قراءة في كتاب “صمت هايدغر” في المسألة اليهوديَّة
خالد الغيلاني
من هو هايدغر:
ولد فيلسوفنا عام 1889 في مسكرش Messkir في ألمانيا لأسرة ذات جذور عميقة فيها وقد أراد والداه أن يلحقاه بسلك الكهنوت، ولكنَّه اختار مسلكًا آخر مع أنه تابع تعليمه اللاهوتي في معهد فرايبورج الأسقفي حتى سنة 1909، ثم أتمَّ دراسته في اللاهوت والفلسفة وأخذ يقرأ بنفسه مؤلَّفات هوسرل في الفينومينولوجيا.
حصل في عام 1914 على الدكتوراه الأولى مع رسالة عن ”نظرية الحكم في النزعة النفسانية”. وعيِّن بعدها معيداً في تلك الجامعة، ثم نشر في عام 1916 رسالة الدكتوراه الثانية، عن “نظرية المقولات والمعنى عند دونس سكوت” . وقد ذاع صيته في الأوساط الفلسفيَّة باعتباره مفكِّرًا أصيلًا .
وعندما بلغ هوسرل سن التقاعد، خلفه أستاذاً للفلسفة بجامعة فرايبورج عام 1929 بناء على توصية منه وفي عام 1933 انتخب رسمياً مديراً لجامعة فرايبورج كما نشرت الصحف المحلية خبر انضمامه رسميًا إلى الحزب النازي.
توطئة:
يقول أحد عباقرة الموسيقى الكبار يوهان باخ : Bach by saying that it is “nothing but the same old tune” ? “.. . Every thinker thinks but a single thought.
لماذا الدعوة إلى التغيير شيء فطري في الإنسان والكون لا شيء يبقى على حاله لأن ذلك يعني الملل والجمود لذلك جاء في الحديث أصدق الأسماء همَّام والحارث وهذان الاسمان يدلان على الحركة والتطور وعدم الجمود عليه فإن التَّصلب على الأفكار وعدم الانفتاح على الآخر يعني فناء الحياة لأننا كائنات تعارفية الأصل فيها الانفتاح أما الانغلاق فهذا خارج عن الطبيعة البشرية السوية.
ومع أهمية هذا الأمر فإنك تلحظ أن الانغلاق سمة يهودية بارزة لأنها تحاول إقصاء الجميع وتحديد ذاتية متفردة كل ما هو سواها مسخر لها. إن كثيرًا من العذابات اليهودية مردها إلى نفسيتها غير المندمجة والحاقدة على البشر كلهم ومما يذكر أن هناك نكتة قديمة دارجة ومعبرة تقول :عندما طُلب من رجل إنجليزي وفرنسي ويهودي القيام بكتابة مقال عن الفيلة فاختار الإنجليزي موضوعًا يناسب إنكليزيته “صيد الفيلة في الراج”؛ أما الفرنسي فاختار “كيف تمارس الفيلة الحب”؛ أما اليهودي فحدد هذا الموضوع الطريف “الفيل والمسألة اليهودية”.
إن معادة السامية تمثل إزاحة قاسية وانفراد عن المشروع البشري الإنساني المندمج إنها ليست أكثر من جدار العزل الفاصل الموجود في فلسطين إنها سياج حول هذا الكائن اليهودي الخائف من الجميع والحاقد على الجميع. إن كثيرًا من الإنجازات اليهودية هي محاولة إثبات التفوق والنزعة التفردية فالإنسان اليهودي يعيش مشكلة نفسية عصيبة فهو إنسان غير مطمئن يسعى للسلطة والمال ويستخدم الإعلام الجنسي بشكل مخيف لأنه لا يثق في أحد ويعيش رعب تاريخي قديم حتى أن الإله الذي يقول إنه اختاره دون بقية الشعوب هو في شك منه ويحاول في كثير من كتبه ومطوياته القديمة إبراز نزعة الثأر والغضب عليه لأنه كان يعاقبه باستمرار ويعرضه لكثير من الويلات كما حصل في التيه وفي خراب بيت المقدس وكأنه يريد أن يقول له إنك أخطأت في حقنا وأخطأت أكثر باختيار أمة العرب كآخر الرسالات وقد أصابك السهو لذلك تسمع في القرآن على لسانهم ” إن الله فقير ونحن أغنياء” ” وقالت اليهود يد الله مغلولة ” هذه الحال ولدت لديهم مشاكل نفسية وعقد تاريخية حتى أصبح الثأر والثورة والإفساد طبع كامن فيهم بعد أن كانوا في زمن أنبيائهم سادة العالم ومحط الرسالات حتى تولد لديهم شعور أن الله في حاجتهم وليس هناك بديل آخر يمكن أن يفضلهم.
قراءة متأنية
إننا نحاول في هذه القراءة أن نجد حياة العقل في هايدجر داخل جسد التاريخ من خلال الحراك الفلسفي والسياسي في حالة من الغياب والحضور في المسألة اليهودية.
هيرمان ابن هايدغر يدافع عن والده ضد اتهامه بمعاداة السامية قائلًا :كان والدي ينتقد يهود العالم دون أن يكون ضد السامية.
وهذا ما يجعلنا نتساءل هل من الممكن الفصل بين الانتقاد لليهود ومعاداة السامية لقد أصبح الفصل بينهما في هذا الوقت متعسرًا جدًا.
لقد أثبت نشر الدفاتر السوداء تداخلات في دراسة هايدجر، مع عدم إمكانية الدفاع عن الفصل بين “العمل” و”النظرة العالمية”، و”الفلسفة” و”الأيديولوجية”، في هايدجر.
لا شك أن معاداة السامية تمثلت بشكل كبير في ذروة الميتافيزيقيا الغربية التي كان أحد نقادها الكبار هو هايدجر نفسه وما لبثت أن تخلصت منها مع الثورة الصناعية مرورًا بعهد التنوير الطويل وهو ما نستطيع أن نعبر عنه أن الغرب كل ما كان أبعد عن الدين التقليدي كان أقرب إلى اليهود وهو ما يعني ميتافيزيقيا أخرى وارثة للميتافيزيقيا التقليدية وهو ما يمكننا أن نفسره بالدين الجديد او دين الدولة أو الوطن الذي حل محل كل التفسيرات التقليدية وهذا أحد ركائز المادية العلمانية وفي أحد أهدافها تعني التشظي للمكونات الكلية الأممية وقيام القوميات العنصرية.
فهل كان هايدغر ناقدًا حقيقيًّا للميتافيزيقيا مع دعوته إلى تحول يأتي من نفس الموروث الأوروبي ربما يكون تجديديًّا عند البعض وربما يكون عند البعض الآخر مثل الثعلب الذي يجرف الآثار خلفه بذيله وأن نقده للميتافيزيقيا غالبًا ما تحولت إلى خدعة متقنة وأن وراءها الواقعية الزائفة لفلسفة هايدغر من خلال اتباع تكتيكات تجريدية جوهرية توضح مع شيء من التأمل هايدجر جليًّا وتجرده من كل الأقنعة.
فمن الواضح أن “نقد هايدغر لـ”الميتافيزيقا” غالبًا ما تحولت إلى خدعة متقنة: حيلةٌ تُجسِّد ما أشار إليه بعضهم بـ “الواقعية الزائفة لفلسفة هايدغر” من خلال تكتيك “التجريد من خلال التجذر” (هابرماس)، عندما أظهر هايدجر عموميات لا معنى لها، حول مخاطر “العدمية الأوروبية” و”الحضارة الحديثة”. وفي الوقت نفسه، ظل صامتاً بشكل مدوي فيما يتعلق بـ “أمراض” التطور الثقافي الألماني الذي سهل للنازية ما فعلته وكذلك عندما يتعلق الأمر بالجوانب الألمانية الأخرى على وجه التحديد من الجانب الأوروبي حيث كان يغمض عينيه عن كل ما هو ألماني في نقده لكل ما هو أوروبي وهذا ما يعني أن الآرية الألمانية لا ينالها الانتقاد أو أنها عرض خالٍ من كل الأمراض الأوروبية وأن دعوى التجذر هي دعوة للعودة إلى كل ما هو ألماني والحقيقة أن هذا امتداد للفلسفة الهيغلية التي ترى مثالية الملكية البروسية قمة التطور الاجتماعي وفي رأيي أن هيغل لو كان مسلمًا لكان سلفيًّا بحتًا في نظرته للدولة حيث أدخل جميع المتناقضات الصوفية والجدلية( الديالكتيك) وصهرها مع متعالياته المثالية التي تحققت في مراتب الروح الثلاثة ليكون قالبًا معقدًا وما ذاك إلا لتعقد الزمن الذي كان فيه وتجاذبه بين الثورة والتقليد فما كان من هيغل إلا أن صنع كل هذا ما سماه البعض رجعيةً في قالب ثوري لافت وهو ما جعل كثير من الفلاسفة يأخذ أجزاءً معينة من فلسفته ليضع بعدها فلسفته الخاصة كماركس وهايدغر لأنه أصبح كالكتاب المقدس المفتوح على جميع التأويلات.
إن دعوى هايدغر إلى التجذر الأوروبي ونقده للميتافيزيقيا الغربية التي كانت تمثل قمة معاداة السامية لم يخل من التحيز الذي وصم به مع ظني أنه كان مجدِّدًا أوروبيًّا عريقًا ومن الملاحظ كما ذكرنا سابقًا ليس في الغرب وحده أنه كلما كان الناس عن الدين أبعد كانوا لليهود أقرب وأشرت إلى ما يسمى بالدين الجديد حيث تنتقل المقدسات السماوية إلى المقدسات الأرضية وتتلخص في الوطن فتبرز التشظيات والقوميات والعنصريات لكن الملاحظ أن حال ما قبل التشظي كانت أبعد عن النهضة لأنها تراثية تأخرية تتعيش على النصوص إلا أن هذا يظهر بوضوح أكثر في البيئات غير الغربية عمومًا إلا في حالات نادرة أو جزئية لأنها بيئات الأديان الأكثر فقرًا أو أقل تطورًا مع أن الفقر قد يكون معرفيًّا نتج في أكثر صوره من الفقر المادي فالانجرار إلى الهاوية متحتم في كلتا الحالتين وهو ما يعني العدمية النتشوية أو ما يسمى بطريقة أخرى صراع الحضارات وهو موجود ولا شك فيه.
إن الأطروحة التي تفرض نفسها هي في وجود علاقة سببية بين السؤال اليهودي و”المسألة اليهودية” في فكر هايدغر، وبشكل أكثر دقة، العلاقة بين غياب هذين السؤالين من ذلك التفكير بالنسبة للمفكر المؤثر مارتن هايدغر، ذلك أنه لا وجود لأثر رجعي في المسألة اليهودية في حقبة ما بعد الهولوكوست (التي عرفت آنذاك باسم “المسألة اليهودية”) والسبب في هذا الصمت هو أنه لم تكن هناك مسألة يهودية عند هايدجر أي فيما قبل المحرقة وأما سبب هذا الصمت يمكننا العثور على سماته العرضية في شخصية هايدغر أو تاريخه متى استعرضنا تنقلاته بين المجالات السياسية والفلسفية من السؤال اليهودي في حياة هايدجر إلى المسألة اليهودية.
لقد أصبح صمت هايدغر عن المسألة اليهودية محل خلاف طويل وكأن الواجب الفلسفي يحتم على كل الفلاسفة أن يظهروا رأيهم الخاص كما فعل سارتر ودريدا حتى تسلسل الانتقاد إلى الارتباطات العرضية وهي مسألة المزاج والميول مع أن هايدغر نفسه لم ينكرها بالرغم من استماتت المدافعين عنه حتى أصبحت حياة وأعمال الفيلسوف محل بحث صارم حتى وصل الأمر إلى محاكمته في الأذواق الخاصة التي كان عليها بعيدًا عن تفكيره التي لا يمكن الشك فيها وكأنه احتفظ بصمته المطلق خاصةً في المرحلة التأملية التي مر بها هذا الفيلسوف يمكن التعبير عنها بمصطلحات معروفة جيدًا وهي صمت هايدغر فيما بعد المحرقة فلا تجد في طيات حديثة إلا التعميم والتجريد وهو ما يعني عند البعض تحيزات هايدغرية بمثابة الملجأ الذي فر إليه عندما تجنب الخاصية التاريخية عندما ظهرت على أنها يهودية محضة فقابلها بصمته العلني الذي تخلله مصطلحات أخلاقية أو فلسفية أكثر عمومية في أغزر فتراته وهي الأعوام الثلاثين من عمره بعد الهولوكوست إنه عند البعض أمر مثير للقلق أكثر من أي شيء فعله أو قاله في العام الذي قضاه هايدغر أثناء وجود النازيين عميدًا لجامعة فرايبورغ. لقد كان صامتًا بالفعل.
إن هذا الصمت المطبق بدون شك كان يتناول المحرقة بشكل مباشر وصريح كتعبير بليغ فالصمت يحمل في طياته الكثير من المواقف التي تعبر عن رأي صاحبها وهو ما يعني أن صمت هايدجر بعد المحرقة يعكس صمته قبل ذلك.
إن ما حال دون الاعتراف بالمسألة اليهودية بالنسبة إلى هايدغر هو الدور الفعال ميتافيزيقيًّا وتاريخيًا الذي أسنده إلى مفهوم “الشعب” الذي خصه بالألمانية التي وصل من خلالها إلى الكينونة أو ( الدازاين) في تصوره عن الشعب الألماني في “جوهره” وتاريخه الذي أزال بكل بساطة أي مكان لليهود في فكره ولا أكثر بيانًا لذلك من صمته.
والحق أن موقف هايدغر من النازية صمتًا وإعراضًا هو موقف المصدوم من خراب المشروع الألماني النازي المضاد للحداثة كتضاده معها فالمشروع النازي لم يبنَ بل ولم يظهر من الحداثة وليدة الرأسمالية وهذا يظهر في السيطرة النازية التامة لمختلف النشاطات الاجتماعية والفنية والأدبية الألمانية عندما كانت تحارب الفن الهابط وكل ما هو مبتذل.
إن صمت هايدغر هو صمت المصدوم من تهدم الحلم الألماني وهو في هجومه على الميتافيزيقيا الغربية امتداد للمد النتشوي إلا أنه كان أخلاقيًّا متفقًا مع قيم الأصالة ومع كل ما هو أصيل يسعى من خلال الديزاين إلى كينونة تنفتح على العالم ولا تنعزل كوجودية سارتر.
إنه رأى في النازية القدرة على السيطرة على التقنية والحداثة التي تعني عدم الأصالة إنه يريد كائنًا وجوداني لا وجودي كما يذهب إلى ذلك سارتر وهو ما يعني تحقق الأصالة والابتعاد عن كل ما هو غير أصيل وهو ما يعني استبعاد الأفكار والأشخاص غير الأصيلين ونحن عندما نعمم الأصالة في الحياة وفي العلاقات فإنه يعني استبعاد اليهود لأنهم وجود غير أصيل طارئ على المجتمعات النقية.
________________________
*نقلاً عن موقع “التنويري”.