السلوك من منظور عرفاني
الشيخ حسن المحمود
العرفان عند أهل اللغة مشترك معنوي، يرادف في معناه لفظتي «المعرفة» و«العلم». يقول ابن منظور في «لسان العرب»: «عرف: العرفان: العلم… عَرَفَه… يَعْرفُهُ… عَرَفَه… عِرْفَةً وعِرْفَاناً وعِرفَّاناً ومَعْرِفَةً. ورجلٌ عروفٌ: عارفٌ، يعرفُ الأمورَ، ولا ينكرُ أحداً رآهُ مرّةً. والعريفُ والعارِفُ بمعنى مثل عليم وعالم… والجمعُ عُرَفَاءُ… والذي حصّلناه للأئمّة: رجلٌ عارفٌ، أي صبورٌ، وعريفُ القوم: سيّدهم، والعريفُ القيّم والسيّد لمعرفته بسياسة القوم… والعريفُ: النقيبُ، وهو دون الرئيس، والجمع عرفاءُ، والعارفُ والعَرُوفُ والعَروْفَةُ: الصابرُ، ونفسُ عَروفَةٌ: حاملةٌ صبور، إذا حُمِلَتْ على أمرٍ احْتَمَلَتْهُ» . لكن أهل التصوف والعرفاء على النقيض من أهل اللغة ميزوا منذ البداية بين المعرفة والعرفان والعلم؛ فخصوا أنفسهم بنعت المعرفة، ونسبوا العلم إلى ما عداهم من الناس. وفي هذا الصدد قال ابن هوازن القشيري (المتوفى 465هـ)، وهو من المصنفين الأوائل في التصوف: «المعرفة على لسان العلماء هو العلم؛ فكل علم معرفة، وكل معرفة علم، وكل عالم بالله تعالى عارف، وكل عارف عالم. وعند هؤلاء القوم المعرفة صفة من عرف الحق سبحانه بأسمائه وصفاته، ثم صدّق الله تعالى في معاملاته، ثم تُنفى عن أخلاقه الرديئة وآفاته، ثم طال بالباب وقوفه، ودام بالقلب اعتكافه، فحظي الله تعالى بجميل اقباله، وصدق الله تعالى في جميع أحواله، وانقطع عنه هواجس نفسه، ولم يصغ بقلبه إلى خاطر يدعوه إلى غيره، فإذا صار من الخلق أجنبياً، ومن آفات نفسه بريّاً، ومن المساكنات، والملاحظات نقياً، ودام في السرّ مع الله تعالى مناجاته، وحق في كل لحظة إليه رجوعه، وصار محدثاً من قبل الحق سبحانه بتعريف أسراره فيما يجريه من تصاريف أقداره، ويسمى عند ذلك عارفاً، وتسمى حالته معرفة» . في موازاة هذا التمييز، أو بالأحرى على أساسه، يصنف أهل التصوف/العرفاء المعارف أو المعلومات أو الحقائق إلى مستويات ثلاثة، ضمن حقول (مجالات/ميادين) ثلاثة، يستوحونها مما ورد ذكره في القرآن الكريم، منها ما هو قائم على البرهان والاستدلال، ومنها ما هو قائم على البيان والاختبار، ومنها ما هو قائم على المشاهدة والعيان/الكشف، وهذه الحقول متباينة، وما ينتج عنها من معارف متفاوت. أما معارف أهل التصوف/العرفاء فأسماها شأناً وأرفعها منزلة. يقول الهجويري في نفس الصدد: «اعلم أن هذه في حكم الأصول عبارات عن العلم، والعلم بلا يقين على صحته لا يكون علماً، وإذا حصل العلم تكون الغيبة فيه مثل العيان… فعلم اليقين بالمجاهدة، وعين اليقين بالمؤانسة، وحق اليقين بالمشاهدة، والأول عام، والثاني خاص، والثالث خاص الخاص» . والتصنيف المذكور ـ كما أشرنا ـ مستوحى مما ورد في القرآن الكريم، فورد في علم اليقين: }كلا لو تعلمون علم اليقين، لترونّ الجحيم{ (التكاثر: 5)، وفي عين اليقين ورد: }ثم لترونّها عين اليقين{ (التكاثر: 7). أما حق اليقين فقد ورد ذكرها مرتين، قال تعالى: }إن هذا لهو حق اليقين{ (الواقعة: 95) وقال تعالى أيضاً: }وإنه لحق اليقين{ (الحاقة: 51). وتجدر الإشارة هنا، إلى أن كلمة «اليقين» استعملت في القرآن الكريم، فيما عدا الآيات المذكورة، في موردين، أحدهما في مورد العيان والمشاهدة الحسية، كما في قوله تعالى عن إخبار الهدهد للنبي سليمان Q }فقال أحطت بما لم تحط به، وجئتك من سبأ بنبأ يقين{ (النمل: 22). والثاني في مورد العيان والمشاهدة القلبية، كما في قوله تعالى: }واعبد ربك حتى يأتيك اليقين{ (الحجر: 99)، وأيضاً في قوله تعالى: }وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين{ (الأنعام: 75). نخلص مما تقدم إلى أن هذا التمايز الذي يقيمه المتصوفة/ العرفاء، فضلاً عن أنه يستند إلى مرجعية فكرية وثقافية دينية، تعود في أصولها إلى القرآن الكريم، فإنه يمثل فصلاً منهجياً، يتخذ طابعاً منطقياً عقلانياً، يقوم على قاعدة الفحص أو التتبع أو الاستقصاء، بما يعرف عند المناطقة بالاستقراء؛ حيث عمدوا إلى حصر طرق المعرفة بطرق ثلاثة ـ كما تقدم بيانه: بيان (اختبار ـ مشاهدة حسية) وهو طريق/منهج أرباب العلوم، وبرهان وهو طريق الفلاسفة، وكشف/مشاهدة أو معاينة قلبية وهو طريق أهل المعرفة أو العرفاء، فلكل من الطوائف الثلاث طريقته أو منهجه؛ الذي يستند إليه لتحقيق ما يأمل أو يسعى إليه في فضاء أو مجال معرفي خاص، لا يعنى، بل لا يشاركه فيه غيره. يقول أبو العلا عفيفي: «وكما فرّق الصوفية بين القلب والعقل من حيث هما أداتان للإدراك ميزوا كذلك بين نوعي الإدراك الحاصلين منهما، واختصوا كلاً منهما باسم، فسموا إدراك العقل «علماً» وإدراك القلب «معرفة» و«ذوقاً»، وسموا صاحب النوع الأول «عالماً» وصاحب النوع الثاني «عارفاً». والفرق الجوهري بين المعرفة والعلم أن المعرفة إدراك مباشر للشيء المعروف، والعلم إدراك حقيقة من الحقائق عن الموضوع المعلوم، والمعرفة «حال» من أحوال النفس، تتخذ فيها الذات المدركة والموضوع المدرَك والعلم، والعلم حال من أحوال العقل يدرك فيها العقل نسبة بين مدركين، سلباً أو إيجاباً، أو يدرك مجموعة متصلة من هذه النسب». الحقل المعرفي العرفاني لا مراء في أن لكل علم حقله المعرفي الذي يخصه، وينفرد في درسه، وفي وعيه وفهمه، وعلى حدود هذا الحقل، وعلى أطرافه يقف علمه الخاص وينتهي، فلا يتعداه ولا يتجاوزه؛ حيث تبدأ حدوده لحقول علمية أخرى، وإن حدود العلم (أي علم) تتسع أو تضيق تبعاً لسعة حقله أو ضيقه. إن السمة العامة لحقول علومنا الحياتية المعاصرة، العلمية/الاختبارية والإنسانية على تفاوت مساحاتها ومسافاتها، سعة وضيقاً، محدودة ونسبية، بعيدة عن الإطلاقية والمعارف الناشئة منها نسبية، محدودة كذلك . في مستوى المعالجة الاعتقادية اللاهوتية، فإن الحقل/المجال/ الفضاء المعرفي العرفاني، رحب، واسع/مطلق، بوصفه مقدساً، وحال معارفه كذلك مطلقة، غير محدودة أو مقيدة، تكتسب إطلاقيتها من إطلاق المتعالي/المقدس المنسوبة إليه. فالعرفان ينتمي إلى صنف المقدسات، وإن هذه القدسية تضفى على الوجود برمته، ولو في وجه من وجوهه. وعلى ضوء ذلك، تبدو الاجابة واضحة حول انتماء هذا الحقل وهويته المعرفية إلى المقدس. كما أنه لم تعد ثمة حاجة ماسة إلى إعادة طرح التساؤل الاشكالي القائل: كيف يمكن لنا أن نقرأ المقدس أو ما ينتمي إلى المقدس بعلم نافل مخبري/اختباري؟ ولكن ثمة حاجة أكيدة، ونحن في مجال مقروئية الخطاب العرفاني، وفي حقله المعرفي، إلى تسليط الضوء على الحدود المرسومة للحقل العرفاني، أعني «الوجود المطلق». وفي هذا الصدد كتب الإمام الخميني: «العلم الإلهي موضوعه الحق من حيث ارتباطه بالخلق، وارتباط الخلق به، أي من حيث الإرتباطان، ومباديه الأسماء الذاتية، وباقي المباحث مسائله، كعلم الأسماء الصفاتي، والأسماء الأفعالي، أحكامها وارتباطها الناتجة للحضرات الخمس» . فحدود الحقل العرفاني، إذن، تمتد على امتداد الوجود المطلق المتفاوت المراتب، الذي يربط بينها علاقة المطلق بالمقيد، أو الغائب بالشاهد، أو ـ وفق التعبير الاجتماعي ـ بين المقدس والنافل. لقد جرت عادة العرفاء تقسيم الوجود إلى مراتب خمس، واعتبروا أن هذه المراتب بالرغم من تعددها وتفاوتها، يعبر عنها معنى واحد هو «الوجود» وأنَّها تعبر جميعها وتفصح عن «الوجود المطلق» الذي تجلت منه، مستندين في ذلك إلى نص قرآني متين هو قوله تعالى: }هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم{ (الحديد: 30). فإن «منتهى سلوك السالكين وغاية آمال العارفين هو فهم هذه الآية الشريفة المحكمة» . لقد وضع العرفاء ما يشبه رسماً أو هرماً نظرياً للوجود، قوامه المراتب الخمس التالية: الأولى ـ الهوية الغيبية: ويعبر عنها «الوجود المطلق»، لا بشرط، و«الهوية الغيبية» و«العنقاء المغرب» و«غيب الغيوب» و«الباطن المطلق» و«الوجود الصرف». وهذه المرتبة هي في «عماء وبطون، وغيب وكمون، لا اسم لها في عوالم الذكر الحكيم، ولا أثر لحقيقتها المقدسة في الملك والملكوت، ولا رسم، منقطع عنها آمال العارفين، وتزلّ في سرادقات جلالها أقدام السالكين، محجوب عن ساحة قدسها قلوب الأولياء والكاملين، غير معروفة لأحد من الأنبياء والمرسلين، ولا معبودة لأحد من العابدين والسالكين الراشدين، ولا مقصودة لأصحاب المعرفة والمكاشفين، حتى قال أشرف الخليقة أجمعين (ما عرفناك حق معرفتك، وما عبدناك حق عبادتك)» . الثانية ـ الذات الأحدية: وهي الذات الإلهية الأحدية، التي يعبر عنها بكلمة «الله» تعالى، كما يعبر عنها بعبارات أخرى مثل: «الاسم الأعظم» و«الفيض الأقدس» و«الاسم الجامع» و«التعيّن الأول» و«برزخ البرازخ» و«المرتبة الأحدية».. الخ. والذات الأحدية، هي المظهر الأول للهوية الغيبية التي يفصح عنها، وبتعبير أدق هي التجلي الأول للهوية الغيبية بمظهر الأحدية التي لا تعدد فيها، وواسطة هذه الهوية في تجلي العوالم الأخرى. الثالثة ـ الأسماء والصفات: وهي الأسماء والصفات المنسوبة إلى الذات الإلهية الأحدية، ويعبر عنها أيضاً بعبارات متعددة مثل: «التجليات النورية» و«الفيض المقدس» و«المرتبة الواحدية». والأسماء والصفات عبارة عن تجليات الهوية الغيبية بواسطة الذات الأحدية (الاسم الأعظم)، وعبر عنها لذلك «التعيّن الثاني»؛ نظراً لأنها تلي الذات الأحدية في التجلي في الوجود، وتمثل مرآة تعكس صورة الذات الأحدية، رغم تعددها، «فالتعينات الصفاتية مرائي انعكاس ذلك النور العظيم ومحل ظهوره» . الرابعة ـ الأعيان الثابتة: وهي: «تعينات الأسماء الإلهية»، وهي إنما «تحصل بالتجلي الثاني للفيض الأقدس، وهو التجلي بالألوهية في الحضرة العلمية» وذلك بواسطة الأسماء والصفات. الخامسة ـ الأعيان الخارجية: وهي تجليات الأسماء والصفات الإلهية في الأعيان المادية الخارجية (العالم الحسي) بواسطة الأعيان الثابتة، ويعبرون عنها بعبارات مختلفة مثل: «الظل» و«الحجب الظلمانية»، و«الزيبق خلف المرآة» و«المرتبة الوحدانية»،… الخ، هذه الأعيان وما كان منها قابلاً للوجود الخارجي تعلق به الفيض المقدس، وما لا يكون قابلاً لم يتعلق به، فظهور الأعيان الخارجية يتوقف على ثبوتها في العلم الإلهي، بما يسمى بالأعيان الثابتة التي «لولاها لما ظهرت عين من الأعيان» . المراتب الخمس المتقدمة تمثل هرم الوجود المطلق، المتفاوت في طبيعة ظهوره وتجليه، ولما كانت الهوية الغيبية التي هي الوجود الأصيل الذي يتجلى منه سائر مراتب الوجود، من الاسم الأعظم (الله تعالى) إلى الوجود الخارجي، مروراً بالأسماء والصفات والأعيان الثابتة، غير معروفة لأحد من الخلق، فإن الرابطة القائمة بين الحق والخلق التي تمثل موضوع العرفان، قائمة بين الذات الأحدية وتجلياتها الوجودية في المراتب اللاحقة له، والرابطة القائمة بينه وبينها تتمثل في عملية «التجلي» و«الظهور» في هيئات متفاوتة ومتباينة، وتعرف عملية التجلي هذه عند العرفاء بـ«مدّ الظل»، وهو مصطلح مقتبس ومستعار من قوله تعالى: }ألم ترَ إلى ربك كيف مدّ الظل ولو شاء لجعله ساكناً{ (الفرقان: 45). قال الإمام الخميني: «الظل مقام الكثرة في الوحدة، ومدّة ظهور الوحدة في ملابس الكثرات، والظل ومدّه متحد، واختلافهما في الاعتبار» . كما يطلق عليها أيضاً تسميات أخرى، مثل «الهوية السارية» و«الوجود المنبسط» و«النَّفَس الرحماني».. الخ ويجمعها كلمة «المشيئة المطلقة». ومن لطائف المصطلحات في هذا المقام، ما نُسِبَ إلى النبي P في الحديث القائل: «إن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش النور عليهم من نوره» . ونشير هنا، إلى أن قيام الرابطة المذكورة بين الحق والخلق، إنما تحصل في نظر العرفاء، بواسطة الإنسان، ذلك أن أول تعيّن ثبت في الأزل عند الذات الأحدية/ الله تعالى هو الإنسان، ولذا فإن «عين الثابت للإنسان الكامل خليفة الله الأعظم من الظهور بمرتبة الجامعية وإظهار الصور الأسمائية في النشأة العلمية، فإن الاسم الأعظم لاستجماعه الجلال والجمال والظهور والبطون لا يمكن أن يتجلى بمقامه الجمعي لعين من الأعيان لضيق المرآة وكدورتها وسعة وجه المرئي وصفاتها، فلا بدّ من مرآة تناسب وجه المرئي، ويمكن أن ينعكس نوره فيها حتى يظهر عالم القضاء الإلهي. ولولا العين الثابتة للإنسان لا تظهر عين من الأعيان الثابتة، ولولا ظهورها لما ظهرت عين من الأعيان الخارجية، ولا تنفتح أبواب الرحمة الإلهية. فبالعين الثابتة الإنسانية اتصل الأول بالآخر وارتبك الآخر بالأول». إذن، فالعلاقة تمتد في الذات الأحدية إلى عالم الأعيان الخارجية، وبالعكس، والرابطة في ذلك من طرف الذات الأحدية هي «التجلي» ومن طرف عالم الأعيان هو الإنسان الكامل. أما فيما يتعلق بحقيقة الرابطة مع الهوية الغيبية، فإن ذلك غير معلوم لأحد. وإذا كان العقل هو مفتاح أبواب المعارف وخزائن الكمالات والعلوم، ومقدمة لازمة وحتمية للسلوك الإنساني، فإن القلب هو مصدر الاطمئنان واليقين المعرفي وبواسطته يحصل الشهود وهو على معنى ما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب Q حين سئل: هل ترى ربنا؟ فقال: وكيف نعبد من لم نره! ثم قال: لم تَرَهُ العيون ـ يعني في الدنيا ـ بكشف العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، قال الله تعالى: }ما كذب الفؤاد ما رأى{. والمراد بالقلب في النص العرفاني، إنما هو «شيء لطيف» يشكل مرآة لانعكاس أنوار اليقين المعرفي، ومركز تلقي التجليات الإلهية، ومهبط الوحي والإلهام، إنه باختصار موطن الوجود المطلق، استناداً إلى النص القدسي: (لا تسعني أرضي ولا سمائي بل يسعني قلب عبدي المؤمن) يكون آية جماله المحبوب سوى قلب المؤمن ، ويكمن ذلك في رأي الإمام الخميني في أنه: «لا يوجد حجاب بين هذا القلب الذي بلغ في سعته وإحاطته الموجودات المجردة… وبين الحق المتعالي كما في الحديث الشريف: «إن روح المؤمن لأشد اتصالاً بروح الله من اتصال شعاع الشمس بها» . فإن قلب المؤمن، حسب الإمام الخميني، يتجه بفطرته إلى الله تعالى دون سواه، ومتحرر من أسر نفسه، غير ملوث بالمساوئ الأخلاقية والرذائل الباطنية، «فلو تحررت من أسر النفس، وأصبحت عبداً للحق المتعالي وجعلت القلب موحداً، وأجليت مرآة روحك من غبار النفاق والاثنينية، وأرسلت قلبك إلى النقطة المركزية للكمال المطلق، لشاهدت بعينك آثار ذلك في هذا العالم، ولتوسع قلبك بقدر يغدو محلاً لظهور السلطنة التامة الإلهية، حيث تصير مساحتها أوسع من جميع العوالم (لا يسعني أرضي ولا سمائي، ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن) ولشعرت غنى لم تفكر في عالمي المُلك والملكوت، ولم تجد لهما اللياقة لاحتضانك. بيت شعر: هل رأيت تحليق الطير؟ انسلخ من أغلال الشهوة حتى ترى تحايق الإنسان!» ولذا، فإن أهل المعرفة في طلب مستمر وشوق متصل، وهجرة دائمة، شغلهم الشاغل مجاهدة النفس، وترويض الإرادة، لا تهدأ نفوسهم ولا تلين قلوبهم إلاّ بمشاهدة الحق، ولا تتم ملاحظته إلاّ بالعزوف عن الدنيا والانسلاخ من الذات، فالهجرة إلى الحق تتطلب الخروج من الخلق، أي الانفصال عن الألوان أجمع، والانقطاع بالكلية له، فلا يعتمد على شيء سواه، ولا يرجع عنه إلى غيره . أما القلب الملوث بالمساوئ الأخلاقية والرذائل الباطنية، فإنه في نظر الإمام الخميني ـ لا يمكن أن يكون محلاً لهبوط الوحي والإلهام، ولا موطناً للتجليات، فإن الإنسان ما دام «يعيش في البيت المظلم للنفس لا يكون مسافراً إلى الله تعالى، بل يعدّ من المُخْلَدِين في الأرض، فإن الخطوة الأولى نحو الله، تتمثل في ترك حب النفس» . وإذا كان القلب مصدر إلهام العارف (المؤمن)، فإن ثمة تفاوتاً في مستويات قلوب العارفين، واختلافاً في طبيعة التجليات الوافدة على قلبه، وفي هذا الصدد كتب الإمام الخميني: «إن قلوب الأولياء تختلف فيما بينها في قبول تجليات الأسماء، فبعضها قلوب عشقية وشوقية وأن الحق المتعالي يتجلى في تلك القلوب من خلال أسمائه الجمالية، وذاك التجلي، يبعث على الشوق والخوف، فإن الخوف يكون من مضاعفات تجلي عظمة الله سبحانه» . وثمة قلب ـ في نظر الإمام الخميني ـ أوسع، قابل لتجلي جميع الأسماء الشوقية منها والخوفية. هذا القلب، هو قلب «الإنسان الكامل» في الاصطلاح العرفاني. |