الدراسات والبحوث

التجربة العرفانيَّة بين الإلهام والإيجاد

التجربة العرفانيَّة بين الإلهام والإيجاد

رحموني عبدالكريم

يعتبر التصوف ركيزة أساسية ودعامة قوية من  دعائم الفكر الإسلامي، مثل الفقه و أصوله، والحديث وعلومه ، فالعارفون بالله هم القائمون بسلامة سرائرهم على فهم السنة، العاكفون عليها بقلوبهم؛ والعكوف يعني« الدخول في كل خلق سُنِّي والخروج من كل خلق دنئ» ، مادامت السنة العطرة لرسولنا الكريم عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم، منبع لا ينضب، ونهر ماء غير آسن من طعمه زكت نفسه واستقامت أخلاقه، ومن غرف غرفة من النهر برئ من الوجع والسقم،  فالدخول في مشيئة الخلق السني، وولوج النهر، الصاف، العذاب، المستساغ الشرب لمن أراد أن يَطعَمهُ أو على الأقل يغَترَف العارف غرفَة، توصله إلى الحقيقة، فهي عبارة عن تجربة في العالم يخوضها الصوفي انطلاقا من النص القرآني، ومشكاة النبوة  فإما أن يتكشف له عن طريق الإلهام، أو يكتشف هو بنفسه عن طريق الإيجاد،  وهذا لا يتأتى إلا بقدرة الصوفي على “الخيال” لدى يقول محي الدين بن عربي:« لا ترد الصورة إلا إذا وجدت مخيلة» منبثقة من الصفاء الذي يتهيأ لقلب الصوفي، مبني على  الإلهام والإيجاد النابعين من التجربة في حد ذاتها التي عايشها العارف، الفَارُ إلى الحق سبحانه، المرتمي في أحضانه، المتذوق لحلاوة الإيمان، فهل هذه التجربة التي مارسها الصوفي واحدة؟ أم هناك تعدد في التجارب الصوفية؟

قبل الإجابة عن السؤالين  نضبط المفاهيم الآتية: ( التصوف، التجربة العرفانية )

أولاً التصوف: أورد الإمام القشيري في رسالته القشيرية أنه لقب فيقول: « هذه التسمية غلبت على هذه الطائفة فيقال: رجل صوفي، وللجماعة: صوفية، ومن يتوصل إلى ذلك يقال له: متصوف، وللجماعة: متصوفة، وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق، والأظهر فيه أنه كاللقب. »[1]

في حين قدم الطوسي تعريفاً أخراً له في مؤلفه اللمع: « مشتق من الصُّوف؛ لأن لبس الصوف كان دأب الأنبياء- عليهم السلام – والصديقين، وشعار المساكين المتنسكين، لأنهم في الغالب مختصون بلبسه لما عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف.»[2]

حال الجيل الذهبي في عصر نبينا المصطفى عليه السلام، صحابتنا الكرام،  ملكوا كنوز الدنيا ونقود الأمة وخالفوا الناس في لبس فاخر الثياب، امتثالا لقول الرحمن عزم القائل: « وَمَا الحَياةُ الدُّنيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهوٌ »[3]

ثانياً التجربة العرفانية: ما أفاده السالك في الطريق المستقيم بالمجاهدة والعِبَر وبالأدب والنظر، وتجرد القلب لله تعالي، واستحقار ما سوى الله.

مستويات التجربة الصوفية: ( شقيق البلخي من الإلهام إلى الإيجاد).

بادئ ذي بدء نتكلم على مرحلة شقيق البلخي، حيث يمثل العهد الأول من نشأة اللغة الصوفية، فهي مرحلة كبداية أولى إذ لم يكن في متناول يد الصوفي إلا النص القرآني من أجل أن يعبر من خلال لغته عن تجربته الصوفية، والسنة النبوية لكي يبرز هذه التجربة، فالخطاب القرآني يعتبر حافزا ومساعدا على تشكيل التجربة الصوفية، والسنة الشريفة ملهمة لها، لهذا نجدها وليدة التفكير في القرآن والانخراط في مشيئة الخلق السني. فالتجربة هنا لا وجود لها إلا بقدر ما يساعدها القرآن على الوجود والانبثاق ويدفعها نهر المصطفى المستساغ إلى الإنِعِتَاق وهنا يتم الإلهام ، وانطلاقا من كتابه”آداب العبادات” نجد البلخي بتجربته مندمجاً في النص القرآني، حتى طهرت نفسه وصقل قلبه، فتجلت له الحقيقة التي كان ينشدها ويتلهف شوقاً إليها، « وهذه حالة يتحققها بالذوق من سلك سبيلها.»[4]

فإذا تفكر البلخي وتدبر وانخرط واعتبر وأصغى لما يدله عليه قلبه، حصل  الإلهام الذي جعله الله في جِبِلَّةِ شقيق ليحدد لنا المنازل التي يعمل فيها أهل الصدق: الزهد، الخوف، الشوق إلى الجنة، المحبة لله.

لا غرابة أن هذه المنازل هي الجوهر الشريف في التجربة العرفانية المتعلقة بالبلخي، المتمسك بالفقر والافتقار، فمنزلة الزهد توحي بتصفية القلب وعدم تعلقه بحطام الدنيا الفانية، وخوف فيه إخلاص العبودية لله تعالى، ومحو القلب في الطاعة وذكر الله، يشاهد نعيم الجنة ، يرق قلبه ويشتاق، فتهب عليه نسمة من نسائم الفردوس يعانقها.لهذا لخص الغزالي تجربة البلخي قائلاً: « الطريق تقديم المجاهدة ومحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى ومهما حصل كان الله هو المتولي لقلب عبده، والمتكفل بتنويره بأنوار العلم.

وإذا تولى الله أمر القلب فأضفى عليه الرحمة وأشرق النور في القلب وانشرح الصدر، وانكشف له سر الملكوت وانقشع عن وجه القلب حجاب الغرة بلطف الرحمة فتحققت فيه حقائق الأمور الإلهية.»[5]

قائمة المصادر:

1- الإمام أبو القاسم القشيري: الرسالة القشيرية، تحقيق: عبد الحليم محمود، طبع دار التأليف، طبعة أولى، سنة 1966.

2-الطوسي: اللمع، تحقيق: عبد الحليم محمود، دار النصر للطباعة والنشر.

        3-أبو حامد الغزالي: المنقذ من الضلال، تحقيق: عبد الحليم محمود، دار النصر    للطباعة والنشر، الطبعة السابعة، سنة 1973.

رحموني عبد الكريم

باحث من الجزائر.

[1]  الإمام القشيري: الرسالة القشيرية، تحقيق: مصطفى حلمي، ص: 216

[2]  الطوسي: اللمع، تحقيق: عبد الحليم محمود، ص: 41

[3]  الآية 32 من سورة الأنعام.

[4]  أبو حامد الغزالي: المنقذ من الضلال، ص: 379 .

[5]  أبو حامد الغزالي: المنقذ من الضلال، تحقيق: عبد الحليم محمود، ص: 43 .  

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى