن يتيسَّرا لمجرَّد بلوغ الغربيين الأزمة وتعطُّل منظوماتهم القيميَّة. فهذه الخلافة لن تصبحَ ممكنة إلاَّ ساعة يجهزُ بديلٌ متين قابلٌ للشيوع بقدرته الاستثنائيَّة على الجذب، وبما يُبدعُ من أساليب تواصُلٍ تُخرجُه من المحلِّيَّة والخصوصيَّة الجغرافيَّتين والثقافيَّتين، وتشكِّله إنسانيَّاً وكونيَّاً.

لقد فشلَ الغربيون لجهة محتوى ما يقترحونه، فهذا المُحتوى يشكو من ضمور المعنى، ويفتح على أقدار مُخيفة من العبث، ولكنَّ نجاحهم مشهود لجهة التَّأثير والنَّشر والإخراج والتَّسويق، ومن الصَّعب أن يمرَّ مشروع بديل من دون إتقان وسائل لازمة وبناء ما يلزم للفعل والتَّأثير من منظومات. هذا من المرجوِّ والمحمود خصوصاً إذا ثبت اعتقادنا أنَّ الرُّؤية الإسلاميَّة إنَّما هي رؤية للعالمين، بل هي رحمة لهم. ثمَّ إنَّ العالم بات مُعولماً، ولم يكن في يوم من الأيّام مُعولَمًا بالقدر الذي نبصرُ ونُعاين، من عَولمة التقنيَّة وهندسيَّات التواصل، إلى عَولمة المنظومات العابرة والاقتصاديَّات المتشابكة والسياسات الدوليَّة وحاجاتنا المشتركة بعضنا إلى البعض الآخر. هناك بلا شكٍّ روح هيمنة وسيطرة، وفي جانب كبير منها ليست العولمة إلاَّ إلحاقاً بمركز غربيٍّ متكبِّر، وليست إلاَّ أمركة قبيحة، ولكن، واقعاً، هذه العلمنة تفتح على العالمين، ولأوَّل مرَّة صار ممكناً التقدُّم بمشاريع للإنسانيَّة جمعاء، والبحث في حلول كونيَّة، بل إنَّ الحلول إذا لم تكن كونيَّة اليوم فمن الصَّعب رؤيتها. والثَّابت أنَّ المركز الغربيَّ الذي يتقدَّم منذ قرون ليكون هو الحلَّ، والحلُّ للجميع يتعطَّل ويعجز، فأزمته من أزمة الأنساق التي ذكرناها سابقاً.

لقد رفع الغربيُّون تحدِّي الكونيَّة ونجحوا في ذلك نجاحاً مُعتبراً يجبُ ألاَّ نُنكرُه، وكانت منهم قُدرة وازنة على جعل غالبيَّة ساكنة العالم تعتمد رؤاهم وثنائيَّاتهم ومفرداتهم لفترات طويلة. وبقطع النَّظر عن جدارة هذه الرُّؤى ومشروعيَّتها فإنَّ وعي أصحابها بالحاجة إلى لسان كونيٍّ يُعتبر لحظة فارقة في تاريخ الإنسانيَّة. ومن المفيد البناء بهذا الوعي والاعتماد عليه في مشاريع الخلاص والنُّهوض، وهو وعي ليس ملكيَّة خاصَّة للغربيين وبهم، هو من الحكمة المشاع، وهو من الاهتداء إلى قوانين تحكُم الاجتماع البشري وتؤثِّر فيه.

إنَّ مسألة اللِّسان مسألة بالغة الأهمِّيَّة، ولا تتجلَّى هذه الأهمِّيَّة كما تتجلَّى في القرآن الكريم الذي نزل بلسان عربيٍّ مُبين، وفي دعاء موسى عليه السَّلام أن يُحلِل الله تعالى عُقدة من لسانه ليفقه الآخرون قوله. كثيرة هي الإشارات الواردة في قرآن المُسلمين وكلُّها تربط بين الرِّسالة واللِّسان الذي لا يختزلُ ضرورة في اللُّغة وإنَّما يتجاوزها إلى التَّواصل عموماً. هذا طبيعيٌّ ومفهوم، فوصول الرِّسالة مشروط بمُوفَّقيَّة الإيصال، وهذه الأخيرة ترتبط ضرورة بالبناء على المُشترك. فإذا سلَّمنا مثلاً بأنَّ لسان القرآن الكريم عربيٌّ مبين، وربطنا البيان كلِّيَّة باللُّغة، فإنَّ هذه الأخيرة تتراجع بين العرب قبل غيرهم، ويعجز العربيّ اليوم، إلاَّ إذا كان من قلَّة خاصَّة متينة التَّكوين مُحيطة بالبلاغة، عن بسيط الإلمام بما يشترطه نظام لغته الأصليَّة من نباهة عند البثِّ والتلقِّي، بل إنَّ هذا العربيَّ هجر أو يكاد هذه اللُّغة، بل هو يطوِّر لُغة موازية عبر ما يتعوَّد عليه ويعتمده في تواصله اليوميِّ من لهجة أو لغة قطريَّة.

وإذا سلَّمنا بأنَّ البيان القرآنيَّ لُغويٌّ وكفى، فعلينا أن نسلِّم بأنَّ العربيَّ هو، واقعاً، في شبه قطيعة مع هذا البيان، واستتباعاً مع القرآن والإسلام. قد نحتاج إعادة تفكير في البيان القرآنيِّ، وقد نحتاج توسيعاً لهُ فهماً وتأويلاً لتجاوز هذه العقبة. القرآن نظام معنويَّات، والمعنويَّات تسكُنُ اللُّغة وتسكنُ إليها حين تكون علاقة النَّاطقين بها متينة، ولكن حين تهتزُّ هذه العلاقة يحتاج نظامُ المعنويَّات معاضدة حواملَ أخرى غير لُغويَّة ليبقى رسالة، أي خطاباً يبلغُ متلقِّياً. هذا تحديداً ما نقصدهُ باللِّسان، نقصد قدرة خطاب ما على بلوغ ذلك الذي من أجله كان الخطاب بداية، وهو الإنسان. لا يُمكن لقرآن يعرِّف بأنَّه رحمة للعالمين أن يُختَزل في اللُّغة، وليس من الواقعيِّ ولا العمليِّ القول فيه أنَّهُ إعجاز لُغويٌّ وكفى. فقبل أن يكون إعجاز لغة هو إعجاز معنى وبرهان حقيقة. هو إعجاز لغة لقوم فصيحين مدركين لممكنات لغتهم الإشاريَّة والمجازيَّة، أمَّا الغير فيعسُرُ عليه الإقرار بالإعجاز اللُّغوي إلاَّ إذا اعتمد رأي هذا وذاك.

اللُّغة اليوم هي لغات بين صوت وصورة ومؤثِّرات، بل إنَّ نظام التواصل ينتقلُ عالميَّاً من حرفيٍّ إلى رقميّْ. وليس هذا الإنتقالُ بالسارِّ مُطلقاً لكنَّه واقع ومُعاين، وليس متاحاً إنكارٌ له وقفزٌ عليه. هناك لسانٌ أوَّل هو قبل كلِّ اللُّغات وهو اللِّسان المعنويّْ.

من المفيد التّفكير في اللِّسان المعنويِّ والإبداع فيه لضمان أن يبقى القرآن خطاباً حيَّاً متحرِّكاً. فهناك من قال عنه إنَّه قرآن بلسان فارسيٍّ ذلك أنَّ نظام المثنويِّ نظام شعريٌّ فارسيٌّ، أمَّا مولوي البلخي فعرَّفه بالمعنويِّ تجاوزاً للسانه الشعريِّ والفارسيِّ وانخراطاً به في ما أبعدَ ممَّا يحتملُ اللِّسان، ويفتحُ عليه، ونقصدُ بذلك هندسة معنويَّة واسعة. فمن قال إنَّ العملَ الدراميَّ المسرحيَّ أو السينمائيَّ أو الفنِّيَّ الثقافيَّ عموماً لا يبلِّغنا بحساب المعنويَّات ما لانبلُغهُ باللُّغة واللِّسان؟

لقد اعتمد مولوي في المثنويِّ فنَّ القصِّ بإبداع مُعجز جعلهُ يركِّب كلّ المضامين والمفاهيم القرآنيَّة بلغة مفتوحة قابلة للتَّرجمة والتَّحويل. إذ فهم أنَّ القرآن ليس لُغته وإنَّما روحه، وأنَّ هذه الرُّوح هي هندسة مرنة يمكن رؤيتها تتشكَّل تشكُّلات مُختلفة.

من الطَّريف أنّ مُفردة المعنويِّ تعني باللُّغة الفارسيَّة الروحيَّ أو الروحانيَّ، وعليه فإنَّ المعنويَّة هي الروحانيَّة، وهذا مفيد لمن يبحث في التصوُّف والعرفان، وهما تعبيران اختصَّا في الرُّوح والروحانيَّة. ليس متوقَّعاً من مباحث ارتبطت بهذا البُعد تحديداً الغفلة عن مسألة اللِّسان الذي عليه أن يتروحن هو أيضاً ليُصادف الرُّوح والروحانيَّة، والرُّوحُ لطيفة وغيبيَّة مُنسابة وليست شكلاً بعينه وإن هي تشكَّلت لا تحدُّ، وإن كان قدرها بسبب حضورها في عالم مسيَّج ومحكوم بالحدود أن تتشكَّل.

 

 

 

الإنسان ومُعضلة المعرفة:

المُعضلة من حيث اللُّغة هي الطَّريق الضيِّقة المخارج، وهي المسألة المُشكلة التي لا يُهتدَى إلى وجهها، أمَّا المرأة المُعضلة فهي من كانت ولادتها صعبة وعسيرة، ونحسبُ أنَّ المعرفة تتحمَّل هذه المعاني مُفردة ومجتمعة. وليس أشقَّ من بلوغ المعرفة وتحصيلها. يعلَم الطَّلبة باكراً جدَّاً عن هذه المشقَّة فكيف إذا تعلَّقت بالمعرفة الأساس والتي هي مُنطلق وركيزة كلِّ المعارف: معرفة الإنسان أصله ومُنتهاه والغاية من وجوده في هذا العالم.

المشقَّة هنا موزَّعة، وتمرينها لا ينفكُّ زمناً بعد زمن، وطوراً بعد طور، بل يمكن القول من دون مجازفة أنَّ كلَّ ما أتته الإنسانيَّة وتأتيه ليس إلاَّ من باب التَّرتيب والمراجعة والمُراكمة للمعرفة حتَّى وإن لم يحصل ذاتيَّاً وعي تامٌّ بذلك. في الظَّاهر والظَّاهر فقط تبدو الحضارة المادّيَّة المعاصرة عازفة عن مُشكلة المعرفة، زاهدة فيها، متلهِّية عنها بصناعة وتكنولوجيا وإنتاج. والواقع أنَّ هذا الزُّهد مؤصَّل معرفيَّاً أي يعتمد معرفة قوامها أنَّ دور الإنسان في الوجود هو كسب العالم وتوظيف ما فيه من أجل أقدار مُعتبرة من الحرِّية والسَّعادة. هذه معرفة، أو هي بالأحرى بعض من خيارات المعرفة، وإن كانت لا تصادف ولا تشبه ما نمضي نحن فيه من خيار ومن معرفة.

يجدر القول أنَّ النَّقلات الحضاريَّة الوازنة والمؤثِّرة، والتي يتجدَّد العالم بعدها، هي بحقٍّ نقلات معرفيَّة، وبتعبير أدقَّ خيارات معرفة فارقة، فليس الحديث هنا عن معرفة تجريبيَّة ومخبريَّة وبالتَّالي معرفة موضوعيَّة وإن كان كلُّ نظام معرفة يعتمدُ حجاجاً يرمي من خلاله إلى إخراج نفسه نظام دقَّة علميَّة وصرامة موضوعيَّة.

ليس الإنتقال من الدِّين إلى رؤى المادِّيَّة والإلحاد الذي طبع القرون الماضية انتقالاً علميَّاً ولا انتقالاً عقلانيَّاً، بل هو انتقال رجَّح جوانب على أخرى، وانتصر لخيار على حساب خيارات أخرى. وإذا تعلَّق الأمر بمرور من دين إلى إلحادٍ، ومن إلحادٍ إلى دين، فليست حقائق الفيزياء والكيمياء هي المحدِّدة، ولا علاقة لهذا الصُّنف من التحوُّلات بالصَّرامة الرياضيَّة، وإن كان المتحوِّلون يعتمدون تبريراً بعض نظر في فيزياء وكيمياء ورياضيَّات. المسألة مرتبطة جوهراً بالمعنويَّات أي بالمعنى الذي يحرص الإنسان على ربط وجوده به. لا يقولُ القرآن الكريم عن الدَّاخل في الإسلام والمُعتنق له أنَّه تحوَّل عالم فيزياء. لا، هو يقولُ إنَّه تذكَّر، وأنَّه اهتدى، وأنَّه أبصر بعد عمى. هذا منطقيٌّ جدَّاً إذا ربطناه بالرُّؤية الدينيَّة عموماً  والإسلاميَّة خصوصاً، فالإيمان يشترط الحرِّيَّة، وإذا تحوَّل إلى خوارزميَّات صارت الإحاطة بهذه الأخيرة هي الفاتحة على الإيمان والمُدخلة في الدِّين، وإذا كان الأمرُ كذلك انتفت الحرِّيَّة التي هي شرط تديُّن وإيمان. يتضرَّر هذا الإيمان كثيراً عندما يتحوَّل أو يُختزلُ في درس علميٍّ تلقينيّْ. تبدأ الأديان تعبيراً صميماً وأصيلاً عن الحرِّيَّة، ويكون جيلها الأوّلُ جيلاً كيفيَّاً، ولكنّها بعد ذلك تستقرُّ على ميراث معرفيٍّ فاقدٍ في الغالب لجذوة الحرِّيَّة وتمرينها الذاتيّْ. ليس الحلُّ في فكاك من الدِّين بعد جيل أوَّل ومؤسِّس، ولكن لا نرى الحلَّ في تحوُّل هذا الدِّين تلقيناً بارداً وتقليداً اجتماعيَّاً ،وقد كان هذا التحوُّل للأسف في كلِّ الأديان ولذلك تماماً كان نبيٌّ يأتي بعد نبيّْ.

لقد تتالى الأنبياء لإعادة الأمور إلى نصابها، وإحياء الجذوة، وهزِّ الهمَّة، ومنع برودٍ هو آخذ ولا شكّ إلى صنوف من التَّحريف. لذلك، وقد ذكرنا الأزمة وكرَّرنا، يكمن الحلُّ دائماً في المعرفة كما تكون العطالة بسببها. مثال على ذلك ما حدث مع رسول الإسلام صلَّى الله عليه وسلَّم في الطَّائف لمَّا لقي العنت والصدَّ بل العنف أيضاً من بعض أهلها. فقد كان دعاؤهُ حينها: “اللَّهمَّ اهدِ قومي فإنَّهم لايعلمون”. فلو علموا لما كان هذا السُّلوك منهم ليكون، وهذا معنى عزيز يحوِّلنا من ثنائيَّة الخير والشرِّ إلى الثنائيَّة الأولى والأساس وهي ثنائيَّة المعرفة والجهل. لذلك فالأنبياء معلِّمون بالأساس ومعرِّفون وممرِّنون على درسٍ جديد بمقدِّمات مُختلفة، وحيث يرى غيرهم رؤوساً يجب أن تُقطعَ يرون هم عقولاً يؤخذُ بها بالرِّفق والصَّبر المطلوبين إلى إدراك جديد. قد يعيننا سلوك الأنبياء ونهجههم لنفهم طبيعة التَّشخيص الذي يجب أن نجتهد فيه ونحن نتدبَّر أحوال العالم وطبيعة النَّهج الذي يجب أن نعتمده، إذا ما رمنا له إصلاحاً بخلفيَّة دينيَّة إسلاميَّة. ليس الحلُّ اقتصاديَّاً أو سياسيَّاً أو غير ذلك إلاَّ تفصيلاً. فبالحساب الهيكليِّ والكلِّيِّ يحتاج العالم بلورة نظام معرفة جديد. وليس الأمر يسيراً، لأنَّ الانتقال المعرفيَّ في زمن استبداد وتغوُّل أنساق بين مادِّية وعقلانيَّة يتطلَّب مجهودات جبّارة ووقتاً طويلاً مع توفُّر نيَّات طيِّبة ومخلصة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنَّ مصالح ضخمة ترتبط في العادة بما ينتشر من معرفة. على سبيل الذِّكر والحصر، ليس متوقًّعاً من المركز الغربيِّ المُهيمن والحريص على الرِّيادة والقيادة ماديَّاً ومعنويَّاً أن يقبل بإعادة النَّظر في مسائل هو يعتبرها منذ فترة بالقصيرة يقينيَّات وقيماً كونيَّة. لا يرى نفسه مُحتاجاً لدروس تأتيه من عربيٍّ أو إيرانيٍّ أو هنديٍّ أو صينيّْ. بل على العكس من ذلك لا يقرُّ لهؤلاء بالجدارة الإنسانيَّة إلاَّ بمدى اعتناقهم ليقينيَّاته وقيمه. من دون ذلك، هم مارقون عن حضارة وثقافة ومنفصمون وغارقون في زمن آخر ولَّى وانقضى.

إنَّ التجديد المعرفيَّ الجذريَّ للعالم يَعسُرُ بحساب رغبات نُخب نجحت المنظومة الأوسع في تدجينها وتوظيفها، وهو يعسُر بحساب المصالح والهيمنة والنُّفوذ ولكنَّه اليوم أيسرُ، ورغم كلِّ ذلك من أيِّ وقت مضى. ذلك أنَّ الأزمة تدفعُ نحوهُ دفعاً، بل إنَّ الإنسانيَّة ما عاد بمقدورها الاستمرار إذا استحال هذا التَّجديد. هذا يعني أنَّ فرصة حقيقيَّة تحين بشرط أن تجهز بدائلُ رصينة تتوفّر على منسوب عالٍ من الإبداع والإنفتاح. ليس الحلّ للمسلمين في استقدام تبسيطيٍّ لتراثهم الدينيِّ لأنَّ من ضمن ما أعاقهم، هم أكثر من غيرهم، أنَّهم فشلوا في جعل هذا التراث حيَّاً ومتحرِّكاً ملبِّياً الحاجات النَّاشئة عبر الأزمان. ليس الحلُّ إذا كان من المُسلمين حلٌّ في نضاليَّة سياسيَّة عجولة، وليس الحلُّ في عنف عدميٍّ خصومُهم أقدر عليه منهم وأبرعُ فيه. الحلّ في ابستيميا النبوَّة، أي في نظام معرفة يقدِّمونه على ضوء ما كان من تجربة نبيِّهم الذي هدى وعلَّم مقتبساً من الرُّوح والذي فتح الأعين على ممكنات وجوديَّة وإنسانيَّة أخرى، والذي أشار إلى سُبُلِ سعادة أصيلة.

هذه الإبستيميا تبدو غريبة عن المُسلمين قبل غيرهم، ولا نرى جدارة باستئنافها داخل الدَّائرة الإسلاميَّة إلاَّ لأهلِ التصوُّف والعرفان، فاشتغال هؤلاء على المعرفة، ووعيهم بمركزيَّتها وحيويَّتها قياسيٌّ مقارنة بغيرهم. يمضي الصوفيُّ والعارف في طريق المعرفة وتلك عبادته، ويفهمُ هذه المعرفة معرفة بنفسه قبل كلِّ شيء، ومعرفة فاتحة على الله مروراً بالعالم والكون. وليس غريباً أنَّ كبار مفكِّري وفلاسفة الإسلام في القديم كانوا من بين صوفيَّة وعرفاء. وما أتحفوا به المدوَّنة الإسلاميَّة من تأليف وإسهام هو الذي قدر على مُقاومة المعارف الغربيَّة التي جُنِّدت للذَّود عن الرُّؤى المادِّيَّة والإلحاديَّة. لذلك، فإنَّ المعوَّل خلال الطَّور الجديد الذي تدخله الإنسانيَّة الآن على هذين الحقلين وعلى ما يختزنانه ويعدان به إسلاميَّاً وأبعد من ذلك ووفَّق الله. هناك تحدٍّ أوَّل يكمن في أنَّ أهل التصوُّف والعرفان أقلِّيون في بيئاتهم المتديِّنة، وهناك تحدّ ثان هو تحدِّي العالميَّة ويفترض أن يكون الاجتهاد لرفع التحدِّيين منسَّقاً ومتناسقاً.

 

 

 

حيويَّة التصوُّف والعرفان:

 

يختصُّ الإنسان من بين المخلوقات المعلومة لدينا بالسُّؤال. هو يسأل ليعرف ويؤسِّس على ما يبلغه من معرفة رؤية وسلوكاً وأولويَّات وانتظاماً مع الآخرين وحضوراً في العالم. ليس منتظراً أن تتغيَّر حياة الخرفان أو القطط بعد قرون من الآن، وهي أصلاً لم تتغيَّر منذ آلاف السنين، أمَّا حياة الإنسان فمتحرِّكة، وليس معلوماً مثلاً كيف ستكون بعد عقود من الآن. فالإنسان متحرِّك ويرتبط تحرُّكه بالمعرفة، وهذه الأخيرة مرتبطة بالسؤال. يطرح الإنسان أسئلة تقنيَّة مرتبطة بكيفيَّة وجوده وكمِّيَّته، وهي أسئلة حياتيَّة ويوميَّة وتفصيليَّة. فقد سأل يوماً: كيف يشعل النار؟ وكيف يقي نفسه البرد والحرَّ؟ وكيف يصطاد؟ وكيف يرفع الأثقال؟ وهو اليوم يسأل: كيف يمنع التلوُّث؟ وكيف يوقف الفيروسات؟ وكيف يستكشف المجرَّات البعيدة؟ ولا ينتهي السؤال…

إلى ذلك، ثمَّة أسئلة أخرى مرتبطة بالمعنى، وهي: ما معنى أن يكون المرء موجوداً؟ وكيف تسنَّى هذا الوجود؟ وكيف كان أصلاً؟ وما الغاية منه؟ وهل بعد الوجود عدم؟ وأهمُّ من كلِّ هذا: هل للإنسان قدرة فيجيب عن هذه الأسئلة؟ كلُّ زوايا النَّظر في الإنسان تقود إلى المعرفة ولا فكاك؟ وحتَّى عندما يطلب فكاكاً لا يجده، ذلك أنَّ برمجته أو هندسته التكوينيَّة تأخذانه إليها طوعاً أو كرهاً.

في السِّياق الإنسانيِّ العامِّ اليوم، وبحكم هيمنة المادِّيَّة والنفعيَّة، ثمَّة زهد في المعرفة يُترجم تهميشاً لها، ونقصد المعرفة المتَّصلة بالمعنى والمعنويَّات التي تبني الرُّؤى، وتعرِّف الغايات والخير، وتحدِّد السلوكات.  في المقابل، ثمَّة توجيه مرتَّب ومقصود نحو المعارف العمليَّة والتقنيَّة ورهان حماسيٌّ عليها بوصفها ضامنة سعادة واستمرار. فالليبراليَّة الغربيَّة توجِّه وعي الإنسانيَّة منذ قرون، وترتِّب بدقَّة انتظام الإنسانيَّة بالتَّرغيب والتَّرهيب وتعرِّف نفسها طوراً ذهنيَّاً متقدِّماً وجديراً بالظهور على كلِّ ما سبق من أطوار. بل إنَّها تبشِّرنا بنهاية التَّاريخ واستقرار العالم بأسره على خياراتها وتصوُّراتها وما بلغته وثبَّتته من معارف.

رغم كثير من الإنكار، تفهم الليبراليَّة الغربيَّة اليوم ويفهم منظِّروها والمتحمِّسون لها أنَّها هي أيضاً مشمولة بقانون الحركة، وأنَّها ليست سوى طور، بل قد نكتشف أنَّها أقصر الأطوار، ذلك أنَّ وهم السَّعادة يتبدَّد وتستشري الأزمات. والإحساس بالغربة يراود الإنسانيَّة، ويعاودها بعنفوان سؤال المعنى. الثقافات والهويَّات التي نُوِّمت وخُدِّرت طويلاً تنتفض. خلاصة القول أنَّ الإنسانيَّة تتحضّر للدُّخول في طور معرفة جديد، وتتواتر وتتكاثر أسئلتها بما يبشِّر بخير ربَّما، ولكن أيضاً بما يضاعف المسؤوليَّة الأخلاقيَّة للمشتغلين في حقول الفكر والمعنويَّات والإنسانيَّات. فترنَّح وضع قائم وتداعيه لا يعني شيئاً إذا لم يجهز البديل المتين والضامن للكرامة والقادر على الإسعاد.

قد يعتقد المتديِّن (المسلم أو المسيحيُّ أو البوذيُّ) أنَّ السَّاحة ستخلو له قريباً بعد انهيار منظومة الرؤى والهندسات الغربيَّة المتحكِّمة في المصائر منذ عقود. بيد أنَّ المسألة اكثر تعقيداً ممَّا يأمل ويحلم هؤلاء المتديِّنون على اختلاف مناهجهم. لقد سنحت فُرص كثيرة وواسعة للدِّين والمتديّنين في السَّابق وضاعت، بل إنَّ هؤلاء هم الذين ضيَّعوا الفرص الواحدة تلو الأخرى. لو ثبتت قابليَّة المسيحيَّة للإستمرار لما كانت قطيعة جذريَّة مكَّنت لليبراليَّة مادِّيَّة. لماذا غابت القابليَّة؟ لأنَّ المسيحيَّة تحنَّطت ولم تدرك أنَّها في الزمن المتحرِّك ولأنَّها تجمَّدت جواباً وقمعت كلَّ سؤال فتحوَّلت منظومة يقينيَّات وكفى من دون سعي في تحويل هذه الأخيرة إلى ديناميَّة متجدِّدة  تراعي تعاقب الأجيال واختلاف الحاجات وتنوُّع الألسنة والثقافات. المتدين في العام يرث الدين تقليديَّاً من دون امتزاج وجدانيٍّ وذهنيٍّ وذوقيٍّ به. قد يقاتل هذا المتديِّن من أجل هذا الدِّين ويكون مستوى وعيه به ضعيفاً جدَّاً، بل قد يكون هذا الوعي مفقوداً تماماً أي أنَّ الدِّين قد يكون امتداداً للتَّاريخ والجغرافيا فحسب بينما هو حركة تفكُّر وتدبُّر ومحاسبة وصناعة وعي وتخلُّق مختلف جديد.

الإسلام مثلاً دين “اقرأ”، والقراءة فاتحة على معرفة وتعرُّف، ومن يقرأ يتحوَّل بفعل القراءة. ضمُرت الصِّلة بين الدِّين والمعرفة كثيراً بل إنَّ التديُّن قد يكون في مواقف كثيرة دافعاً لازدراء المعرفة والزهد فيها. النتيجة الطبيعيَّة هي رؤية الدين يتوقَّف عن التشكُّل نظريَّة معرفة ونظام معرفة، وأن يتحرَّك المهموم بالمعرفة خارج دائرة الدِّين. يفسّر هذا جانباً مهمَّاً من الصِّراع المحتدم منذ عقود داخل المجتمعات المسلمة  بين شرائح من المتدينين ونخب عالمة ومثقَّفة اتَّسعت عينها وتضاعفت أسئلتها بفعل شيوع معارف ومناهج جديدة.

لا نعتقد أنَّ الحلَّ يكمن في استئناف الدِّين ببساطة وتبسيط ينتشر بين متحمِّسين. فقبل أن ينجز ثورة حوله (بين مجتمع بعينه وبين العالم) عليه أن ينجز  ثورة  فيه تعيد تشكيله منظومة متكاملة تأخذ المعرفة فيها مركزاً أولويَّاً ومتقدِّماً. من هنا تحديداً، من ملاحظة الحاجة إليه والوعي به، وبفعل تاريخ أذهب الكثير من ألقه وعنفوانه وحرَّفه وقلب معانيه، صار بلا فاعلية ودون التحدِّي الذي نمرُّ به في دوائرنا الخاصَّة ودائرتنا الإنسانيَّة العامَّة.

من هذا التَّشخيص للأزمة يبدأ تفكيرنا في العرفان والتصوُّف ونظرنا فيهما وربَّما استمدادنا بعض خلاص منهما. فهما حقلان ثقافيَّان ودينيَّان متينان وهامَّان عندما يكتشف الباحث  المنصف المتانة والأهمّية فيهما، وإلاَّ فهما هامشيَّان بحساب الكمِّ والتّأثير خصوصاً خلال الفترات الماضية بين عقود وقرون. التصوُّف والعرفان يؤسَّسان على المعنويَّات ويُنظران في الإسلام بعين روح وجمال. وقد ارتبطا إلى حدٍّ بعيد بالذوق الكيفيِّ وبالتَّجربة الذاتيَّة الوجدانيَّة العميقة وربَّيا أعلاماً نوعيين بجاذبيَّة خاصَّة. في المقابل تأخّر الجمهور المسلم الواسع، وركن إلى التَّبسيط والتقليد، واختصر الإسلام في الأحكام والطقوس. قد يكون الفصل بين عرفان وتصوُّف مشروعاً ولكن في حدود ذلك أنَّ المتأمِّل فيهما يلحظ وحدة هندسة تجمعهما ولا تفرِّق.

عموماً، يُربطُ العرفان بالتشيُّع والشيعة، ويُربطُ التصوُّف بالسنَّة والتسنُّن. والتصوُّف هو عرفان أهل السنَّة، والعرفان هو تصوُّف الإخوة الشيعة بقطع النظر عن تعبيرات شاذة وفلكلوريَّة هنا وهناك تشوِّش بأعين كثيرين الجوهر الأصيل للتصوُّف والعرفان. ليس المقياس ممارسة الأفراد ولا هو فهمهم، وإنَّما آثار المؤسِّسين وما اجتهدوا فيه بصدق وبعد مراجعة وتمحيص.

هناك جامع حيويٌّ ومركزيٌّ بين الحقلين، ونقصد بالجامع همَّ المعرفة والتَّوق إليها والسعي فيها حثيثاً. فأهل العرفان والتصوُّف يفهمون الإسلام سعياً وسبيلاً وطريقاً وكدحاً وسلوكاً. لا ينفع كثيراً أن يكون ميراثاً وكفى ذلك أنَّ الرُّكون إلى فكرة الميراث يجمِّد الدِّين ويحوِّل المتديِّن عالة على زمن متحرِّك. بينما يفهم الغير الدِّين مجال تمايز يفهمه أهل العرفان والتصوُّف فرصة للتميُّز باعتماد السلوك المميّز والممحّص فهناك عندما يكون طريق سابق ولاحق وهناك مقامات ومحطات وهناك فتح واكتشاف وكشف. كلُّ هذا يحوِّل التديُّن تجربة حيَّة متحرِّكة ما يوسِّع معارف الدِّين ويجدِّدها ويجعلها قادرة على تجاوز عقبة الزَّمن.

عندما نذكر المعرفة هنا، يتبادر الى الذِّهن تلقائيَّاً رأيٌ مشهور يربط المعرفة بالله تعالى وبالعالم، وهو رأي وجيه بلا شكٍّ ولكنّنا نرى القيمة الكبرى في أنَّ التصوُّف يفتح على معرفة الإنسان نفسه، ومن دون هذه المعرفة كيف له أن يعرف ربَّه والعالم المُستخلف فيه؟  ليس القصد من قولنا أنَّها القيمة الكبرى أن نزهد في معرفة الله والعالم، ولكن القصد أنَّ الأهليَّة لهذه المعرفة لا تتسنَّى من دون اشتغال متَّصل  ومرير على الذَّات  يعيد تركيبها ويصقلها ويطهِّرها. سؤال الإنسان عن نفسه هو السُّؤال المفتاح، وهو لا يسأل عن ربِّه حقَّاً إلّا بعد ألف سؤال وسؤال عن نفسه التي بين جنبيه، فإذا صلحت النوايا وصدقت وتمحَّصت السَّريرة انفتح ألف باب وباب وكان عروجٌ وكانت الآفاق في قبضة. لا يحتقرنَّ  أحد هذا التصوُّر أو هذه الهندسة. هي هندسة موثَّقة معرَّفة عبر سير الأنبياء والأولياء، وهي مُكرِّمة للإنسان، ومراهنة عليه، ومُعتبرة إيَّاه  مناطاً عظيماً. (وتزعم أنَّك جرم صغير… وفيك انطوى العالم الأكبر).

التصوُّف والعرفان وعد حرِّيَّة ووعد ترقٍّ وسموٍّ، ووعد ذكاء وعبقريَّة،  وبشارة تخلُّق خيِّر.  هكذا نفهمهما، وهكذا نبحث فيهما، وهكذا نعتقد متيقِّنين أنَّ فيهما خلاصاً لأمَّة المسلمين الممزَّقة والمشتَّتة، ولإنسانيَّة تألم وقد ضمُر المعنى وغابت الرُّوح. الأهمُّ أنَّه ليس ممكناً  إحياء الإسلام الأوَّل الذي أثخن فيه أمد التَّاريخ حتَّى اختلط الحابل بالنابل، واستشرت فوضى الفتوى، وعمَّت الفتن، ليس ذلك بالممكن إلاَ مروراً بالتصوُّف والعرفان، وهذه ورشة ثقافيَّة وحضاريَّة ضخمة يعوَّل فيها كثيراً على إيران التي تميَّزت عبر تاريخ طويل وعريق بميراث معنويٍّ كمِّيٍّ وكيفيٍّ تشهد عليه آثار حافظ ومولوي وجامي والعطَّار وغيرهم كثر، وهؤلاء بعين الصوفيَّة السنَّة أقطاب، وبعين عرفاء الشيعة عارفون محقِّقون.

 

خاتمة:

أقربُ الطُّرق إلى اللّه تمرُّ بالإنسان حتماً وليس ممكناً اليوم إعادة الألق لسؤال اللّه الذي تستبعده المعارف والمناهج إلاَّ بسؤال عن الإنسان. هذا الأخير يسألُ عن نفسه اليوم أكثر من أيِّ وقت مضى، ويلحظ ما آل إليه من ذلٍّ وتفاهة، ويرنو بلا شكٍّ إلى غد يستعيد فيه بعض قيمة وكرامة وحرِّية. لا نشكُّ البتَّة في أنَّ سؤال هذا الأنسان عن نفسه ليس جوهراً إلّاَّ سؤالاً عن اللّه الذي أودع في الإنسان فطرة تتوق إلى الكمال وتأبى المهانة. نحتاج جيلاً من المتديِّنين ومن المسلمين يبرعُ فهما وتصوُّراً في وصل ما انقطع معرفيَّاً من صلة بين الله والإنسان ليكون الذَّود عن الإنسان ضرباً من الجهاد في سبيل الله. (من أحيا نفساً فكأنّما أحيا النَّاس جميعاً) فماذا عندما تكون النِّيَّة ويكون المشروع إحياء إنسانيَّة بأسرها؟

إنَّ الانتصار للدِّين اليوم لن يعني شيئاً ولن يضمن انخراطاً واسعاً وفعَّالاً                        إذا لم يكن انتصاراً للإنسان، وهذا الأخير يطلب مُنتصرين له مُطلقاً ببلورة خلاص جمعيٍّ جديد. نحسب واثقين وآملين أن يضطلع التصوُّف والعرفان بدور رئيسيٍّ ومؤسِّس في هذا المجال ذلك أنَّ الخلاص في جانبه الأبرز والأهمِّ معرفيّْ. إذا علمَ الإنسان أنَّ الخلاص ممكن واتَّضحت بعينيه الطَّريق إليه فإنَّه يمضي نحوه حثيثاً. هذا الإنسان مكبَّل الآن ومُستعبد لأنَّ الدَّجل كثيف ومن بين الدجّالين متديّنون ذلك أنّ الدجّال الأكبر يعلمُ تمام العلم أنّ خلاص الإنسان يأتي من الدّين. لذلك فإنّ أعتى الدَّجل ما كان بمفردات الدِّين. وإذا نزعنا عن الدِّين بُعدَي المعنى والرُّوح نكون قد حوَّلناه دجلاً سواء شعرنا بذلك أم لم نشعر.

*  باحث في اجتماعيَّات التصوُّف- تونس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى