مَصِيرُ الفَلْسَفَة
محمد زكاري
لَيسَ في وُسْعِنَا أَنْ نُنْكِرَ أهميَّةِ فعلِ التَّفلسفِ، ولا أن نتجاوزَهُ بحسبانِه مجرَّدَ تكرارٍ لأفكار الماضين وأساليبهم في تأمُّل الواقِعِ وإشكالياتِهِ، كلُّ ادِّعاءٍ من هذا القبيلِ يجانبُ الصّوابَ، ولا يقيمُ وزناً لأهميَّةِ التأمُّلِ وضرورتهِ من أجلِ تحقيقِ “إنسانيَّة الإنسان”. ما معنى أنْ نتفلسف؟ حقيقةً يبدو الجوابُ عن هذا السؤال مضنيًا إذا ما نحنُ تلمَّسنا المشكلاتِ التي تعُنى بها الفلسفةُ اليوم؛ إذ تبسطُ نفوذها على قطاعات المعرفة الإنسانيةِ كلِّها، وتُلقي بظلالها على دوائر الفكرِ الإنسانيّ، وتَذْرَأُ الأسئلة التي تُجاوزُ حدودَ العقلِ البشريِّ، وتناولُهم إمكانياتِ التفكير الحرّ الذي يتحلَّلُ من كلِّ ضيقٍ.
منبِتُ فعل التفلسفِ دافعٌ لدى الإنسانِ إلى المعرفة، ومحتِدهُ الفضول الذي يلقي بالإنسان في دروب الحيرةِ، وبالتالي، أمكننا القول إنَّ فعل التفلسف تليدٌ لدى الإنسان. تتناسلُ الأسئلةُ في خلد الإنسان حين يواجهُ وجودهُ، وحينَ يُعمِلُ عقلهُ بغايةِ فهمِ ما يجري حولهُ، ومن شدَّةِ ولعهِ بفهمِ العالمِ تساءل عن الكونِ الفسيحِ، وجعل غايةَ تفكيرهِ أنْ يقتحمَ ما وراء هذا الوجودِ البسيطِ، ولمَّا تلمّس السماء وجدها من دون حدٍّ، وأدرك أنَّ وجودهُ لا يساوي شيئاً أمام حجمها المهول، و، بالتاليّ، كلَّما أدرك الإنسانُ تلك ذلك النطاق الكونيّ الشاسع، كلَّما استطاع أن يفهمَ مقدار ضآلته المادِّية، وأن يستوعبِ بالمقابل من ذلك مدى قدرتهِ على أنْ يغمرَ بتأمّله الأشياء كلَّها.
ليسَ الكونُ منتهى ما قد يصلُ إليه فعلُ التَّفلسفِ، إذ يقعُ للمرء أن يتساءلَ عن وعيهِ، فينعكسَ بذلك السُّؤالُ عنِ الوُجودِ سؤالاً عن الموجود، وتتضاءلُ المسافاتُ إلى أن تصِلَ إلى نقطةِ البداية. لكن أيُّ شيءٍ يقبعُ خلف تلك البداية؟ تلكَ هي رحلةُ الفلسفةِ في الكشفِ عمَّا وراء الحدود، والانفلاتِ من قبضة اليوميِّ ورتابتهِ. وليس يصحُّ في الأذهان شيءٌ إذا نحنُ تخلَّينا عن رغبتنا وفضولنا في اختراق الآفاق، ذلك هو التّحدّي الذي ما يزالُ صداهُ يدفعُ الإنسان كلَّ حين إلى مواصلةِ المسيرِ في دروبٍ من الأسئلة التي تتشعبُ وتطولُ، من غير أن يكون في نيتهِ العثور على أجوبة لها، بل إنَّه أيقن أنَّ مجرّد السؤال أهمُّ من أيّ جواب.
تجدُ الفلسفةُ قيمتها في راهنها وفي طبيعة الأسئلة التي تطرحها على الوعيّ الإنسانيّ، ولما كان فعلُ الفلسفة يقتضي أن ينظر الإنسانُ في حقيقة الوجود والموجود، كان لزاماً عليه أن يكشفَ عمَّا يثوي خلف حجب الجهل، ويتجاوزُ السطحيّ والتافه والهامشيّ نحو ما هو عميق وجادّ وجوهريّ. ليس فعل التفلسفِ تبريراً للواقعِ؛ لأنهُ يعملُ النقدَ والنقض، ويراجعُ القيمَ ولا يقبل إلّا بما هو واضح وبديهي. لا تتجاوز الفلسفة، إذن، راهنها، ولا ينبغي للراهن أن يتجاوز البعد الفلسفيّ فيه؛ ذلك أنَّ فعل التفلسفِ وحدهُ القادرُ على إنقاذ الحضارةِ مما يهمُّ بها من أعطابٍ تأتي على إنسانيةِ الإنسان.
ليس العربُ استثناءً إن كان الأمرُ يتعلَّقُ بضرورة العنايةِ بالفلسفة ومجالاتها، وإنَّما هم مدعوون اليوم، أكثر من ذي قبل، إلى الانفتاحِ على مواردها، تفكيراً، وقراءةً، وترجمةً، ونقداً، لا بدَّ من الانخراطِ في روح التّفلسفِ؛ لأنّ ذلك لا يعني إلا شيئاً واحداً، وهو الانخراطُ في روح العصرِ، واستعادةٌ للروح الحضارةِ. يبدو أنَّه بإمكاننا اليوم أن نفهم إلى أيّ حدٍّ كنا مخطئين حين ظننّا أنه يمكنُ التخليِّ عن فعل التفلسفِ، بل وكنَّا واهمين أنَّنا حُزْنَا ما يغنينا عنه ويعفينا منه ومن ضرورته، لكنَّ واقع التخلفِ والتطرف، والفقر والقهر، والدمار والانهيار، أثبتت أنّنا أمام خيارات محدودةٍ جدًّا، بشائرها تلوحُ بنهاية: “العقل العربي”.
يمكنُ أن يكون للفلسفة، في الوطن العربيّ، مستقبلٌ واعدٌ ينتظرُها – إذا وفقط إذا – رسَّخنا لدى أجيال متعلِّمينا أنَّها غايةٌ وليست مجرّد وسيلةٍ؛ لأنّها تحرِّرُ الإنسان من الوثوقية والإيديولوجيا، وتمنحُه الوسائلَ المثلى لبناء عالمٍ تسوده قيمُ الإنسانيةِ، ويعلو فيه دور السلم بين المجتمعات. لا بد للفلسفة أن تكون شكلاً من أشكالِ المواجهةِ، وأن تُعلِن نفسها بقوَّةٍ ومن دون توجّس؛ لأنَّها خطابُ العقلِ ولا يمكنُ لمثل هذا الخطابِ أن يظلَّ هامشياً ومقصيًّا، بقدر ما ينبغي له أن يتمظهر وتتجلَّى صوره على الوجود كلِّه.
____________________________________
*نقلًا عن موقع ” التنويري”.