فنون و آداب

الأدب عند الصوفيَّة

سيدي محمد صفايا

الأدب عند الصوفيَّة

سيدي محمد صفايا

المقدمة :
ترتبط الأخلاق و القيم الإنسانية بالإسلام ارتباطاً وثيقاً نجده واضحاً في الحديث المشهور (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)  .
كما يدلنا على مدى رفعتها عند الله ذلك الثناء الإلهي على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم إذ يقول سبحانه و تعالى له : ( وإنك لعلى خلق عظيم ).[القلم :4] ومما يدل على أهمية الأخلاق في الإسلام ما رواه سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ، و خياركم خياركم لنسائهم خلقاً } وعن أبي قلابة عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً و ألطفهم بأهله ).
هذان الحديثان يبينان أهمية الأخلاق و يضربان مثالاً يقاس به الإنسان في سلوكه الخلقي ليظهر صدقه فيما يظهر عليه من سيما التحلي بالفضائل الخلقية .
و قد قرر الحديثان أهمية الأخلاق و مكانها بما لا مزيد عليه من البيان إذ وجدنا الأخلاق مرتبطة بالإيمان و بهذا تقوم الأخلاق في الإسلام على أساس قوي متين يضمن لها التنفيذ في عالم الواقع لا أن تظل حلماً في الخيال إذ يستشعر المؤمن رقابة الله و إطلاعه على كل أمر فيراعي بضميره و قناعته ما يحققه و يجعله متصفاً بأحسن الأخلاق .

الأدب عند الصوفية رضي الله عنهم :
اتفق أهل الله قاطبة على أن من لا أدب له لا سير له ومن لا سير له لا وصول له .
فبالأدب تطوى المسافة و يذهب عن المريد مافي الطريق من مخافة و الصوفية رضي الله عنهم و نفعنا بهم لا يعرفون و لا يتميزون إلا بالأدب .
*وقال أبو حفص النيسابوري رحمه الله تعالى 🙁 التصوف كله آداب لكل وقت آداب و لكل حال آداب و لكل مقام آداب فمن لزم الأدب بلغ مبلغ الرجال ومن حرم الأدب فهو بعيد من حيث يظن القرب مردود من حيث يظن القبول).
*وقال الثوري رحمه الله 🙁 من لم يتأدب للوقت فوقته مقت)   .
*وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى:(نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم ).
فتحصّل من هذا أن الصوفية كل أحوالهم أدب ، فلهذا كانت مؤانستهم لا تكون إلا به فيحسن للمريد إذا عاشرهم أن لا يقنع من الأدب لأنهم قالوا : ( اجعل عملك ملحاً وأدبك دقيقاً ) .
*وقد سئل الدقاق رحمه الله تعالى بماذا يقوم الرجل اعوجاجه ؟ فقال بالتأديب بإمام فإن لم يتأدب بإمام بقي بطّالاً فعلى من أراد الافتداء بهم أن يلزم الأدب في كل شيء فمن لزم الأدب معهم أخذ قلوبهم بأجمعها و ذلك عندهم مقياس على المريد إذا بالأدب يأخذون من ذلك للدخول على الله ، و كل من سقط من رتبته إلا بسبب إساءة أدبه .
و بالأدب الظاهر يحصل الأدب الباطن أعني التعظيم إذ سوء الأدب ينشأ عن عدم التعظيم و عدم التعظيم من ضعف المحبة و ضعف المحبة من التفات القلب إلى الغير فلو حصلت المحبة لحصل التعظيم ولو حصل الأدب لحصل التحقيق .

أنواع الأدب:
أنواع الأدب كثيرة نذكر في هذا المقام ما هو آكد و بالله أستعين :

أولاً – الأدب مع الله عزَّ وجل :

* إطراق الرأس وغض الطرف .
* جمع الهمّة.
* دوام الصمت .
* سكون الجوارح .
* اجتناب النهي .
* قلة الاعتراض على القدر .
* دوام الذكر .
* ملازمة الفكر .
* إيثار الحق على الباطل .
* الإياس من الخلق .
* الخضوع تحت الهيبة .
* الانكسار تحت الحياء .
* السكون عن حيل الكسب ثقة بالضمان .
* التوكل على فضل الله معرفة بحسن الاختيار .

ثانياً-الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:

لا بد من التنبيه في هذا المقام من أنه صلى الله عليه و سلم حيٌّ في قبره الشريف حياة أقوى و أعظم من
حياة أهل الدنيا فالأدب معه صلى الله عليه و سلم لا يختلف في حال حياته أو بعد وفاته فحرمته صلى الله عليه و سلم بعد وفاته كحرمته قبلها و كلامه المأثور عنه صلى الله عليه و سلم بعد وفاته في الرفعة مثل الكلام المسموع من لفظه صلى الله عليه و سلم ، فهكذا يجب الأدب في :
* إذا قرئ كلامه صلى الله عليه و سلم وجب على كل حاضر أن لا يرفع صوته عليه ولا يعرض عنه أي يجب الإصغاء إليه لقوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) .
* المجلس الذي فيه حديث النبي صلى الله عليه و سلم هو مجلس معظم يجب فيه الأدب والاحترام و لزوم التوقير و التعظيم و يجب صيانة ذلك المجلس عن العبث و اللهو .
* عند قراءة سيرته الشريفة و بيان أوصافه و شمائله الحميدة و خصاله المجيدة و يدخل تحت هذا وجوب الأدب والتكريم و الإصغاء وعدم اللغط عند قراءة مولده الشريف و عند سماع المدائح النبوية الشريفة فإن تلك المجالس كلها يجب فيها الأدب معه صلى الله عليه و سلم .
* قال الإمام القسطلاني و غيره رحمهم الله تعالى إذا كان رفع الصوت فوق صوته صلى الله عليه وسلم
موجباً لحبوط العمل فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته و على ما جاء به صلى الله عليه وسلم ،فالواجب على الآراء أن تكون تابعة لرأيه صلى الله عليه وسلم و على العقول أن تكون مسلِّمة لما جاء به صلى الله عليه وسلم تسليماً مطلقاً.
* الإتباع و التسليم المطلق له صلى الله عليه وسلم دون توقف وذلك يكون بالاعتصام بكتاب الله عز وجل والتمسك المطلق بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من أوامر و نواهي و أفعال .
* الإقتداء به صلى الله عليه وسلم وعدم التقدم عليه بأمر ما و أن التقدم عليه صلى الله عليه وسلم بقول أو عمل فإنه أمر قبيح أشد القباحة كالذي يمشي أمام النبي صلى الله عليه وسلم غير محترم ولا معظم له
صلى الله عليه وسلم .

ثالثاً-أدب المريد مع شيخه:

وهي نوعان :
أ -آداب باطنية :
1- الاستسلام لشيخه وطاعته في جميع أوامره و نصائحه استسلاماً لذوِ الاختصاص و الخبرة بعد مقدمات فكرية أساسية منها التصديق الراسخ بإذنه وأهليته واختصاصه وأنه جمع بين الشريعة و الحقيقة . وهذا يشبه تماماً استسلام المريض لطبيبه استسلاماً كلياً في جميع معالجاته و توصياته .
2- عدم الاعتراض على شيخه في طريقة تربية مريديه لأنه مجتهد في هذا الباب عن علم و اختصاص و خبرة .
3- أن لا يعتقد في شيخه العصمة فإن الشيخ و إن كان قد أكمل الحالات فليس بمعصوم إذ قد تصدر منه الهفوات و الزلات و لكنه لا يُصرُّ عليها و لا تتعلق همته أبداً بغير الله تعالى لأنه إذا اعتقد العصمة ثم رأى ما يخالف ذلك وقع في الاعتراض و الاضطراب مما يسبب القطيعة و الحرمان .
ولكن لا ينبغي عند ذلك أن يضع بين عينيه دائماً احتمال الخطأ في كل أمر من أوامر شيخه لأنه بذلك يمنع عن نفسه الاستفادة .
4- أن يعتقد كمال شيخه و تمام أهليته للتربية و الإرشاد وكوَّنَ هذا الاعتقاد بعد أن فتش و دقق بادئ أمره فوجد شروط الوارث المحمدي فيه .
5- أن يتصف بالصدق و الإخلاص في صحبته لشيخه .
6- تعظيمه وحفظه لحرمة شيخه حاضراً و غائباً .
قال سيدي أبو العباس المرسي رحمه الله تعالى : (تتبعنا أحوال القوم فما رأينا أحداً أنكر عليهم ومات بخير ) .
7- محبته لشيخه بأعلى درجات الحب على أن لا يصل غلوّه في محبته لشيخه إلى حد فاسد و تتقوى محبته لشيخه بموافقته له أمراً و نهياً ، فالمريد كلما كبرت شخصيته بالموافقة ازدادت محبته .
8-عدم تطلعه إلى غير شيخه لئلا يتشتت قلبه بين شيخين ، و مثال ذلك كمثل المريض الذي يطبب جسمه عند طبيبين في وقت واحد فيقع في الحيرة و التردد .

ب -آداب ظاهرية :
1- أن يوافق شيخه أمراً و نهياً كموافقة المريض لطبيبه .
2- أن يلتزم السكينة و الوقار في مجلسه .
3- المبادرة إلى خدمته بقدر الإمكان فمن خَدَمَ خُدِمَ .
4- دوام حضور مجالسه و لذلك قيل : (زيارة المربي ترقي و تربي ) ، و السادة الصوفية رضي الله عنهم بنوا سيرهم على ثلاثة أصول [الاجتماع و الإتباع و الاستماع ] و بذلك يحصل الانتفاع .
5- الصبر على مواقفه التربوية كجفوته و إعراضه التي يقصد بها تخليص المريد من رعوناته النفسية وأمراضه القلبية .
6-أن لا ينقل من كلام شيخه إلى الناس إلا بقدر أفهامهم لئلا يسيء إلى شيخه و نفسه وقد قال سيدنا علي رضي الله عنه :(( حدثوا الناس بما يعرفون أتحبوا أن يكذب الله و رسوله )).

رابعاً -آداب المريد مع إخوانه :

1- حفظ حرمتهم غائبين أو حاضرين فلا يغتاب أحداً منهم و لا ينقص من قدرهم .
2- نصيحتهم بتعليم جاهلهم و إرشاد ضالهم و تقوية ضعيفهم .
3- التواضع لهم و الإنصاف معهم و خدمتهم بقدر الإمكان إذ 🙁 سيد القوم خادمهم ).
4- حسن الظن بهم و عدم الانشغال بعيوبهم و وكل أمورهم إلى الله تعالى .
5- إصلاح ذات بينهم إذا اختلفوا أو اختصموا .
6- قبول عذرهم إذا اعتذروا .
7- الدفاع عنهم إذا أوذوا أو انتهكت حرماتهم .
8- أن لا يطلب الرئاسة و التقدم عليهم لأن طالب الولاية لا يولَّى .

خامساً -آداب المريد مع نفسه :

1- أن يلاحظ أن الله ناظر إليه و مطلع عليه في جميع أحواله فيشتغل بذكره سبحانه دائماً ماشياً كان أو
قاعداً وفي جميع أحواله لأنها لا تمنعه عن الذكر .
2- أن يترك أصحاب السوء و يجالس الأخيار فصحبة الأخيار تورث الخير و صحبة الأشرار تورث الشر ، قال صلى
الله عليه وسلم :(مثل الجليس الصالح و الجليس السوء كحامل المسك و نافخ الكير ) .
و قال الشاعر :
الروح كالريح إن مرت على عطر……………طابت و تخبث إن مرت على جيف
3- ومنها ترك محبة الدنيا ناظراً إلى الآخرة لأن محبة الله لا تدخل قلباً فيه محبة الدنيا.
4- أن يصون نفسه عن لغو الحديث و قلبه عن جميع الخواطر فإن حفظ لسانه واستقام قلبه انكشفت له الأسرار.
5- ترك الإكثار من المزاح فإنه يميت القلب .
6-أن لا يستبطئ الفتح عليه بل يعبد الله لوجهه سواء فتح عليه ورفع الحجاب عنه أم لا.

سادساً-آداب المريد مع الناس :

فالناس ثلاثة أصناف :
إما أصدقاء .
وإما معارف .
وإما مجاهيل .

أ- أما الأصدقاء :
1- أن يطلب شروط الأخوة و الصداقة فيهم فلا يؤاخِ إلا من يصلح لذلك ، فقد قال صلى الله عليه و سلم :(المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) .
فإذا طلب صديقاً ليكون شريكاً له في أمر من أمور الدين أو الدنيا وجب أن يراعي فيه خمس خصال :
* العقل فلا خير في صحبة الأحمق .
* الصدق فلا يصحب كاذباً .
* حسن الخلق فلا يصحب من ساء خلقه .
* الصلاح فلا يصحب فاسقاً مصراً على معصية .
* أن لا يصحب حريصاً على الدنيا .
2- أن يعلم حقوق الصداقة و الصحبة فهناك حقوق يوجبها عقد الصحبة و الصداقة في القيام بها آداب منها :
* الإيثار بالمال .
* الإعانة بالنفس في الحاجات .
* كتمان السر و ستر العيوب و السكوت عما يسوءه من مذمة الناس .
* أن يدعوه بأحب الأسماء إليه .
* أن يدعوا له في خلوته .
* أن يحسن الوفاء مع أهله و أقاربه بعد موته .
* أن يؤثر التخفيف عنه فلا يكلفه شيئاً من حاجاته .
* أن يبدأ بالسلام عند إقباله و أن يوسع له في المجلس و يخرج له من مكانه و أن يشيعه عند قيامه .
*أن يصمت عند كلامه حتى يفرغ من خطابه .

ب- وأما المعارف :
* أن لا يستحقر منهم أحداً .
* أن لا ينظر بعين التعظيم لهم في حال دنياهم .
* فإن عادوه فلا يقابلهم بالعداوة .
* أن لا يكن إليهم في حال إكرامهم إياه .
* قطع الطمع في مالهم و جاههم و معونتهم .

ج- وأما المجاهيل :
* ترك الخوض في حديثهم .
*قلة الإصغاء إلى أراجيفهم .
* التغافل عما يجري من سوء ألفاظهم .
* التنبيه على منكراتهم باللطف و النصح عند رجاء القبول منهم .

فهرس المصادر و المراجع:

1-الآداب المرضية لسالك طريق الصوفية:لسيدي محمد بن أحمد البوزيدي ،
2-بداية الهداية : للإمام الغزالي ، مكتبة ابن القيم / دمشق ، ط1 ،(1421-2000).
3-تفسير سورة الحجرات : للشيخ عبد الله سراج الدين ، مكتبة دار الفلاح /حلب ،(1413-1992).
4-تنوير القلوب : للشيخ محمد أمين كردي، دار الإيمان /دمشق ،(1413-1993)
5-حقائق عن التصوف : لسيدي عبد القادر عيسى ، دار العرفان /حلب ،(1421-2001)
6-سنن الترمذي : محمد بن عيسى بن سورة الترمذي ،حققه : أحمد شاكر ، دار إحياء التراث /بيروت ،د.ت
7-السنن الكبرى للبيهقي :أحمد بن الحسين البيهقي ، حققه : محمد عبد القادر عطا ،مكتبة دار الباز /مكة المكرمة،(1414-1994).
8-صحيح ابن حبان :محمد بن حبان ، حققه :شعيب أرناؤوط ،مؤسسة الرسالة /بيروت ط2 ، (1414-1993) .
9-صحيح البخاري : محمد بن إسماعيل البخاري ، حققه :د.مصطفى ديب البغا ، دار ابن كثير/بيروت ،(1407-1987).
10-صحيح مسلم : مسلم بن الحجاج ، حققه : محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث /بيروت ، د.ت
11-فيض القدير : عبد الرؤوف المناوي ،المكتبة التجارية الكبرى /مصر، ط 1 ،1356
12-في ظلال الحديث : د. نور الدين عتر، حقوق الطبع للمؤلف ،ط2 ،(1421-2000).
13-المستدرك على الصحيحين : للحاكم النيسابوري ، حققه : مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية/بيروت، ط 1 ، (1411-1990).
14-مسند أحمد: أحمد بن حنبل ،مؤسسة قرطبة /مصر .
15-المواد الغيثية : لسيدي أحمد بن مصطفى العلوي ،المطبعة العلاوية ،ط2 ،1999م
16-الموطأ : مالك بن أنس ، حققه : محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي /مصر .

_________________

*نقلًا عن “موقع الطريقة الشاذليَّة الدرقاويَّة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى