الدراسات والبحوث

باريمندس وميتافيزيقا وحدة الوجود

جميل حمداوي

باريمندس وميتافيزيقا وحدة الوجود

جميل حمداوي

أستاذ التعليم العالي بالمغرب

 

مقدِّمة:

يعد  باريمندس (Parménide) من أهم الفلاسفة الأنطولوجيين الذين اشتهروا بميتافيزيقا وحدة الوجود؛ إذ خصها بقصيدة شعرية تعنى بالطرائق التي يدرك بها الوجود الكائن، وتحمل هذه القصيدة المقطعية أو الشذرية مجموعة من التصورات التي تتخطى نطاق الطبيعة والحس والمادة إلى ماوراء الطبيعة بمناقشة مواضيع مؤرقة جدا، مثل: موضوع الوجود، وموضوع الألوهية، وموضوع النفس، وموضوع الحركة والسكون، وموضوع المعرفة…

ويلاحظ أن فلسفة باريمندس قد تجاوزت فلسفة الكوسمولوجيا والعلل المادية الأولى التي كانت عند طاليس، وأنكسمنس، وأنكسمندرس، وأمبادوقليس، وهراقليطس… لتركز على وحدة الوجود، والإيمان بوجود الله الذي يتوسط الكون والمخلوقات، ويتوحد مع الموجودات والأشياء.

لقد تناول باريمندس، في قصيدته حول الوجود، مجموعة من القضايا الفلسفية الميتافيزيقية والأنطولوجية، مثل: قضية الوجود، وقضية الألوهية، وقضية النفس الإنسانية، وقضية المعرفة.

1/ فلسفـــة الوجـــود:

يميز باريمندس بين الوجود واللاوجود، فالوجود موجود، واللاوجود غير موجود. فلا يعقل أن يصدر الوجود عن اللاوجود أو العدم؛ لأنه غير موجود أصلا، ولا يدركه الفكر أو العقل. وقد نشأ الكون مكتملا وتاما وممتلئا. والفكر أساس الوجود، وبدون الوجود لايمكن الحديث عن الفكر، وبوجود الفكر يتحقق الوجود. ومن ثم، فالوجود لاماضي له، ولا مستقبل له، فهو حاضر ثابت لايزول، ولا يتغير، ولا يتحرك. وبهذا، ينفي باريمندس الصيرورة الزمنية، والتغير الجدلي، والتحول التعاقبي، ويترتب على ذلك غياب الفساد والتحول. وبالتالي، يكون الوجود والواحد متكافئين؛ إذ لايمكن الحديث عن الفراغ أو العدم أو التحرك أو التغير، بل العالم بمثابة وجود واحد ثابت مستمر في ثباته الدائم، ينصهر فيه الجميع في إطار وحدة متكاملة وتامة ومنسجمة غير ناقصة، ولا يوجد وجود آخر إلى جانب هذا الوجود الحقيقي؛ بل الوجود بمثابة كرة مستديرة متوازنة. ويعني هذا – حسب باريمندس- أن ” الوجود واحد قديم ثابت كامل، وأن هذه الصفات لازمة من معنى الوجود. فآثر هذا اليقين العقلي، وأنكر الكثرة والتغير، واعتبرهما وهما ظنيا: أليس التغير يعني أن الموجود كان موجودا ولم يكن موجودا(أما صار إليه) وأنه باق في الوجود، ومع ذلك فهو ليس موجودا (على ماكان)؟ أو ليست الكثرة تعني أن كل وحدة من وحداتها هي كذا أي وجود معين، وليست كذا أي ليست وجودا؟ إذ إن قولنا عن شيء إنه ليس كذا، معناه أن هذا الشيء حاصل على اللاوجود، وهذا معنى غير معقول.”[1]

ويثبت باريمندس أن الأشياء “واحد” في العقل، و”كثير” في الحس. ومن هنا، فالفلسفة الميتافيزيقية يقينية، والعلم الطبيعي ظني وحسي وخادع.

وتتمثل الحقيقة عند باريمندس في وجود الواحد. أما اللاوجود، فلا وجود له. ومن ثم، تعود الكثرة إلى الوجود الواحد. وبالتالي، فاللاوجود لايمكن تعلمه، أو إدراكه، أو الوصول إليه، أو فهم كنهه كما قال الفيلسوف الإنجليزي باركلي – فيما بعد -:  إن الموجود هو المدرك، أما اللاموجود، فهو اللامدرك. أضف إلى ذلك أن الوجود لايمكن إدراكه إلا عن طريق الفكر والعقل والتأمل الميتافيزيقي الماورائي؛” لأن الفكر هو عين الوجود”[2]. ومن هنا، ينبغي أن يتجه التفكير نحو الوجود الموجود، أو إلى الشيء الموجود؛ أما اللاشيء أو اللاموجود، فهو غير موجود. وفي هذا، يقول بارميندس في شذرته التالية:

” يجب التحدث عن الوجود الموجود والتفكير فيه

ذلك أن الوجود موجود واللاشيء غير موجود. وأنا

آمرك بقول ذلك، لأنني عن هذا السبيل الأول للبحث

أزيحك، وعن السبيل الآخر أزيحك أيضا.

ذلك السبيل الذي شكله الناس الجهلة المترددون

لأن عجزا جاثما على صدورهم، يوجه على خط مستقيم

فكرهم التائه، وهم مستسلمون لعملية نقلهم هنا وهناك

صم، بكم، عمي في الوقت نفسه، أفواههم فاغرة

حشود حيرانة، يشكل الوجود واللاوجود بالنسبة إليهم

نفس الشيء ونقيضه، والطريق بالنسبة إليهم جميعا

هي بمثابة عودة ترتد إلى ذاتها.[3]

علاوة على ذلك، يؤمن باريمندس بوحدة الوجود على أساس أن الموجودات والمخلوقات تشكل وحدة كلية متكاملة ونهائية لايعتريها الفساد أو الموت أو الفناء . ولم ينبثق هذا الوجود الأزلي عن العدم، بل ظهر هذا الوجود الواحد كاملا وممتلئا ومنسجما وثابتا دون مسبب، وليس له بداية ولانهاية، ويتسم بالاستمرارية. ولايمكن أن يكون لهذا الوجود وجود مجاور له. وفي هذا السياق، يقول باريمندس في قصيدته (الوجود):

” وتبقى كلمة واحدة، كلمة طريق الوجود

فعلى قارعة هذه الطريق توجد علامات متعددة

تبين أن الوجود ليس له مسبب

ولكنه غير فاسد، وأنه كامل، واحد،  غير متأثر

وأنه لانهائي، فهو لم يكن في أي حين ولن ولن يكون أبدا

مادام موجودا الآن في تمامه ووحدانيته واستمراريته.

وبالفعل، فعن أي أصل ستبحث لهذا الوجود؟

وما مصدر وكيفية ازدياده؟

إنني لن أسمح لك بأن تقول ولا أن تفكر في اللاوجود

فلو أخذ الوجود انطلاقته من العدم، فما الذي سيمنعه

من الانبثاق فيما بعد، بدل فيما قبل؟

هكذا، وجب أن يكون بالتمام أو لايكون

نهائيا، ولايمكن لقوة الإقناع أن تسمح أبدا

بأن ينبثق عن الوجود شيء ما مجاور له

…وهو أيضا لايتجزأ لأنه كامل

ومنسجم، لايتضمن شيئا زائدا

يمنعه من أن يبقى موحدا، ولاشيئا

ناقصا يمنع امتلاءه، فهو ممتلىء بالوجود

كامل كلية ومستمر.

ذلك لأنه وجود بجوار الوجود، أضف إلى ذلك أنه لايتحرك

في حدود العلامات الهائلة، فلابداية له

ولانهاية، لأن التكوين والفناء قد تم

طردهما بعيدا، فالاعتقاد الحق قد أبعدهما.

يبقى هو عينه، يتحرك بذاته.”[4]

ويثبت باريمندس أن الوجود واحد لايمكن تجزئته إلى عدة مبادئ   أو عناصر كما يذهب إلى ذلك أمبادوقليس الذي قال بأن الكون أصله الأسطقسات الأربعة: النار ، والهواء، والماء، والأرض(التراب). وقد أضاف العنصر الخامس، وهو أميل إلى اللطف والسرعة ، وهو الأثير. ويعبر كل عنصر من هذه العناصر عن آلهة أسطورية خاصة. في حين، يرفض باريمندس هذا التعدد، ويرى أن الوجود واحد لاينقسم ولايتجزأ، فهو كامل، ومتصل، ومتناسق، ومنسجم. وبهذا، ينكر باريمندس الكثرة والفراغ، فالوجود واحد وموحد، وليس هناك فراغ بين العناصر، فالكون مثل: كرة مستديرة متصلة ومجتمعة ومترابطة الحلقات، لا فراغ بينها ولا انفصال.

” والخلاصة أن باريمندس قد استبعد ظواهر الحياة من فكرة الوجود، فألغى فكرة نشأة الكون أو ميلاده،  وألغى نموه وحركته ، وألغى تعدده ، ولم يبق للوجود من الصفات سوى الصفات المنتمية لمقولة الكم، أما ما يوصف بالكيف كالحار والبارد أو النور والظلام،       فيقول عنها: ” فقد تعود البشر تسمية صورتين، ويجب أن يمسكوا عن ذكر إحداهما عند الانحراف عن الحق، وقد ميزوا من حيث تضادهما في الصورة ، واستدلوا عليها بعلامات مختلفة إحداها النار في السماء، والصورة الأخرى تضادهما تماما، إنها الليل المظلم، جسم ثقيل كثيف.”[5]

إذا كان الفلاسفة الطبيعيون يؤمنون بالتعدد والكثرة والحركة في الطبيعة، فإن باريمندس ينكر هذا التعدد، ويعتبر الوجود واحدا، وكاملا ، وممتلئا، ونهائيا، ومتصلا، ومتناسقا، وساكنا. كما ينكر بدايته ، وحركته، وتغيره، ونهايته. لذا، فهو يقول بالثبات المناقض للتغير والصيرورة الجدلية عند هيراقليطس؛ لأن باريمندس لو آمن بفكرة الحركة، لاستلزم هذا الافتراض المنطقي انتقال الوجود من الوجود إلى اللاوجود، أو من اللاوجود إلى الوجود.

ويعني هذا كله أن باريمندس قد تناول ، ميتافيزيقيا، إشكال الثبات والتغير. وإذا كان هيرقليطس يؤمن بالحركية والتغير والجدل والصيرورة، فإن باريمندس يؤمن بالوجود الثابت الساكن الكامل الذي لايقبل الحركة والتغير والتحول.

وقد رفض بارميندس تصورين سابقين عند فلاسفة الكوسمولوجيا: التصور الأول يرجع الكون إلى مبدإ أول مادي، والتصور الثاني يتحدث عن وجود مكان فارغ. ومن ثم، توصف المادة بقولنا: إنها موجودة، ويوصف المكان الفارغ بقولنا: إنه غير موجود. وكان الخطأ عند السابقين أن تحدثوا عن اللاموجود (الفراغ) كأنه موجود. بل نجد هرقليطس يقول: إنه يوجد ولا يوجد في آن معا. في حين، يرى باريمندس أن التفكير في ماهو موجود موجود، ومالا يفكر فيه، فهو غير موجود[6].

ويذهب برتراندل رسل (B.Russel) ، في كتابه (حكمة الغرب) ، إلى أن ” هذه الحجة تؤدي فورا إلى بعض النتائج. فعبارة “إنه موجود” تعني أن العالم مليء في كل مكان بالمادة.أما المكان الفارغ، فهو ببساطة غير موجود،   لاداخل العالم ولا خارجه.وفضلا عن ذلك، فلابد أن يوجد من المادة في مكان ما بقدر ما يوجد في مكان آخر، وإلا لتوجب أن نقول عن مكان ذي كثافة أقل إنه ليس موجودا بمعنى ما. وهو محال. ولابد أن يكون هذا الموجود حاضرا بالتساوي في جميع الاتجاهات. ويستحيل أن يمتد إلى ما لانهاية… إذ لو صح ذلك لكان معناه أنه غير مكتمل. ثم إن هذا الموجود غير مخلوق، وهو أزلي. لأن من المحال أن ينشأ من لاشيء ويرتد إليه بعد فنائه. أو أن ينشأ من شيء ما، مادام لايوجد إلى جانبه شيء. وهكذا، نصل إلى صورة للعالم على أنه كرة مادية مصمتة، متناهية، متجانسة، بلازمان ولاحركة ولاتغيير. والحق إن تلك ضربة قاصمة لتصورنا العادي. غير أنها هي النتيجة المنطقية لمذهب مادي واحدي متسق مع نفسه. فإن كان ذلك يجرح حواسنا، فالعيب عيب حواسنا، وينبغي علينا أن نستبعد التجربة الحسية بوصفها خداعة. وهذا بعينه ما فعله باريمندس، فهو إذ مضى بالنظرية الواحدة حتى نهايتها المريرة. قد أرغم المفكرين التالين له على أن يبدأوا بداية جديدة. والحق أن الكرة الكونية التي تحدث عنها باريمندس إنما هي مثال لما كان يعنيه هرقليطس حين قال: إن الصراع لو انتهى لانتهى معه العالم.”[7]

وعليه، هناك طريقان لفهم الوجود: طريق الحق الذي يعتبر الوجود واحدا وكاملا وممتلئا ومنسجما، وطريق الظن والوهم والحس المخادع الذي يجعل أصحابه غير قادرين عن التمييز بين الوجود واللاوجود؛ إذ يعتقدون أن الوجود مثل اللاوجود. وبذلك، يجمعون بين الأضداد والمتناقضات. في حين، يؤمن المنطق بمبدأي الهوية وعدم التناقض. وربما يشير باريمندس إلى الفيتاغوريين الذين فسروا الكون بأنه نشأ عن اختلاط قوتي النور والظلام[8].

وهكذا، يتبين لنا أن أطروحة باريمندس الفلسفية هي أطروحة أنطولوجية وميتافيزيقية بامتياز؛ لأنه اهتم بالوجود المجرد، بعد أن كان التركيز – من قبل- على الموجود وفلسفة العلل الأولى ذات الطابع المادي والحسي. ومن ثم، فالوجود عند باريمندس واحد وثابت ومكتمل وأزلي ومستمر في ديمومته الأبدية.

2/ ميتافيزيقا الألوهيـــة:

ما يميز باريمندس عن الفلاسفة الكوسمولوجيين أنه لم يكن يفرق بين الوجود والآلهة[9]؛ إذ يعتقد بوجود رب أو إله مدبر حكيم ، خالق الموجودات كلها، وخالق هذا الكون الشاسع ظلمة ونورا، يتحكم في هذا الوجود المتناسق، ويسيره حسب مشيئته؛ إذ يقول باريمندس:

” ذلك أن الأفلاك الأكثر محدودية تكون مليئة بالنار

دون اختلاط، وتلك المجاورة لها مليئة بالليل

ومعها يتدفق سبل من شعلة، ووسطها يوجد رب

يسير كل شيء.

إنه يسير الولادة والتوحد

دافعا الأنثى إلى مجامعة الذكر وعكسيا”.[10]

ويعني هذا المقطع أن الله هو الذي يتحكم في هذا الوجود، وقد توحد مع الموجودات والأشياء كلها، وأنه كروي في كينونته ووجوده. وليس هناك انفصال بين الله والعالم، فهما معا يشكلان وحدة وجودية تامة وكلية. وبذلك، تنتفي الكثرة والتعدد، وتنتفي الثنائية التي تقسم الوجود إلى عالم مادي، وإله خالق. وإذا كان الوجود واحدا وثابتا وقديما وأبديا، فالله كذلك يتسم بالصفات الإيجابية نفسها. أي: إنه واحد، وثابت، وقديم، وأزلي، وأبدي. وهنا، يتفق باريمندس مع كسينوفان القائل بوحدة الوجود التي تجمع بين الله والعالم في وحدة كينونية واحدة. ويعني هذا أن الله يضم ” داخله جميع الأشياء، ويظل دائما ثابتا في مكانه، تذوب في هذا الجوهر الواحد الثابت كل الأشياء الجزئية”[11]. وربما يكون كسينوفان هو الذي تأثر بباريمندس؛ إذ قال كارل بوبر:” حقا قد يكون كسينوفان قد تلاقى مع الشاب باريمندس، لكن من المستبعد أن يكون قد أخذ القول بوحدة الوجود منه، وما أخذه على الأرجح من باريمندس هو القول بأن العالم كرة.[12]

ومن هنا، يتخذ التصور اللاهوتي عند باريمندس طابعا مثاليا وصوفيا وعرفانيا حينما يجمع بين الله والعالم في نسق وجودي عقلاني واحد، تذوب فيه الكثرة الحسية، ويغيب فيه التعدد الظاهري للعيان.

3/ ميتافيزيــقــا النفس:

لم تقتصر فلسفة باريمندس على ماهو كينوني ولاهوتي فحسب، بل تناول كذلك النفس الإنسانية على غرار الفلاسفة اليونانيين عامة. بيد أنه أثبت أن  النفس هي عين وجود الإنسان، وهي أساس فكره، وهي التي تحركه عضويا، وذهنيا، ووجدانيا، وحركيا. وهنا، تحضر الروح بدلالة النفس والعقل والفكر. وبالتالي، فالنفس أو الروح هي التي تتحكم في الإنسان، وتحرك نبضاته المتدفقة على مستوى الوجود والتواجد الحضوري.

” وكما يوجد في كل واحد خليطا

من الأعضاء ذات الحركات المختلفة

كذلك توجد الروح حاضرة لدى الناس

لأن ما يفكر في طبيعة الناس جماعة وفرادى

لأن المسيطر هو الفكر.[13]

وانسجاما مع وحدة الوجود، يلاحظ أن باريمندس يجعل الفكر والنفس ذا طبيعة كينونية واحدة، فالفكر هو النفس، والنفس هي العقل كذلك. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على التصور المثالي لباريمندس الذي يرفض الفصل بين جوهرين عقليين وروحيين هما: الفكر والنفس.

4/ إشكال المعرفـــة:

لم تقتصر تصورات باريمندس على الوجود والألوهية والنفس فقط، بل تناول إشكالية المعرفة وفق رؤيته الأنطولوجية القائمة على وحدة الوجود. بمعنى أن ثمة نوعين من المعرفة: معرفة حسية وهمية تؤمن بالتعدد والتغير موجودة لدى العامة ورعاع الناس،ومعرفة عقلية تؤمن بوحدة الوجود يمتلكها الأصفياء وذوو العقول النيرة من الفلاسفة والعلماء.

وبتعبير آخر، إن عين الوجود هو الفكر أو العقل، فما يدركه العقل فهو وجود، وما لايدركه العقل فليس بوجود. وبالتالي، لاينبغي الاهتمام به. وبهذا، يكون العقل قد أنكر وجود العالم الخارجي، بل كان يعده وهما زائفا وخادعا. أما الوجود الحقيقي، فهو ذلك الوجود الذي يدركه العقل أو الفكر. وبهذا، يكون تصور باريمندس تصورا مثاليا مثل تصور أفلاطون الذي يعطي أهمية كبرى للعقل المفارق للعالم المادي الحسي النسبي والمتغير.

وهكذا، يضع باريمندس حدا فاصلا بين المعرفة الحسية الظنية المرتبطة بالعالم الخارجي غير الموجود وغير المدرك، والمعرفة العقلية التي ترتبط بالوجود الثابت الحقيقي. ويعني هذا أن المعرفة الظنية هي معرفة نسبية وزائفة وغير حقيقية، مادامت تعتمد على الحواس الخادعة.أما المعرفة الحقيقية اليقينية، فهي التي تعتمد على العقل في إدراك الوجود الحقيقي. أما الوجود الذي يدركه العقل، فهو الوجود المطلق الواحد المجرد الأزلي الثابت الذي لايتحيز في المكان، ولا يخضع للتعاقب الزمني، وهو مستمر دائما في ثباته وديمومته. ويتصف الوجود – عند باريمندس – بالفكر والامتداد على غرار تصورات سبينوزا(Spinoza). ويرى عبد الرحمن بدوي أن الوجود عند باريمندس ” ليس هو الوجود الحسي،كما أنه ليس الوجود المنطقي الصرف،بل هو وجود حاول صاحبه أن يرتفع به عن الوجود الحسي؛ لكن درجة التجريد، فيما يتصل بالوجود، لم تكن كافية لكي تجعل من هذا الوجود وجودا لاحسيا أو وجودا منطقيا.”[14]

وهكذا، يتبين لنا أن هناك طريقتين لفهم الوجود وإدراكه واستيعابه: طريقة المعرفة الحسية الزائفة التي تعتمد على الظاهر، وطريقة المعرفة العقلية اليقينية التي تستند إلى التجريد والتأمل المتعالي الروحاني الميتافيزيقي الذي يجعل الوجود الثابت هو الأساس.

5/ مميـــزات الكتابة الفلسفية:

يعد باريمندس أول فيلسوف يوناني استخدم الشعر في التعبير عن فلسفته الأنطولوجية، ومثله في ذلك أنبادوقليس. في حين، كانت كتابات الفلاسفة الآخرين، أمثال: طاليس، وهراقليطس، وأنكسمنس، وأنكسمندريس شذرية، لم تصل بعد إلى الكتابة النسقية التي نجدها عند أفلاطون و أرسطو على سبيل المثال، تلك الكتابة المنظمة الخاضعة للتحليل العلمي الرصين ، والاستدلال المنطقي المتماسك.

وتتميز كتابة باريمندس الفلسفية بطابعها الشعري الميتافيزيقي الذي يتدفق بالصور البلاغية السامية، وينبض بالصور الشعرية الذهنية والروحانية التي تتلاءم مع الكتابة الدينية الصوفية أو العرفانية (وحدة الوجود). ويختلط، في قصيدته الوجودية،  البعد السردي الأسطوري مع البعدين: الغنائي والفلسفي؛ حيث تنقسم قصيدته حول الوجود إلى مجموعة من المقاطع التي تترنح بسكر الاستعارات والمجازات، وعبق المشابهة والمجاورة والرموز الموحية.

وتبدأ القصيدة الشعرية بمقدمة استهلالية ميثولوجية على غرار ملحمتي هزيود وهوميروس، يتغنى فيها بربة العدالة . وبعد ذلك،  ينتقل إلى الحديث عن طريقين لفهم العالم: طريق الوهم والظن الخادع، وطريق الحق اليقيني.

وترى حلمي مطر أن باريمندس” ألف قصيدة على وزن الملحمة في الطبيعة، جمعت بين عمق التفكير المنطقي والتجربة الدينية وجمال الأسلوب، فكان أول من استخدم الشعر بدلا من النثر من بين الفلاسفة الأوائل ، وقد تبعه في ذلك أنبادوقليس من بعد، ويظهر في قصيدته تشابه واضح مع قصيدة هزيود في ” الثيوجونيا” ، حيث تبدأ باستلهام الآلهة كما كانت قصيدة هزيود تبدأ باستلهام ربات الشعر، غير أن التشابه لربما كان عرضيا، إذ يبدو أنه قد آثر أن يعرض فلسفته من خلال إحساسه الديني، ويعبر عنها في أسلوب رمزي هو أنسب الأساليب لاتجاهه الميتافيزيقي المتأثر بالأسرار الدينية.[15]

ويعني هذا أن الرؤية الدينية الروحانية الصوفية هي التي دفعت باريمندس إلى إفراغ فلسفته في قالب شعري رمزي (الليل رمز للطريق الظني، والنهار رمز للطريق الحقيقي)، وربما يكون الشعر أبلغ من اللغة النثرية العادية، وربما يكون سريع الإقناع والتأثير في المخاطب من الكتابة العادية التي يختارها الفلاسفة الشذريون السابقون، ولاسيما أن الكتابة الشعرية كتابة تجمع بين الإفادة والإمتاع.

ويقول مصطفى النشار عن طبيعة هذه الكتابة الشعرية المتميزة، ودواعي استعمالها:

” وقد اختلف  المفسرون القدماء والمحدثون حول سبب اتخاذ باريمندس لهذا الأسلوب الشعري في التعبير عن فلسفته؛ فقال بلوتارك: إنه ربما شعر بوعورة الفلسفة إذا ما قدمت نثرا، وأن جمال النظم يضفي على الموضوع طلاوة تذهب بجفاف النثر، أو ربما كان يرى أن فلسفته وحيا إلهيا لايليق أن يصاغ إلا في ذلك الأسلوب الشعري الذي يناسب كلام الآلهة.أما ييجر ، فيرى أنه ربما لجأ إلى الشعر حتى يفهمه جميع الأغريق؛ لأن المهاجرين الأيونيين حينما ذهبوا إلى جنوب إيطاليا وجدوا أن اللهجة الدورية هي السائدة.

وفي اعتقادي أنه ربما  لجأ إلى الأسلوب الشعري للتعبير عن فلسفته تأثرا بأستاذه كسينوفان من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنه رأى سهولة حفظ الشعر وسمو تعبيراته وكثرة الصور التي تتيح له أن يعبر عن تلك النزعة الصوفية التي تخللت قصيدته عموما، ووضحت أكثر في مقدمتها.”[16]

وعليه، يمكن الحديث عن أنماط عدة من الكتابة في الفلسفة اليونانية، فهناك الكتابة الشذرية مع الفلاسفة الطبيعيين الأوائل (طاليس، وهرقليطس، وأنكسمانس، وأنكسمندريس…)، والكتابة الشعرية (أمبادوقليس وباريمندس…)، والكتابة الحوارية الجدلية ( سقراط وأفلاطون)، والكتابة النسقية (أرسطو وأستاذه أفلاطون من قبل).

ويتضح لنا ، مما سبق ذكره، أن باريمندس هو فيلسوف الوجود الثابت الساكن الخالي من الحركة والزمان ، ذلك الوجود المجرد والمطلق الذي يدرك عن طريق العقل والتأمل الفلسفي. ويفضل باريمندس الميتافيزيقا على العلم الفيزيائي الطبيعي الذي يستند إلى الحواس والمعرفة الظنية الواهمة. وقد آمن باريمندس بوحدة الوجود، وآمن بالألوهية الواحدة، واعتبر النفس والجسد وحدة متكاملة لايمكن الفصل بينهما. ويلاحظ أيضا أن باريمندس قد تجاوز الفلسفة الطبيعية الكوسمولوجية التي كانت تعنى بفلسفة المبادئ الأولى لينشغل بما هو أهم ألا وهو الوجود في تحققه واكتماله وثباته في الزمان والمكان. ويسعى باريمندس إلى إثبات الوجود، وإثبات ظهوره، وميلاده وازدهاره[17].وتتمثل خلاصة فلسفته في عبارته الشهيرة: ” الوجود كائن، واللاوجود غير كائن، لاتخرج فكرك عن هذا”[18].

ويرى يوسف كرم أن باريمندس هو ” فيلسوف الوجود المحض. تجاوز عالم الظواهر، وعالم الأعداد والأشكال، وبلغ إلى الموضوع الأول للعقل وهو الوجود. ولقد بهره معنى الوجود، فلم يعد يرى غير أمر واحد هو ” أن ماهو موجود فهو موجود، ولايمكن ألا يوجد، وأن الوجود موجود، واللاوجود ليس موجودا؛ ولامخرج من هذه الفكرة أبدا. وكان أول فيلسوف جرد مبدأ الذاتية ومبدأ عدم التناقض، وأعلنهما صراحة، وجعل منهما أساس العقل الذي لايتزعزع، في الوقت نفسه الذي كان هرقليطس يهوى فيه على هذا الأساس بكل قوته.ولئن لم يفطن باريمندس إلى أن الوجود والواحد يقالان على أنحاء عدة؛ ولم يفرق بين معانيهما المختلفة، فعذره أن هذه المعاني لم تكن قد تميزت بعد، وهي لن تتميز إلا على يد أرسطو.وحسبه فخرا أنه ارتفع إلى مبادىء الوجود ومبادىء العقل بقوة لم يسبق إليها، فأنشأ الفلسفة الأولى أو الميتافيزيقا؛ واستحق أن يدعوه أفلاطون “باريمندس الكبير”.[19]

ويعني هذا أن باريمدنس قد تميز بعدة خصائص كتأسيسه للأنطولوجيا أو علم الوجود[20]، وبلورة قواعد المنطق الصوري (مبدأ الهوية ومبدأ عدم التناقض)، وانتقاله من الطبيعة إلى ماوراء الطبيعة قصد دراسة الوجود، وتأسيسه للدرس الميتافيزيقي اليوناني باهتمامه بفلسفة الوجود، وتجاوزه لفلسفة العلل الأولى، وقوله بوحدة الوجود انطلاقا من رؤية دينية روحانية وصوفية، والتمهيد للتصور المثالي العقلاني، والتعبير عن فلسفته شعرا من خلال الجمع بين المنطق والأسطورة ، والتمييز بين معرفة الظن ومعرفة الحق اليقيني، بعد أن كانت الفلسفة – من قبل- تكتب  نثرا ، و في شكل شذرات متقطعة.

وفي هذا الصدد، يقول الباحثان عزالدين الخطابي وإدريس كثير:

“يبدو أن باريمندس قد شكل قطيعة مع إشكالية الأصل (Arkhé)، تلك الإشكالية المؤسسة للفكر الفلسفي في بدايته. فقد حقق بهذه القطيعة فعلا تدشينيا للميتافزيقا. وبالتالي للأنطولوجيا. وعلى الرغم من أن القطيعة في الحقيقة كانت مع إنشاد الأصل ومفهوم الزمن، إلا أنها استمرت إنشادا على مستوى التعبير، وانسيابا دافئا عبر مسالك المعرفة ومجاهلها.[21]

ويلاحظ كذلك أن باريمندس قد تأثر بهرقليطس عندما أثبتا معا كينونة الوجود، لكن هذا الوجود  الكائن ثابت عند باريمندس، ومتغير صائر عند هرقليطس. وفي الوقت نفسه، تأثر بفلسفة وحدة الوجود لدى كسينوفان الذي وحد بين الإله وبين العالم في وحدة واحدة. وأكثر من هذا فقد أكد ” أن الكل واحد،  وأن الإله متحد مع الأشياء جميعا ، وأنه كروي.[22]

وعليه، إذا كان هرقليطس يؤمن بالتغير والحركة والصيرورة الجدلية، فإن باريمندس يؤمن بالثبات والسكون. وبمعنى آخر، إذا كان هرقليطس معروفا بالوجود الصائر، فإن باريمندس معروف بالوجود الكائن. ومن ثم، فهما حكيما الوجود حسب مارتن هيدجر[23]. وفي هذا، يقول برتراند رسل:

” لقد كان باريمندس وهرقليطس هما القطبين المتنافرين من بين مفكري العصور السابقة لسقراط. ومن الجدير بالذكر أن الفلاسفة الذريين- فضلا عن أفلاطون- قد أوجدوا مركبا يجمع بين وجهتي النظر المتعارضتين هاتين. فمن باريمندس أخذوا الجزيئات الأولية الثابتة التي قالوا بها، ومن هرقليطس أخذوا فكرة الحركة التي لاتنقطع. وهذا في الواقع واحد من أوضح وأقدم الأمثلة التي أوحت بالجدل الهيجلي من بداية الأمر. فمن المؤكد أن التقدم العقلي تصدق عليه الفكرة القائلة: إنه ينشأ عن مركب من هذا النوع، يأتي بعد بحث دؤوب في موقفين متطرفين متعارضين.”[24]

وعلى الرغم من جدية التصور الأنطولوجي والميتافيزيقي عند باريمندس، فيمكن القول بأن أصل العالم هو العدم، خلقه رب واحد من اللاشيء، فقال له: كن، فانبثق عن ذلك هذا العالم بمخلوقاته المتعددة. ويعني هذا أن الكثرة في المخلوقات والموجودات تعود إلى وحدة الذات الربانية الأزلية. كما أن العالم ليس ثابتا وأزليا، بل هو في طريق الفناء والزوال والعدم لتبقى الذات الربانية مستمرة ودائمة لايلحقها التغير أو الزوال أو الفناء. بل حتى الموجودات ستنتقل إلى جوار الذات الربانية في فضاء وجودي آخر متعال عن الوجود الكوني الأرضي. ومن جانب آخر، يمكن الحديث عن ثنائية وجودية (الله والعالم) كما عند الفقهاء والفلاسفة، أو وحدة للوجود(حضور الله في الوجود ) كما عند المتصوفة وأهل العرفان والعشق.

خاتمة:

وخلاصة القول، إن باريمندس من أهم أعضاء المدرسة الإيلية الذين اهتموا بفلسفة الكون، وأعطوا أهمية كبرى لميتافيزيقا الألوهية، والنفس، والوجود، والمعرفة. وقد آمن بوحدة الوجود، وكتب الفلسفة شعرا، وقد قسم كتابه (في الطبيعة) إلى قسمين: قسم خاص بالحقيقة الفلسفية، وقسم خاص بالعلم الطبيعي. والمعرفة عنده نوعان: معرفة يقينية ثابتة وكاملة، ومعرفة ظنية قائمة على العرف والظن والحواس.ومن ثم، فالفيلسوف الحقيقي هو الذي يأخذ بالمعرفة اليقينية، ويفند المعرفة الثانية بالأدلة والحجج العقلية والمنطقية ليبين زيفها وهراءها وعقمها.

و قد آمن باريمندس بوحدة الوجود الميتافيزيقية، على أساس أن الوجود قديم وثابت ومتكامل ومتجانس وحاضر لايزول، وأن العالم واحد، ولس هناك كثرة أو تغير أو تعدد، فذلك ظن وهمي ليس إلا. ومن هنا، فالأشياء هي الواحد في العقل، والكثرة في الحس والظاهر.لذا، ثار باريمندس على الظواهر الحسية التي ينتج عنها العلم الظني والعلم الطبيعي المحسوس.  وميزة باريميندس الكبرى هي أنه فيلسوف الأنطولوجيا والميتافيزيقا والوجود المحض. فقد تجاوز عالم الظواهر والأعداد والأشكال ليسمو بالفكر والعقل نحو الوجود المجرد والمطلق والمتعالي.

 

[1] – يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، مصر، الطبعة السادسة، 1976م، ص:29.

[2] – نقلا عن عزالدين الخطابي وإدريس كثير: في الحاجة إلى إبداع فلسفي، منشورات الزمن، المغرب، العدد48، الطبعة الأولى 2006م، ص:44.

[3] –  نقلا عن عزالدين الخطابي وإدريس كثير: في الحاجة إلى إبداع فلسفي، ص:44.

[4] – نقلا عن عزالدين الخطابي وإدريس كثير: نفسه، صص:45-47.

[5] – أميرة حلمي مطر: الفلسفة اليونانية، تاريخها ومشكلاتها، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، طبعة 1998م، ص:93.

[6] – يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية، ص:44.

[7] – برتراند رسل: حكمة الغرب، (الجزء الأول)، ترجمة: فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد:62، 1983م، ص:44-45.

[8] – أميرة حلمي مطر: الفلسفة اليونانية، تاريخها ومشكلاتها، ص:94.

[9] – عبد الرحمن بدوي: ربيع الفكر اليوناني، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى سنة 1943م، ص:121.

[10]– نقلا عن عزالدين الخطابي وإدريس كثير: نفسه، ص:50.

[11] – محمود مراد: دراسات في الفلسفة اليونانية، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، مصر، الطبعة الأولى سنة 2004م، ص:86.

[12] – محمود مراد: دراسات في الفلسفة اليونانية، ص:87..

[13] – نقلا عن عزالدين الخطابي وإدريس كثير: نفسه، ص:50-51.

[14] – عبد الرحمن بدوي: نفسه، ص:125.

[15] – أميرة حلمي مطر: الفلسفة اليونانية، تاريخها ومشكلاتها، ص:87.

[16] – مصطفى النشار: تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي، دار قباء الحديثة، القاهرة، مصر، طبعة 2007م، ص:167.

[17] – نجيب بلدي: نفسه، ص:20.

[18] – نجيب بلدي: نفسه، ص:21.

[19] – يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية، ص:30.

[20] – فريدريك نيتشه: الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي، ترجمة: سهيل القش، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، 2005م، ص:74.

[21] – عزالدين الخطابي وإدريس كثير: نفسه، ص:9.

[22] – محمود مراد: دراسات في الفلسفة اليونانية، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، مصر، الطبعة الأولى سنة 2004م، ص:85.

[23] – نجيب بلدي: نفسه، ص:18.

[24] – برتراند رسل: نفسه، ص:46-47.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى