المحظرة الشنقيطية في دفاتر المستشرقين
د. بوها ولد محمد عبد الله
تقديم
يعالج هذا المقال العلمي إشكاليةً قل البحث فيها، نظرا لانصراف الأقدمين وأغلب المعاصرين عنها مع ضرورتها، وظهور الحاجة لطرقها بالبحث وتجليتها لعموم المهتمين والباحثين والقراء، إنه يسعى لدرس الاستشراق في البلاد الشنقيطية وبالتحديد درسِ تعاطي المستشرقين مع إحدى أبرز المؤسسات الدينية في هذه البلاد، ألا وهي المحظرة.
وقد دخلت بلاد شنقيط في الاهتمام الاستشراقي بما هي جزءُ من منظومة حضارية كبرى كانت عبر القرون محط اهتمام ومحل أطماع الإنسان الغربي، والندُ الحقيقي الذي يملأ على الغربي آفاق الاهتمام طيلة قرون سلفت، لذا بدأت فرنسا في إرسال العلماء والمستكشفين إلى بلاد شنقيط بغية اكتشاف شعبها ومعرفة موارده، حيث تعرض هؤلاء المستشرقون إلى دراسة تاريخ البلاد منذ البدايات الأولى لدخول الإسلام مرورا بأطوار تشكل دولة المرابطين والهجرات العربية إلى الصحراء، ثم الأدوار التي اضطلعت بها المحظرة الشنقيطية في الحفاظ على هوية البلاد وتحصين المجتمع ضد أي وافد فكري لاينطلق من المعتقدات الإسلامية، كما تطرق المستشرقون للأدوار التي لعبتها المحْظرة في غرب إفريقيا من نشر للإسلام حيث تفطن المستشرق الفرنسي (مولين Mollien ) وهو في طريقه لرصد مناطق حوض النهر إلى هؤلاء الدعاة الذين ساهموا في نشر الدعوة الإسلامية في هذه المناطق حتى أصبحت أعداد المسلمين في تزايد لفت انتباهه وشغل باله وهو يتلقى أخبار البعثة التبشيرية التي وصلت لتوها مضيق رأس الرجاء الصالح، ويجزم وهو مستاء من الأمر أن الدعاة الشناقطة سيصلون إلى وسط إفريقيا قبل أن تصلها البعثة التبشيرية.
أولا: تسمية المحظرة:
قدمت للمحظرة عدة تعاريف منها:أنها ظاهرة شنقيطية مبتكرة لنشر الإسلام و المحافظة على إقامة الدين في بلادهم. وأنها تحمل بعض سمات المؤسسات العربية والإسلامية التي نشأت في مدن الثغور وحواضر الخلافة الثقافية. ولكنها تمتاز بخصائصها المستنبطة من واقع الحياة البدوية([2]). وإلى جانب دورها التعليمي التربوي الرائد، اضطلعت المحْظرة بأدوار اجتماعية كثيرة، فإمام المحْظرة له دور محوري في حياة أهل الصحراء، يلجئون إليه في توثيق العقود وفي حل النزاعات أي أنه سلطة قضائية في العرف الاجتماعي الشنقيطي.
المحْضرة أو المحْظرة، تنطق في العامية الشنقيطية بالظاء المعجمة، وقد كان الشناقطة أهل بدو يحتظرون فيحيطون منازلهم ومرابض أغنامهم، ومراح أبقارهم ومعاطن إبلهم، بأسيجة من أغصان وجذوع الشجر، وكان الطلبة يتوافدون من كل حدب وصوب إلى الشيخ فيحضرون مجلسه وينهلون من علمه. وهكذا يرى الأديب أحمد بن أحميد أن الاشتقاق للغوي للكلمة لا يستبعد ان يكون اسمها من الحظيرة وما يحرز به على المال، وفي المقابل يرى العلامة محمد سالم بن عبد الودود أنها من الحضور([3])، مستشهدا بقول لبيد:
أقـوى وأقفـر واسط فيرام من أهلـه فصوائف فحزام
فالواديان وكل مغنى منهم وعلى المياه محـاضر وخيـام
وخلاصة القول أنها شكل تربوي جديد ابتكره الإنسان الشنقيطي كصمام أمان للهوية الدينية الثقافية الحضارية، وصرحا لتكوين الأجيال المتعاقبة في ظروف استثنائية.
ثانيا- فئات مستشرقي شنقيط :
تقلصت العلاقات بين الشرق الإسلامي وأوروبا بعد انتهاء الحروب الصليبية التي تركت الأثر المرير في نفوس المسلمين وانحصرت الصلات بين الطرفين على الأمور التجارية خاصة خلال القرنين الثالث عشر والخامس عشر، ثم أدى التوسع العثماني في البلقان إلى تكوين الأحلاف المسيحية لوقف هذا التوسع، كذلك استمرت الحملات الصليبية على شمال إفريقيا خاصة بعد ضياع الأندلس من المسلمين([4]).
وقد جاءت الرحلات الفرنسية إلى البلدان الإفريقية، وكان الفضل لكتاب المدرسة الكلاسيكية في تطويرها لأغراض كثيرة منها ما هو علمي ومنها ما هو لأغراض أخرى جسدتها خصوصيات كل رحلة.
“وما كان يبحث عنه الرحالة منذ القرن السابع عشر … »يضاف إليه « الرحلات التبشيرية والإرساليات الدينية…كما كانت هناك الحكايات والقصص التي انبنت على ديكور الشرق وعاداته وسلوكه…كما كانت هناك على المستوى الدولي المتطلبات التجارية في فترة صعود المد الرأسمالي والكولونيالي الغربي”([5]).
أما في القرن الثامن عشر، فقد عرفت الرحلة الفرنسية تحولا جذريا مع تنامي التيار الرومانطيقي حيث أصبحت تابعة لنوازع فردية لدى كتابها تحث على اكتشاف الماضي المتجسد في حضارة الشرق والدعوة إلى الاغتراب و من دعاة هذا الاتجاه الذي اجتاح أوروبا في القرن 81، الروائي الإنكليزي دايال ديفو الذي كتب روايته الشهيرة “روبنسون كروزر” ([6]) التي تحث أحداثها الشباب على ركوب أمواج المغامرة واتخاذها سبيلاً لاكتشاف الذات.([7]) أما في فرنسا فقد دشن متنورو القرن الثامن عشر حب التطلع لمعارف الشرق بدءا من مونتسكيو حتى فولتير، “واستمدت هذه الفلسفة التواقة إلى كل ما يمت بصلة للمعارف الأنتروبولوجية و الإتنوغرافية والطبيعية من خلال هذه الرحلات نظرياتها حول التعصب الديني ونظريات الاستبداد السياسي..”([8]).
وهكذا نجحت البرجوازية الأوروبية في التوفيق بين الرأسمالية والمعرفة المتجسدة في علماء وفلاسفة عصر التنوير. هذا التوفيق الذي سيقضى على بقايا النظام الإقطاعي القديم وأعطى دفعا للظاهرة الاستعمارية التي كانت محصلتها غزو الرأسمالية الأوروبية لمناطق شاسعة من العالم.
ومع مطلع القرن التاسع عشر بدأت الجمعيات الجغرافية([9]) بالظهور والتي كانت وراء العديد من الرحلات إلى مختلف بلدان العالم ومن بينها البلاد الموريتانية، وقد تأسست هذه الجمعيات من طرف علماء وباحثين في مسعى لدعم الإكتشافات الجغرافية في مناطق مختلفة من العالم ومن ضمنها المناطق الإفريقية.
وقد عملت هذه الجمعيات على دعم المستكشفين والرحالة من خلال التكوين والتأطير العلمي وكذلك التكفل بالجوانب المالية، لما تتطلبه الرحلة من مبالغ مالية ضخمة. كما شكل ظهور هذه الجمعيات وما توفره من مادة سوسيو- ثقافية مهمة عن هذه المجتمعات حافزا لمؤسسات النشر، حيث عرف الربع الأول من القرن التاسع عشر ظهور مجلات متخصصة توظف ما تجود به الرحلات الاستكشافية من مادة غزيرة ومتنوعة، ومن أبرز هذه المجلات مجلة الجمعية الباريسية التي عرفت النور في 1821 و المجلة الاستعمارية 1841 وغيرها من المجلات والحوليات التي تخصصت في هذا الصدد.
“وفي بداية القرن التاسع عشر الميلادي كانت بعض دول أوروبا ذات الأهداف الاستعمارية قد شرعت في احتلال بلدان من الوطن الإسلامي وممارسة مختلف أشكال القهر المادي والفكري وقد مهدت لهذا الاحتلال وعاصرته رحلات كثيرة لا تحصى لنخبة من المثقفين الفرنسيين وطرق تفكيرهم والعودة إلى ماضيهم و سعوا إلى إحياء القوميات التاريخية القديمة في البلدان الإسلامية لهدف زعزعة النفوس وبث الشك فيها والتفريق بينها وبسط نفوذهم الفكري والسياسي والعسكري على تلك البلدان”([10]).
وقد دعت الأهداف الاستشراقية الوافد الأوروبي إلى معرفة شعوب الغرب الإفريقي بالقدر الذي يحقق هذه الأهداف٬ وكانت الصورة المسبقة في أذهان المستشرقين عن البلاد الموريتانية هي صورة الشرق المسلم، وبعد دخولهم للبلاد تعددت الصور التي قدموها عن هذا المجتمع وإن كان الجانب السلبي يطغى على أغلبها.
وقد وصل المستشرقون إلى بلاد شنقيط أفواجاً وجماعات، حيث كتبوا عنها، كل من زاويته وخلفيته التي حملته إلى هذه البلاد، ومن بين هؤلاء الأكاديمي الذي حركه الدافع العلمي وآخرون تحركهم الإيديولوجيا والصراع الحضاري، كما ينضاف إليهم العسكري الذي جاء في مهمة استخباراتية ذات طابع استشراقي-استعماري وكل هؤلاء تندرج نصوصهم التي كتبوها عن هذه البلاد في خدمة الدوافع الاستشراقية.
ثالثا: المستشرقون والمحظرة:
تباينت آراء المستشرقين حول مؤسسة المحْظرة، فبينما رآها البعض بعين الإعجاب، وانبهر بما تقدمه من معارف جمة، في فضاء شبه معزول عن المدن والقرى، وما أعطي أهلها من حماس وحب لطلب العلم، رغم قسوة الطبيعة الصحراوية. أما البعض الأخر فنظر إلى المحْظرة بعين الازدراء واعتبر أن كل المعارف التي تقدمها، لاتعدو كونها محفوظات تلقن للصبيان حتى يلقنوها للأجيال اللاحقة، دون أن تكون هناك قيمة مضافة تنعكس على حياة الناس، ورأوا في طريقة التدريس المحظري مشقة وخطورة على ذاكرة الأطفال([11]). وهناك من أصحاب هذا الاتجاه، من بالغ حتى اعتبر المحْظرة عديمة الفائدة، ولا تحمل فكرا وخالية من معاني العقيدة الإسلامية، وبعبارة أدق تفتقد إلى الرسالية ولا تحمل مشروعا، حسب ما رأى أصحاب هذا الاتجاه الأخير.
فـأما أصحاب الاتجاه الأول فقد أدركوا الدور الكبير الذي تلعبه المحْظرة في المجتمع الشنقيطي، يبدأ من تربية النشء وتقويم المجتمع على مبادئ الدين الإسلامي الحنيف، حيث يحفظون الصغار القرآن الكريم، في سن مبكر، ويتدرجون بين المتون الأخرى )الفقه واللغة…الخ(.
أ ـ مراحل الدراسة في المحظرة:
وقد تابع المستشرقون باستغراب الأعداد الكبيرة للطلاب التي تأتي من كل حدب وصوب في ظروف قاسية، يقطع الطلاب فيها المسافات الطوال، وزاد حيرتهم هذا الحماس الشديد والمجهود المضاعف المبذول من طرف الطلاب في سبيل تحصيل العلم، تحت خيمة لا تقيهم برد الشتاء ولا تكف عنهم حرارة الصيف. وأيضا شيخ المحْظرة الذي يسخر وقته ويبذل كل الجهد لتعليم وتكوين علماء أفذاذ.
وقد قادتهم هذه المتابعة إلى ملاحظة النتائج التي حققتها المحْظرة الشنقيطية خارج الفضاء الشنقيطي في المشرق والمغرب وفي غرب إفريقيا من خلال سفراء المحْظرة الذين ذاع صيتهم في كل هذه الأقطار، حتى حاربت جهودهم المباركة الدعوة النصرانية في غرب إفريقيا، حيث سجل المبشرون ـ في الغرب الإفريقي ـ انزعاجهم من جهود الدعاة الموريتانيين. هذا الانزعاج سيكون ـ لاحقا ـ سببا من الأسباب التي تدفع بالمستشرقين إلى دراسة مؤسسة المحْظرة و فهم حيثيات هذه العملية التربوية ومعرفة نظامها وأعرافها عن قرب.
وقد تتبع (أتين ريشى Etienne Richet) بدايات دخول الطالب للمحظرة والظروف العامة فيها: يقول: إن الطالب منذ دخوله للمحظرة وحتى يحفظ الجزء أو الجزئيين لا يدفع أي مقابل مادي، وإذا حفظ الجزئين، يقدم هدية لشيخه، تقدر ثلاث مائة أفرانك، وفي نهاية دراسته يختبره الشيخ وإذا نجح في الاختبار يكتب له إجازة من عنده مع سند([12]).
ويضيف (پول بينلفى Paul Painlevé) أن الدراسة في المحْظرة، هي ميزة مشرفة يفتخر بها الشبان ويعيرون قرناءهم الذين لم يكن لهم الحظ في ولوجها ، فيذكر تدافع الطلاب للتسجيل في المحْظرة ويتنقلون مع شيخهم أينما حل وأرتحل. كما “عبر بول بين لفى” عن تقديره المكانة التي يحظى بها الشيخ في هذا المجتمع قائلا: فطلاب المحْظرة يفدون من كل حدب وصوب إلى خيمة معلم المحْظرة، ويحظى هذا الشيخ بتقدير الأهالي والطلاب ويبقى فضله قائما على الطلاب حتى بعد انتهاء الدراسة، يتجسد ذاك في هدايا تقدم له، عرفانا له بالجميل([13]).
كما لم يغب عن المستشرقين أن التأثير في هذا المجتمع قد لا يأتي بسهولة، لكن المبدأ الذي عملوا على أساسه هو: “أنه كلما تقدمنا شوطا في معرفة هذه المؤسسة، كلما قلصنا المسافة بيننا وبين المجتمع من جهة، و اقتربنا شوطا من مكان التأثير من جهة أخرى” ، يقول المستشرق (پول مارتيPaul Marty ) مستشار الإدارة الفرنسية للشؤون الإسلامية لمنطقة إفريقيا الغربية، أن المحْظرة هي المؤسسة المسؤولة عن تصدير القضاة والأئمة والفقهاء، وتسند لفئة للزوايا أهل العلم، وبالتالي يجب على الإدارة الاستعمارية أن تحيطها بعنايتها.([14]).
ب ـ الأدوار التي اضطلعت بها المحظرة:
ويضيف مارتي واصفا معلمي المحْظرة، وهو الخبير في المجال، و المدرك لخطورة مشروع المحْظرة على المخطط الإستعماري في المنطقة قائلا: أساتذة المحاظِر هم علماء وأساتذة جامعيون يقدمون دروسهم تحت الخيام من أمثلة هؤلاء العلامة محمد بن محمد سالم المجلسي([15]) وقد تطرق (پول مارتي) لمكانة هذا الرجل وعلمه وعدد من مؤلفاته الريان في تفسير القرآن([16]).
كما حاربت المحْظرة التنصير في غرب إفريقيا، بدأ من الجوار السنغال، فقد لاحظ بول مارتي الدور الذي تقوم به المحْظرة الموريتانية في الضفة السنغالية خلال القرن القرن 19م، وما لقيته من إقبال كبير لفت انتباه المبشرين .([17]) في وقت كان المنصرون المسيحيون قد استقروا في نفس الضفة ([18]).
ينضاف إلى ذلك شهادة أخرى من الرحالة موليين Mollien، تطلعنا على المناطق التي وصلتها المحْظرة وحاربت فيها التنصير. فقد كان التجار الشناقطة يتنقلون بمحاظرهم حيثما حلوا وارتحلوا دون أن تمنعهم المهن التي يمارسونها، فنشروا الإسلام في أصقاع لم تكن لتصلها في تلك الفترة، وأنقذوها من خطر التبشير المحدق، ، فنافسوا المبشرين المسيحيين في غرب إفريقيا ، فهاهو الرحالة الفرنسي موليين، متضايق من هذه المسألة فيقول بأن المبشرين المسيحين في رأس الرجاء الصالح لن يصلوا إلى مناطق وسط إفريقيا إلا بعد أن يكون الإسلام قد تمكن بفعل دعوة العلماء الشناقطة([19]).
ج ـ تتبع نشاط المحظرة في غرب إفريقيا:
خرج الشيخ محمد هادي([20]) من المناطق الشرقية للبلاد الموريتانية متوجها إلى غينيا حيث حل بقرية سانديا وظل بها يدعو للإسلام حتى أعتقل من الجهات الاستعمارية في 1912([21]). كما رحلت السلطات الفرنسية الشريف سيدي محمد حيدرة([22]) من بلاد ديولا الوثنيين لكونه جاء لنشر الإسلام بها.([23]) كما وجه (بول مارتي) اللوم للإداريين الفرنسيين على تجاهل نشاط الشيخ محفوظ([24]) الدعوي في بلاد ديولا الوثنية وقد كانت لهذا الشيخ علاقة طيبة بزعماء هذه البلاد ([25]).
بينما ذهب البعض الآخر إلى التقليل من الدور الذي تلعبه المحْظرة، ومن هؤلاء (فرانسيس دو شاسى Francis de chassey)، إذ يقول: “إن التعليم القرآني بوصفه تعليم شعائر وألفاظ، لا معنى لهما بالنسبة للأطفال، وبوصفه تمرين حفظ لا يرقى إلى مستوى تمرين للفكر، فكيف به والحال هذه أن يصل إلى أفكار الأطفال؟ قد ينوم في أحسن الأحوال نشاطه الناشئ ويجعله ينحرف عن المجهود الفكري في المقابل ، تلك هي نهاية الحرية الجميلة التي تمتلكها، هذه المدرسة المفتوحة في العراء وبداية سطوة نظام متعجرف بقدر ما هو قاس يوشك أن يفقد فيه الطفل عفويته وتوازنه”([26]).
وناقض (فرانسيس دو شاسى Francis de chassey) زميله (أتين ريشى Etienne Richet) ( E. Richet) ، الذي أشاد بعلم أهل الصحراء و النشاط الحماسي الذي يمتلك طلاب هذه الجامعة، متناسيا حالتهم الصعبة وقسوة المناخ التي لم تمنعهم من تحصيل العلم في براري الصحراء.([27]) كما قال بذلك مارتي، عندما تحدث عن موسوعية علماء شنقيط، والفترات الطويلة التي يمضونها في تحصيل العلم. من جانب آخر يطلعنا على رقم مهم لعدد الطلاب في إحدى المحاظِر، حيث يقول بأسلوب المتعجب، تضم إحدى المحاظِر 38 طالبا، وهو ما يعني اهتمام الأهالي بهذه المؤسسة والتعامل معها، قصد إنجاح مشروعها([28]).
ويضيف إن هذا التعليم لا يرقى إلى أن يعلم عقيدة أو فكرا، ولا أن ينور لرواده الطريق بل على العكس من ذلك فهو خطر على الأطفال وقد يتسبب في إفساد عقولهم : “لا يمارس المعلم أي تأثير أخلاقي إنما يكتفي بشحن الذاكرة، ولا يولي أي اهتمام لتعليمهم العقيدة الإسلامية التي يجهلها جهلا عميقا. إنه تاجر لغة عربية وكأي تاجر فإنه من النادر أن تجد لديه أفكارا سياسية دقيقة على الأقل أفكارا معبرا عنها بشكل صريح”([29]).
لن يتوقف هذا التنقيص والتقليل من شأن المحْظرة عند هذا الحد بل تحول إلى موقف حازم للحد من عملها والأدوار التي تلعبها، وهو اعتراف ضمني بالدور الكبير الذي تلعبه المحْظرة في الحفاظ على الهوية الإسلامية في المنطقة حيث وضعت الإدارة الفرنسية عدة خطط لهذا الأمر، بناء على ما وصل إليه الحاكم العام للمنطقة، من تقارير تفيد بخطورة النشاط التربوي الذي تلعبه المحْظرة، على المشروع الفرنسي في غرب إفريقيا. فحاول الحاكم العام إنشاء مدرسة لمعلمي القرآن يتلقون تعويضات مالية ويكونون تحت تأثير من فرنسا، ومن أجل محاربة المحاظِر التي تنشأ في كل مكان خارج رقابة وتوجيه الإدارة، ويطلعنا دي شاسه على هذه الإرهاصات قائلا: “… طلب )الحاكم العام( من مدير التعليم في تونس أن يكتب له ما يجري به العمل هناك ومن السيد (دو فلكور.De Felcourt) ، في القنصلية في القاهرة طالبا معرفة سياسة الإنجليز . في هذه المسألة. كما بعث الحاكم المساعد (كلوزل Clozel)، إلى الجزائر سنة 1906، وقد عاد إليه بتقرير عن المدارس والتعليم الفرنسي ـ الإسلامي في هذه المستعمرة”([30]).
ولا يقل خطر المبشرين الذين أبدو إعجابهم بالمحْظرة، عن غيرهم ممن نعتوها بأوصاف سلبية، ومن خلال تقارير هؤلاء المستشرقين جميعا، خرجت الإدارة الاستعمارية بمجموعة من المقترحات كان أولها محاولة الاحتواء، فأعطت عناية خاصة للمحاظر فشكلت برامج لذلك، إذ أصبحت تمنح رخصا، لمن تأمنه على مشروعها، هذه الرخص، قابلة للسحب إذا لم يستوف الشروط المفروضة على المحْظرة ويلزم الطفل كي يسمح له بالذهاب إلى المحْظرة لإمضاء ساعتين يوميا في المدرسة الفرنسية، أو بالحصول على شهادة مدرسية قبل دخول المحْظرة القرآنية أو دعم من معلم المحْظرة يخصص ساعتين يوميا لتدريس الفرنسية،يقول دي شاسه أن الهدف من ذلك هو إدماج الأطفال وإطلاع السكان المحليين على لغتنا مع احترام معتقداتهم.([31])
من جهة أخرى جاء التسويق للثقافة الفرنسية عن طريق فرض المدرسة الفرنسية على طلاب المحاظِر، ومع ذلك ظل الإقبال عليها بين ضعيف وشبه ضعيف، وهو ما يظهر من خلال تقرير للضابط :J.Rosso، حيث يقول: إن إقبال أبناء البيظاَن ظل معدوما في السنوات الأولى، وإقبال أبناء الزنوج موجود لكنه ضعيف، لم يتجاوز خلال عامي 1905 و1906، الأربعة والعشرين طالبا، بعد ان كانوا سبعة طلاب، رغم توفير منح دراسية لكل من يلتحق بهذه المدرسة… “([32])
وهو ما يجعل البرامج التربوية الفرنسية عاجزة عن تحقيق ما كان يتوخى منها، خاصة أن أغلب الطلاب لا يدخل المدرسة إلا بعد أن يقطع أشواطا في التعليم المحظري أو يزاوج بينهما، وهو ما انصاعت له الإدارة الفرنسية، عندما علمت أن المحْظرة مقدسة عند هذا المجتمع ويرى دي شاسه أن هذا الفشل مرده قلة الحكمة، والأولى أن تفرض التعاليم الدينية المسيحية بشكل علني مع الثقافة الفرنسية، وإلغائه مادام لا يحقق ما تصبوا إليه، الإدارة فيقول: “مبدأ المدرسة ) أي المدرسة الفرنسية(، ممتاز ولكن تطبيقه ينبغي أن يكون حكيما، في هذه الحال يكون العمل بالتميز اللاهوتي أو لا يكون أبدا”([33]).
وشكلت الإدارة الاستعمارية من بين المستشرقين لجان لإحصاء المحاظِر في البلاد الموريتانية، تقوم بجمع معلومات عامة عن الشيخ )المنطقة التي ينحدر منها، والمشايخ الذين أخذ عنهم والطريقة التي يتبعها، وموقفه من الإدارة الفرنسية(، وكذلك عن المحْظرة )عدد طلابها والكتب التي تدرس فيها….(، ومن أمثلة ذلك الوثيقة التي قدمها:” كوستاف اودان Gustave Audan” ، عن المحاظِر في كيدي ماغة، حيث كان مفوضا في إفريقيا الغربية الفرنسية (A .O.F)، أحصى خلالها: مائة و ستا و ستين إماما ومعلما، وقــدم تفاصيل موسعــة عن كل شيخ محظرة على حدة([34]).
وخلاصة القول إن المستشرقين وقفوا على التعليم المحظري من جميع جوانبه، سواء تعلق الأمر بالمناهج التربوية المتبعة والكتب المقررة في التدريس، أو من حيث المكانة التي تحظى بها في هذا المجتمع ، والدور الذي لعبه علماء المحْظرة في تحصين المجتمع الشنقيطي و نشر الإسلام في غرب إفريقيا، ومحاربتهم للتنصير كذلك، فكانت مصدر قلق لهم ، فجاء الدافع التعرف عليها عن قرب قصد كبح عطائها وطمس إشعاعها العلمي والثقافي.
(*)أستاذ بالمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية- موريتانيا.
* هوامش البحث *
[1] : مؤسسة تعليمية تقليدية وقد عرفناها في بحثنا للدكتوراه بعنوان التأثير الإستشراقي على الهوية الشنقيطية، بالقول:” فالمحْظرة إذن شكل تربوي جديد ابتكره الإنسان الشنقيطي كصمام أمان للهوية الدينية الثقافية الحضارية، وصرحا لتكوين الأجيال المتعاقبة في ظروف استثنائية”. رسالة دكتوراه ، نوقشت في جامعة سيدي محمد بن عبدالله –فاس بالمغرب. [2] : حسن الحضارة مجلوب بتطرية وفي البداوة حسن غير مجلوب [3] : بلاد شنقيط المنارة والرباط سابق، ص:61 [4] : مصر من خلال كتابات الرحالة الفرنسيين، إلهام محمد علي ذهنى، الهيئة المصرية العامة، القاهرة:2005. ص:49. [5] : تائهون في صحراء الإسلام صورة الصحراء العربية في كتابة الرحالة والمستشرقـين الفرنسيين منى عبد الكريم محمود. ص 8. الطبعة 1،.الأهالي للطباعة والنشر. سورية دمشق 2003. [6] : : روبنسون كروزو هي قصه كتبها دانيال ديفو، نشرت للمرة الأولى سنة 1719. تعتبر أحيانا الرواية الأولى في أنكلترا، تدعوا أحداثها للمغامرة والانعزال، وتظهر مدى التطور الذي وصلت له اوربا. [7] : أدب الرحلة حسين محمد فهيم ص:151. عالم المعرفة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت 1989. [8] : تائهون في صحراء الإسلام. سابق: ص:9. [9] : Dominique Lejeune, Les societés de géographie en France et l’expansion coloniale au XIXème siècle, Paris, Albin Michel, 1993, 236 [10] : البدو بعيون غربية عمار السنجري المركز الثقافي العربي الدار البيضاء ط1. 2008 ص 7. [11] : يتحدث المستشرق إدموندو دي أميتشس عن الكتاب القرآني المغربي وتتقارب الأوصاف مع اختلاف بسيط في أعداد الطلاب التي هي بالعشرات في المحْظرة: “…الكتاب القرآني الذي يتكون من حوالي ستة أطفال تحت رقابة المعلم الذي يحمل العصا وعلى أهبة معاقبة أي شرود من جانب تلاميذه…والذين يتناوبون على لوحة واحدة للقراءة..”الرحلة في صورةالآخر قراءة في نصوص الرحالة الأوربيين تأليف مشترك إشراف:كريم بجيت، مقال: الإيديولوجيا الاستشراقية في رحلة إدموندو دي أميتشس حول المغرب خالد شاوش، ص:131، 2013
[12] :Etienne Richet ,La Mauritanie ;p :119 [13] :Etienne Richet, (professeur, au collège des seinces sociales, membre du conseil supérieur des colonies), La Mauritanie , préfaces :Paul Painlevé (membre de l’institut ancien président du conseil) paris, 1920. [14] : Paul Marty .Les tribus de la Haute MAURITANIE,p:85, comité de l’Afrique française Paris 1915 . [15] :محمد بن محمد سالم بن محمد سعيد بن محمد بن عمر بن أبي السيد بن أبي بكر بن علي بن يمغدش بن وديعة الله بن عبد الله بن أحمد بن يفت بن يذر بن إبراهيم الأموي.[16] : Les tribus de la Haute MAURITANIE,p:56, Paul Marty, comité de l’Afrique française Paris 1915 [17] :Paul marty, L’émirat des Trarza p271: [18] : Paul marty, L’émirat des Trarza p :286: [19] :Mollien, Voyage dans l’intérieur de l’afrique
نقلا عن مجتمع البيظاَن في القرن التاسع عشر قراءة في الرحلات الإستكشافية الفرنسية، سابق، ص:300,
[20] : أحد الدعاة الشناقطة الذين اشتهروا في الغرب الإفريقي. [21] : الوثائق الوطنية ملف E2/44. النحوي ص: 343 [22] : تلقي تعاليم الدين الإسلامي على يد الدعاة الشناقطة. [23] : النحوي 343. [24] : أحد الدعاة الشناقطة الذين اشتهروا في الغرب الإفريقي تحدث عنه بول مارتي في روايته لأخبار الدعاة الشناقطة. [25] : paul marty. L’islam au sénégal p :46/ T1 [26] : (فرانسيس دو شاسى Francis de chassey)، موريتاينا من سنة 1900 إلى 1975، ص: 126. ترجمة محمد ولد بوعليبة دارجسور للنشر. [27] :La mauritanie, Etienne Richet . P : 119 Paris 1920. [28] : Etudes sur l’islam au sénégal P :18 [29] : (فرانسيس دو شاسه Francis de chassey)، موريتاينا من سنة 1900 إلى 1975، ص:127. ترجمة محمد ولد بوعليبة دارجسور للنشر.