التصـــوُّف و الأدب
جميل حمداوي
يعد التصوف من أهم المباحث الأساسية التي يدرسها الفكر الإسلامي إلى جانب علم الكلام والفلسفة والفكر العربي المعاصر. وقد قطع التصوف الإسلامي أشواطا كثيرة في تطوره إلى أن تحول إلى طرق وزوايا ورباطات دينية للسالكين والمريدين يقودهم شيخ أو قطب. وقد قامت هذه الطرق والزوايا بأدوار إيجابية تتمثل في خدمة الناس والفقراء والمحتاجين على مستوى الاجتماعي، والدعوة إلى الجهاد على المستوى السياسي، بيد أن هناك من الزوايا الطرقية التي كان لها دور سلبي يتمثل في مهادنة الاستعمار والتحالف معه ضد السيادة الوطنية ومصلحة الشعب.
هذا، وللتصوف علاقة وطيدة بالأدب نثرا وشعرا، إذ استعان المتصوفة بالشعر للتعبير عن مجاهداتهم وشطحاتهم العرفانية، كما استعانوا بالنثر لتقديم قبساتهم النورانية وتجاربهم العرفانية الباطنية. إذاً، ما هي علاقة التصوف بالأدب بصفة عامة والشعر بصفة خاصة؟
1- مفهـــوم التصوف:
من يتأمل الاشتقاقات اللغوية لكلمة التصوف، فإنه سيجد أن الكلمة تدل على عدة معان كالدلالة على الصفاء والصفو؛ لأن هم المتصوف هو تزكية النفس وتطهيرها وتصفيتها من أدران الجسد وشوائب المادة والحس، وقد تشير الكلمة إلى أهل الصفة الذين كانوا يسكنون صفة المسجد النبوي، ويعيشون على الكفاف والتقشف وشظف العيش، ويزهدون في الحياة الدنيا. وهناك من يربط التصوف بلباس الصوف ؛ لأن المتصوفة كانوا يلبسون ثيابا مصنوعة من الصوف الخشن، في حين ذهب البيروني إلى أن التصوف مشتق من كلمة صوفيا اليونانية، والتي هي بمعنى الحكمة.
وعلى الرغم من تعدد معاني كلمة التصوف، فإن الدلالة الأميل إلى المنطق والصواب هي اشتقاقها من الصوف الذي يشكل علامة تميز العارف وتفرد الزاهد عن باقي الناس داخل المجتمع العربي الإسلامي، وقد يكون هذا تأثرا بالرهبان النصارى أو تأثرا بأحبار اليهود.
ويقصد بالتصوف في الاصطلاح تلك التجربة الروحانية الوجدانية التي يعيشها السالك المسافر إلى ملكوت الحضرة الإلهية و الذات الربانية من أجل اللقاء بها وصالا وعشقا، ويمكن تعريفه كذلك بأنه تحلية وتخلية وتجل، ويمكن القول أيضا بأن التصوف هو محبة الله والفناء فيه والاتحاد به كشفا وتجليا من أجل الانتشاء بالأنوار الربانية والتمتع بالحضرة القدسية.
ويلاحظ أن لكل متصوف تعريفا خاصا للتصوف حسب التجربة الصوفية التي يخوضها في حضرة الذات المعشوقة.
وإذا كان الفلاسفة يعتمدون على العقل والمنطق للوصول إلى الحقيقة، وعلماء الكلام يعتمدون على الجدل ، والفقهاء يستندون إلى الظاهر النصي، فإن المتصوفة يتكئون في معرفتهم على القلب والحدس الوجداني والعرفان اللدني متجاوزين بذلك الحس والعقل نحو الباطن. لذا يعتبر التأويل من أهم الآليات الإجرائية لفهم الخطاب الديني والصوفي على حد سواء.
ويقوم التصوف الإسلامي على موضوعات بارزة تغني عوالمه النظرية والعملية ، وهذه المواضيع هي: المجاهدات والغيبيات والكرامات والشطحات. أي ينبني التصوف على مجموعة من المقامات والأحوال والمراقي الروحانية عبر مجاهدة النفس ومحاسبتها ، والإيمان بالصفات الربانية ومحاولة استكشافها روحانيا ووجدانيا، ورصد الكرامات الخارقة التي قد تصدر عن العارف السالك أو المريد المسافر أو الشيخ القطب، فتبرز العوالم الفانطاستيكية، وتنكشف الأسرار الكونية ومفاتيح الغيب أمام العبد العاشق الذي انصهر في حب معشوقه النوراني . وتتحول الممارسات والأقوال والعبارات العرفانية عند بعض الصوفية إلى شطحات لا أساس لها من الصحة والواقع، وتكون اقرب من عالم التخريف والأسطورة والأحلام.
ويستعير التصوف مصطلحاته من عدة معاجم كالمعجم الفلسفي والمعجم الأدبي والمعجم النحوي والمعجم الصرفي والمعجم الكيميائي، والمعجم الفقهي، والمعجم الأصولي، والمعجم القرآني، والمعجم النبوي….
2– مراحل التصوف:
يمكن تقسيم أطوار التصوف إلى عدة مراحل أساسية يمكن إجمالها في المراحل التالية:
أ- مرحلة الزهـــد:
انطلق التصوف الإسلامي مع مجموعة من الزهاد والأتقياء الورعين الذين كانوا يعتكفون في المساجد، يقضون حياتهم في عبادة الله وتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه . وكان أهل الصفة في عهد الدعوة الإسلامية من الزهاد الذي ارتضوا حياة التقشف والفقر وسبيل الفاقة؛ لأن الدنيا زائلة بينما الآخرة باقية. وكان الرسول ( صلعم) نموذجا حقيقيا للزهد والورع والتقوى ، إذ لم ينسق مع مغريات الحياة الدنيا، بل كان يكبح نفسه من أجل نيل رضى الآخرة. ولقد سار الصحابة رضوان الله عليهم على نفس الطريق الذي سار فيه النبي المقتدى ، فآثروا حياة النسك والزهد والتقشف والورع من أجل نيل مرضاة الله وجنته العليا.
ب- مرحلة التصوف السني:
لم يظهر التصوف السني إلا بعد مرحلة الزهد والتقشف في الدنيا واختيار حياة الورع والتقوى والإخلاص في الاعتكاف والإكثار من الخلوة و التخلي عن الدنيا واستشراف الآخرة. وسمي بالتصوف السني ؛ لأنه كان مبنيا على الشريعة الإسلامية وأحكام الشرع الرباني، أي إن الصوفية كانوا يوفقون بين الباطن والظاهر أو يؤالفون بين الشريعة النصية والباطن العرفاني. وبتعبير آخر، كان المتصوفة السنيون يستندون إلى الكتاب أولا، فالسنة النبوية ثانيا مع الابتعاد عما يغضب الله و تمثل أوامره والابتعاد عن الحرام وارتكاب الذنوب والمعاصي والارتماء في أحضان الذات المعشوقة.
ومن أهم المتصوفة السنيين نذكر: الحسن البصري الذي عرف بالخوف الصوفي، والمحاسبي الذي أوجد أصول التصوف والمجاهدة، والقشيري المعروف بالرسالة القشيرية، والغزالي صاحب كتاب ” منقذ الضلال” والذي يعد من السباقين إلى التوفيق بين الظاهر والباطن على ضوء الشريعة الإسلامية، ورابعة العدوية المعروفة بالمحبة الإلهية، والجنيد ، وأبو نصر السراج، وابن المبارك ، ومالك بن دينار، وعبد القادر الجيلاني، وأحمد البدوي، وأحمد الرفاعي، وابن عبدك….
ج- مرحلة التصوف الفلسفي:
انتعش التصوف الفلسفي إبان العصر العباسي في منتصف القرن الثالث الهجري مع انتشار الفكر الفلسفي، والاحتكاك بثقافات الشعوب المجاورة ، وترجمة الفكر اليوناني من قبل علماء بيت الحكمة الذي بناه المأمون في بغداد لنقل تراث الفكر الهيليني وفكر المدرسة الإسكندرية إلى اللغة العربية. وبطبيعة الحال، سيتأثر التصوف الإسلامي بالمؤثرات الخارجية والمؤثرات الداخلية على حد سواء كما نجد ذلك واضحا لدى الحلاج صاحب نظرية الحلول، والبسطامي صاحب نظرية الفناء، وابن عربي صاحب فكرة وحدة الوجود، ناهيك عن شطحات غريبة في تصوف ابن الفارض والشريف الرضي وجلال الدين الرومي ونور الدين العطار والشبلي وذي النون المصري والسهروردي.
هذه النظريات الصوفية هي التي ستدفع المستشرقين لربط التصوف بالمعتقدات المسيحية واليهودية والعقيدة البوذية والنرڤانا الهندية والتصوف الفارسي.
3- الأدب الصوفي:
أ- الشعر الصوفي القديم:
يمكن تقسيم الأدب الصوفي إلى ثلاثة أطوار: الطور الأول يبدأ من ظهور الإسلام وينتهي في أواسط القرن الثاني للهجرة؛ ” وكل ما بين أيدينا منه طائفة كبيرة من الحكم والمواعظ الدينية والأخلاق تحث على كثير من الفضائل، وتدعو إلى التسليم بأحكام الله ومقاديره، وإلى الزهد والتقشف وكثرة العبادة والورع، وعلى العموم تصور لنا عقيدة هذا العصر من البساطة والحيرة.
والطور الثاني يبدأ من أواسط القرن الثاني الهجري إلى القرن الرابع. وهنا يبدو ظهور آثار التلقيح بين الجنس العربي والأجناس الأخرى، وفيه يظهر اتساع أفق التفكير اللاهوتي، وتبدأ العقائد تستقر في النفوس على أثر نمو علم الكلام. وفيه يظهر عنصر جديد من الفلسفة.
والأدب الصوفي في طوريه الأول والثاني أغلبه نثر، وإن ظهر الشعر قليلا في طوره الثاني. وفي الطور الثاني هذا يبدأ تكون الاصطلاحات الصوفية والشطحات.
أما الطور الثالث فيستمر حتى نهاية القرن السابع وأواسط القرن الثامن، وهو العصر الذهبي في الأدب الصوفي، غني في شعره، غني في فلسفته، شعره من أغنى ضروب الشعر وأرقاها، وهو سلس واضح وإن غمض أحيانا.” [1]
هذا، وقد تطور الأدب الصوفي نثرا وشعرا، وبلغ الشعر الصوفي ذروته مع ابن العربي وابن الفارض في الشعر العربي، وجلال الدين الرومي في الشعر الفارسي.
ولم يظهر الشعر الصوفي إلا بعد شعر الزهد والوعظ الذي اشتهر فيه كثيرا أبو العتاهية ، و قد ظهر الشعر الصوفي كذلك بعد شعر المديح النبوي وانتشار التنسك والورع والتقوى بين صفوف العلماء والأدباء والفقهاء والمحدثين كإبراهيم بن أدهم، وسفيان الثوري، وداود الطائي، ورابعة العدوية، والفضيل بن عياض، وشقيق البلخي، وسفيان بن عيينة، ومعروف الكرخي ،وعمرو بن عبيد، والمهتدي. ويعني هذا أن الشعر الصوفي ظهر في البداية عند كبار الزهاد والنساك، ثم” أخذت معالمه تتضح في النصف الأول من القرن الثالث الهجري. فذو النون (ت245هــ) واضع أسس التصوف، ورأس الفرقة لأن الكل أخذ عنه وانتسب إليه، وهو أول من فسر إشارات الصوفية وتكلم في هذا الطريق.
ولم ينته القرن الثالث الهجري حتى أصبح الشعر الصوفي شعرا متميزا يحمل بين طياته منهجا كاملا للتصوف، وأما الذين جاؤوا بعدهم فإنهم تميزوا بالإفاضة والتفسير.” [2] ويقول الدكتور شوقي ضيف في هذا السياق:” ومنذ أواخر القرن الثالث الهجري تلقانا ظاهرة جديدة في بيئات الصوفية، فقد كان السابقون منهم لاينظمون الشعر بل يكتفون بإنشاد ماحفظوه من أشعار المحبين وهم في أثناء ذلك يتواجدون وجدا لايشبهه وجد، أما منذ أبي الحسين النوري المتوفى سنة 295هـ فإن صوفيين كثيرين ينظمون الشعر معبرين به عن التياع قلوبهم في الحب آملين في الشهود مستعطفين متضرعين، مصورين كيف يستأثر حبهم لربهم بأفئدتهم استئثارا مطلقا، نذكر منهم سحنون أبا الحسين الخواص المتوفى سنة 303، وأبا علي الروذباري المتوفى سنة 322 ، والشبلي دلف بن جحدر المتوفى سنة 334 وجميعهم من تلامذة الجنيد.
وواضح أن العصر العباسي الثاني لم يكد ينتهي حتى تأصلت في التصوف فكرة المعرفة الإلهية ومحبة الله كما تأصلت فكرة أن الصوفية أولياء الله ،” [3]
وقد ترتب عن هذا أن اشتهر كثير من الصوفية في العصر العباسي كالسري السقطي الذي يعد أول من تكلم في لسان التوحيد وحقائق الأحوال ، وهو أيضا أول من تكلم في المقامات والأحوال قبل ذي النون المصري [4]، وسهل بن عبد الله التستري، والجنيد، والحسين بن منصور المشهور باسم الحلاج، والحسن بن بشر، ويحيى بن معاذ، وأبي سعيد الخراز، وحمدون القصار النيسابوري، والمحاسبي، وابن العربي ، وابن الفارض، والشريف الرضي، والنفري صاحب كتابي:” المواقف” و” المخاطبات”.
ومن أصول التصوف عند هؤلاء العارفين: التمسك بكتاب الله تعالى، والاقتداء بسنة رسول الله( ص)، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق. [5] ويقول الجنيد:” طريقنا مضبوط بالكتاب والسنة، ومن لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث ولم يتفقه لا يقتدى به”. [6]
ومن الشعراء الذين مالوا إلى الكتابة الصوفية جحظة البرمكي إبان العصر العباسي حيث يظهر تجلده ومحاسبته للنفس وميله إلى التزهد والتقشف في الحياة وارتضاء عيش الفقر والضنك بدلا من الارتماء في أحضان الدنيا الفانية:
إني رضيت من الرحيق بشراب تمر كالعقيق
ورضيت من أكل السميـــــد بأكل مسود الدقيق
ورضيت من سعة الصحـــــن بمنزل ضنك وضيق
وعرفت رابعة العدوية بكونها شاعرة فلسفة الحب ؛ لأنها حصرت حياتها في حب الذات الربانية والسهر المستمر من أجل استكشافها لقاء ووصالا:
أحبك حبين: حب الهوى
وحبا لأنك أهل لذاكـــــــا
فأما الذي هو حب الهوى
فشغل بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له
فكشفك لي الحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
واعتبر ذو النون القرآن الكريم محرك القلوب والهمم والوجدان الروحي، و عده السبب لكل تذلل عرفاني يصدر عن المحب العاشق:
منع القرآن بوعده ووعيده
مقل العيون بليلها أن تهجعا
فهموا عن الملك الكريم كلامه
فه۫ما تذل له الرقاب وتخضعا
ويشيد ذو النون بمحبة الله التي توصل العارف السالك إلى النجاة والفوز برضى الله ووصاله اللدني:
من لاذ بالله نجــــا بالله
وسره مــــرّ قضاء الله
لله أنفاس جـــــــرت لله
لاحول لي فيها بغير الله
ويعظم الجنيد حضور الله في قلبه الذي يعمره بهواه ، ولا يستطيع أن ينساه مادام أن الله هو المستند والمعتمد:
حاضر في القلب يعمره
لســـت أنساه فأذكره
فهو مولاي ومعتمدي
ونصيبي منـــه أوفره
ويبين الجنيد شوقه نحو الذات الإلهية في لحظات اللقاء والفراق وتعظيمه للحضرة الربانية أثناء تواجدها في قلب العارف المحب:
وتحققتـــك في الســــر
فنــاجـــاك لســــــاني
فاجتمعــــــنا لمعان
وافترقـــــنا لمعـــــاني
إن يكن غيبك التعظـ
ـيم عن لحظ عياني
فلقد صيرك الوجد
من الأحشــــــاء داني [7]
ويتبنى الجنيد في بعض الأبيات الشعرية نظرية الفناء في الذات الربانية على غرار أبي يزيد البسطامي، ويكون الفناء عن طريق تجرد النفس عن رغباتها وقمعها لشهواتها وانمحاء إرادتها والفناء في الذات الإلهية كما في هذا البيت الشعري:
أفنيتني عن جميعي
فكيف أرعى المحلا
وقد عمل الجنيد على إرساء نظام الطرق الصوفية وتحديد مسالك العارفين ونظام المريدين في التصوف الإسلامي.
ومن شعراء المحبة الإلهية وفكرة الفناء الصوفي عبر انمحاء الإرادة البشرية وذوبانها في الإرادة الربانية الشاعر الصوفي أبو الحسين سحنون الخواص الذي قال:
وكان فؤادي خاليا قبل حبكـــم
وكان بذكر الخلق يلهو ويمزح
فلما دعا قلبي هواك أجابه
فلست أراه عن فنائك يــــــبرح
رميت ببين منك إن كنت كاذبا
وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرح
وإن كل شيء في البلاد بأسرها
إذا غبت عن عيني بعيني يملح
ومن الشعراء الذين تغنوا بفكرة الفناء والمحبة الإلهية الشاعر الصوفي أبو علي الروذباري:
روحي إليك بكلها قد أجمعت
لو أن فيها هلكها ما أقلعت
تبكي عليك بكلها عن كلها
حتى يقال من البكاء تقطعت
وتشيد ميمونة السوداء بالعارفين السالكين الذين يحبون الله ويسلكون في تجلدهم الروحاني مقامات وأحوالا من أجل الاتحاد بالله ومعانقته والاتصال بجبروته وقدسيته النوارنية:
قلوب العارفين لها عيون
ترى ما لا يراه الناظروما
وألسنة بسر قد تنــــاجي
تغيب عن الكــــرام الكاتبينا
وأجنحة تطير بغــير ريش
إلى ملكــــوت رب العالمينا
فتسقيها شراب الصدق صرفا
وتشرب من كؤوس العارفينا
[8]ويعد الحلاج من كبار الصوفية الذين تغنوا بالذات الربانية ، وقد استطاع أن يبرهن على وجود الله اعتمادا على التجلي النوراني والمحبة الروحانية التي يعجز عن إدراكها أصحاب الظاهر والحس المادي:
لم يبق بيني وبين الحق اثنان
ولا دليـــل بآيات وبرهان
هذا وجودي وتصريحي ومعتـقدي
هذا توحد توحيدي وإيماني
هذا تجل بنور الحق نائره
قد أزهرت في تلاليها بسلطان
لايستدل على الباري بصنعته
وأنتــــم حدث ينبي عن أزمان
ويزور الحلاج حبيبه في الخلوات ويذكره سرا وجهرا، ويدركه بالقلب الوجداني في الحضور والغياب قربا وبعدا، ويفهم جيدا كلمات الرب من خلال تجلياته النورانية وحضرته القدسية واللدنية:
لي حبيب أزور في الخلوات
حاضر غائب عن اللحظات
ماتراني أصغي إليه بسمع
كي أعي ما يقول من كلمات
كلمات من غير شكل ولا نط
ــق ولا مثل نغمة الأصوات
فكأني مخاطب كنت إيا
ه على خاطري بذاتي لذاتي
حاضر غائب قريب بعيد
وهو لم تحوه رسوم الصفات
هو أدنى من الضمير على الو
هم وأخفى من لائح الخطوات
بيد أن الحلاج يسقط في فكرة الحلول والتي تعني حلول اللاهوت في الناسوت، وتذكرنا هذه الفكرة الصوفية بالمعتقد المسيحي الذي يؤكد الطبيعة الثنائية للمسيح. وقد أودت هذه الفكرة بمتصوفنا إلى الصلب والإعدام حينما خرج إلى الناس وهو يقول: أنا الله أو أنا الحق، وما في جبتي إلا الله، وفي هذا يقول الحلاج:
سبحان من أظهر ناسوته
سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا لخلقه ظاهرا
في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه
كلحظة الحاجب بالحاجب
وفي موقع آخر يؤكد هذه الحلولية بقوله الشعري:
مزجت روحك في روحي كما
تمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسك شيء مسني
فإذا أنت أنا في كل حال
ويقول أيضا:
أنا من أهوى، ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
وهذه الشطحات الصوفية هي التي دفعت المستشرقين إلى ربط التصوف الفلسفي بالمؤثرات الخارجية بعيدا عن القرآن والسنة، إذ أرجعوا التصوف الإسلامي إلى مصادر خارجية كالمسيحية واليهودية و الفارسية والبوذية والأفلاطونية المحدثة.
و من جهة أخرى، يلقى الصوفية في مسالكهم الوجدانية ومقاماتهم أنواعا من البلاء والمحن خاصة أثناء خلوتهم الروحانية التي تستلزم الصبر والتجلد والفقر والمعاناة والضنى من أجل لقاء الله والاتصال به حضرة وتجربة وانكشافا كما في هذين البيتين للشاعر العباسي أبي الحسن النوري:
كم حسرة لي وقد غصت مرارتها
جعلت قلبي لها وقفا لبلواك
وحق ما منك يبليني ويتلفني
لأبكينك أو أحظى بلقياك [9]
ويعد ذو النون المصري أول من تحدث عن الأحوال والمقامات الصوفية إلى جانب السري السقطي، وهو حسب شوقي ضيف:” الأب الحقيقي للتصوف، هو أول من تكلم عن المعرفة الصوفية فارقا بينها وبين المعرفة العلمية والفلسفية التي تقوم على الفكر والمنطق، على حين تقوم المعرفة الصوفية على القلب والكشف والمشاهدة، فهي معرفة باطنة تقوم على الإدراك الحدسي، ولها أحوال ومقامات” . [10] وإليكم أبيات ذي النون المصري وهو يناجي ربه روحانيا:
أموت وما ماتت إليك صبابتي
ولا قضيت من صدق حبك أوطاري
تحمــــــــــل قلبي ما لا أبثه
وإن طال سقمي فيك أوطال إضراري
أما ابن العربي فيقول بوحدة الوجود الناتجة عن تجاوز ثنائية الوجود: وجود الله ووجود الكون، فعن طريق امتزاجهما في بوتقة عرفانية واحدة تتحقق الوحدة الوجودية بين العارف والذات الربانية، كما يؤمن ابن عربي بتعدد الأديان مادامت تنصب كلها على محبة الله واستجلاء ملكوته روحانيا:
عقد الخلائق في الإله عقائدا
وأنا اعتقدت جميع مااعتقدوه
وقال ابن عربي أيضا:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
ومن الشعراء الذين اشتهروا بالكتابة الصوفية ابن الفارض المصري الذي عاش ما بين القرن السادس والسابع الهجري( 576هـــ- 632هـ )، وتأثر بالتجربة الصوفية للسهروردي. وكتب عدة قصائد صوفية من أشهرها تائيته الكبرى وكافيته التي يتغزل فيها بالذات الربانية مبديا لواعجه وتشوقه إلى الحضرة الربانية كاشفا عواطفه الصادقة ولهفته لرؤية الله :
ابــــق لي مقلـــة لعلــي يومـــــــا
قبل مـــوتي أرى بها من رآكا
أين مني مارمت؟ هيهات بل أيـــ
ن لعيـــني باللحــــظ لثم ثراكا
وبشيري لو جاء منك بعطف
ووجودي في قبضتي قلت هاكا
قد كفى ماجرى دما من جفون
لي قرحي! فهل جرى ما كـفاكا
فانا من قلاك فيــــــــك معنى
قبل أن يعرف الهــــوى يهـــواكا
بانكساري بذلتي بخضوعي
بافتقـــــاري بفـــاقـــتي لغنــــــاكا
لاتكلــــني إلى قوى جلد خا
ن ، فإني أصبحــت من ضعــفاكا
كنت تجفو وكان لي بعض صبر
أحسن الله في اصطباري عزاكا!
كم صدود عساك ترحم شكوا
ي، ولو باستماع قولــي عساكا!
شنّع المرجفون عنك بهجري
وأشاعـــــوا أني سلـوت هــــواكا
ما بأحشائهم عشقت، فأسلو
عنــــــك يوما. دع يهجر حاشاكا
كيف أسلو ؟ ومقلتي كلما لا
ح بريـــــق تلفتت للقـــــــــــــاكا
كل من في حماك يهواك لكن
أننــــــا بكــــــل مـــن في حماكا
ومن مميزات الشعر الصوفي القديم السمو الروحي، واستكناه المعاني النفسية العميقة ، والخضوع لإرادة الله القوية، والإكثار من الخيال ، واستعمال الرمزية والشطحات الصوفية، والجنوح نحو الإبهام والغموض، والتأرجح بين الظاهر والباطن، والتأثر بالشريعة الإسلامية كما هو شأن التصوف السني ، وتمثل المصادر الفلسفية والعقائد الأجنبية كما هو حال الشعر الصوفي الفلسفي.
ب- الأدب الصوفي الحديث:
إذا كان الكثير من المتصوفة هم الذين كتبوا الأشعار الصوفية في محبة الله وفنائه في الشعر العربي القديم، ففي العصر الحديث نجد الشعراء هم الذين دبجوا تجارب صوفية في قصائد ذاتية وجدانية كما في القصائد الرومانسية عند عبد الكريم بن ثابت في مصنفه الشعري :” ديوان الحرية” الذي قدم فيه الشاعر رحلات صوفية وجدانية يقوم بها الشاعر السالك المسافر بتعراجه في السماء ، وهو في حالة سكر وانتشاء، ولا يعود إلى وعيه إلا مع فترة الصحو ويقظة اللقاء والوصال. ولابد أن نذكر شاعرا رومانسيا آخر أبدع الكثير من القصائد الصوفية ألا وهو: الشاعر المصري محمود حسن إسماعيل كما في ديوانه الشعري:” قاب قوسين” الذي يقول فيه معبرا عن حالة الكشف الصوفي والتجلي الرباني:
مزقي عن وجهــــك اليانع، أسمال القنــاع
وارفعي الستـر، بلا خوف على أي متــاع
زادك النور، وفي دربك ينبـــوع الشعــاع
فانفذي…فالسر إن سرت على قيــد ذراع
واصرعي الموج، ولو أقبلت من غير شراع
. [11]
ت- الشعر الصوفي المعاصر:
مع انطلاق الشعر العربي المعاصر أو ما يسمى بشعر التفعيلة منذ منتصف القرن العشرين، بدأ الشعراء يشغلون التراث في شعرهم على غرار تجربة إليوت في ديوانه “أرض اليباب” ، حينما اتكأ على الموروث الأسطوري لنعي الحضارة الغربية وإعلان إفلاسها.
واقتداء بإليوت، غدا الشعراء العرب المعاصرون يوظفون التراث الأسطوري والتاريخي واستخدام الأقنعة الدينية والفنية والأدبية والصوفية، وتشغيل الرموز المكانية والطبيعية واللغوية من أجل خلق قصيدة الرؤيا والانزياح التي تتجاوز طرائق الاجترار والامتصاص والاستنساخ في التعامل مع التراث إلى طريقة الحوار والتناص قصد خلق تعددية صوتية تحيل على المعرفة الخلفية للكاتب ومرجعياته الثقافية وسمو حسه الشعري، وجمعه بين المتعة والفائدة في شعره.
وقلما نجد شاعرا عربيا معاصرا يكتب شعر التفعيلة أو الشعر المنثور بدون أن يوظف التراث أو يشغل الكتابة الصوفية أو يستلهم الشخصيات الصوفية أو يستعمل تعابير المعرفة اللدنية أو يستحضر مقتبسات المتصوفة والوعاظ أو ينحو منحاهم في التخييل والتجريد واستعمال الرموز و الاستعانة برشاقة الأسلوب وتلوين النصوص الشعرية بنفحات الدين والعرفان الباطني.
هذا، وإن استعارة” الشخصيات الصوفية مثلت ظاهرة واضحة في الشعر المعاصر، وقد اختار شعراؤنا المعاصرون شخصيات عديدة من أهل التصوف واجهوا بها قارئ قصائدهم، واتخذوا منها قناعا يتحدثون به ومن ورائه عن مشاغلهم ومعاناتهم ومواقفهم. وليس ذلك فحسب، بل نجد الشاعر المعاصر أحيانا يندمج في الشخصية الصوفية ويحل فيها حلولا صوفيا. ويتحد بأبعادها بفعل تشابه أحواله بأحوالها.” [12]
ومن الشعراء الذي وظفوا الخطاب الصوفي نذكر: بدر شاكر السياب و نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وأدونيس وصلاح عبد الصبور ومحمد الفيتوري وخليل حاوي ومحمد عفيفي مطر ومحمد محمد الشهاوي وأحمد الطريبق أحمد ومحمد السرغيني وحسن الأمراني ومحمد بنعمارة وعبد الكريم الطبال وأحمد بلحاج آية وارهام ومحمد علي الرباوي وآخرين.
وقد استعار هؤلاء الشعراء مجموعة من الشخصيات الصوفية كشخصية النفري عند أدونيس، وشخصية السهروردي وفريد الدين العطار وجلال الدين الرومي عند عبد الوهاب البياتي، وشخصية الحلاج عند صلاح عبد الصبور في قصيدته الدرامية” مأساة الحلاج”، وعبد الوهاب البياتي في قصيدة بعنوان” عذابات الحلاج”، وأدونيس في قصيدة تحت عنوان” مرثية الحلاج”، وشخصية إبراهيم بن أدهم عند الشاعر التونسي محيي الدين خريف، وشخصية رابعة العدوية عند نازك الملائكة في قصيدتها” الهجرة إلى الله”.
ويمتاز الشعر الصوفي المعاصر باستعمال التناص بكثرة فضلا عن الاستشهاد بالمستنسخات والمقتبسات والشذرات العرفانية. كما يشغل الشعراء المعاصرون في قصائدهم ودواوينهم الشعرية خطاب الانزياح الصوفي و الرموز الإحالية والعبارات الموحية الرشيقة. وهناك من الشعراء من سقط في خاصية الإبهام والغموض خاصة الشاعر الحداثي أدونيس الذي حول كتاباته الشعرية إلى طلاسم من الصعب تفكيكها و فهمها وتأويلها . وهناك من أحسن توظيف التناص الصوفي في سياقه الشعري الملائم إبداعيا، وهناك من وظف العبارات العرفانية والمفاهيم الصوفية دون أن يعيش التجربة أو يستكنهها بشكل جيد؛ مما أوقع نصوص الكثير منهم في التصنع الزائد والتمحل الشعري.
خاتمــــة:
ويتضح لنا مما سبق ، أن المتصوفة والشعراء على حد سواء استعملوا الكتابة الشعرية للتعبير عن تجاربهم العرفانية وأحوالهم الذوقية ومجاهداتهم النفسية ومقاماتهم الباطنية.
هذا، وقد ترابط الشعر مع التصوف منذ مرحلة مبكرة لينتعش الشعر الصوفي مع القرن الثالث من العصر العباسي. وقد سبق هذا الشعر ما يسمى بشعر الزهد وشعر المديح النبوي اللذين سبقا الشعر الصوفي منذ فترة مبكرة. وقد آثرنا أن يكون موضوعنا منصبا على الشعر الصوفي مرجئين الكتابة النثرية إلى دراسة لاحقة إن شاء الله.
وعليه، فقد بينا أن الشعر الصوفي عرف عدة أطوار في القديم والحديث، ففي القديم ارتبط التصوف بشعر الزهد وشعر المتصوفة السنيين، لينتقل بعد ذلك إلى شعر المتصوفة الغلاة أو المتصوفة الفلاسفة.
وإذا كان الشعر الصوفي في القديم من نظم المتصوفة ، فإن الشعر الصوفي في العصر الحديث والمعاصر من نسج الشعراء المبدعين الذين صاغوا قصائد صوفية في إطار تجارب كلية أو جزئية أو في شكل استشهادات تناصية موحية أو في شكل مستنسخات تناصية وظيفية وغير وظيفية.
الهوامش:
[1] أحمد أمين: ظهر الإسلام، المجلد الثاني، 3-4، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ط 1969، ص:173؛ [2] – د. علي جميل مهنا: الأدب في ظل الخلافة العباسية، الطبعة الأولى 1981، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء، ص:173؛ [3] – د. شوقي ضيف: العصر العباسي الثاني، دار المعارف بمصر، ط 2 ، ص:113-114؛ [4] د. شوقي ضيف: العصر العباسي الثاني، دار المعارف بمصر، ط 2 ، ص:109؛ [5] أبو عبد الرحمن السلمي: طبقات الصوفية، طبعة ليدن، 1960م، ص: 141؛ [6] أبو عبد الرحمن السلمي: طبقات الصوفية، طبعة ليدن، 1960م، ص: 141؛ [7] أبو نصر السراج: اللمع، طبعة دار الكتب الحديثة 1960م، ص:283؛ [8] انظر النيسابوري: عقلاء المجانين، ترجمة ميمونة، طبعة دمشق، سوريا، 1924م؛ [9] أبو عبد الرحمن السلمي: طبقات الصوفية، طبعة ليدن، 1960م، ص: 153؛ [10] شوقي ضيف: العصر العباسي الثاني، ص:475-476؛ [11] محمود حسن إسماعيل: ديوان قاب قوسين، ط الأولى، 1964م، دار العروبة، القاهرة، ص:10؛ [12] محمد بنعمارة: الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر، شركة النشر والتوزيع ، المدارس، الدار البيضاء، ط 1، 2001م، ص: 266؛
__________________________________
*نقلًا عن موقع “منبر حر للثقافة والفكر والأدب”.