الدراسات والبحوث

التربية الصوفية عند علماء الصحراء: الشيخ سيد المختار الكنتي نموذجًا

أ. شعيب النوهايدي

التربية الصوفية عند علماء الصحراء:

الشيخ سيد المختار الكنتي نموذجًا

أ. شعيب النوهايدي

لتحميل الدراسة pdf :

إن للتصوف دوراً بالغ الأهمية على مختلف الأصعدة، في ترسيخ وتعزيز القيم الاجتماعية في مجتمع الصحراء، لأنه يدفع الإنسان إلى السمو الروحي والتحلي بفضائل الأخلاق عن طريق التربية التي تدعو إلى التراحم والتعاطف ونشر قيم الحب بين الناس وتطهير النفس من الرذائل، والعمل على تحقيق التماسك الاجتماعي، فكان بذلك للمتصوفة تأثير على الحياة الاجتماعية للأفراد بمجتمع الصحراء، حيث مثل الصوفي للبعض القدوة في المحافظة على القيم من أخلاق وصدق وورع وعمل على محاربة الكثير من الآفات الاجتماعية والانحلال الأخلاقي.
ستجلي هذه المقالة أبرز أدوار الزوايا الصوفية في تحقيق وترسيخ القيم الدينية، ودورها في مواجهة التحديات التي يعرفها المجتمع المعاصر.
لقد اعتمدت الطرق الصوفية بمختلف مشاربها رصيدا أخلاقيا زاخرا بالكثير من القيم والأفكار، وأسست لتواصل فاعل ومثمر بين الناس ومكنت من استثمارها فرسخت بذلك ثقافة التسامح والسلام وعززت جسور العبور نحو عوالم الصفاء والمحبة، فجعلت بذلك تزكية النفوس وتهذيب الأخلاق مدخلا إلى تحقيق السلام بكل تجلياته وأبعاده ومستوياته.
وبهذا عمل أهل التزكية من رجالات التصوف وسعوا عبر تاريخهم المديد إلى التواصل مع الآخر بدافع إنساني أولا يتمثل في نشر المحبة والسلام وبدافع ديني يتمثل في تبليغ رسالة الإسلام السمحة والدعوة إلى تعزيز جسور التسامح ونبذ العنف والتطرف.
يعد التصوف أحد مقومات الهوية المغربية عبر التاريخ، ولم تقتصر آثاره على المجال الديني فحسب، بل شملت معالجته كل ما هو محيط بالإنسان عبر المجالات الروحية والوطنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وقد اهتم المغاربة وخاصة علماؤهم بخدمة علم التصوف وأسهموا في بلورته في واقعهم المجتمعي، وبذلوا غاية وسعهم في دلالة المنتسبين على التمسك بآداب الشريعة ظاهرا وباطنا، بحفظ الجوارح والتخلي عن الرذائل والتحلي بأنواع الفضائل، فهو المنهج الذي يحقق للإنسان صلاح الدنيا والآخرة.
ومما يحسن التمثيل به في هذا المقام وما خلف من آثار طيبة في نفوس هذه الربوع مجدد الطريقة الكنتية الشيخ سيد المختار الكنتي، تُعدُّ نبراسا للإصلاح، ومنهجا يحتذى به، نظرا لجمعها بين العديد من المحاسن والمزايا.
كما أن الطريقة المختارية الكنتية ذات الأصول القادرية، من الطرق الصوفية التي جسدت الاتجاه السلوكي التربوي في التصوف بامتياز، تربى في ظلها المريدون حتى تحصل لهم الترقية الروحية والنفسية، والتي ترمي إلى معرفة الله جل جلاله، واستجلاب محبته بإخلاص العبودية له.
ولقد تزعم الشيخ سيد المختار الكنتي الكبير مشيخة الطريقة القادرية الكنتية، وجددها عن طريق محاربة البدع التي دخلتها بواسطة الجهل والخرافة، فأرجعها إلى أصلها الذي أسست عليه، وهي تزكية القلوب وتطهير النفوس، وفق مبادئ الشريعة الإسلامية وأصولها القائمة على الكتاب والسنة النبوية المطهرة.
ونقتبس من كلام الشيخ قوله: ‘إن من واجب المريد بل من مصلحته أن يختار شيخا مؤهلا ذا تجارب وعلم ومعرفة، شيخا جعل الحقيقة معاشا والشريعة رياشا يكرع حياضها، فقد قيل من تعلق بشيخ غير واصل بارَ وانفصلَ.
وكان الشيخ سيد المختار الكنتي قد أخذ عن شيخه علي بن النجيب التكروري عن شيخه محمد الأمين بن عمر ذي النقاب عن شيخه أحمد الخليفة بن عمر الرقاد عن علي بن أحمد بن الرقاد عن شيخه أحمد بن محمد الرقاد عن شيخه أحمد الفيرم عن شيخه سيدي اعمر الشيخ عن شيخه محمد بن عبد الكريم المغيلي عن عبد الرحمن السيوطي عن شيخه عبد الرحمن الثعالبي عن شيخه أبي بكر بن العربي عن شيخه محمد بن أبي بكر التجيبي عن شيخه أبي موسى ناصر الدين المشدالي عن شيخه أبي حامد الغزالي عن شيخه أبي الحسن الشاذلي عن شيخه عبد السلام بن مشيش عن شيخه محيي الدين بن عربي الحاتمي عن شيخه صفاء الدين ين نجيب السهروردي عن شيخه علي بن هيثا عن شيخه عبد القادر.
وإن الشيخ سيد المختار قد اتصل سنده الصوفي بشيوخ ارتبطت أسماؤهم بتاريخ التصوف بالغرب الإسلامي، خاصة ما أخذ عن عمر الشيخ الكنتي عن محمد بن عبد الكريم المغيلي الطريقة، عندما التقى الأول بالثاني في أحد أسفاره فلازمه وأخذ عنه الورد القادري، وتبعه في كل جولاته الداعية لنشر الدين والإصلاح، وترسخ اعتقاد سيدي اعمر (عمر الشيخ الكنتي) في القادرية، وقوي إيمانه بمبادئها بعد اتصاله رفقة أستاذه المغيلي بالشيخ السيوطي خلال رحلتهما إلى المشرق لأداء مناسك الحج والذي منحهما الورد القادري وأمرهما بنشر تعاليم القادرية في بلادهما، وعند وفاة المغيلي (ت. 940 ه) تخلص تلميذه من سلطة خلفائه في توات، وأصبح الرئيس الأعلى لهذه الطريقة في بلاد التكرور، واتسعت دائرة انتشار هذه الطريقة على يد أبناء الشيخ سيدي اعمر وإخوته وأحفاده إلى أن انتقلت إلى أحد شرفاء بلاد التكرور، ويدعى علي بن النجيب بن شعيب (كما جاء في السند)، لكن سرعان ما استردتها على يد الشيخ سيد المختار الكنتي الذي أخذ الورد عن علي كما ذكرنا سابقا.
ومن الأسس التي ركز عليها الشيخ سيد المختار الكنتي في طريقته:
أن علوم أهل التصوف مبنية على الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح من الأمة.
تأكيده على أن ‘السند هو العروة الوثقى التي بها يستمسكون، والركن الأقوى الذي إليه يستندون، والمدد الأوفى الذي منه يستعدون. فكان أحدهم يجوب الفيافي والقفار، ويتورد القرى والأمصار، طلبا للاجتماع بمرشد ناصح أو مرب صالح’.
تأكيده على خصوصية طريقته بقوله: من خصائص طريقتنا هذه خلوها عما في غيرها من الطرق من الشطح والتماوت والتغاشي والرقص، ونحو ذلك …’
ومن خلال كتابه؛ “زوال الالباس في طرد الشيطان الخناس” يتضح لنا أن التصوف عند الشيخ سيد المختار الكنتي تصوف أخلاق الغاية منه هي إصلاح القلوب وتزكيتها، وتربية النفوس على مكارم الأخلاق، وهو كذلك مقام الإحسان المذكور في حديث جبريل.
لذلك أسهم التصوف في تخليق الحياة العامة وإيجاد الحلول لمشكلات الإنسان وإحياء القيم المرتبطة بالجانب النفسي والسلوكي، وبالتالي العمل على نشر الخير والتعاون مع الغير على الخير، فكان قصد الشيخ سيد المختار الكنتي من هذا الكتاب؛ الاعتصام بالكتاب والسنة والإكثار من الذكر والتشبع بالقيم الدينية والابتعاد عن غرور الشيطان، والهدف من كل هذا هو جلب السعادة للإنسان وتوفير السكينة له، وتحصينه من كل الانحرافات الضالة والمعتقدات الفاسدة، مع ابراز دور التربية الصوفية في تحصين الفرد من غرور الشيطان.
فالشيخ يحث على مجاهدة النفس الأمارة بالسوء بردها عن غيها وضلالها ودعوتها الى اتباع الطريق الحق والدعوة إلى تقوى الله عز وجل في السر والعلن، واتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، مع التحذير من الوسوسة في الصلاة، كما بين أصناف المغرورين وفرقهم، ومنهم العلماء، أرباب العبادات والأعمال المغرورين من أرباب الأموال، لذلك نجده يقول في زوال الإلباس ما نصه: “فرقة منهم لما أحكموا على العلوم الشرعية والعقلية، تعمقوا فيها واشتغلوا بها وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها من المعاصي، وإلزامها الطاعات اغترارا بعلومهم؛ لظنهم أنهم عند الله بمكان، وأنهم قد بلغوا من العلوم مبلغا لا يعذب الله مثلهم، بل يقبل في الخلق شفاعتهم، ولا يطالبهم بذنوبهم وخطاياهم فهم مغرورون”.
من خلال ما سبق يتضح لنا أن التربية الصوفية مرتبطة بالواقع المعاش، وأنها تعتمد على القيم الروحية والاعتدال بعيدا عن الشطح والغلو، كما أنها تربية تدعو إلى اشراك الفرد دون الدعوة إلى اعتزاله الحياة، فاتضح بذلك قدرة التربية الصوفية على فهم الواقع ومسايرته.

_______________________________

*نقلًا عن موقع ” مركز الصحراء للدراسات الإنسانية والاجتماعية”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى