مقدمة في التصوُّف الإسلامي – حدُّه – اشتقاقه
د. عاصم ابراهيم الكيالي الحسيني الشاذلي الدرقاوي
مقدمة في التصوُّف الإسلامي – حدُّه – اشتقاقه
د. عاصم ابراهيم الكيالي الحسيني الشاذلي الدرقاوي
“بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
والحمد للّه، الوجود الحق المبين، قيوم السموات و الأرض، المنزّه عن الإطلاق و التقييد و المتعالي عن التشبيه و التنزيه، المتجلي بجماله و جلاله في مظاهر أسمائه و صفاته، الباطن بأحديته حيث لا تدركه البصائر و الأبصار، و الظاهر بواحديته حيث الوجوه الناضرة إلى ربها ناظرة.
و الصلاة و السلام على الرحمة المهداة من أزل الأولية الذاتية، الكنزية المخفية، إلى أبد الآخرية، الصفاتية العيانية. و الصادر من عماء البطون ساريا في أطوار الشؤون، لإيجاد الوجود في عوالم الملك و الملكوت و الجبروت، و القدوة الحسنة للهيكل الإنساني في أرض جسمه و نفسه، و سماء قلبه و عقله، و حقيقة روحه و سره، بما بعث له به من الإسلام و الإيمان و الإحسان. إظهارا للحقائق و التعينات العلمية على مقتضى الاستعدادات و القوابل القدرية الحكمية.
و رضوان اللّه تعالى و سلامه و تحياته على جميع آله الطيبين الطاهرين، المبرئين من أدناس الأغيار، و المتزينين بحلل المعارف و الأسرار، و المتزيين بزي حبيبهم المختار، من قلائد المراقبة و الشهود و الاستحضار بجميع الأنفاس و الأطوار. و الآيلين إليه بالأنساب و بالمتابعة في جميع أنواع الأنوار، الذين شيّد اللّه تعالى بهم البيت الإلهي و عمره تعميرا إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب:٣٣].
و على أصحابه المقربين الأبرار، المهاجرين منهم و الأنصار، الخارجين من مكة النفوس قبل الفتح إلى مدينة القلوب الروحانية و الأسرار الربانية، و الناصرين للملة الإسلامية بين البرية بالأقوال و الأفعال و الأحوال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّٰهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّٰاءُ عَلَى اَلْكُفّٰارِ رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:٢٩].
و على التابعين لهم بإحسان في كل حال و مقام، على مدى الأزمنة و الأوقات، في جميع مراتب التجليات و التنزلات، بحسن المتابعة و الاقتداء، و كمال الاهتداء إلى يوم الدين. ١٠
و أما بعد، فقبل أن نبدأ الحديث عن التصوّف الإسلامي، مبينين حدّه، و اشتقاقه و استمداده، و حكم الشّارع فيه، و نسبته من سائر العلوم الشّرعيّة، و مواضيع أخرى تكشف لنا عن حقيته و أهميته في حياة الفرد و المجتمع، و عن موقعه في الموروث الحضاري الإسلامي و العالمي، لا بد من ذكر مقدمات ذات علاقة عضوية و جوهرية بالتصوف، تعتبر من مفردات موضوعاته، و تشمل الحديث عن العناوين التالية:
السعادة المادية و الروحية، و غاية وجود الإنسان، و الإنسان و معرفة اللّه تعالى، و وجوب المعرفة على كلّ مكلّف، و أقسام المعرفة البرهانية و العيانية؛ الكسبية و الوهبية، الشرعية و الحقيقية، و حقيقة الإنسان الخليفة الملكية و الملكوتية و الجبروتية، و مبدأ الدين الإسلامي و وسطه و كماله: الإسلام و الإيمان و الإحسان.
و أبدأ بالحديث عن السعادة المادية و السعادة الروحية قائلا: إن السعادة تنقسم إلى نوعين: الأول سعادة مادية جسدية آنية، و الثاني سعادة عقلية روحية أبدية، و إنّ البشر يسعون جاهدين دون كلل أو نصب لتحقيق أحد هذين النوعين من السعادة.
إنّ لكل إنسان هدفا يشبع من خلاله غرائزه و رغباته و احتياجاته المادية أو الروحية، لكي يصل إلى اللذة أو السعادة التي يجدها في هذا الهدف الذي يعده غاية وجوده، إنّ هذا الهدف المحرك للإنسان نحو غايته مركوز، في تركيبته الجامعة للمادة و الروح، و توجهات الإنسان و مساعيه المحققة لاحتياجات هذه التركيبة منطقية و ضرورية فطرية.
إنّ اللّه تعالى خالق هذه التركيبة، لم يترك الإنسان تائها يتخبط في سيره نحو تحقيق السعادة دون دليل يسترشد به و يضيء له الطريق، فكانت المحجة البيضاء التي لا يضل عنها إلا هالك: كتاب اللّه و سنّة النبي محمد صلى اللّه عليه و آله و سلم.
غاية وجود الإنسان:
إنّ السعادة المادية في الإسلام مطلوبة من الإنسان على أنها من وسائل استمرار وجوده و ليست غاية وجوده، فملذات الحياة الدنيا غير مقصودة لذاتها، بل لتساعد المؤمن في سيره نحو مقصده الأسمى اللّه تعالى، الذي هو غاية وجوده في هذا الكون.
إنّ معرفة اللّه تعالى و معرفة وحدانيته في ذاته و صفاته و أفعاله، هي عين السعادة الحقيقية الروحية الأبدية، فهي غاية خلق الخلق، قال تعالى: وَ مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ (۵۶) [الذّاريات:۵۶]. فسّر عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهما «إلا ليعبدون» بإلا ليعرفون فيكون الحق تعالى قد عبّر عن «المعرفة» التي هي الغاية ب «العبادة» التي هي الوسيلة.
الإنسان و معرفة اللّه:
إنّ الإنسان مفطور على معرفة اللّه تعالى فِطْرَتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّٰاسَ عَلَيْهٰا [الرّوم:٣٠]، و لكنه بعد نزوله إلى الدنيا و انغماسه في شهواتها بإغواء الشيطان و النفس و الهوى تشوهت هذه المعرفة، فأرسل اللّه تعالى رسله عليهم الصلاة و السلام، و أنزل كتبه للتذكير بتوحيد الفطرة.
أول واجب على كل مسلم مكلّف:
إنّ الشريعة الإسلامية جعلت معرفة اللّه تعالى أول واجب على كل مسلم مكلّف، قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ [محمّد:١٩].
قال الإمام السيوطي في كتابه (الإكليل في استنباط التنزيل) : «قد استدل بالآية من قال بأن أول الواجبات معرفة اللّه تعالى» . و هذه المعرفة تنقسم إلى قسمين: معرفة استدلالية برهانية، و معرفة شهودية عيانية.
المعرفة أو الإيمان أو العلم باللّه تعالى القولي (التقليدي) ، و النظري (الاستدلالي) ، و الشهودي (اليقيني العياني) :
يقول الشيخ عبد الغني النابلسي موضحا ذلك: «اعلم أن العلوم ثلاثة: علم القول، و علم الفهم، و علم الشهود. فعلم القول للمقلدين القاصرين، و علم الفهم للناظرين المستدلين، و علم الشهود للعارفين الذائقين.
«و قد انقسم الإيمان باللّه و كتبه و رسله و اليوم الآخر و الإيمان بالشرائع و الأحكام إلى ثلاثة أقسام: إيمان المقلدين و هو بالقول فقط مع طمأنينة قلوبهم من غير فهم و هو المشار إليه بقوله تعالى: قُولُوا آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْنٰا [البقرة:136]الآية.
و إيمان المستدلين و هو بالفهم مع القول فقط و هو المشار إليه بقوله تعالى: قُلِ اُنْظُرُوا مٰا ذٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ [يونس:١٠١]. و أما القسم الثالث فهو إيمان العارفين و هو بالشهود فقط بعد القول و الفهم و هو المشار إليه بقوله تعالى: شَهِدَ اَللّٰهُ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قٰائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمران:١٨]» .
ثم يشرح الشيخ عبد الغني النابلسي هذه الآية قائلا: «و من عظيم أسرار هذه الآية أن الشهادة ذكرت فيها مرة و أسندت إلى ثلاثة حقائق: اللّه و الملائكة و أولو العلم، فدلّ أن الشهادة واحدة أسندت إلى اللّه أولا ثم تنزلت إلى الملك ثم إلى صاحب العلم فهي في اللّه فعل و في الملك و صاحب العلم تفويض و بالتفويض يقع الشهود. فإن اللّه لا ينسب إليك شهادته إلا إذا فوضت إليه و إذا فوضت إليه محقك من عينك فكان هو الشاهد و المشهود و في هذا المقام يقول بعض العارفين: ما عرف اللّه إلا اللّه. . . .
«و لا شك أن أقسام الإيمان الثلاثة ترجع إلى قسم واحد و هو ما ورد عن اللّه تعالى، قاله المقلدون بأفواههم، و تصوره المستدلون بأذهانهم، و شهده العارفون بأسرارهم. فهو في المقلد قول و في المستدل تصور و في العارف شهود. بمنزلة من قال بلسانه نار، و من تصور النار في ذهنه، و من أدرك حرارتها ببدنه. فالقائل يستند في قوله إلى غيره حاكيا عنه. و المتصور يستند في شهوده إلى ذهنه حاكيا عنه، و المشاهد يستند في شهوده إلى حقيقة ما شاهده حاكيا عنه. فمعلّم الأول آخر مثله، و معلم الثاني فكره و ذهنه، و معلم الثالث ربه، كما قال بعض العارفين: أخذتم علمكم ميتا عن ميت و أخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. و شتان بين من ينطق عن غيره أو فكره و بين من ينطق عن ربه. فالحق الذي يجب الإيمان به واحد و لكن يختلف باختلاف الظهورات؛ فظهوره في أصحاب الأقوال غير ظهوره في أصحاب الاستدلال غير ظهوره في أصحاب شهود الأحوال» انتهى.
و هذا العلم الأخير علم شهود الأحوال هو المعبّر عنه بالعلم الوهبي أو العلم اللدني.
العلم الوهبي أو العلم اللدني:
و هو العلم المشار إليه بقوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّٰهُ [البقرة:٢٨٢] و قوله تعالى: وَ عَلَّمْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا عِلْماً [الكهف:65]و المشار إليه بقوله صلى اللّه عليه و آله و سلم داعيا لعبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهما:
«اللهم فقّهه في الدين و علمه التأويل» و هو المراد بقوله صلى اللّه عليه و آله و سلم:
«العلماء ورثة الأنبياء» و بقوله صلى اللّه عليه و آله و سلم:
«أنا مدينة العلم و علي بابها» .
و قال الإمام علي رضي اللّه عنه و كرّم وجهه:
«علّمني رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم بابا من العلم لم يعلّم ذلك لأحد غيري» . و كان يضرب بيده على صدره و يقول:
«إن ههنا علوما جمّة لو وجدت لها حملة» .
و في رواية البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: «حملت عن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم جرابين من العلم فأما الواحد فبثثته فيكم، و أما الآخر فلو بثثته لقطع مني ١٣
هذا البلعوم» . (صحيح البخاري، باب حفظ العلم، من كتاب العلم، حديث رقم 42، الجزء الأول) .
و أخرج الحاكم في ترجمة أبي هريرة قوله: «حفظت من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أحاديث ما حدثتكم بها، و لو حدثتكم بها لرميتموني بالأحجار» .
و قال صلى اللّه عليه و سلم:
«نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم» و هو معنى قوله تعالى: وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً [النّساء:۶٣]أي خاطبهم على قدر عقولهم و مقدار فهومهم، فإن القول البليغ هو الذي يكون بحسب مبالغ المخاطبين. ثم أمرنا عليه الصلاة و السلام بما أمر به فقال: «خاطبوا الناس على قدر عقولهم» .
و في الحديث الشريف أيضا: «إن من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إلا العلماء باللّه، فإذا نطقوا به لا ينكره إلا أهل الغرة باللّه».
و قال بعض أهل العلم شارحا هذا الحديث: «هي أسرار اللّه يبديها إلى أمناء أوليائه و سادات النبلاء من غير سماع و لا دراسة، و هي من الأسرار التي لم يطلع عليها إلا الخواص فإذا سمعها العوام أنكروها. و من جهل شيئا عاداه، و من يكن ذا فم مريض يجد مرارة الماء الزلال» .
و روي عن الإمام جعفر الصادق قوله:
يا ربّ جوهر علم لو أبوح به قيل أنت ممن يعبد الوثنا
و لاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا
و روي عن الإمام الششتري قوله:
بالسر إن بحنا تباح دماؤنا وكذا دماء البائحين تباح
و قال الشيخ القطب أبو مدين:
و في السر أسرار دقاق لطيفة تراق دمانا جهرة لو بها بحنا
و قال الشيخ ابن عجيبة: قال بعضهم:
فمن فهم الإشارة فليصنها و إلا سوف يقتل بالسنان
كحلاج المحبة إذ تبدت له شمس الحقيقة بالتداني
و هو الذي أشار إليه الشيخ ابن الفارض سلطان العاشقين بقوله:
و لا تك ممن طيشته طروسه بحيث استقلت عقله و استقرت
فثمّ وراء النقل علم يدق عن مدارك غايات العقول السليمة
تلقيته مني و عني أخذته و نفسي كانت من عطائي ممدتي
و قال البوصيري:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد و ينكر الفم طعم الماء من سقم
و شبّه مشايخ التصوف منكر علومهم بالعنين الذي ينكر شهوة الجماع، و بالمزكوم الذي ينكر رائحة المسك الأذفر، و بالمحموم الذي ينكر حلاوة السكر.
علم الشريعة و علم الحقيقة:
و هذا العلم يعبر عنه أيضا بعلم الحقيقة في مقابلة علم الشريعة و بينهما علم الطريقة. قال الشيخ أحمد بن عجيبة الحسني مبينا الفرق بين الشريعة و الحقيقة:
«أشكل على بعض الفضلاء قوله تعالى: اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النّحل:٣٢] مع قوله صلى اللّه عليه و آله و سلم:
«لن يدخل أحدكم الجنة بعمله» الحديث.
و الجواب هو أن نقول: إن الكتاب و السنّة وردا بين شريعة و حقيقة.
أو نقول بين تشريع و تحقيق، فقد يشرعان في موضع و يحققان في آخر في ذلك الشيء بعينه، و قد يحققان في موضع و يشرعان فيه في آخر، و قد يشرع القرآن في موضع و تحققه السنة، و قد تشرع السنة في موضع و يحققه القرآن فالرسول عليه الصلاة و السلام مبين لما أنزل اللّه.
قال تعالى: وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّٰاسِ مٰا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النّحل:44].
فقوله تعالى: اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النّحل:٣٢].
هذا تشريع لأهل الحكمة و هم أهل الشريعة، و قوله صلى اللّه عليه و آله و سلم:
«لن يدخل أحدكم الجنة بعمله» هذا تحقيق لأهل القدرة و هم أهل الحقيقة، كما أنّ قوله تعالى: وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ [الإنسان:٣٠]تحقيق.
و قوله صلى اللّه عليه و آله و سلم:
«إذا همّ أحدكم بحسنة كتبت له حسنة» تشريع.
و الحاصل أن القرآن تقيده السنّة و السنّة يقيدها القرآن، فالواجب على الإنسان أن تكون له عينان: إحداهما تنظر إلى الحقيقة، و الأخرى تنظر إلى الشريعة، فإذا وجد القرآن قد شرع فلا بد أن يكون قد حقق في موضع آخر أو تحققه السنة، و إذا وجد السنة قد شرعت في موضع فلا بد أن تكون قد حققت في موضع آخر أو حققها القرآن، و لا تعارض حينئذ بين الآية و الحديث، و لا إشكال.
و هنا جواب آخر: و هو أن اللّه تعالى لما دعا الناس إلى التوحيد و الطاعة على أنهم لا يدخلون فيه من غير طمع فوعدهم بالجزاء على العمل، فلما رسخت أقدامهم في الإسلام أخرجهم عليه الصلاة و السلام من ذلك الحرف و رقاهم إلى إخلاص العبودية و التحقق بمقام الإخلاص، فقال لهم: «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله» و اللّه تعالى أعلم» . انتهى.
فالشريعة أن تعبده، و الطريقة: أن تقصده، و الحقيقة: أن تشهده.
أو تقول: الشريعة لإصلاح الظواهر، و الطريقة لإصلاح الضمائر، و الحقيقة لإصلاح السرائر.
قال بعض المحققين: من بلغ إلى حقيقة الإسلام لم يقدر أن يفتر عن العمل، و من بلغ إلى حقيقة الإيمان لم يقدر أن يلتفت إلى العمل بسوى اللّه، و من بلغ إلى حقيقة الإحسان لم يقدر أن يلتفت إلى أحد سوى اللّه.
قال بعض الصوفية في بيان ترابط هذين العلمين و تعاونهما في تكوين شخصية المسلم الكامل ظاهرا و باطنا، حسا و معنى، مادة و روحا: «حقيقة بلا شريعة باطلة، و شريعة بلا حقيقة عاطلة» . و قال الإمام مالك: «من تفقه و لم يتصوف فقد تفسق، و من تصوف و لم يتفقه فقد تزندق، و من جمع بينهما فقد تحقق» . فهما للمسلم كجناحي الطائر لا يستقل بأحدهما دون الآخر.
إن الحديث عن الشريعة و الطريقة و الحقيقة يدفعنا إلى الحديث عن العوالم الوجودية الثلاث: الملكية و الملكوتية و الجبروتية، التي يجمعها الإنسان بكينونته الجامعة لنفسه و قلبه و روحه، كما يدفعنا إلى الحديث عن مبدأ الدين الإسلامي و وسطه و كماله: الإسلام و الإيمان و الإحسان.
و أبدأ بالحديث عن حقيقة الإنسان.
حقيقة الإنسان الخليفة الملكية و الملكوتية و الجبروتية:
إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعتبر محور الكون و سبب وجوده، فهو الذي يعمره و يكوّن حضاراته و ذلك لما يحمله من مقومات الاستمرار الحسية و المعنوية، فهو الوحيد الذي حمل أمانة استخلاف اللّه تعالى له في الأرض، فهو النموذج الخلقي الذي تظهر به و من خلاله الكمالات الأسمائية الإلهية كالرب و الملك و الرزاق و الرحمن و الغفّار و الستّار و الرؤوف و المحيي و المميت و الخافض و الرافع و المعز و المذل، فالإنسان هو المرآة الجامعة للعوالم الوجودية؛ الحقية و الخلقية، الملكية و الملكوتية. يقول الشيخ ابن عطاء اللّه السكندري في حكمه موضحا هذه الفكرة: «جعلك في العالم المتوسط بين ملكه و ملكوته، ليعلمك جلالة قدرتك بين مخلوقاته، و أنك جوهرة تنطوي عليك أصداف مكوناته» .
إن الإنسان يقابل عالم الشهادة بجسمه الطيني، و يقابل عالم الملكوت بقلبه النوراني، و يقابل عالم الجبروت بروحه الأمري. لذلك كان الإنسان جامعا للحقائق الوجودية كلها المادية و المعنوية، و في ذلك يروى عن الإمام علي رضي اللّه عنه و كرّم وجهه قوله: «أتحسب أنك جرم صغير و فيك انطوى العالم الأكبر» و في الحديث الشريف: «إن اللّه خلق آدم على صورته» و في رواية «على صورة الرحمن» . إن جمعية الإنسان للحقائق الخلقية الكونية، و للحقائق الروحية الملكوتية، و للحقائق الحقية الأمرية الجبروتية، هي التي رفعت قدره بين المخلوقات، و أهّلته ليكون خليفة اللّه في أرضه و حاملا لأمانته. قال اللّه تعالى: وَ إِذْ قٰالَ رَبُّكَ لِلْمَلاٰئِكَةِ إِنِّي جٰاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:٣٠]و قال تعالى: إِنّٰا عَرَضْنَا اَلْأَمٰانَةَ عَلَى اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبٰالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهٰا وَ أَشْفَقْنَ مِنْهٰا وَ حَمَلَهَا اَلْإِنْسٰانُ إِنَّهُ كٰانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) [الأحزاب:٧٢].
و في الحديث الشريف: «من عرف نفسه فقد عرف ربه» .
و لأن العوالم الوجودية ثلاثة: الملك و الملكوت و الجبروت، و لأن الإنسان كون جامع لهذه العوالم بحقائقه الحسية و المعنوية، جاء الدين الإسلامي كاملا و متضمنا للإسلام و الإيمان و الإحسان.
فالإسلام في مقابل جسم الإنسان الملكي الشهادي، و الإيمان في مقابل قلبه الملكوتي الغيبي، و الإحسان في مقابل روحه الأمري الجبروتي.
و بيان ذلك أن نقول:
مبدأ الدين الإسلامي و وسطه و كماله؛ الإسلام و الإيمان و الإحسان:
إن الدين الإسلامي هو الدين عند اللّه تعالى، أكمله لنا و ارتضاه، و لا يقبل غيره من أحد من العالمين. قال تعالى: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّٰهِ اَلْإِسْلاٰمُ [آل عمران:١٩] و قال تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاٰمَ دِيناً [المائدة:3]و قال تعالى: وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلاٰمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ (٨۵) [آل عمران:٨۵].
إن الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية الصحيحة قسمت الدين الإسلامي إلى ثلاثة أقسام رئيسية: الإسلام و الإيمان و الإحسان. قال اللّه تعالى: فَلاٰ تَمُوتُنَّ إِلاّٰ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:١٣٢]و قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) [البقرة:4]و قال تعالى: وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّٰهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ وَ اِتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ حَنِيفاً [النّساء:١٢۵].
و
عن عمر رضي اللّه عنه قال : «بينما نحن جلوس عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، و لا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، و وضع كفيه على فخذيه، و قال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم:
«الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا اللّه و أن محمدا رسول اللّه، و تقيم الصلاة، و تؤتي الزكاة، و تصوم رمضان، و تحج البيت إن استطت إليه سبيلا» قال: صدقت، فعجبنا منه يسأله و يصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: «أن تؤمن باللّه و ملائكته، و كتبه، و رسله، و اليوم الآخر، و تؤمن بالقدر خيره و شره» قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: «أن تعبد اللّه كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» قال: فأخبرني عن أمارتها؟ قال: «أن تلد الأمة ربّتها و أن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان» قال:
ثم انطلق فلبثت مليا، قال: «يا عمر أ تدري من السائل؟» قلت: «اللّه و رسوله أعلم» قال: «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» (رواه مسلم) .
يتضح لنا من هذا الحديث الشريف و من الآيات القرآنية الكريمة المتقدمة أن الدين الإسلامي ينقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية: الإسلام و الإيمان و الإحسان.
إن الإسلام يتعلق بأعمال الجوارح، و الإيمان يتعلق بأعمال القلوب، و الإحسان يتعلق بأعمال السر أو الروح.
و الإسلام أول درجات الدين الإسلامي، و هو عبارة عن الاستسلام و الانقياد للّه تعالى ظاهرا، فهو مبدأ مراتب الدين الإسلامي، قال تعالى: إِذْ قٰالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قٰالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ (١٣١) [البقرة:١٣١].
و الإيمان ثاني درجات الدين الإسلامي، فهو أعلى درجة من الإسلام. قال تعالى: قٰالَتِ اَلْأَعْرٰابُ آمَنّٰا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا وَ لَمّٰا يَدْخُلِ اَلْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]. و الإيمان هو التصديق بالقلب بكل ما جاء به النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم و علم من الدين بالضرورة. و هو يتضمن الإسلام، فكل مؤمن مسلم و ليس كل مسلم مؤمنا.
و الإحسان أعلى درجات الدين الإسلامي و هو مراقبة اللّه تعالى في السر و العلن، و الشعور بوجوده تعالى وصولا إلى الشهود و العيان، و هي مرتبة: وَ اُعْبُدْ رَبَّكَ حَتّٰى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ (٩٩) [الحجر:٩٩]. فهو الكمال المتضمن للإسلام و الإيمان. قال تعالى: بَلىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّٰهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:١١٢]فكل محسن مؤمن و مسلم و ليس كل مؤمن و مسلم محسنا.
إن النصوص السابقة تبين لنا أن الدين الإسلامي الذي أكمله اللّه تعالى و ارتضاه لنا، و لا يقبل غيره من أحد من العالمين، هو مجموع الإسلام و الإيمان و الإحسان.
و هذا يقتضي أن الإنسان المعتنق للدين الإسلامي لا يكون مسلما كاملا إلا إذا كان مسلما مؤمنا محسنا. و إذا قصر في أصل من هذه الأصول الثلاثة، يكون بذلك قد نزل عن درجة اكتمال دينه الإسلامي الذي يعتنقه. فإذا قصر بأحد أركان الأصل الأول الذي هو الإسلام اختلّ سلوكه، لأن الإسلام هو مظاهر سلوكية. و إذا قصّر أو أخلّ بأحد أركان الأصل الثاني الذي هو الإيمان اختلّ أو بطل اعتقاده، لأن الإيمان هو علم اعتقادي تصديقي. و إذا عطل أو قصر في أحد ركني الإحسان ضعف و اختلّ يقينه و تحققه بالإسلام و الإيمان.
و نتيجة للتقصير في أصل من هذه الأصول الثلاثة أو في ركن من أركانها يكون الاختلال في الغايات و الثمرات، التي هي معرفة اللّه تعالى و الفوز و النجاة و السعادة في الدنيا و الآخرة.
و غالب تقصير المسلمين اليوم يتعلق بالإحسان، لذلك انخرم سلوكهم، و فسدت عقيدتهم، و ضعفت مراقبتهم للّه تعالى، فقلّت خشيتهم، و نقص يقينهم، فتهاونوا في دينهم. ١٩
و حال المسلمين هذا يستدعي تأخرهم في دنياهم، و خذلان ربهم لهم بعدم نصرهم، لأن الحق تعالى علّق نصره للمسلمين بنصرهم له تعالى، و ذلك يتحقق بالأخذ و العمل بمجموع دينه الذي هو الإسلام و الإيمان و الإحسان.
حد التصوف أو تعريفه:
و كنتيجة لهذه المقدمات يكون التصوف هو العلم المتعلق أو الشارح أو الموضوع لكيفية تزكية النفس و تطهيرها و تصفيتها من الرذائل و تحليتها بالفضائل لتتهيأ القلوب لمعرفة الحق تعالى المعرفة الحقيقة من حيث معرفة تجليات الذات و الصفات و الأسماء و الأفعال، التي هي معرفة الشهود و العيان بطريق الذوق و الوجدان.
عرّف ابن خلدون التصوف في مقدمته تعريفا جمع فيه سبب نشأته فقال: «هذا العلم من علوم الشريعة الحادثة في الملة، و أصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة و كبارها من الصحابة و التابعين و من بعدهم طريقة الحق و الهداية، و أصلها العكوف على العبادة و الانقطاع إلى اللّه تعالى و الإعراض عن زخرف الدنيا و زينتها، و الزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة و مال و جاه، و الانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، و كان ذلك عامّا في الصحابة و السلف، فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني و ما بعده، و جنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية و المتصوفة» .
إن تعريف ابن خلدون هذا للتصوف يعتبر ناقصا لأنه عرف فقط قسما من أقسام التصوف و هو علم الطريقة و لم يتضمن علم الحقيقة و هو الشهود و العيان. هذا و سأذكر عددا من التعاريف لعلماء هذا الشأن دون التعرض لها نقدا و تحليلا.
قال الجنيد رحمه اللّه تعالى: التصوف أن يميتك الحق عنك و يحييك به. و قال أيضا: أن تكون مع اللّه بلا علاقة. و قيل في حده: «هو الدخول في كل خلق سني، و الخروج عن كل خلق دني. و قيل: هو الجلوس مع اللّه بلا هم، و قيل هو العصمة من رؤية الكون» .
و قال الشيخ أحمد زروق: «قد حدّ التصوف و رسم و فسّر بوجوه تبلغ نحو الألفين، ترجع كلها لصدق التوجه إلى اللّه تعالى» .
و قيل للجنيد أيضا: ما التصوف؟ قال: «لحوق السر بالحق، و لا ينال ذلك إلا بفناء النفس عن الأسباب لقوة الروح و القيام مع الحق».
و قال الشيخ عبد الرزاق القاشاني في كتابه اصطلاحات الصوفية معرّفا التصوف:
«التصوف هو التخلّق بالأخلاق الإلهية».
و عرّفه الشريف الجرجاني في كتابه التعريفات بقوله: «و قيل: التصوف: تصفية القلب عن موافقة البرية، و مفارقة الأخلاق الطبيعية، و إخماد صفات البشرية، و مجانبة الدعاوى النفسانية، و منازلة الصفات الروحانية، و التعلق بعلوم الحقيقة، و استعمال ما هو أولى على السرمدية، و النصح لجميع الأمة، و الوفاء للّه تعالى على الحقيقة، و اتباع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم في الشريعة» ٢.
التصوف عند ابن عربي:
قال الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي في الباب الرابع و الستين و مائة في معرفة مقام التصوف من كتابه الفتوحات المكية: «التخلق بأخلاق اللّه تعالى هو التصوف» .
و شرح معنى ذلك بقوله: «و الحكماء هم المقسطون: وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة:269]. . . و سبب وصفه بالكثرة (أي وصف الحكمة بالخير الكثير) لأن الحكمة سارية في الموجودات التي هي وضع اللّه، ثم خلق الإنسان و حمّله الأمانة بأن جعل له النظر في الموجودات و التصرف فيها بالأمانة ليؤدي إلى كل ذي حق حقه. . . كما أن اللّه أعطى كل شيء خلقه، فجعل الإنسان خليفة في الأرض دون غيره من المخلوقين. . . فالموجودات بيد الإنسان أمانة عرضت عليه فحملها، فإن أدّاها فهو الصوفي، و إن لم يؤدها فهو الظلوم الجهول، و الحكمة تناقض الجهل و الظلم، فالتخلق بأخلاق اللّه هو التصوف، و قد بيّن العلماء التلخق بأسماء اللّه الحسنى و بيّنوا مواضعها و كيف تنسب إلى الخلق و لا تحصى كثرة، و أحسن ما تصرف فيه مع اللّه خاصة، فمن تفطن و صرفها مع اللّه أحاط علما بتصريفها مع الموجودات فذلك المعصوم الذي لا يخطىء أبدا، و المحفوظ من أن يتحرك أو يسكن سدى، جعلنا اللّه من الصوفية القائمين بحقوق اللّه و المؤثرين جناب اللّه» انتهى.
التصوف عند حجة الإسلام الغزالي:
يقول الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي مؤلف كتاب الإحياء في علوم الدين: «علمت أن طريقتهم (أي الصوفية) تتم بعلم و عمل، و كان حاصل علومهم ٢١
قطع عقبات النفس، و التنزه عن أخلاقها المذمومة و صفاتها الخبيثة، و حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب من غير اللّه، و تحليته بذكر اللّه» . إلى أن يقول: «و كان العلم أيسر عليّ من العمل. . فظهر لي أن أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق و الحال و تبدل الصفات. . . فعلمت أنهم أرباب أحوال لا أصحاب أقوال» .
انتهى.
اشتقاق كلمة التصوف أو علم التصوف:
هذه الأقوال سالفة الذكر هي نماذج لتعريف التصوف أما اشتقاقه فقد اختلف فيه على أقوال كثيرة، منها: أنه من الصوفة لأنه (أي السالك إلى اللّه تعالى) كالصوفة المطروحة لا تدبير له. و منها أنه منقول من صفة المسجد النبوي الذي كان منزلا لأهل الصفّة، لأن الصوفي تابع لهم فيما أثبت اللّه لهم من الوصف حيث قال مخاطبا نبيه صلى اللّه عليه و آله و سلم: وَ اِصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدٰاةِ وَ اَلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:٢٨].
و أحسن الأقوال في اشتقاق التصوف أنه من الصفاء لأن مداره على التصفية تصفية القلب و صفاء النفس. قال بعض الصوفية:
تخالف الناس في الصوفي و اختلفوا و كلهم قال قولا غير معروف
و لست أمنح هذا الاسم غير فتى صافى فصوفي حتى سمي الصوفي
و قال بعض العارفين: لا بد للصوفي أن يتحقق بمعاني حروف اسمه؛ فالصاد صفاؤه، و الواو وفاؤه، و الفاء فناؤه، و الياء يقينه.
استمداد علم التصوف:
هذه نماذج مما قيل في اشتقاقه أما استمداده أي الأصول التي استمد منها التصوف تعاليمه: «فهو مستمد من الكتاب (القرآن) و السنّة النبوية و إلهامات الصالحين و فتوحات العارفين، و قد أدخلوا فيه أشياء من علم الفقه لمس الحاجة إليه في علم التصوف، حررها حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في الإحياء في أربعة كتب: كتاب العبادات، و كتاب العادات، و كتاب المهلكات، و كتاب المنجيات. و هي فيه كمال لا شرط إلا ما لا بد منه في باب العبادات».
حكم الشارع في التصوف أو حكمه شرعا:
أما حكم الشارع فيه فقد قال الإمام الغزالي: «إنه (أي التصوف) فرض عين (على كل مكلّف) إذ لا يخلو أحد من عيب أو مرض إلا الأنبياء و الرسل عليهم الصلاة و السلام» .
و قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي مؤسس الطريقة الشاذلية: «من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مصرا على الكبائر و هو لا يشعر، و حيث كان فرض عين يجب السفر إلى من يأخذ عنه إذا عرف (يعني هذا الشيخ العارف باللّه) بالتربية (و التسليك إلى اللّه تعالى) و اشتهر الدواء على يده».
نسبة علم التصوف من سائر العلوم الشرعية:
أما نسبة علم التصوف من سائر العلوم: «فهو كلي لها و شرط فيها، إذ لا علم و لا عمل إلا بصدق التوجه إلى اللّه تعالى، فالإخلاص شرط في الجميع، و هذا باعتبار الصحة الشرعية و الجزاء و الثواب، و أما باعتبار الوجود الخارجي، فالعلوم توجد في الخارج دون التصوف و لكنها ناقصة أو ساقطة». و قال الشيخ أحمد زروق رحمه اللّه تعالى: «نسبة التصوف من الدين نسبة الروح من الجسد، لأنه مقام الإحسان الذي فسره رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم لجبريل عليه السلام:
«أن تعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . إذ لا معنى له سوى ذلك، إذ مداره على مراقبة بعد مشاهدة، أو مشاهدة بعد مراقبة و إلا لم يقم له وجود» ٣.
و قيل في وصف التصوف و الصوفي:
ليس التصوف لبس الصوف ترقعه و لا بكاءك إن غنّى المغنّونا
و لا صياح و لا رقص و لا طرب و لا تغاش كأن قد صرت مجنونا
بل التصوف أن تصفو بلا كدر و تتبع الحقّ و القرآن و الدينا
و أن ترى خائفا للّه ذا ندم على ذنوبك طول الدهر محزونا
و كخلاصة لكل ما تقدم أذكر كلاما للشيخ أحمد بن عجيبة شارح حكم ابن عطاء اللّه السكندري بيّن فيه حقيقة التصوف إذ يقول:
«و اعلم بأن هذه الطريقة بحث عن التحقيق للحقيقة
قلت: البحث هو التفتيش، يقال: بحث عن كذا: فحص عنه، و بحث في الأرض أخرج ترابها، و التحقيق: إدراك الشيء من أصله، و الحقيقة: ذات الشيء و أصله، و حقيقة الإنسان: ماهيته و مادته.
و أما في اصطلاح الصوفية فهي: كشف رداء الصون عن مظهر الكون، فيفنى من لم يكن، و يبقى من لم يزل، و هي عندهم نتيجة التصفية التي هي الطريقة، و الطريقة: هي نتيجة الشريعة، فالشريعة هي إصلاح الجوارح الظاهرة، و هي تدفع إلى الطريقة التي هي إصلاح الأسرار الباطنة، و هي تدفع إلى الحقيقة التي هي كشف الحجاب و مشاهدة الأحباب من داخل الحجاب» .
ثم يتابع الشيخ أحمد بن عجيبة حديثه عن التصوف قائلا: «و طريقة الصوفية هي بحث و تفتيش عن تحقيق الحقيقة و إدراكها: ذوقا و حالا» .
ثم يشرح ذلك بقوله: «و اعلم أن اللّه جلّ جلاله واحد في ملكه، لا شريك معه و لا ضد له و لا ند له، كان و لا شيء معه، و هو الآن على ما كان عليه، كان في أزل أزليته لطيفا خفيا، حكيما قديرا لطيفا لا يدرك، خفيا لا يعرف، قائما بذاته، متصفا بمعاني أسمائه و صفاته، فأراد سبحانه أن يعرف بذاته، و أن يظهر أثر أسمائه و صفاته، فأظهر قبضة من نوره اللطيف، فتكثفت بقدرته ليتهيأ بها التعريف، ثم تنوعت على عدد أسمائه و صفاته، فلما ظهرت تلك القبضة النورية تجلّى فيها باسمه الباطن، فبطنت في ظهورها، و كمنت في مظاهرها، فالأشياء كلها مظاهر للحق، لكن لا بد للحسناء من نقاب، و للشمس من سحاب، فنسجت تلك الخمرة اللطيفة الأزلية بقدرتها رداء، و اكتست بحكمتها إزارا، فقالت: «العظمة إزاري و الكبرياء ردائي فمن نازعني واحدا منهما قصمته» ثم اختلفت تلك الحكمة في نسجها و غزلها، فمنها ما رق غزله و لطف نسجه، فكان فيه النور قريبا من الظهور، و منه ما غلظ غزله و كثف نسجه، فخفي النور لأجل غلظ الستور، ثم إن الذي رق غزله و لطف نسجه منه ما هو نور محض، و هم الملائكة، و منه ما هو نور و ظلمة و هم بنو آدم. و منه ما هو نور و ظلمة و غلب عليه ظهور الظلمة، و هي الجمادات و ما لا يعقل من الحيوانات، و نعني بالنور المعنى، و بالظلمة الحس، فالكون كله باطنه نور و ظاهره ظلمة، باطنه قدرة و ظاهره حكمة، باطنه لطيف و ظاهره كثيف، و إليه أشار صاحب العينية (أي الشيخ عبد الكريم الجيلي) بقوله:
و ما الكون في التمثال إلا كثلجة و أنت لها الماء الذي هو نابع
ثم إن الحق سبحانه خصّ مظهر هذا الآدمي بخصائص لم تكن لغيره.
منها: أن جعل روحه اللطيفة النورانية في قالب كثيف، ليتأتى له منه غاية التصريف.
و منها: أن جعل ذلك القالب في أحسن تقويم، و أبدع فيه من بدائع حكمته و عجائب صنعه ما يليق بقدرة السميع العليم.
و منها: أنه جعله حاكما على المظاهر كلها، مالكا لها بأسرها، خليفة عن اللّه فيها، ثم فتح له من فنون العلوم و مخازن الفهوم ما لم يفتحه على غيره مما هو معلوم، و قال تعالى: إِنِّي جٰاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:٣٠]و قال في ذلك الخليفة: وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمٰاءَ كُلَّهٰا [البقرة:31].
و منها: أن أعطاه سبحانه و تعالى سبعا من الصفات تشبه صفات المعاني الأزلية، إلا أنها ضعفت بإحاطة القهرية، و هي: القدرة، و العلم، و الحياة، و السمع، و البصر، و الكلام، فحصل له بهذا أنموذج و شبه بالصمدانية الإلهية.
و منها: أنه سبحانه جعله نسخة الوجود، يحاكي بصورته كل موجود، فإن عرف الحق كان الوجود نسخة منه، إلى بعض هذه المعاني أشار بقوله:
و هذه حقيقة الإنسان حيث لها أنموذج رباني
قلت (أي الشيخ ابن عجيبة) : حقيقة الإنسان هي روحانية، و هي لطيفة نورانية لاهوتية جبروتية، ثم احتجبت ببشرية كثيفة ناسوتية، فسبحان من ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية، و ظهر بإظهار الربوبية في مظاهر العبودية.
الأنموذج، قال في القاموس: و النموذج بالفتح: الشبه. . . و هذا الشبه الذي حازه الإنسان دون غيره هو اتصافه بشبه أوصله إلى الحق سبحانه، حيث جعل اللّه فيه: قدرة، و إرادة، و علما، و حياة، و سمعا، و بصرا، و كلاما، و جعله نسخة من الوجود بأسره، و خليفة عن اللّه في حكمه، يتصرف في الأشياء باختياره في ظاهر أمره، و لذلك ورد في الحديث: «خلق اللّه آدم على صورته» ، و في رواية «على صورة الرحمن» . و معناه خلق آدم و أعطاه من الصفات ما يشبه صفات الرحمن، و هي صفات المعاني و المعنوية، و خصه أيضا فجعله خزانة لسائر أسمائه، ففي الآدمي تسعة و تسعون اسما، كلها كامنة في سره، ثم يظهر على ظاهره ما سبق له في علم الغيب، فالبعض يظهر عليه اسمه الكريم، و البعض اسمه الرحيم، و البعض اسمه الحليم، و البعض اسمه المنتقم، و البعض اسمه المتكبر، و البعض اسمه القهّار، و البعض اسمه ٢۵
القابض، و البعض اسمه الباسط، و قد يتعاقب عليه أسماء كثيرة في وقت واحد، و إذا فني عن حسه و غاب عن نفسه ظهرت عليه أنوار الألوهية، فينطق بالأنانية غلبة و وجدا، و بهذا قتل الحلاج.
و قد ورد في الترغيب في التخلق بأخلاق الرحمن، قال صلى اللّه عليه و آله و سلم:
«تخلّقوا بأخلاق الرحمن» .
و رغّب في الصيام لما فيه من شبه الصمدانية، و قد رغّب أيضا في التقرب إليه تعالى حتى يكون سمعه و بصره و يده و رجله، و معناه تغيبه عن صفة الحدوث بشهود أنوار القدم و في ذلك يتحقق له هذا الأنموذج الصمداني.
و في الحكم: «وصولك إليه وصولك إلى العلم به، و إلا فجل ربنا أن يتصل بشيء أو يتصل به شيء» .» . انتهى.
و بنص الشيخ ابن عجيبة هذا ننهي الحديث عن علم التصوف. و الحمد للّه رب العالمين في الأولية و الآخرية و في الظهور و البطون من الأزل إلى الأبد. سائلين اللّه تعالى أن ينفعنا بما علّمنا و يزيدنا علما به تعالى.
تعريف ببعض الطرق الصوفية
١- الطريقة القادرية: أسس هذه الطريقة سيدي عبد القادر الجيلاني (توفي حوالي 561هجرية) و هي من أوسع الطرق انتشارا في جميع أرجاء العالم الإسلامي.
٢- الطريقة النقشبندية: مؤسس هذه الطريقة هو مولانا بهاء الدين نقشبند (توفي سنة ٧٩١ هجرية) . هي أيضا من الطرق الواسعة الانتشار خصوصا في بلاد الشام و بلاد المشرق الإسلامي. من مشاهير أتباعها: الشيخ عبد الرحمن الجامي، الخواجه أحرار، الشيخ محمد پارسا و غيرهم كثير.
٣- الطريقة الشاذلية: مؤسس هذه الطريقة هو سيدي أبو الحسن الشاذلي (توفي سنة 656 هجرية) . و لها فروع كثيرة جدا. و هي، بدون منازع، أوسع الطرق انتشارا في بلاد المغرب الإسلامي. و هي واسعة الانتشار في مصر و بلاد الشام أيضا. أشهر أتباعها: سيدي أبو العباس المرسي، الشيخ ابن عطاء اللّه السكندري صاحب الحكم العطائية، سيدي العربي الدرقاوي و غيرهم كثير.
۴- الطريقة الرفاعية: مؤسس هذه الطريقة هو سيدي أحمد الرفاعي، و لها انتشار واسع في بلاد الشام.
۵- الطريقة السهروردية: مؤسس هذه الطريقة هو الشيخ أبو النجيب ضياء الدين السهروردي (توفي سنة ۵۶۴ هجرية) . انتشرت كثيرا في العراق و بلاد فارس و الهند.
۶-الطريقة الكبروية: مؤسسها هو الشيخ نجم الدين كبرى (المستشهد في غزو المغول سنة ۶١٨ هجرية) . تعد أوسع الطرق انتشارا في بلاد فارس و لها من الفروع كثير. و قد اشتهر الكثير من أتباعها و منهم: الشاعر المشهور فريد الدين العطار، الشيخ سعد الدين الحموي و غيرهم كثير.
٧- الطريقة المولوية: مؤسس هذه الطريقة هو مولانا جلال الدين الرومي (توفي سنة ۶٧٢ هجرية) . كان لهذه الطريقة ازدهار كبير و انتشار واسع في تركيا أيام الدولة العثمانية. اشتهرت بلباس أتباعها المميز و رقصتهم الدائرية المشهورة.
٨-الطريقة النعمة اللهية: مؤسس هذه الطريقة هو الشاه نعمة اللّه الولي الكرماني (توفي حوالي سنة ٨٣۴ هجرية) . لها انتشار واسع في إيران.
٩-الطريقة البكداشية: مؤسس هذه الطريقة هو الحاج بكداش ولي (توفي حوالي سنة ٧٣٨ هجرية) . انتشرت بشكل واسع في تركيا و بلاد البلقان، و كانت الطريقة الرسمية للجيش الانكشاري العثماني.
وجوب معرفة اللّه تعالى على كل مكلّف
السعادة الإنسانية الحسية و المعنوية:
إن السعادة الإنسانية تنقسم إلى نوعين: الأول سعادة حسية مادية جسدية كثيفة آنية، و الثاني سعادة معنوية لطيفة عقلية روحية لطيفة أبدية، و إنّ جميع الخلق يسعون جاهدين دون كلل أو نصب للوصول إلى تحقيق أحد هذين النوعين من السعادة الخاصة بالبشر.
إن لكل واحد منا هدفا يشبع من خلاله غرائزه و رغباته و احتياجاته المادية النفسية الشهادية أو مقتضياته و ضروراته الروحية الغيبية لكي يصل إلى اللذة أو السعادة التي يجدها في هذا الهدف الذي يعدّه غاية وجوده في هذه الحياة التي يعيشها، إنّ هذا الهدف المحرك للإنسان نحو غايته مركوز في تركيبته الجامعة للمادة و المعنى الكثيف و اللطيف الجسد و الروح، و توجهات الإنسان و مساعيه المحققة لاحتياجات هذه التركيبة منطقية و ضرورية فطرية.
إنّ اللّه تعالى خالق هذه التركيبة-المكونة من الجسد و النفس و العقل و القلب و الروح و السر-لم يترك الإنسان تائها يتخبط في سيره نحو تحقيق السعادة التي ينشدها دون دليل يسترشد به و يضيء له الطريق، فكانت المحجة البيضاء التي لا يضل عنها إلا هالك: كتاب اللّه تعالى و سنّة النبي الخاتم محمد صلى اللّه عليه و آله و سلم.
غاية خلق الخلق:
إن السعادة المادية الحسية النفسية العزيزية مطلوبة من الإنسان في الإسلام على أنها وسيلة من وسائل استمرار وجوده و ليست غاية وجوده، فشهوات الحياة الدنيا و ملذاتها غير مقصودة لذاتها بل لتساعد المؤمن في سيره نحو مقصده الأسمى اللّه تعالى الذي هو غاية وجوده في هذا العالم.
إن معرفة اللّه تعالى في ذاته و أسمائه و صفاته و أفعاله و أحكامه هي عين السعادة الحقيقية الروحية في الدنيا حيث الحياة العاجلة الفانية و في الآخرة حيث الحياة الأبدية فهي غاية خلق الخلق، قال تعالى: وَ مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ (56) [الذّاريات:56]فسّر عبد اللّه بن عباس رضي اللّه تعالى عنهما «إلا ليعبدون» ب «إلا ليعرفون» فيكون الحق تعالى عبّر عن المعرفة التي هي الغاية بالعبادة التي هي الوسيلة.
معرفة الإنسان لربه تعالى:
إن الإنسان مفطور على معرفة اللّه تعالى فِطْرَتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّٰاسَ عَلَيْهٰا [الرّوم:٣٠]و لكنه بعد نزوله إلى الدنيا و انغماسه في شهواتها بإغواء من الشيطان تشوهت هذه المعرفة، فأرسل اللّه تعالى رسله عليهم الصلاة و السلام و أنزل كتبه للتذكير بتوحيد الفطرة.
قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني في الباب الثالث من كتابه (اليواقيت و الجواهر) : «ورد مرفوعا أن اللّه تعالى خلق العباد على معرفته فاختالهم الشيطان عنها، فما بعثت الرسل إلا للتذكير بتوحيد الفطرة و تطهيره عن تسويلات الشيطان بالاستدلالات النظرية و الدلائل العقلية و بها توجهت التكاليف على العقلاء» . و يقول في موضع آخر: «المعرفة ضرورة فالناس كلهم يشيرون إلى الصانع جلّ و علا و إن اختلفت طرائقهم و عللهم و لا يجهلون سوى كنه الذات، و لذلك لم يأت الأنبياء و الرسل ليعلمونا بوجود الصانع، و إنّما أتونا ليدعونا إلى التوحيد» . قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ [محمّد:١٩]. و الخلق إنما أشركوا بعد الاعتراف بالموجود لما اعتقدوه من الشركاء للّه تعالى أو لنفي واجب من صفاته أو لإثبات مستحيل منها أو لإنكارهم النبوات» .
معرفة اللّه تعالى أول الواجبات على المسلم المكلّف:
إنّ الشريعة الإسلامية جعلت معرفة اللّه تعالى أول واجب على كل مكلّف، قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ [محمّد:١٩].
قال الإمام السيوطي في كتابه (الإكليل في استنباط التنزيل) : «قد استدل بالآية من قال بأن أول الواجبات معرفة اللّه تعالى» .
و قال الإمام الحافظ الكبير أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي في كتابه (الاعتقاد و الهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف أصحاب الحديث) بعد سرده لهذه الآية
و لقوله تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ مَوْلاٰكُمْ [الأنفال:40]و لقوله تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّمٰا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اَللّٰهِ وَ أَنْ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [هود:14]و لقوله تعالى: قُولُوا آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْنٰا [البقرة:136]. «فوجب بالآيات قبلها، معرفة اللّه تعالى و علمه، و وجب بهذه الآية-الأخيرة-الاعتراف به و الشهادة له بما عرفه، و دلت السنّة على مثل ما دلّ عليه الكتاب» .
و قال القاضي علي بن محمد بن أبي العز الدمشقي في شرحه على (العقيدة الطحاوية) : (اعلم أن التوحيد أول دعوة الرسل، و أول منازل الطريق، و أول مقام يقوم فيه السالك إلى اللّه عزّ و جل) قال تعالى: وَ لَقَدْ بَعَثْنٰا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّٰاغُوتَ [النّحل:٣۶]و قال تعالى: وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢۵) [الأنبياء:٢۵]، و يقول في موضع آخر:
«فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام، و آخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم:
«من كان آخر كلامه لا إله إلا اللّه دخل الجنة» (رواه أبو داود و أحمد في المسند و الحاكم و قال: صحيح الإسناد) و هو أول واجب و آخر واجب.
و يقول الإمام عبد الباقي المواهبي الحنبلي في كتابه (العين و الأثر في عقائد أهل الأثر) : «فتجب معرفة اللّه تعالى شرعا و مما ورد في الشرع: النظر في الوجود و الموجود على كل مكلّف قادر، و هو أول واجب للّه تعالى» . و قد نقل العلامة السوداني في كتابه (زبد العقائد) إجماع العلماء على أن معرفة اللّه تعالى أول الواجبات على المكلّف حيث يقول ما نصه: «فقد أجمع أهل الحق قاطبة على أن أول الواجبات العلم باللّه تعالى، و اتفقوا على عدم صحة العبادة لمن لا يعرف معبوده». و الأدلة على ذلك متواترة.
قال سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي اللّه تعالى عنه: «من عمل في غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح».
إن العلم باللّه تعالى متمثلا بالعقيدة الحقة عقيدة علم اليقين بالدليل و البرهان أو معرفته متمثلا بعقيدة عين و حق و حقيقة اليقين بالشهود و العيان هو الذي يصحح الأعمال و يجعلها مقبولة عند اللّه تعالى. ٣٠
استناد معرفة اللّه تعالى إلى النظر و الاستدلال العقليين:
إن علماء التوحيد اشترطوا لصحة المعرفة استنادها إلى النظر و الاستدلال العقليين، قال اللّه تعالى: قُلِ اُنْظُرُوا مٰا ذٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ [يونس:١٠١]و قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ [محمّد:19].
يقول إمام المتكلمين القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني في كتابه (الإنصاف فيما يجب اعتقاده و لا يجوز الجهل به) : «إن الواجب على المكلّف أن يعلم أن أول ما فرض اللّه عزّ و جل على جميع العباد النظر في آياته، و الاعتبار بمقدوراته، و الاستدلال عليه بآثار قدرته، و شواهد ربوبيته، لأنه سبحانه غير معلوم باضطرار، و لا مشاهد بالحواس، و إنما يعلم وجوده و كونه على ما تقتضيه أفعاله بالأدلة القاهرة، و البراهين الباهرة» .
و يقول الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه (الاعتقاد و الهداية إلى سبيل الرشاد) : «ثم أمر اللّه تعالى في آية أخرى بالنظر فيهما-السماوات و الأرض» -فقال لنبيه: قُلِ اُنْظُرُوا مٰا ذٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ [يونس:١٠١]. يعني و اللّه أعلم من الآيات الواضحات، و الدلالات النيرات، و هذا لأنك إذا تأملت هيئة هذا العالم ببصرك، و اعتبرتها بفكرك، وجدته كالبيت المبين المعد فيه جميع ما يحتاج إليه ساكنه من آلة و عتاد. و الإنسان كالمملّك البيت المخوّل ما فيه. و في هذا دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتدبير و تقدير و نظام، و أن له صانعا حكيما تام القدرة، بالغ الحكمة» .
دليل معرفة اللّه تعالى الإجمالي و التفصيلي:
إنّ من عنده الأهلية العقلية من المكلفين يجب عليه تعلم دليل المعرفة الإجمالي: «و هو المعجوز عن تقريره و حل شبهه وردها-و يحصل به العلم و الطمأنينة بعقائد الإيمان، كما إذا قيل له: أتعتقد أن اللّه تعالى موجود؟ فيقول: نعم. فيقول له:
و ما دليلك على ذلك؟ فيقول: هذه المخلوقات» فإن الصنعة تدل على الصانع و كما قال الأعرابي: البعرة تدل على البعير و السير يدل على المسير، أفأرض ذات فجاج و سماء ذات أبراج لا تدل على الواحد القهار؟ ! ١
أما معرفة الدليل التفصيلي لعقائد التوحيد كأن يبرهن المستدل على وجود اللّه تعالى بهذه المخلوقات على جهة دلالتها، هل هي حدوثها كأن يقول: المخلوقات ٣١
حادثة و كل حادث لا بد له من محدث، فالمخلوقات لا بد لها من محدث و محدثها هو اللّه تعالى. أو يقول: المخلوقات ممكنة الوجود، و الممكن يتساوى وجوده و عدمه، فهو يحتاج إلى مرجح يرجح إما وجوده و إما عدمه، فالمخلوقات لها صانع مرجح و هو اللّه تعالى، فإن الشريعة الإسلامية لم تجعله فرض عين على كل مكلّف، بل فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن البعض الآخر، لتوجد فئة من العلماء المتخصصين بعلم أصول الدين تدافع عن العقيدة الحقة و تنصر الدين الحنيف ١.
موقع الإيمان من الظن و الوهم و الشك و من الجزم غير المطابق للواقع و من التقليد:
إن إمعان الفكر و العقل في أدلة مسائل العقيدة يفيد العلم. «و المعرفة و العلم مترادفان على معنى واحد هو الجزم القاطع المطابق للواقع عن دليل و لو جمليا، فالظن و الشك و الوهم ليسوا بمعرفة، و كذلك الجزم غير المطابق للواقع كجزم النصارى بالتثليث، فيتحصل أن الظان و الشاك و المتوهم و الجازم جزما غير مطابق للواقع كل منهم كافر اتفاقا، و أما المتصف بالتقليد، و هو أن يأخذ بقول غيره من غير أن يعرف دليله مع الجزم بمضمون المأخوذ، فقد اختلف العلماء في صحة إيمانه، لأنه لا يخلو عن قبول التردد الموصل إلى الظن و الشك الموصلان إلى الكفر، لذلك اختلف العلماء في إيمان المقلد».
ورد في شرح (السنوسية على أم البراهين) للشيخ محمد بن عرفة الدسوقي ما نصه: «اختلف الجمهور القائلون بوجوب المعرفة فقال بعضهم: المقلد مؤمن إلا أنه عاص بترك المعرفة التي ينتجها النظر الصحيح. و قال بعضهم: إنه مؤمن و لا يعصي إلا إذا كان فيه أهلية لفهم النظر الصحيح. و قال بعضهم: المقلد ليس بمؤمن أصلا.
و قد أنكر هذا القول الأخير بعض العلماء.
و ذهب غير الجمهور إلى أن النظر-الاستدلال العقلي-ليس بشرط في صحة الإيمان بل و ليس بواجب أصلا و إنما هو من شروط الكمال فقط. و الحق الذي يدل عليه الكتاب و السنّة وجوب النظر الصحيح مع التردد في كونه شرطا في صحة الإيمان أو لا و الراجح أنه شرط في صحته».
المراد بمعرفة اللّه تعالى:
إن المراد بمعرفة اللّه تعالى معرفة صفاته و أسمائه و أفعاله و أحكامه تعالى، و معرفة ما يجب له من مقتضيات الكمال، و ما يستحيل عليه تعالى، و ما يجوز في حقه تعالى من فعل كل ممكن أو تركه. و ليس المراد معرفة كنه و حقيقة ذاته سبحانه و تعالى.
فالإنسان الحادث أعجز من أن يعرف كنه و حقيقة نفسه و روحه، فكيف به يطلب معرفة ذلك من ربه الأزلي الأبدي «الأول و الآخر و الظاهر و الباطن» . قال صلى اللّه عليه و آله و سلم:
«تفكروا في خلق اللّه و لا تفكروا في اللّه» و روي عن الصديق الأكبر أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه قوله: «العجز عن درك الإدراك إدراك، و البحث في ذات اللّه إشراك» .
و في قول جامع لكل أحكام التوحيد يقول الشيخ سهل بن عبد اللّه التستري رحمه اللّه تعالى: «ذات اللّه تعالى موصوفة بالعلم غير مدركة بالإحاطة، و لا مرئية بالأبصار في دار الدنيا، موجودة بحقائق الإيمان من غير حد و لا إحاطة و لا حلول، و تراه العيون في العقبى ظاهرا و باطنا في ملكه و قدرته، قد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته، و دلّهم عليه بآياته، و القلوب تعرفه، و العقول لا تدركه، ينظر إليه المؤمنون بالأبصار من غير إحاطة، و لا إدراك نهاية» ٢.
خلاصة لما تقدم:
اتضح لنا مما تقدم أن السعادة الحقيقية هي السعادة الروحية الأبدية، المتحققة بمعرفة اللّه تعالى، التي هي غاية وجود الإنسان. و إن الإنسان مفطور على هذه المعرفة إلا أن الدنيا بشهواتها و الشيطان بإغوائه حجبا الإنسان عنها، فأرسل اللّه تعالى الرسل و أنزل الكتب و بعث النبي الخاتم سيدنا محمد صلى اللّه عليه و آله و سلم لتصحيح مسار الإنسان نحو غايته المطلقة: اللّه جلّ جلاله.
و إن أول الواجبات على المكلّف معرفة اللّه تعالى معرفة تستند إلى الحجج و البراهين العقلية، لينتفي الظن و الوهم و الشك عن الإيمان، فيطمئن القلب بجزمه القاطع المطابق للواقع، و لا يكتفي بالتقليد الجازم إلا إذا كان غير مؤهّل للنظر في أدلة العقيدة الحقة.
و اتضح لنا أيضا أن المعرفة المرادة هي العلم باللّه تعالى من حيث صفاته و أسماؤه و أفعاله و أحكامه.
أما معرفة الذات الإلهية من حيث الكنه و الماهية و من حيث الإحاطة، فهي مستحيلة غير مدركة للإنسان لا في الدنيا و لا في الآخرة.
وقفة اعتبار:
فهلا عرفت بعد ذلك أيها الإنسان الهدف من وجودك في هذه الحياة الدنيا و الغاية منه، فتوجهت بكليتك روحا و عقلا و نفسا و هوى نحو ربك، مسرعا لتنال السعادة الحقيقية الأبدية.
و هلا كنت بعد ذلك صادقا في عبوديتك قائما بحقوق ربوبيته و ألوهيته سبحانه و تعالى، يقول الشيخ ابن عطاء اللّه السكندري في حكمه: «إنه ما من وقت يرد إلا و للّه عليك فيه حق جديد و أمر أكيد، فكيف تقضي فيه حق غيره و أنت لم تقض حق اللّه فيه».
مبدأ الدين الإسلامي و وسطه و كماله
الإسلام و الإيمان و الإحسان
إن الدين الإسلامي هو الدين عند اللّه تعالى، أكمله لنا و ارتضاه، و لا يقبل غيره من أحد من العالمين. قال تعالى: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّٰهِ اَلْإِسْلاٰمُ [آل عمران:١٩] و قال تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاٰمَ دِيناً [المائدة:3]و قال تعالى: وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلاٰمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ (٨۵) [آل عمران:٨۵].
إن الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية الصحيحة قسمت الدين الإسلامي إلى ثلاثة أقسام رئيسية: الإسلام و الإيمان و الإحسان. قال اللّه تعالى: فَلاٰ تَمُوتُنَّ إِلاّٰ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:١٣٢]و قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) [البقرة:4]و قال تعالى: وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّٰهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ وَ اِتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ حَنِيفاً [النّساء:125].
عن عمر رضي اللّه تعالى عنه قال : «بينما نحن جلوس عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، و لا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، و وضع كفيه على فخذيه، و قال يا محمد، أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم:
«الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا اللّه و أن محمدا رسول اللّه، و تقيم الصلاة، و تؤتي الزكاة، و تصوم رمضان، و تحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» . قال: صدقت فعجبنا له يسأله و يصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: «أن تؤمن باللّه و ملائكته، و كتبه، و رسله، و اليوم الآخر، و تؤمن بالقدر خيره و شره» . قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: «أن تعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» . قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: «أن تلد الأمة ربّتها و أن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان» . ٣۵
قال: ثم انطلق فلبثت مليا، قال: «يا عمر أ تدري من السائل؟» قلت: اللّه و رسوله أعلم. قال: «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» ١.
يتضح لنا من هذا الحديث الشريف و من الآيات القرآنية الكريمة المتقدمة أن الدين الإسلامي ينقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية: الإسلام و الإيمان و الإحسان. و كل قسم منها ينقسم إلى أركان و أصول.
[انقسام الإسلام و الإيمان و الإحسان]فالإسلام ينقسم إلى خمسة أركان و هي:
١-شهادة أن لا إله إلا اللّه و أنّ محمدا رسول اللّه،٢-الصلاة،٣-الزكاة، ۴-الصوم،۵-الحج للمستطيع.
و الإيمان ينقسم إلى ستة أركان و هي:
الإيمان ب:
١-اللّه تعالى،٢-الملائكة،٣-الكتب السماوية،۴-الرسل،۵-اليوم الآخر،۶-القضاء و القدر.
و الإحسان ينقسم إلى أصلين و هما:
١-عبادة اللّه تعالى كأننا نراه،٢-عبادة اللّه تعالى مع الإيقان و الشعور بأنه تعالى يرانا.
إن الإسلام يتعلق بأعمال الجوارح، و الإيمان يتعلق بأعمال القلوب، و الإحسان يتعلق بأعمال السر أو الروح.
و الإسلام أولى درجات الدين الإسلامي، و هو عبارة عن الاستسلام و الانقياد للّه تعالى ظاهرا، فهو مبدأ مراتب الدين الإسلامي، قال تعالى: إِذْ قٰالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قٰالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ (١٣١) [البقرة:١٣١].
و الإيمان ثاني درجات الدين الإسلامي، فهو أعلى درجة من الإسلام، قال تعالى: قٰالَتِ اَلْأَعْرٰابُ آمَنّٰا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا وَ لَمّٰا يَدْخُلِ اَلْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]و الإيمان هو التصديق بالقلب بكل ما جاء به النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم و علم من الدين بالضرورة، و هو يتضمن الإسلام، فكل مؤمن مسلم و ليس كل مسلم مؤمنا، قال الخطابي: «و الصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا و لا يطلق، و ذلك أنّ المسلم قد يكون مؤمنا في بعض الأحوال و لا يكون مؤمنا في بعضها، و المؤمن مسلم في جميع الأحوال فكل مؤمن مسلم، و ليس كل مسلم مؤمنا. و إذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات، و اعتدل القول فيها، و لم يختلف شيء منها. و أصل الإيمان التصديق، و أصل الإسلام الاستسلام و الانقياد. فقد يكون المرء مستسلما في الظاهر غير منقاد في الباطن و قد يكون صادقا في الباطن غير منقاد في الظاهر».
و الإحسان أعلى درجات الدين الإسلامي
و هو مراقبة اللّه تعالى في السر و العلن، و الشعور بوجوده تعالى، فهو الكمال المتضمن للإسلام و الإيمان. قال تعالى: بَلىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّٰهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:١١٢] فكل محسن مؤمن و مسلم و ليس كل مؤمن و مسلم محسنا، قال الإمام أبو الفتح الشهرستاني في كتابه (الملل و النحل في الباب الأول) : «فإذا كان الإسلام بمعنى التسليم و الانقياد ظاهرا موضع الاشتراك فهو المبدأ. ثم إذا كان الإخلاص معه بأن يصدق باللّه و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر، و يقر عقدا بأن القدر خيره و شره من اللّه تعالى، بمعنى أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، و ما أخطأه لم يكن ليصيبه، كان مؤمنا حقا، ثم إذا جمع بين الإسلام و التصديق، و قرن المجاهدة بالمشاهدة و صار غيبه شهادة فهو الكمال. فكان الإسلام مبدأ، و الإيمان وسطا، و الإحسان كمالا» .
و قال الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي الشافعي رحمه اللّه في حديث سؤال جبريل النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم عن الإيمان و الإسلام: «جعل النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال، و جعل الإيمان اسما لما بطن من الاعتقاد، و ليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، و التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد و جماعها الدين، و لذلك قال صلى اللّه عليه و آله و سلم: «ذاك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» و التصديق و العمل يتناولهما اسم الإيمان و الإسلام جميعا، يدل عليه قوله سبحانه و تعالى: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّٰهِ اَلْإِسْلاٰمُ [آل عمران:١٩]و وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاٰمَ دِيناً [المائدة:3] وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلاٰمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: ٨۵] أخبر سبحانه و تعالى أن الدين الذي رضيه و يقبله من عباده هو الإسلام، و لا يكون الدين في محل القبول و الرضا إلا بانضمام التصديق إلى العمل» ٢. ٣٧
و قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم في باب الإيمان عند شرحه لحديث سؤال جبريل النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم: قوله صلى اللّه عليه و آله و سلم: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» فيه أنّ الإيمان و الإسلام و الإحسان تسمى كلها دينا. و اعلم أن هذا الحديث يجمع أنواعا من العلوم و المعارف و الآداب و اللطائف بل هو أصل الإسلام كما حكيناه عن القاضي عياض» .
إن النصوص المتقدمة تبين لنا أن الدين الإسلامي الذي أكمله اللّه تعالى و ارتضاه لنا، و لا يقبل غيره من أحد من العالمين، هو مجموع الإسلام و الإيمان و الإحسان.
و هذا يقتضي أن الإنسان المعتنق للدين الإسلامي لا يكون مسلما كاملا إلا إذا كان مسلما مؤمنا محسنا. و إذا قصر في أصل من هذه الأصول الثلاثة، يكون بذلك قد نزل عن درجة اكتمال دينه الإسلامي الذي يعتنقه. فإذا قصر بأحد أركان الأصل الأول الذي هو الإسلام اختلّ سلوكه، لأن الإسلام هو مظاهر سلوكية. و إذا قصّر أو أخلّ بأحد أركان الأصل الثاني الذي هو الإيمان اختلّ أو بطل اعتقاده، لأن الإيمان علم اعتقادي تصديقي. و إذا عطل أو قصر في أحد ركني الإحسان ضعف و اختل يقينه و تحققه بالإسلام و الإيمان، لأن الإحسان عبارة عن المراقبة و الخشوع و الخضوع للّه تعالى ليتحقق بالإسلام و الإيمان.
و نتيجة للتقصير في أصل من هذه الأصول الثلاثة أو في ركن من أركانها يكون الاختلال في الغايات و الثمرات، التي هي الفوز و النجاة و السعادة في الدنيا و الآخرة.
و غالب تقصير المسلمين اليوم يتعلق بالإحسان، لذلك انخرم سلوكهم، و فسدت عقيدتهم، و ضعفت مراقبتهم للّه تعالى، فقلّت خشيتهم، و نقص يقينهم، فتهاونوا في دينهم.
و حال المسلمين هذا يستدعي تأخرهم في دنياهم، و خذلان ربهم لهم بعدم نصرهم، لأن الحق تعالى علّق نصره للمسلمين بنصرهم له تعالى، و ذلك يتحقق بالأخذ و العمل بمجموع دينه الذي هو الإسلام و الإيمان و الإحسان.
و نختم كلامنا هذا بنص للإمام ابن قيم الجوزية اخترناه من كتابه القيّم (مدارج السالكين شرح منازل السائرين) يوضح فيه أهمية الأصل الثالث من أصول الدين الإسلامي الذي هو «الإحسان» حيث يقول: و من منازل إِيّٰاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ (۵) [الفاتحة:۵] منزلة «الإحسان» و هي لب الإيمان و روحه و كماله. و هذه المنزلة تجمع جميع المنازل، فجميعها منطوية فيها، و كل ما قيل من أول الكتاب إلى هنا فهو من ٣٨
الإحسان. قال صاحب المنازل رحمه اللّه تعالى: «و قد استشهد على هذه المنزلة بقوله تعالى: هَلْ جَزٰاءُ اَلْإِحْسٰانِ إِلاَّ اَلْإِحْسٰانُ (۶٠) [الرّحمن:۶٠]و بحديث «أن تعبد اللّه كأنك تراه» فالإحسان جامع لجميع أبواب الحقائق و هو أن تعبد اللّه كأنك تراه. . .
و أما الحديث: فإشارة إلى كمال الحضور مع اللّه عزّ و جل، و مراقبته الجامعة لخشيته، و محبته و معرفته، و الإنابة إليه، و الإخلاص له و لجميع مقامات الإيمان، قال: «و هو على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: الإحسان في القصد بتهذيبه علما، و إبرامه عزما، و تصفيته حالا.
الدرجة الثانية: الإحسان في الأحوال، و هو أن تراعيها غيرة و تسترها تظرفا و تصححها تحقيقا.
الدرجة الثالثة: الإحسان في الوقت، و هو أن لا تزايل المشاهدة أبدا، و لا تخلط بهمتك أحدا، و تجعل هجرتك إلى الحق سرمدا. . . إذ كل متوجه إلى اللّه بالصدق و الإخلاص، فإنه من المهاجرين إليه. فلا ينبغي أن يتخلّف عن هذه الهجرة، بل ينبغي أن يصحبها سرمدا. . . حتى يلحق باللّه عزّ و جل فما هي إلا ساعة ثم تنقضي. . .
و للّه على كل قلب هجرتان، و هما فرض لازم له على الأنفاس. هجرة إلى اللّه سبحانه بالتوحيد، و الإخلاص، و الإنابة، و الحب، و الخوف، و الرجاء، و العبودية، و هجرة إلى رسوله صلى اللّه عليه و آله و سلم بالتحكيم له و التسليم و التفويض، و الانقياد لحكمه، و تلقي أحكام الظاهر و الباطن من مشكاته، فيكون تعبده به أعظم من تعبد الركب بالدليل الماهر في ظلم الليل و متاهات الطريق» . ٣٩
القواطع عن طريق اللّه تعالى
إن الإنسان موجود في هذه الحياة الدنيا ليعرف اللّه تعالى من خلال تطبيقه للدين الحنيف الذي أكمله اللّه تعالى لنا و رضيه لنا دينا و ذلك بقوله: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاٰمَ دِيناً [المائدة:٣]و قال اللّه تعالى: وَ مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ (56) مٰا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ مٰا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (۵٧) [الذّاريات: 56-57] وهذا الأمر يتطلب من الإنسان المسلم بذل الجهد الكبير في صراعه بين الخير و الشر لأنه-انطلاقا من قوله تعالى: وَ نَفْسٍ وَ مٰا سَوّٰاهٰا (٧) فَأَلْهَمَهٰا فُجُورَهٰا وَ تَقْوٰاهٰا (٨) [الشّمس:٧،٨]-مؤهّل للسير في أحد الطريقين ابتلاء و اختبارا من اللّه تعالى له.
قال اللّه تعالى: أَ حَسِبَ اَلنّٰاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّٰا وَ هُمْ لاٰ يُفْتَنُونَ (٢) [العنكبوت:٢] فكما أن اللّه تعالى و ملائكته و شريعته المطهرة يدفعون الإنسان إلى سلوك الطريق المستقيم طريق الخير،
فإن النفس الأمّارة بالسوء و الشيطان و الدنيا و الناس يدفعونه إلى سلوك طريق السبل المتشعبة طريق الشر و الضلال.
فالنفس تشد صاحبها إلى السوء، مصداقا لقول اللّه تعالى: إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمّٰارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف:۵٣] لذلك كان لزاما على الإنسان أن يربيها، تطبيقا لقول اللّه تعالى:
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّٰاهٰا (٩) وَ قَدْ خٰابَ مَنْ دَسّٰاهٰا (١٠) [الشّمس:٩،١٠] فالنفس تدعو صاحبها إلى الشرك و الكفر و النفاق و الفسوق و البدعة و الرياء و حب الجاه و الرئاسة و الحسد و العجب و الكبر و الشح و الغرور و الغضب و الظلم و الكذب و الغش و اتباع الهوى و الطمع بالدنيا و شهواتها و غير ذلك من الأمراض.
فعلى الإنسان المسلم أن يسارع إلى علاج هذه الأمراض بأخذه الأدوية اللازمة للشفاء، و هي كثيرة منها: إقامة الفرائض و السنن و النوافل، و اجتناب المحرمات و المكروهات.
ومنها: مراقبة اللّه تعالى في السر و العلن،
ومنها: الإكثار من ذكر اللّه تعالى، مصداقا لقول اللّه تعالى: إِنَّ اَلصَّلاٰةَ تَنْهىٰ عَنِ اَلْفَحْشٰاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اَللّٰهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:۴۵]
ومنها: التفكر في خلق اللّه تعالى، قال اللّه تعالى: وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ رَبَّنٰا مٰا خَلَقْتَ هٰذٰا بٰاطِلاً سُبْحٰانَكَ فَقِنٰا عَذٰابَ اَلنّٰارِ [آل عمران:١٩١].
ومنها: ذكر الموت و قصر الأمل، قال صلى اللّه عليه و آله و سلم: «أكثروا من ذكر هاذم اللذات» و قال اللّه تعالى: قُلْ إِنَّ اَلْمَوْتَ اَلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاٰقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلىٰ عٰالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهٰادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) [الجمعة:٨].
ومنها: محاسبتها و مجاهدتها، قال اللّه تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّٰاهٰا (٩) وَ قَدْ خٰابَ مَنْ دَسّٰاهٰا (١٠) [الشّمس:٩،١٠]و قال صلى اللّه عليه و آله و سلم: «الكيّس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت».
و أما الشيطان فإنه أقسم أنه سيعمل على إغواء الإنسان، قال اللّه تعالى: قٰالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاّٰ عِبٰادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ (83) [ص: الآيتان ٨٢،٨٣]، فعلى الإنسان أن يكون متيقظا حذرا من الشيطان و وساوسه، لأنه عدوه الدائم. قال اللّه تعالى: إِنَّ اَلشَّيْطٰانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6]. و من الوسائل التي يتسلح بها المسلم في محاربته للشيطان: دوام الذكر، و المراقبة للّه تعالى، فذلك يحميه من اتباع خطوات الشيطان، قال اللّه تعالى: وَ لاٰ تَتَّبِعُوا خُطُوٰاتِ اَلشَّيْطٰانِ [البقرة:168]، ومنها: عرض وساوسه على كتاب اللّه تعالى و سنّة نبيه صلى اللّه عليه و آله و سلم، فلا يقدم على أي عمل من الأعمال حتى يعلم حكم اللّه تعالى فيه، فإذا فعل ذلك نجا من وساوس الشيطان.
و أما الدنيا فإنها بزخارفها و حلاوتها و نضرتها تدعو الإنسان إلى الانغماس فيها و نسيان طريق الآخرة، قال اللّه تعالى: زُيِّنَ لِلنّٰاسِ حُبُّ اَلشَّهَوٰاتِ مِنَ اَلنِّسٰاءِ وَ اَلْبَنِينَ وَ اَلْقَنٰاطِيرِ اَلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ اَلذَّهَبِ وَ اَلْفِضَّةِ وَ اَلْخَيْلِ اَلْمُسَوَّمَةِ وَ اَلْأَنْعٰامِ وَ اَلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتٰاعُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ اَللّٰهُ عِنْدَهُ حُسْنُ اَلْمَآبِ (14) [آل عمران:14]. و قال النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم: «إن الدنيا حلوة خضرة و إنّ اللّه مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون» ٣ و إن أفضل علاج يشفي من التعلق بالدنيا و زخارفها هو الزهد فيها، و الإكثار من ذكر الموت، و التفكر في قوله تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا (16) وَ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقىٰ(17) [الأعلى: 16-17] و روي عن سيدنا عيسى عليه السلام أنه قال:
«حب الدنيا رأس كل خطيئة» .
و أما الناس الذين يصدّون عن الآخرة فقد أمرنا اللّه تعالى أن نستعيذ من وساوسهم، قال اللّه تعالى في سورة الناس: اَلْجِنَّةِ وَ اَلنّٰاسِ [هود:١١٩]. و قال اللّه تعالى: وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ يُشْهِدُ اَللّٰهَ عَلىٰ مٰا فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ اَلْخِصٰامِ (204) [البقرة:204] وَ إِذٰا تَوَلّٰى سَعىٰ فِي اَلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهٰا [البقرة: ٢٠۵]. و قال اللّه تعالى: وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ [الأنعام:116].
و حماية النفس من الناس سهل، فما عليك أيها الإنسان إلا أن تطبق ما ورد في قوله تعالى: وَ اِصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدٰاةِ وَ اَلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لاٰ تَعْدُ عَيْنٰاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ لاٰ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنٰا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنٰا وَ اِتَّبَعَ هَوٰاهُ وَ كٰانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) [الكهف:٢٨]، و لا تصاحب إلا الأتقياء الذين يخافون اللّه تعالى و يرجون ثوابه و رضاه و يحبون لقاءه.
فعليك أخي المسلم أن تتجنب هذه القواطع الأربعة سالفة الذكر، التي تصدك عن سبيل اللّه تعالى، و هي: النفس و الشيطان و الدنيا و الخلق.
____________________________
*نقلًا عن موقع الطريقة الشاذلية الدرقاوية العاصمية.