فنُّ التوحيد: التجريد
د. ثريَّا بن مسمية
مقدِّمة:
لمَّا كان التصوُّف يروم أن يكون تجربة في الوجود، فإنَّه لم يعدم التوسُّل للتعبير عن حقائقه بوسائل تعبيريَّة تفيض بالجماليَّة والروحانيَّة. ومن هذه الأساليب الأصوات الجميلة البادية في الأناشيد الدينيَّة والرسوم الأخَّاذة الظاهرة في النقاط والخطوط المُحاكِية لأشكال الأجرام السابحة في الأفلاك. والحروف السَّاحرة بزخرفتها الرَّامزة إلى توحِّد الأنفس مع المطلق الكونيّْ. وهو ضرب من التعالي الباعث على النشوة ما يجعله يلتقي رأساً بعوالم الفنِّ الحديث، حيث الطهارة والتزكية والصفاء.
تتعاطى الروح الصوفيَّة مع تقنيَّات الفنون التشكيليَّة المركَّزة على المحسوسات الّتي تفيض بالمضامين الغيبيَّة وهو عين التجريد. وعليه، عجَّ عالم التصوُّف بالبصريَّات التي تروم عالم الخيال، وتنشد رؤية نحتيَّة متعدِّدة الأبعاد: قداسة وجمالاً، حيث التفاعل الدائم بين عالمَيْ الشَّهادة والغيْب، إذ العيْن المجرَّدة وحدها لا تدرك أقصى الحقائق الفنيَّة وإنَّما ذاك هو عالم العقل الباطنيِّ أو الفؤاد. فلا غرو، حينئدٍ، أن يثير الفنُّ الصوفيُّ الحواسَّ أوَّلاً، ويعانق عوالم المُثُل ثانياً.
وعليه، فإنَّ فرضيَّة هذا البحث تتمثَّل في اعتبار أنَّ وجه الفنِّ الصوفيِّ هو التوحيد، ويتجلَّى في التجريد. ويبدو أنَّ ترشيح المنهج التحليليِّ المقارن هو الحلُّ الأوفق لخوض الحديث عن المغامرة الفنيَّة الصوفيَّة، بدءاً بتسليط الضوء على تاريخيَّة مفهوم التجريد.
1– التَّجريد في ضوء التاريخ:
تُعتبر “التجريديَّة” اصطلاحاً فنيَّاً حديثاً، ظهر بصفة جليَّة مع الاتجاهات الفنيَّة التي برزت في أواخر القرن الماضي، فلا وجود لهذا الاصطلاح في التأريخ الفنيِّ العربيِّ الإسلاميِّ، لذلك فالتجريد في فنِّ الرَّسم المعاصر له أصوله وأشكاله الإستيطيقيَّة في حين أنَّه في الفنِّ الإسلامي كان يُعتبر ضرورة روحانيَّة أكثر منها ضرورة إستيطيقيَّة. ونقصد بذلك أنَّ هذه الظاهرة في فنِّ الرَّسم الإسلاميِّ كانت تتمظهر من خلال الأشكال الزخرفيَّة التجريديَّة.
بصفة عامَّة، يُعتبر التجريد أنسب الأساليب للتعبير عن القيم الروحيَّة، فليس هناك أسلوب أنسب منه للتعبير عن أفكار تتعلَّق بالمطلق والروحانيِّ والصوفيِّ والباطنيِّ والعرفانيّْ. ولعلَّه لهذا السبب بالذَّات لجأ الفنَّان المسلم إلى صيغ هندسيَّة تجريديَّة لإظهار رؤيته للعالم والإنسان، فاستخدم الخطَّ والأشكال الزخرفيَّة داخل المساحة التشكيليَّة، مبتعداً بذلك عن مُحاكاة الواقع المرئيِّ ليبتدع بمخيَّلته فضاء إستيطيقيَّاً بأشكال هندسيَّة تعتمد الخطَّ والفراغ كأساليب إبداع فنيّْ. وتُعدُّ حركة الخطِّ داخل المساحة الزخرفيَّة أهمَّ عناصر هذا الإبداع التشكيليِّ بفضل تداخل الأشكال الهندسيَّة الخطّيَّة وتشابكها.
من هنا، فالتّجريد الخطّي هو بدايات التجريديَّة لكنَّه لم يكن حركة منظَّمة بقدر ما كان أحد الأساليب التعبيريَّة التي اعتمدها الفنَّان المسلم لتوضيح عقيدته، فلم تكن الزخارف التي حُلِّيت بها المساجد مجرَّد أشكال زخرفيَّة لا طائل من ورائها سوى ما تمنحه لمشاهدها من قيمة جماليَّة حسِّيَّة، بل كانت لها مضامينها الروحيَّة النابعة من التصوُّرات الأساسيَّة للإنسان المسلم في ما يختصُّ بالكون والله والإنسان.
في هذا المجال، يؤكِّد ميشال راغون في كتابه “مغامرة الفنِّ التجريديِّ”[1] أنَّ هذا الفنَّ بدأ مع الإنسان وتأكَّد مع الفنِّ الإسلاميِّ حيث يقول: “قد يكون نسبيَّاً من السَّهل أن نبيِّن أنَّ الفنَّ التجريديَّ كان موجوداً منذ القِدَم، وأن نبرز تطوُّره منذ ما قبل التاريخ إلى حدِّ يومنا هذا بالتأكيد على الفنون الإسلاميَّة الهندسيَّة”[2].
ونلفت هنا أنَّ الفنَّ التجريديَّ الإسلاميَّ سُمِّي “بالرَّقش” العربيِّ من خلال العناصر الخطِّيَّة المصوَّرة أو المحفورة في الجصِّ والحجر والخشب. وهو إذ يحاكي الطّبيعة يحاول دوماً اعتماد دلالات مجرَّدة، فلا يقدِّم إلاَّ الرمزيَّ من الوسائل التعبيريَّة ليحقِّق عالما فنيَّاً لا صوريَّاً، يفقد فيه الخطُّ قيمته الذاتيَّة ليتحوَّل إلى عنصر تأليف للزُّخرف، يزخر بمناخات روحانيَّة صوفيَّة. وتظهر الأعمال الزخرفيَّة الإسلاميَّة على أنَّها أشكال هندسيَّة ثابتة، لكنَّها تتحوَّل بفعل الإبداع في بنائها. فتلك الأشكال المتداخلة أو المتراكمة تدور وتُحاك كخيالات ضبابيَّة، وقد يضاعف من قوَّة هذه الإيهامات البصريَّة أثر النُّور والظلِّ الذي يكسب المساحة المزخرفة قيمة تشكيليَّة جديدة، ويحوِّلها إلى صفحة متحرِّكة.
لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ هذا الفنَّ ارتبط بمختلف أنواع الحرف، إلى جانب ارتباطه بفنِّ العمارة. فكانت علاقته بها علاقة عضويَّة، إذ تكاد الرُّسوم الزخرفيَّة تغطِّي كامل جدران البناء والسُّقوف. وبهذا يمكننا القول أنَّ بدايات التجريد كانت مع فنِّ الخطِّ والزخرف لأنَّ هذا الشَّكل الفنِّيِّ أراد التعبير عن المطلق فلم يجد أسلوباً يتَّفق وهذا البعد الروحيَّ سوى الأسلوب التجريديِّ لذا يؤكِّده ميشال راغون بقول: ” إذا كان الفنُّ التجريديُّ يتمظهر بما هو فنٌّ جديد فلأنَّ ازدهار هذه الحركة الإستيطيقيَّة قد تأخَّر”[3].
ولكن رغم أنَّ التجريديَّة في الفنِّ تعني الاستغناء عن نقل صور الأشياء المرئيّة في فضاء العمل الفنّي وتعويضها بأشكال وخطوط لا تحتفظ المخيّلة بمرجعيّات لها سوى أنّها أشكال حاملة لهويّتها الخاصّة ولا تدلّ إلاّ على نفسها، فإنَّ المجازفة في مساواة التجريديَّة في فنِّ الرَّسم الحديث بالتجريديِّ في الفنِّ العربيِّ يأخذ بظاهر الأشياء، أو لعلَّه ينمُّ عن توجُّه سطحيٍّ في فهم جماليَّات هذا الفنِّ وخصائص التجريد في الفنِّ الحديث، فكلُّ من الفنَّين مستقلٌّ بذاته ذو منطق وفلسفة يحكمانه ويحدِّدان خصائصه وأساليبه ومساره الإبداعيّْ. فحتى وإن كانت التجريديَّة كمثال فنيٍّ معاصر لها أشكال أو بدايات تخرج عن الطابع الأكاديميِّ المعاصر فيلزمنا البحث في الأصل الاصطلاحيِّ للفظ التجريد داخل منظومة خاصَّة باللُّغة العربيَّة الإسلاميَّة، لنجد اصطلاحاً يكون أكثر دقَّة وتناسُباً وتناسُقاً مع هذا الإطار اللُّغويُّ في اللّسان العربي. ولعلَّنا بهذا سنراجع بالضرورة قولة الغزالي في كتابه “إحياء علوم الدِّين” في معرض حديثه عن الجمال بقوله:”إنَّ الجمال ينقسم إلى جمال الصورة الظَّاهرة المدرَكة بعين الرَّأس، وإلى جمال الصورة الباطنة المدرَكة بعين القلب ونور البصيرة، والأوَّل يدركه الصبيان والبهائم، والثاني يختصُّ بإدراكه أرباب القلوب، ولا يشاركهم فيه من لا يعلم إلاَّ ظاهراً من الحياة الدُّنيا”[4].
ولمزيد من التوضيح، يُضيف: “فمن رأى حسن نقش النقَّاش وبناء البنَّاء، انكشف له من هذه الأفعال صفاتها الجميلة الباطنة التي يرجع حاملها عند البحث إلى العلم والقدرة”[5].
على هذا الأساس، يكون الجمال الفنِّيُّ الحقُّ هو الجمال الباطن أي الجمال المدرَك بالبصيرة المتجاوِز للموضوعات العرَضيَّة والمظاهر الطّبيعيَّة ليتمثَّل الشَّكل المطلق والمبدأ القارَّ، فتكون صوره معاني عبر أشكاله التجريديَّة ذات الموضوع “الأحاديّْ”. وبهذا نقول إنَّ هذا الشكل الفنيَّ جعل التجريد ينبني على قاعدة أساسيَّة وهي غياب الصورة لإبراز المعنى، وغياب الموضوع لإبراز الشكل، وهذا الأساس في الفنِّ اعتُمد منهجاً تجريديَّاً فنيَّاً هو أقرب في التسمية إلى “التوحيد” منه إلى “التجريد”، ذلك أنَّ الفنَّان العربيَّ المسلم هو بالضرورة “موحِّد”، وبالتَّالي فإنَّ إنتاجه الفنيَّ سيكون بالضرورة فنَّاً مُوحِّداً.
بناءً على هذه الصورة، قد نصف التجريد في الفنِّ العربيِّ الإسلاميِّ بـ”التوحيد” مقارنة بالتجريديَّة في الفنِّ الحديث، ذلك لأنَّه يجعل من الشيئيْن شيئاً واحداً، ومن الوجوديْن وجوداً واحداً، ولأنَّه عندما ينفي الغير ينفي نفسه أيضاً، وستحلُّ مكان هذا النفي الانطباعة وضروب الصِّراع. وعليه، فليس للفنَّان وجود مميَّز أو حضور خاصٌّ في العمل الفنيِّ لناحية الخصوصيَّة الفرديَّة، كما أنَّ العمل الفنيَّ يشهد على الذوق، والتقنيَّة، والمهارة، والعقل، والقدرة كصفات إنسانيَّة عامَّة، ولكن يُنظَر إليها كهبة من الخالق، ولا يشهد البتَّة على “الأنا” الفنَّان لناحية العواطف والمشاعر والمزاج والمعاناة بما هي صفات فرديَّة وشخصيَّة 2– الفنُّ في الفضاء الإسلاميّْ:
من المفيد القول أنَّ للفنِّ الإسلاميِّ فكره الخاصَّ والنَّابع من عقيدة التوحيد التي يعرِّفها ابن عربي بقوله:” التوحيد علم، ثمَّ حال، ثمَّ علم، فالعلم الأوَّل توحيد الدليل وهو توحيد العامَّة، وأعني بالعامَّة علماء الرَّسوم، وتوحيد الحال، أن يكون الحقُّ نعتك، فيكون هو لا أنت في أنت. والعلم الثّاني بعد الحال توحيد المشاهدة، فنرى الأشياء من حيث الوحدانيَّة فلا نرى إلاَّ الواحد وبتجلِّيه في المقامات يكون الوجدان والعالم كله وجدان”.[6]
والواقع أنَّ الأخذ بمنطق ابن عربي يفضي إلى استجلاء وهميَّة الظَّاهر وعرَضيَّته، وإلى حقيقة الباطن وجوهريَّته. فالتوحيد إثبات القِدَم وإسقاط الحدث. من هذه المنطلقات، لا يمكن الإنسان الفنّان أن يكون مركز الكون، لذا فانشغال الفنان العربيِّ الموحِّد سيختلف شديد الاختلاف عن الفنَّان التجريديِّ الحديث. ولعلَّ أبا سعيد العوني يحسم هذه المسألة بقوله:” التصوُّف ترك النَّافل ولا شيء بنافل أكثر من “أناك”، إنَّك ما اشتغلت بذاتك إلاَّ وبعُدت عن الله، وحينما توجد “أناك” فإنَّ كلَّ شيء جحيم، وحينما لا توجد “أناك” فكلُّ شيء “نعيم”.[7]
هذا المنطق التوحيديُّ سيفرض على الرَّسام رفع صفات ذاته وتغييبها، فطريقه طريق استجابة والتقاط لا طريق معاناة وصراع مع الذّات وكشف عن خباياها. وبتغييب ذات الفنَّان شهادة على كمال الخالق، فلا أبلغ في نعت هذا الأسلوب الفنِّيِّ بفنِّ “التوحيد” موازاة أو مقابلة بـ ‘التجريد”.
ولعلَّ مشروعيَّة اعتبارنا كلمة أو صفة “التوحيد” هي أقرب من صفة “التجريد” بالنسبة إلى هذا الشكل الفنيِّ العربيِّ الإسلاميِّ تنبع من أنَّ هذه الصفة تنخرط بالضرورة انخراطاً إيجابيَّاً ضمن كامل المنظومة العربيَّة الإسلاميَّة. فوصفنا للفنِّ العربيِّ الإسلاميِّ بالفنِّ “التوحيديِّ” هو من حيث المنطق أقوم تاريخيَّاً، ثمَّ معجميَّاً أكثر تناسباً لهذه المنظومة العربيَّة الإسلاميَّة. ويعتبر تعريف ابن عربي لهذه الكلمة في كتابه “التجلِّيات” تأكيداً يبيِّن صحَّة هذا المسار والاختيار، إذ يقول إنَّه: « نفي الإثنينيَّة في الوجود. “التّوحيد” فناؤك عنك، وعنه، وعن الكون، وعن الفنَّان، فالبحث به، فإنَّ كل ما سوى الحقِّ، مائل ولا يقيمه إلاَّ هو، ولا إقامة إلاَّ بالتوحيد، فمن أقام فهو صاحب التوحيد. و”التّوحيد” أن يكون هو النَّاظر وهو المنظور»[8].
على هذا الأساس، يمكن القول أنَّه تجاوز للظَّاهريِّ والعرَضيِّ، للأفعال والصفات للوصول إلى حقيقة الباطن والجوهر. وقياساً على ذلك، فإنَّ وظيفة الفنَّان المسلم في كلِّ الفنون منها الرَّقش، الزَّخرفة، النَّقش والخطُّ والحفر وغيرها من الفنون، هي تأكيد لهذا المبدأ من خلال أعماله الفنيَّة. فقد تكون نقطة واحدة الأصل في زخرفة تتشكَّل من خلال رؤى هندسيَّة متنوِّعة، ومركّبة، لتشكّل حسب نظام كليّ لوحة زخرفيّة رائعة التّناسق والتّناسب بين جملة من الأشكال الهندسيّة المتراوحة بين الخطّ والمربّع والمثلّث، وكذلك الحال في “المنمنمة” كشكل من أشكال الرَّسم من خلال الزَّخرفة كفنٍّ يجعل الكثرة تتوحَّد والوحدة تتكاثر.
لكنَّ هذا التجريد الهندسيَّ، أو التوحيد بالمعنى العربيِّ الإسلاميِّ، ليس على شاكلة التجريد الفنيِّ الحديث كما هو الحال مثلاً مع كاندنسكي، ذلك لأنَّ معنى التّجريد في هذه المنظومة العربيَّة الإسلاميَّة بقي مرتبطاً بفكرة “التوحيد” أو المرجع الدينيِّ، أي أنَّ الشَّكل الزُّخرفيَّ هو شكل ترميزيٌّ فيه نفي للمرموز عنه وللرَّامز أي للطّبيعة والفنَّان معاً.
في ضوء ذلك، نلاحظ أنَّ الفنَّ العربيَّ الإسلاميَّ يزهد في كلِّ ما هو حسِّيٌّ وعرَضيٌّ ليتّخذ من فنِّ الرَّسم من خلال الزُّخرف أسلوباً روحانيَّاً عبر تقديم هندسة روحانيَّة غايتها تجريد المحسوس إلى مجرَّد ذهنيٍّ يعبِّر عن اللاَّمرئيِّ الّذي هو أصل الجمال والبيان وهو الواحد المتوحِّد.
في المقابل، يجرِّد فنُّ الرَّسم التجريديِّ الواقع من دون تغييبه. إذ هو فنٌّ يبني علاقة واضحة بما هو واقعيٌّ ومرئيّْ. وإن كان أسلوب نقله فنيَّاً لهذا الواقع هو بحث بالأساس في روحه الداخليَّة وأسسه الفنيَّة الباطنيَّة، فإنَّ فنَّ الرَّسم التّجريديِّ الحديث بهذا الشَّكل لم يقم بنفي الواقع نفياً مطلقاً بقدر ما حاول نقل ما يعتبره أساساً في هذا الواقع، أي بحثاً في ما هو باطنيٌّ ليكون فنَّاً ملامساً لأصل الأشياء لا في حضورها الظَّاهر بل في وجودها الباطن.
لكنَّ «التجريد» بمعنى «التوحيد» في الفنِّ الإسلاميِّ هو تجسيد لغير المرئيِّ، فلا يعترف بالواقع ولا يعتبره مصدراً فنيَّاً ليمرَّ عبره من الظّاهر إلى الباطن. ولا بدَّ من القول أنَّه على خلاف التجريدية الغربيَّة الحديثة، يبحث في مواضع هي في ظاهرها غير مرئيَّة وغير واقعيَّة، أي أنَّها موضوعات ذهنيَّة تجريديَّة تبحث في القوانين المحرِّكة، للوجود والموجود. فحتَّى عندما نجد في بعض الزخارف بعض المظاهر الطّبيعيَّة كأوراق الأشجار، فليس هذا الرَّسم تسجيلاً للمرئيِّ بقدر ما هو استلهام وبحث في الحركة الطبيعيَّة المجرَّدة، أي أنَّ الموضوع هو القانون الطبيعيُّ لا المظاهر الطبيعيَّة.
ممَّا سبق تفصيله، يمكن تأكيد الاختلاف الواضح بين كلٍّ من التجريد الفنيِّ الحديث والتّجريد في الفنِّ الإسلاميِّ؛ فالأوَّل مصدره حسِّيٌّ واقعيٌّ، في حين أنَّ الثّاني مصدره لا مرئي ولا واقعي. ولعلَّ هذا المنهج التجريديَّ راجع بالأساس إلى “التحريم” في المنظومة الإسلاميَّة للرَّسم الواقعيّْ. إذ رغم عدم وضوح تحريم فنِّ الرَّسم في القرآن الكريم وضوحاً جليَّاً، وحتى في الأحاديث النبويَّة، إلاَّ أنَّ القناعة بتحريم الرَّسم أو “التصوير الواقعي” تبدو أمراً دينيَّاً، تأخذ بعداً تاريخيَّاً وفقهيَّاً لدى أكثر المؤرِّخين والنُّقَّاد العرب المسلمين، ويشكِّل لديهم قضيَّة فنيَّة أثارت ومازالت نقاشاً واسعاً، مع أنَّ الفنَّ الإسلاميَّ قد عرف هذا النوع من الفنِّ طوال قرون، وشاع الاصطلاح عليه بـ”الرَّقش العربيِّ” أو “الآربسك” Arabesque. وقد عرَّفه عفيف بهنسي بقوله:”هو إبداع لواقع جديد مختلف عن الواقع المألوف، وهو وسيلة التعبير عن البراعة لتحقيق متعة مفرحة”[9]. لذا، كان لزاماً علينا التأكيد على الاختلاف الواضح بين كلٍّ من التجريد في فنِّ الرَّسم الحديث و”التجريد” في الفنِّ الإسلاميِّ، إذ إنَّ المصدر مختلف، والأسلوب متباين، والأهداف مغايرة.
3- جماليَّة فنِّ التَّجريد في التَّوحيد:
تقوم رؤيا الرَّسام العربيِّ المسلم على أساس أنَّ كلَّ الأشياء موجودة بفعل قوَّة إلهيَّة، فهي لا ترى من زاوية محدَّدة، بل من خلال الكون كلِّه، لذا اختار منظوراً “كونيَّاً”، فكانت رسومه مسطَّحة، على عكس الرَّسام الغربيِّ الذي اعتمد المنظور النسبيَّ الصادر من عين المشاهد، فكانت لوحاته واضحة غير مركَّبة. وهو أمر ينطبق كذلك على الزَّخارف التي تزخر بمرتسمات لا حدَّ لها، تتراكم في اللَّوحة مكوِّنة لُحْمة نسيجيَّة من الرَّقش الهندسيِّ الذي ينتظم على شكل مساحات هندسيَّة أساسيَّة تؤلّف نجوماً وسطوحاً تحمل معانيَ كونيَّة.
هذه المحاولة في فنِّ الرَّقش أو فنِّ “التوحيد” في محايثة الكونيِّ والمطلق، جعلت الفنَّان الرَّسام يبحث عن القيم التي لا يمكن امتلاكها أو إدراكها بالعقل فحسب، بل أيضاً بالحدس أي بالعقل والحسِّ، فيرى في ما وراء الأشياء الإبداع عينه. ولعلَّ هذا المنطق هو ما يقرِّبه أو حتى يوازيه في بعض الأحيان بالفنِّ التجريديِّ الحديث الذي يعتبر الحدس أصل الإبداع والفنّْ. كما أنَّ فنَّ الرَّقش باعتباره الصيغة التصويريَّة التجريديَّة في الفنِّ العربيِّ، كان يعتبر تحوُّلاً رمزيَّاً من الكلمة إلى الصورة فهو مضمون وصورة: مضمون روحيٌّ وصورة هيروغليفيَّة تسعى للوجود الحقيقيِّ المطلق عبر المنهج “الصوفيّْ”. فقد كان الفنَّان العربيُّ يعتمد التَّكرار والتَّناسخ في لوحاته، كما كان المتصوِّف يكرِّر عبارة واحدة “الله” مئات المرَّات حتى يفقد وعيه ويتجرَّد من علاقته بالمادِّيْ. وعليه، فإنَّ الفنَّان العربيَّ المسلم لم يكن يرتبط في عمله التجريديِّ بالمفاهيم نفسها أو المنطلقات السائدة في الفنِّ الغربيِّ، إذ البحث لديه في موضوع المطلق كان مقابل الذاتيِّ، كما أنَّ الكونيَّ كان مقابل النفسيْ.
ورغم أنَّ ما أطلق عليه اسم “الخيط”، كأهمِّ أساليب الرَّقش العربيِّ هو عمل هندسيٌّ محض يقوم على أشكال كالمثلَّث والمربَّع، يتقارب والأشكال التجريديَّة الحديثة المعتمدة لدى كاندينسكي مثلاً، إلاَّ أنَّ الغاية في التجريد تختلف بعمق من هذا إلى ذاك. فالطابع التجريديُّ في شكل “الخيط” وإن كان هندسيَّاً ما هو إلاَّ مطابقة للشكل والمفهوم المطلق، وهو سعي وراء فكرة التوحيد، إذ إنَّ النقطة المركزيَّة هي الجوهر الذي تصدر عنه الأشياء كلِّها وإليه ترجع. وهو ما نجده تماماً في رسوم المتصوِّفة ولاسيَّما الحلاَّج وابن عربي في اعتبارهما أنَّ نقطة هي منبع الوجود ومنطلق الكون.
إنّ اختلاف المصدر واضح إذاً من خلال اعتماد الفنَّان العربيِّ المسلم على المصدر اللاَّهوتيِّ، في حين ينطلق الفنَّان التّجريدي المعاصر من الواقع لينحت المجرّد. أمّا المنهج فمختلف لأنّ الزّخرفة العربيّة الإسلاميّة تؤسّس إبداعها الفنّي على أساس “النظام الشكليِّ” للحرف والخطّْ. فالجماليَّة الزخرفيَّة هي في الأصل جماليَّة تنبني على التَّناسق والانسجام بين الأشكال في علاقاتها واتِّصالها، وبين الفراغات في ما بينها، إلى جانب عنصر “التلوين” الذي يُعتَبر تجسيداً لهذا الانسجام. فلا يمكن للَّون، كما هو الحال في فنِّ الرَّسم الحديث، أن يكون عنصراً مستقلَّاً أو فكرة خاصَّة داخل اللَّوحة، بل هو عنصر متوحِّد مع كلِّ الأشكال التي تشكِّل جماليَّة اللَّوحة الزخرفيَّة في الفنِّ الإسلاميّْ.
وينبغي القول أنَّ ينطبق على عنصر “اللّون” أو “التّلوين” ينسحب كذلك على عنصر “الفراغ” الفاصل بين الأشكال الهندسيَّة والخطوط الزخرفيَّة الذي لا يُعتَبر عنصراً مستقلَّاً عن بقيَّة عناصر اللَّوحة، بل هو جزء لا يتجزَّأ من نظامها الهندسيِّ، وهو أكثر من ذلك يرمز إلى “الحاضر- الغائب”، أو إلى “غياب المتجلِّي” القابل دائماً للامتلاء، إذ لا وجود لفكرة الفراغ في منظومة الفكر الإسلاميِّ، وخصوصاً الصوفيَّ منه.
لا وجود للفراغ، إذن، في المنطق الجماليِّ الإسلاميِّ، وقد يأخذ مفهوم “الخلاء” مكانة الفراغ باعتباره جزءاً من المساحة ورمزاً لثنائيَّة الغياب والحضور، ولعلَّ هذا كلَّه راجع للتَّصوُّر العقائديِّ بأنَّ الله موجود في كلِّ مكان، أي راجع إلى منطق “التوحيد”.
على هذا الأساس، لا يكون التجريد في الفنِّ الإسلاميِّ إلاَّ ثمرة لتأمُّل عقلانيٍّ، ولرؤية روحيَّة للعالم، ولحقيقة ما وراء الكون. وهذا لا يتأتَّى فهمه إلاَّ بإخراج الفنون التجريديَّة الإسلاميَّة من عالم المنظور والحسِّيِّ إلى عالم النَّظر والرَّمز والحدس. وبهذا يمكن تبيُّن الاختلافات العميقة التي تحول دون مماثلة التجريديَّة الغربيَّة بالتجريد العربيِّ الإسلاميّْ. ففي حين مثَّلت التجريديَّة الغربيَّة موقفاً رافضاً متمرِّداً كانت التجريديَّة العربيَّة مناشدة للمطلق باحثة وراء الحركة عن السكون الأبديّْ.
خلاصة القول أنَّ منطق “التوحيد” في “التجريد” في الفنِّ العربيِّ الإسلاميِّ يرجع بالضرورة إلى منطق أُحاديٍّ أي منطق الإله الواحد، والعالم الواحد، والفنَّان الموحَّد. وبصورة أوضح نقول بأنَّ الفكر العربيَّ الإسلاميَّ جعل الفنَّان ينفي ذاته وعمله الفنيَّ، وهذا النفي للأنا تبعه نفي للوجود، فلا وجود للأنا بل للمتعالي فحسب، كما أنَّه لا وجود للعالم المرئيِّ مقابل العالم الروحانيّْ. لذا توحَّد العالم الفنيُّ والفنَّان ليكونا شاهديْن على فكرة التوحيد، وهذا ما جعلنا نؤكِّد أنَّ العمل الفنيَّ التجريديَّ في ما يخصُّ “الرَّسم” داخل المنظومة العربيَّة الإسلاميَّة الصوفيَّة هو عمل يكون الاصطلاح عليه بـ”التوحيد” أقوَم وأكثر بلاغة، وهذا راجع لأسباب عدَّة هي في الأساس دينيَّة فقهيَّة تدور حول مسألة “التحريم”[10].
4- مغامرة الفنِّ الصّوفيّْ:
في ضوء ما تقدَّم، يتَّضح أنَّ العالم في نظر الفنَّان المسلم ليس هو نفسه في نظر غيره. وغيره هنا تشمل الفنَّانين الآخرين من غير ملَّته وعامَّة الناس من الّذين لا يشتغلون بصنعته. فالعالم في نظره كتاب خُطَّت حروفه من المعجزات الإلهيَّة اللاَّمحدودة. وهو على غير الكتاب الشهير الذي شبَّه به غاليلي الطّبيعة بالكتاب الّذي خُطُّت حروفه رياضيَّاً، والذي يدلُّ على حضور المعقول وتجلِّيه أمام الذات. ذلك أنَّ الطبيعة كتاب عنده كسجلٍّ من الرُّموز التي تدلُّ على حضور “اللاَّمعقول” أو المقدَّس أو الإلهيّْ. على الأقلِّ هذا ما صرًّح به الخطيبيُّ والسلجماسيُّ[11] بقولهما:” إنَّ العالم في نظر المسلم ماثل أمامه كتاباً مطلقاً يشهد على الحضور الإلهيِّ المحيط”.[12]
وممَّا يؤيِّد هذا المدخل للرُّؤية الفنيَّة للعالم في نظر الفنَّان المسلم الصوفيِّ أنَّ مبدأ “الخلق الإلهيِّ” هو من الرُّسوخ بحيث لا يماثله أيُّ يقين مشابه، لأنَّه يمثل جوهر عقيدته الدينيَّة التي سوف تتحوَّل في أعماله إلى عقيدة فنيَّة بالوضوح نفسه والصَّلابة نفسها. فالله هو مبدأ الوجود ومُحدِثه، وهو المتحكِّم به، وهو الذي يستمرُّ منه الوجود إلى يوم القيامة، وبضمانته هو. فالعالم متناهي الشَّكل والقدرة، وهو أقرب الأشياء إلى الدَّائرة المغلقة.
ومن المهمِّ الإشارة إلى أنَّ جميع المخلوقات في عالم الفنَّان المسلم تحتلُّ مراتب واضحة ومتسلسلة بحكم وظائفها وقرب نفسها من الذات الإلهيَّة. فالنفس الإنسانيَّة أرفع من النفس الحيوانيَّة، وهذه الأخيرة أرفع من مرتبة الجماد أو مرتبة النموّْ. ونظام الحركة في الكون محسوب بدقَّة، ولا وجود فيه للصدفة أو الفوضى. وإذا بدت لنا الأشياء فوضويَّة فاقدة للدلالة وللمعنى أحياناً، فذلك لعجز في فهمنا عن إدراك حكمة الخالق وعلمه المتعالي الذي لا يعلمه غيره. والإنسان جزء من النظام العامِّ. وهو مؤمن بالضرورة، ذلك أنَّ الفنَّان المسلم لا يرى نفسه إلاَّ في هذه الصورة. والإيمان يعني التعبير عن عمق العقيدة وليس مجادلتها أو تحريفها. والحياة ليست سوى نوم سوف تعقبه يقظة، وهي لحظة امتحان واختبار تنتهي بحساب، فإمَّا فوز وإمَّا هلاك.
إنَّ هذا النظام الغائيَّ للعالم بهذه الدقَّة البديعة في ترتيب الأمور وتصريفها، هي ما يشكِّل أهمَّ عناصر الرؤية العقائديَّة للفنَّان المسلم. فكيف عبَّر عنها من خلال العناصر التشكيليَّة التي نجح في السيطرة عليها وإخضاعها لحيله المتعدِّدة؟
في هذا السياق، يقول الخطيبيُّ والسلجماسيُّ” إنَّ الإنسان علامة، واسم مختوم بخاتم الله. إنَّه هذا الجسم المتخفِّي عن ذاته، وكأنَّه تخلَّص من حركته فانصهر في الرؤية الإلهيَّة. وما يتسرَّب إلى هذا الجسم بإملاء من الصوت الإلهيِّ صورة للنَّفس وهي تنزَّل من سماء الله. وفنُّ الخطِّ التقط بطريقته صورة النفس هذه، فعرض على البصر مسلك الوحي”.[13]
نتبيَّن من هذه الشهادة أنَّ المتصوِّف إذا كان مخطَّطا فإنَّ فنَّه لا يأتي عن اعتباطيَّة، وإنَّما يكون عن عقيدة عميقة ترى الأشياء من المنظار الذي عرضنا شرحه سابقاً. ولا ريب في أنَّ حركة نزول “الوجود” من الله، وهي تذكِّرنا إلى حدٍّ ما بفكرة “الفيض” التي تدفع الفنَّان المتصوِّف إلى استلهام مسارها المقدَّس، مسار الفعل الرهيب الذي يأتي بالحياة من العدم، وبالنفس: “روح الله نفخ بها في الإنسان” إلى الأجساد الطينيَّة العمياء، فوهبها ما به تكون بشراً. بل وصوَّرها فأبدع صورتها. وهذه الحركة العظيمة حركة الخلق هي نفسها في ما بعد حركة الوحي العظيم. فالوحي أي النُّور الذي يستهدي به البشر في حياتهم هو في الواقع الجزء المتمِّم لفعل الخلق، وهو نفسه يصدر عن ذات المصدر ويأخذ نفس التّعرّج النّازل، حتّى يبلغ مقصده. والخطّاط المتصوّف المعجب والمصدّق بعمق بكلّ ذلك، يحاول أن ينقل هذا المعنى وهذه “الحقيقة” إلى جوهر المتقبَّل، إلى شعوره ووعيه. وهنا تتطابق الحقيقة والجمال. فكأنَّنا نقارب الأفلاطونيَّة في سياق نظريَّة المُثل، والهيغليَّة في سياق الإستيطيقا وتطابق الحقِّ والجمال.
ولا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ أقرب الفنون أو على الأقلِّ الأكثر شهرة في التعبير عن مثل هذه الدلالات الرمزيَّة المقدَّسة هو فنُّ الخطِّ كما لاحظنا. ولم يكن ذلك من قبيل الصدفة، بل لأنَّ تحريم الصورة والتمثيل والمحاكاة قد دفع بالكثيرين من المبدعين المسلمين إلى البحث عن فنون لا تصويريَّة ووجدوها في الخطِّ، ثمَّ وبدرجة حاسمة ترقِّي الروحيِّ عبر المقامات والأحوال من خلال الرُّموز والأشكال، لأنَّ عقيدة الإسلام عقيدة كتابيَّة فقد حظي فيها الخطُّ منذ البداية بقبول وتشريف لم يحظ بهما فنٌّ آخر.
ويعتبر السلجماسيُّ والخطيبيُّ أنَّه لعبقريَّة فنِّ الخطِّ في التعبير عن هذه المحاميل المقدَّسة ينبغي اعتباره فنَّاً مركزيَّاً في الفنون الإسلاميَّة. فهو الفنُّ الذي “يجعل الوجود نابعاً من الكتابة”[14]. كما تنبع التجربة الروحيَّة من الذات الإنسانيَّة.
تكشف حركة الخطّ، التي هي حركة ذهن الفنَّان المسلم وأصابعه، عن أنَّ لا شيء يُنجز بالصدفة. بل كلُّ شيء تحكمه جماليَّة خاصَّة. جماليَّة هي مصدر متعة الفنَّان المسلم. ولذلك نراهما يتساءلان في سياق تحليلهما لهذه المسألة: من أين يستمدُّ الفنَّان المسلم متعته؟[15]
والأصل في هذه المتعة بالنِّسبة إلى الخطَّاط المسلم هي الكتابة. فالكتابة هي العنصر الجوهريُّ الذي تدور حوله الثقافة الإسلاميَّة[16]. والكتابة لم تحظ بكلِّ هذا الاهتمام إلاَّ بالعودة إلى “الكتاب” أو النصِّ المقدَّس الذي منه يتمُّ استلهام كلِّ شيء. فحينما يكتب المسلم هو في الواقع يعيد إنتاج العبارات “المقدَّسة” نفسها التي احتواها الكتاب. إنَّه يكتب بالحروف نفسها، وبالأبجديَّة نفسها، وأحياناً بالتركيب نفسه، وبالضمائر نفسها، وبالأسماء نفسها. إنَّه يكتب في كلِّ مرَّة “القرآن”. وكلَّما كتب الخطَّاط المسلم نصَّاً إلاَّ ووجد نفسه يستذكر آيات القرآن الكريم، وهو أشرف الكلام وأعظمه على الإطلاق. إنَّه كلام المولى عزَّ وجلَّ أعظم وأنفس جواهر العقيدة الدينيَّة للمسلم.
بناءً على ذلك، يجدر القول أنَّ فنَّ الخطِّ العربيِّ ليس مجرَّد تحبير حرٍّ على مساحات بيضاء للَّوحة، وإنَّما هو من منظور الجماليَّة الإسلاميَّة إعادة إنتاج للمقدَّس نفسه بطريقة إيهاميَّة واعية في عوالم روحانيَّة يُسمِّيها المتصوِّف بالعلوم الباطنيَّة. من هنا، فإنَّ حركة الخطِّ وتعرُّجاته، وخشونته ورفعته، وعموديَّته وأفقيَّته، وتضادِّه وانصهاره، وتقعُّره وانكماشه، وتفرُّقه واجتماعه، وذهابه وإيَّابه وتلوُّنه بالأحمر والأزرق والأصفر… كلُّها أفعال رمزيَّة مقصودة ومختارة بعناية كبيرة.
من هذا المدخل يدعونا الخطيبيُّ والسلجماسيُّ إلى أن نطلَّ من جديد على حركة الخطِّ العربيِّ ونفهمها على النحو المنطقيِّ الجدير بها. فهذه الحرك يغلب عليها فعل التدوير بشكل لافت. وهو ما دفع بالكثير من مؤرِّخي ونقَّاد الفنِّ الإسلاميِّ إلى مساءلة هذه الظاهرة عن معناها. وفي تأويلهما لا يدلُّ هذا التدوير المليء بالعناصر المنثورة أحياناً، أو بالفراغ أحياناً أخرى، على مجرَّد تصوُّر للعالم المتناهي المخلوق عند المسلم فحسب، إنَّما هو فضلاً عن ذلك تصوير تشبيهيٌّ لنزول النفس إلى المحتوى الذي تضمَّنها. والذي إذا ما حلَّت به حلَّ معها فعل الوجود نفسه. ولذلك، فإنَّ حلول فعل الحياة لا يمكن أن يكون في العدم، بل لابدَّ أن يكون في موضوع ما، وهذا الموضوع منطقيَّاً هو يسعى له، أي به بطن لقبوله. ولذلك تكون الحركة في الأغلب من الأعلى في اتِّجاه الأسفل، ومن النقطة في اتِّجاه بطن الدائرة. من هنا تأتي فكرة التقعير أو التدوير الأساسيَّة في رسم الخطِّ العربيّْ.
في هذا المعنى، يقول الخطيبيُّ والسلجماسيُّ:” وتفتح هذه الإشارة المجال لرسم خفيٍّ يرسم النفس في طريقها لاحتواء الفراغ والإقامة فيه بفضل خطوط كتابيَّة كالحروف المكتوبة بجمال مطلق والمختصرات الرمزيَّة للأسماء وهندسة الأمثال الإلهيَّة. ذلك هو المثال الحيّ للخطّ العربي”.[17]
وللخطّ حضور متميِّز لدى المتصوِّفة، ولاسيَّما إذا استدار. فالدائرة عند الحلاَّج على سبيل المثال سير في طريق مسدود. والنُّقطة وسط الدائرة هي الحقيقة. والحقيقة هي نقطة التجلِّي والالتقاء بين الظاهر والباطن، بين العرض والجوهر، حيث يتحقَّق الفهم ويغيب الوهم.
ولعلَّ اعتماد الخطِّ العربيِّ على ظاهرة التدوير هذه، قد جعلت منها ظاهرة كونيَّة تتبع الخطَّ العربيَّ أينما حلّْ. فالخطَّاط الصينيُّ المسلم اليوم حينما يرسم آيات من القرآن يعتمد تقريباً رؤية جماليَّة قريبة جدّاً من مثيله المسلم في الأقطار الأخرى. ويدلُّ كلُّ هذا على أنَّ الرُّؤية الجماليَّة الإسلاميَّة في الخطِّ هي عابرة للقارَّات، وللثقافات المحليَّة، وتقترن بالمعاني الدينيَّة التي يعتنقها المسلم بغضِّ النَّظر عن الجغرافيا التي ينتمي إليها.
في هذا المعنى يقول الخطيبيُّ والسجلماسيُّ:” لا يملك الفنُّ الإسلاميُّ مركزه في مكَّة أو في طومبكتو، بقدر ما يمثّل مشهداً متنوِّعاً ولا مركزي. ونسوق مثالاً على هذا الخطّ العربيِّ الذي يرسمه الصينيُّون المسلمون. إنَّ مثل هذا الخطِّ ليس عربيَّاً إلاَّ بالتجوُّز نظراً لكونه يتجاوز منبعه الأصليّْ. فالكتابة التخطيطيَّة تجوِّف الحرف العربيَّ وتجعله يدور حول نفسه ليحقِّق موازنة تشكيليَّة. فكلُّ ثقافة ترضي ذاتها بأن تنقل الثَّقافات الأخرى إلى مواطن اختلافها. فالرَّغبة تنفجر بواسطة المدِّ ذي الجذور المتباعدة.”[18]
نلفت هنا إلى أنَّ الفنَّ الصوفيَّ في عمومه، وفنَّ الخطِّ بالذَّات، لم ينبثق فجأة ومن عدم، وإنَّما ظهر نتيجة جملة من الشروط الموضوعيَّة، وأهمُّها ما أحدثه الغزو من “تثاقف” ولقاء حضاريٍّ بالتعبيرات الثقافيَّة للشّعوب الأخرى. ومن هنا فإنَّ الفنَّان المسلم حينما يرسم هو في الواقع يعبِّر في الآن نفسه عن عمق التشابك بين خصوصيَّته المحلِّيَّة التي ينتمي جغرافيا لها وبين عقيدته العامَّة التي اتَّخذت بعداً كونيَّاً إلى حدٍّ كبير. فحينما يكتب الصينيُّ المسلم عبارة ” لا إله إلاَّ الله” أو “الله أكبر” أو ” الله خالق السماوات والأرض ومعيدهما”، فإنَّه وإن التزم بتقنية التدوير والتقعير، أو بقاعدة أخرى عامَّة في الخطِّ العربيِّ، لا يعدم أن يدخل عليها بعض السِّمات الشخصيَّة الخاصَّة بالثَّقافة الصينيَّة، أو حتى الخاصَّة بثقافة مقاطعته داخل الصين نفسها. هذا العنصر هو ما يمكن تسميته بالجماليَّة المحليَّة في داخل الجماليَّة الفنِّيَّة الإسلاميَّة بصورة عامَّة. وهو أمر يجعلنا في داخل الفنِّ الإسلاميِّ نفسه نستطيع تمييز الفوارق الأفريقيَّة عن الفارسيَّة، عن الهنديَّة، عن الصينيَّة، عن التركيَّة، عن الأوروبيّة. وعادة ما يجد هذا التنوُّع لدى مؤرِّخي الفنِّ الإسلاميِّ ترحيباً كبيراً، إذ في الغالب يُنظَر إليه باعتباره دليلاً على السّمة الكونيَّة الحقيقيَّة للفنون الإسلاميَّة.
يشكِّل فضاء اللوحة مساحة للإبداع وللتخيُّل الحرِّ وللتعبير الغزير بالنسبة إلى الفنَّان المسلم. غير أنَّ شكل الحرف بحدِّ ذاته وقيمته الرمزيَّة المتداخلة بعمق مع الدينيِّ تجعل الفنَّان المسلم لا يشعر أنَّه أمام ” لعب طفولي حرٍّ”، وهو يباشر رسم ما يريد. إنَّها مفارقة عميقة قد لا يدركها إلاّ من تمثَّل جميع عناصر هذه ” الأحجية”. فالفنَّان المسلم من حيث الموضوع هو حرٌّ في أن يأتي من الرسوم ما شاء طالما أنَّه لن يشابه، وطالما أنَّ نيَّة المحاكاة لا تدخل في دائرة الممكن في تفكيره حتّى. وهو كذلك حرٌّ من جهة اختيار أيِّ فكرة يريد إيصالها إلى المتقبِّل، طالما أنَّها لا تتناقض ومفاهيم الخلق الإلهيِّ والقدريَّة والنظام الغائيِّ للكون والحياة.
غير أنَّ وسائل التعبير التي ينبغي عليه إبداعها هي التي تفرض نفسها كأفضل وأقرب التقنيَّات لتحقيق الغرض الجماليِّ الأسمى. وأقرب الأمثلة على ذلك فنُّ الخطِّ. فحركة وسكون وصعود ونزول وخشونة ورفعة الخطِّ هي بحسب الفكرة التي يعبَّر عنها. ولذلك، فمن الصعوبة بمكان القول بأنَّ العلاقة بين الشكل والمضمون في العمل الفنيِّ الإسلاميِّ الصوفيِّ اعتباطيَّة، أو حتى شبيهة بمثيلاتها في التجريديَّة المعاصرة. وفي هذا السياق يقول الخطيبيُّ والسلجماسيُّ “ولمَّا كان الخطُّ تزوِّقه المقدَّسات فإنَّه يشعُّ في كلِّ مكان، والكتابة تتأقلم مع كلِّ مادَّة ومع كلِّ شكل، إنَّها تنطوي على بعد جوهريٍّ في الوجود.”[19]
5- خصوصيَّة الرُّؤية الصوفيَّة في الفنّْ:
تطرح قضيَّة التجريد في الفنِّ الصوفيِّ إشكاليَّات عديدة، لعلَّ أبرزها يتعلَّق بسيميولوجيا التسمية نفسها، بمعنى: ما الذي يجوِّز نقديَّاً قبول هذا التركيب النعتيِّ: أهو الفنُّ الإسلاميُّ الصوفيّْ؟ وهل يعود ذلك إلى أنَّ من أنجزه هو مسلم – وهو ما لم يكن عليه واقع الحال في أغلب تلك الفنون؟ أم يجوز من جهة أنَّه التزام بمعايير جماليَّة إسلاميَّة؟ وهو العنصر الجامع بينها؟
في الواقع، يختلط على الباحث أمر التصنيف حتى يصير “الفنِّ الصوفيُّ الإسلاميُّ” بهذا القول معتم الدَّلالة. وفي هذا السياق يقول بابادوبولو[20]: “هل يسمَّى العمل الفنِّيُّ إسلاميَّاً إذا كان موصى بإنجازه لحساب رجل مسلم أو معتنق الإسلام؟ ولكن من الواضح أيضاً أنَّ الأعمال في القرون الأولى كانت بيزنطية من حيث جماليَّتها ومنجزة بأيدي يونانيِّين أو مسيحيِّين سوريِّين مثل الفسيفساء والجداريَّات التي تزيِّن مساجد سوريا وقصورها في القرن الثَّامن. أم هل تسمَّى الأعمال إسلاميَّة وصوفيَّة إذا كان منجزوها فنَّانين اعتنقوا هذا الدِّين أو هذا المذهب؟ إنَّنا بذلك ننزلق في طريق لا مخرج منه، إذ لا نعرف صانعي معظم الأشياء المزدانة بصور في مختلف البراعات كالزُّخرف والخشب والمعادن والعاج والخطوط عدا بعض الأعمال النَّادرة لأسماء صانعيها. والأسماء في حال ثبوتها تكون في الغالب ذات نبرة مسيحيَّة حتى نهاية القرن الثَّالث عشر. من المحتمل جدًّا أن تكون جماليَّة الرَّسم الإسلامي تكوَّنت على يد مسيحيِّين أو حديثي عهد بالإسلام من سوريا، فالواضح إذن أنّ عقيدة صاحب العمل الفنّي أو مذهبه لا دخل لهما في الموضوع لذلك لا يمكننا سوى اعتبار الأعمال نفسها والسّمات الموضوعيّة الّتي تبديها حتَّى نحكم بمطابقتها لمقتضيات جماليَّة إسلاميَّة أي باحترامها الأساسيِّ لتحريم محاكاة الكائنات الحيَّة، والطّبيعة بصورة عامَّة”.[21]
وإذا أعرضنا عن هذا الإحراج الأوَّل، فإنَّنا نصطدم بمسألة ثانية شديدة التَّعقيد من حيث الجوهر، فالفنُّ لا يصير فنَّاً من النَّاحية المبدئيَّة، إلاَّ إذا استقلَّ عن التوظيف الإيديولوجيِّ والدِّينيِّ، ولم يعد جزءاً تابعاً لغيره وإحدى أدوات تلك الجهة وحواملها فلا يعبِّر عن ذاته بقدر تعبيره عن الدلالات المسقطة التي حُمِّل بها. بينما في عبارة الفنِّ الإسلاميِّ يبدو الأمر متناقض، لأنّه حينما نذكر عبارة الإسلامي أو الصّوفي نكون ضمنيّا قد نفينا الفنّ أو ألغيناه، في مقابل إقرارنا بأولويّة «المقدّس” على حساب الجمالي. لأنّ التّركيب اللّغوي يؤدّي دور التعريف بالمعرَّف أي الفنَّ بالنَّعت الذي يلحقه وهو الإسلاميُّ أو الصوفيّْ. فكيف نصوغ هذا التركيب ونستسيغه؟
ولعلَّ من باب الحرص على الصَّرامة المنهجيَّة، أن نضيف إلى الإحراجات السَّابقة، إحراجاً آخر يتعلَّق بما تحتويه المدوَّنة الفقهيَّة في الإسلام من تحريم للتصوير الفنِّيِّ التشبيهيِّ وللنَّحت. فكيف يجوز لنا بعد كلِّ ذلك الحديث عن فنٍّ صوفيٍّ في ظلِّ القول بالتَّحريم؟ هل أسلم الفنُّ الصوفيُّ؟ أم هل كان الفنُّ مسلماً يوماً ما؟
تمثِّل جميع هذه الأسئلة مداخل مناسبة للتَّفكير في موضوع الصورة في الفنِّ الإسلاميّْ. وإذا جاز لنا افتراض وجود حلول أو أجوبة لتلك الإحراجات، فإنَّه يجوز لنا البحث عنها في السِّجال الكبير الّذي أقامه نقّاد الفنِّ الإسلاميِّ حول هذا الموضوع، عنينا بشكل مباشر النصوص الكبرى الفارقة في هذا المجال مثل نصوص: الخطيبيِّ والسجلماسي وألكسندر بابادوبولو. فكيف تمَّت معالجة جميع هذه العناصر داخل هذه المدوَّنات المشتغلة على قضيَّة الصورة في الفنِّ الإسلاميّْ؟
على الأغلب أنَّ “الرَّسم التشبيهيَّ” أو “التمثيليَّ” حرام شرعاً في الإسلام[22]، كما سبق أن أوضحنا. ومن دون أدنى تحصيل فقهيٍّ، يعلم أغلب المسلمين الغرض من القول بالتَّحريم، وهو تجنُّب الوقوع في التشبيه والشبهات. إذ لا يجوز تقليد الخالق، ولا يجوز التشبيه على المخلوق. ثمَّ لأنَّ عبادة الأصنام كانت سائدة إبَّان نزول الوحي، فكان لا بدَّ من منع “التجسيم” للفكرة المجرَّدة حول الإله. فتجريد فكرة “الله” هي الخاصيَّة المركزيَّة للإسلام أي التوحيد. توحيد إله واحد هو ربُّ العالمين، تعالى عن الوصف الحسِّيِّ، أحدٌ وصمد، لا شبيه له، لم يولد ولم يلد، ولم يكن له كفؤاً أحد. وهو حقيقة متعالية لا تُدرك للعامَّة إلاَّ بالتصديق و”بالتّخيّل”، وللعلماء بالاستدلال والعقل. فالله مفهوم صعب لأنَّه مجرَّد يقوم على الاعتقاد بوجوده في كلِّ مكان وقبل الزَّمان وبعده، أي قديم وغير فان. ولعمق هذه الفكرة من جهة انفصالها عن الحسِّيِّ والعينيِّ والمباشر، كان من الصَّعب إدماجها بين جمهور المؤمنين من دون إغلاظ في التّهديد والوعيد. ولذلك ارتبط التصوير التشبيهيُّ والتمثيليُّ بصفة “الشِّرك”، وهي أعظم الكبائر على الإطلاق في الإسلام.
لا شكَّ إذن في أنَّ المقاصد الشرعيَّة من وراء هذا المنع هي تجنُّب التشبيه والتشبُّه ومنع الفتنة الحسِّيَّة الّتي يمكن للعمل الفنِّيِّ أن يحدثها في ذات المؤمن. إنَّه الخوف على ذهاب خشية المؤمن وهدوئه ويقينه ووقوعه تحت سحر الفتنة والغواية الحسيَّتين. وهو في الواقع إقرار بشكل غير مباشر بما للفنِّ من سلطان وتأثير في النُّفوس. إذ لا نهاب في الغالب ما لا يُهاب. ففي خشيتنا نعلن الكثير من الاحترام لمن نخشاه. والإسلام كان منذ البداية حذراً مع أشكال الفنون المختلفة، القوليَّة منها كالشِّعر والبلاغة، والنغميَّة كالموسيقى والغناء، والتصويريَّة كالرَّسم والنَّحت. حتى أنَّه لم يحل من الشِّعر “فاحشه” و”فاضحه” “وهاتكه”، ومن الغناء “فاتنه”، ومن الموسيقى “ما تذهب معها خشية الله” ووقار المؤمن، ومن التصوير “ما شبِّه” على المؤمنين، ونافس الخالق المتعالي عن كلِّ تشبيه وعن كلِّ منافسة. وهنا المشكل، فإذا كان الله نفسه سبحانه وتعالى، يتعالى عن كلِّ تشبيه ومنافسة، فلمَ نحرِّم على الفنَّانين التشبُّه بعمله المتقن وصنعته الجميلة المبدعة؟
لقد استطاع المتصوِّفة أنْ يخترقوا حواجز الشَّكل في مغامرتهم الفنيَّة ليغوصوا بأذواقهم في بحار الجمال والجلال. ولكنَّ الجواب الفقهيَّ الجاهز دائماً، هو بأمر الخشية على الله يقع التحريم، ومن ثمَّ حماية المؤمن الضَّعيف والقابل “للسُّقوط” في كلِّ لحظة في غواية “شيطان” التشبيه والغلط في وهم الخلق، يقع التحريم. وعليه، فإنَّ الرَّغبة في صفاء النفس وهدوئها وثباتها على اليقين المطلق، وتطهير أعماق المؤمن من الانفعالات الحادَّة والعاطفيَّة، والنَّأي بها عن انزلاقات الغواية والفتنة الحسِّيَّة، وقع إلجام الفنِّ، وخصوصاً في صدر الإسلام.
لكن، إذا كانت الثقافة الدينيَّة الإسلاميَّة بهذه الصرامة مع الفنِّ، فبم نفسِّر وجود فنون إسلاميَّة في ظلِّ سيادة مبدإ “التحريم”؟
يطرح النَّاقد ألكسندر بابادوبولو هذا التناقض، طارحاً فرضيَّتين ممكنتين حوله لكلٍّ منهما تبعاتها الخاصَّة، وهما:
ـ الفرضيَّة الأولى: من الممكن أن يكون وجود الفنِّ الإسلاميِّ حادثاً عن فعل”العصيان”، والتجاوز والإهمال للأوامر، وضعف في عقيدة البعض وخصوصاً الخلفاء، على شاكلة التجاوز الذي يحدث في “كبائر” أخرى شأن الخمر وغيره.
ويترتَّب على هذه الفرضيَّة نتيجة مفادها أنَّه لا يوجد فنٌّ إسلاميٌّ أصيل، وإنَّما كلُّ ما وجد هو عبارة عن تجاوزات “ثقافيَّة” يجيزها المترفون وأصحاب السلطان لأنفسهم[23]. وهي نتيجة خطيرة ومتهافتة، ولذلك يقول عنها بابادوبولو” ولكن يجب أن نكون حذرين وأن نتمثَّل ما يترتَّب عن القول بهذا الرأي فهو يعني التَّأكيد على أنَّه لا يوجد رسم إسلاميٌّ بالمعنى الحقيقيِّ للكلمة، بمعنى فنٍّ تصويريٍّ متَّفق مع تعاليم الدين الإسلاميِّ المقبولة. فإذا سلّمنا بأنَّ الرَّسم كان يمارس “كخطيئة دائماً”، وإذا كانت العقوبات الواردة في الأحاديث تنسحب على الفنَّانين ومناصريهم، فمن البديهيِّ أن نتحدَّث عن “رسم كان يُمارَس في زمن السادة المسلمين”، أو كان ” يُنجَز من أجلهم”، ولا يمكن أصلاً تسميته ” رسماً إسلاميَّاً”.[24]
تشدُّنا العبارة الأخيرة في شهادة النَّاقد بابادوبولو، والّتي تنتهي إلى نفي صفة ” الإسلاميِّ” عن الرَّسم الإسلاميِّ، في حال ذهبنا في هذه الفرضيَّة الأولى، الّتي تعتبر وجوده نتيجة فعل خطيئة، وهو مأزق لا يمكن الخروج منه إلاّ بالفرضيَّة الثّانيَّة.
-الفرضيَّة الثانية: يفترض بابادوبولو كبديل للفرضيَّة السابقة، أنَّ تفسير مفارقة التحريم والوجود للرَّسم الإسلاميِّ، يمكن تحقيقه عبر وضع المعطيات التالية في حسبان مؤرِّخي ونقَّاد الفنِّ، وهي أنَّ الفنَّان المسلم، بعد إدراكه العميق لجوهر عقيدته، فهم أنَّ مسألة التحريم لا تتعلَّق بالجوهر ذاته، أي حقيقة الفنِّ وماهيَّته، وإنَّما تتعلَّق بأشكاله التعبيريَّة عن تلك الحقيقة وتلك الماهيَّة فحسب، فأدرك أنَّه مطالب بتطوير أساليبه التشكيليَّة المختلفة وتوظيفها على نحو لا يجرح ولا يحرج حساسيَّة المقدَّس. ومعنى هذا أنَّ الفنَّان المسلم ولاسيَّما الصوفي لمَّا تمثَّل ما هو محرَّم في الفنِّ على وجه الدقَّة تجنَّبه. والمحرَّم هو التشبيه والتمثيل والمشابَهة. وحينها ولَّد من رحم قدراته الإبداعيَّة الخلاَّقة طرقه التعبيريَّة الرمزيَّة والخاصَّة به. ويتعلَّق الأمر عمليَّاً بإعادة التحكُّم في اللَّون والشكل والحركة والضوء والتوازن وكلِّ مكوِّنات المشهد العينيِّ للعمل الفنِّيّْ. وقد وظَّف الفنَّان المسلم جميع عناصره التشكيليَّة من أجل خلق مواضيع خاصَّة به، تعبِّر عن عمق تجربته الروحيَّة الضَّاربة في النزعة الصوفيَّة.
الخاتمة:
حاولنا في هذا البحث السعي للوقوف على أبرز ما يُميِّز التجربة الفنيَّة الصوفيَّة، وأطلقنا عليها اسم المغامرة لأنَّ صاحبها يدخل خضمَّاً واسعاً لا يعرف مُسبقاً مُنتهاه. وحاولنا بيان أنَّ التجريد والتوحيد وجهان لورقة واحدة، وهما وجه وقفا في هذه التجربة الذوقيَّة، حيث يفيض سبيل اللّه بمعاني الحبِّ والفناء، وهو المجال الذي يُشعر فيه بالنَّشوة الفنيَّة رضا وجمالاً، والطَّريف أنَّ هذه المغامرة هي رحلة معرفة وتجريب لأنَّ من ذاق عرف، ومن لم يذق لم يعرف. وقد فاض الفنُّ الصوفيُّ بمعاني السُّمو والمثاليَّة الطَّامحة إلى الاتِّحاد بين الحبِّ والمحبِّ، وهذا التعالي هو التمثيل الحقيقيُّ للتجريد سعياً وراء التوحيد المتجلِّي في مطلق الكونيّْ.
لقد بدا التجريد نقطة التقاء بين الفنِّ الصوفيِّ والفنِّ الحديث، وهو ما يفتح أفقاً لمزيد من التحليل والمقارنة في مجال المنطلقات الفنيَّة، ومواضيع الإبداع ومضامينها، وفي طرق أدائها. ولا عجب أنْ يكون السابق في الزمان مدشِّنا للحظة فنيَّة تنتهي إليها الحداثة اللاّحقة في الزمان. ولعلَّ ذلك راجع إلى أنَّ الإبداع الفنيَّ لصيق بالنَّفس الإنسانيَّة. ولغة النُّفوس واحدة في كلِّ عصر ومصر.
قائمة المصادر والمراجع:
1-المصادر:
- أحمد بن حنبل، المسند ج 4،” أنا أفكِّر”، إصدار المركز الوطنيِّ البيداغوجيِّ، تونس.
- محمد بن اسماعيل البخاري، صحيح، مكتبة الإيمان، المنصورة، مصر، طبعة جديدة، سنة2003.
- رفيق العجم، موسوعة مصطلحات التصوُّف الإسلاميِّ، مكتبة لبنان ناشرون، سنة1996.
- ابن سينا، أحوال النفس، دار الكتب العلميَّة، بيروت، سنة2019.
2- المراجع:
* باللُّغة العربيَّة:
– الصَّائغ سمير، الفنُّ الإسلاميُّ: قراءات تأمُّليَّة في فلسفته وخصائصه الجماليَّة، دار المعرفة، بيروت- لبنان.
– ابن عربي، التجلِّيات، المطبعة الملكيَّة، المغرب، 19640.
– سعاد الحكيم، المعجم الصوفيُّ، دندرة للطباعة والنشر، 1981.
– بهنسي عفيف، جماليَّة الفن العربيِّ، عالم المعرفة، الكويت، 1979.
– التوحيديُّ أبو حيَّان، رسالة في علم الكتابة، تحقيق الدكتور إبراهيم زكريَّا، مطبعة المعهد الغربيِّ، بدمشق سوريا، 1951.
– شقرون نزار، معاداة الصورة في المنظورين الغربيِّ والشرقيِّ، دار محمد علي للنشر، تونس، 2009.
– عبد الكبير الخطيبي ومحمد السلجماسي، “ديوان الخطِّ العربيِّ”، ترجمة محمد برادة، دار السلسلة، سنة 1976.
– ألكسندر بابادوبولو، جماليَّة الرَّسم الإسلاميِّ، ترجمة علي اللَّواتي، نشر وتوزيع مؤسَّسات عبد الكريم بن عبد الله، تونس، 1979.
طه عبد الباقي سرور، الحلاّج: شهيد المتصوّف الإسلامي، دار النّهضة مصر للطبع والنّشر، د ت.
*باللُّغة الفرنسيَّة:
– RAGON Michel, l’aventure de l’art abstrait , Ed: Robert Laffont, France,1956.
–
[1] RAGON Michel « l’aventure de l’art abstrait », Ed: Robert Laffont, France,1956.
[2]« Il serait relativement aisé de démontrer ainsi que l’art abstrait a toujours existé, d’indiquer son développement depuis la préhistoire jusqu’à nos jours en saluent au passage les arts musulmans géométrique » ibid, p 24.
[3]« Si l’art abstrait semble nouveau c’est que le triomphe de ce mouvement esthétique à été retardé ». RAGON Michel, « l’aventure de l’art abstrait », op.cit, p 25.
[4]– الصّائغ سمير، الفنّ الإسلامي: قراءات تأملية في فلسفته وخصائصه الجمالية، دار المعرفة، بيروت- لبنان، ص 114.
[5]– الصّائغ سمير، م ن، ص 114.
[6] – ابن عربي، التجليّات، المطبعة الملكيّة، المغرب، 1964، ص 162.
[7] – سعاد الحكيم، المعجم الصّوفي، دندرة للطباعة والنشر، 1981، ص 832.
[8]– سعاد الحكيم، المعجم الصّوفي، المرجع السّابق، ص 116.
[9]– بهنسي عفيف، جماليّة الفن العربي، عالم المعرفة، الكويت، 1979. ص 76.
[10]” إنّ الموقف من الصّورة أثّر في طبيعة التّصوير الإسلامي، وهو ما عدّه البعض سببا أساسيّا في استبعاد محاكاة الواقع، ويردّ علي اللّواتي في هذا السّيّاق على الرّأي القائل بجمود المصوّر المسلم في قوالب قديمة بسبب خشيته من محاكاة الخالق وقصور تجربته الفنّيّة الّتي لا تضاهي المرحلة الّتي شهدها الفنّ الغربي في عصر النّهضة، ويعتبر إجراء هذه المقارنة وضعا تعسفيّا. وفي تعليقه على موقف بوركهارت الّذي تيقّن من الأثر السّلبي للتّحريم على الفنّ التّشبيهي الإسلامي، يقول علي اللّواتي: ” هناك من الاختصاصيّين من أحسّ بتأثير التّحريم على وسائل التّصوير الإسلامي ودورها النّوعي في تشكيل أسلوبيّة خاصّة. ومن هؤلاء تيتوس بوركهارت، فهو يرى أنّ النّهي عن تصوير الأحياء كان له أثر حقيقيّ على الفنّ التّشبيهي، إذ كان هذا الأخير يتجنّب دائما التّمثيل الواقعي للأشياء، ولذلك فإنّ عدم اعتماد التّصوير الإسلامي للمنظور والقولبة والظّلال والأضواء لم يكن يرجع إلى سذاجة أو جهل بوسائل نقل العالم المرئي…. وبالفعل فإنّ البنية الفكريّة لها تأثيرها في جمالية الفنّ، وهو ما يتماهى مع رأي سمير الصّائغ أيضا”.
شقرون نزار، معاداة الصّورة في المنظورين الغربي والشّرقي، دار محمّد عليّ للنّشر، تونس، 2009، ص ص 64-65.
[11] مفكران مغربيّان بارزان: ولد عبد الكبير الخطيبي في 1938 وتوفّي في 2009، وهو في الأصل باحث في النّقد والدّراسات الاجتماعيّة، بينما ولد محمد السّلجماسي في 1932 وتوفيّ في 2007، وهو في الأصل طبيب ومؤرّخ فنّي. أبرز ما كتباه هو كتاب بالفرنسيّة وجد رواجا كبيرا في نهاية السّبعينات بعنوان: فن الخطّ العربي. ويبدو أنّه قد ظهرت أخيرا ترجمة لهذا الأثر الموسوعي في الخطّ العربي، بعنوان “ديوان الخطّ العربي”، ترجمة محمّد برادة.
[12]« Pour le musulman, le monde est là comme un livre absolu, témoignant de l’omniprésence divine. » KHATIBI Abdelkébir & SIJILMASSI Mohamed, L’art Calligraphique Arabe, Editions Chene, 1976, P226.
[13]« L’homme est un signe, un nom marqué par le sceau d’Allah. Il est ce corps dérobé à lui-même, et comme détaché de son mouvoir dans la vision devine. Ce qui s’introduit en ce corps, dictée par la voix devine, c’est une peinture de l’âme se détachant dans le ciel d’Allah. A sa manière, le calligraphe retient cette peinture de l’ame. Elle donne à voir le chemin de la révélation » .
KHATIBI Abdelkébir & SIJILMASSI Mohamed, L’art Calligraphique Arabe, op; cit, P226.
[14]« Ensource l’être dans l’écriture ». KHATIBI Abdelkébir & SIJILMASSI Mohamed, L’art Calligraphique Arabe, op.cit, p 228.
[15]« D’où tire l’artiste musulman sa volupté ? » KHATIBI Abdelkébir & SIJILMASSI Mohamed, L’art Calligraphique Arabe, op.cit.
[16] يستعرض الخطيبي والسّلجماسي جدل الأصل حول الكتابة في المتخيّل الإسلامي. وذلك في الفصل الأوّل من كتابهما “فنّ الخطّ العربي”، حيث يتساءلان كيف تصوّر المسلمون أصل الحروف العربيّة؟ فيستعرضان عدّة تصوّرات بعضها واضح السّند مثل أبو العبّاس أحمد البوني، وبعضها دون سند. ومن بين عناصر هذا المتخيّل، الاعتقاد بأنّ الحروف خلقت في البداية من النّور الّذي كتب به كل شيء على اللّوح المحفوظ. وكان بعض شعاع هذا النّور قد فلت فشكّل أوّل حرف وهو الألف في الأبجديّة، ومنه اشتقّت جميع الحروف الأخرى. بينما تذهب بعض عناصر هذا الجدل إلى القول بأنّ الله خلق الملائكة في البداية على شكل حروف وأمرهم بالسّجود له فأوّل السّاجدين جعله الألف أي أوّل الحروف الأبجديّة. ومن عناصر هذا الجدل كذلك أحاديث أخرى تقول أنّ آدم كتب ثلاث كتب قبل الطّوفان العظيم، وقد أمر بحملها إلى بنيه. وبعد الطّوفان وجد النّاس هذه الكتب وكلّ ملّة حملت كتابها باختلاف لغتها. بينما يشير المؤلّفان إلى أنّ تاريخ الخطّ والكتابة العربيّين مرّا في الواقع بمراحل مختلفة متطوّرة في وعي الثّقافة الإسلاميّة هي الأسطوريّة والميتافيزيقيّة والعلميّة. والتّصوّر العلمي لأصل اللّغة العربيّة هو ما أكّدته الدّراسات التّاريخية والأنثربولوجيّة الّتي تعود بها الآشورين والشّعوب الفينيقيّة. بينما يعتقد كثير من المسلمين قديمهم وحديثهم بأنّ أصل اللّغة العربيّة هو القرآن خاصّة وأنّه قديم قدم الزّمان نفسه. وهكذا ندرك كم يحوز الأسطوري على هذه الظّاهرة في المتخيّل الإسلامي. ولذلك فإنّ التّعامل مع ظاهرة الكتابة بالأبجديّة العربيّة أي فنّ الخطّ العربي ينبغي أن يكون بحرص شديد مع استحضار كلّ عناصر هذا الجهاز الأسطوري حول الأصل المتخيّل، أي “ميتافيزيقا الرّموز العربيّة” la métaphysique des signes كما في عبارة الخطيبي والسّلجماسي.
كما أشار المؤلّفان إلى أنّ الجدل حول أصل اللّغة والكتابة العربيّة تشكّل في المرحلة الفلسفيّة أو الكلامية داخل قضيّة ما يعرف “بالتّوقيف والاصطلاح”. وهي مسائل عالجها المعتزلة، وهو جدل وسع فيه الخلاف والتّفصيل. وخاصّة حول هل أنّ كلام الله مجرد صوت أم هو فعل؟ وهل هو نصّ بالذّات أم هو معنى علينا ترجمته؟ ثم تعلّق الجدل بكيفيّة كتابة القرآن وحفظه وقوله. مع الاحتفاظ دائما بمصدره المتعالي هو الله سبحانه وتعالي.
بينما ذهب أغلب النّحويين العرب إلى الطّبيعة التّعاقديّة للّغة مثل ابن جنى وابن فراس وابن حازم. وإلى القول بأنّ القرآن خالد مع الله. بينما لغة آدم الّتي علّمه إيّاها الله فقدت وضاعت منه. وعوّضتها اللّغات الاصطلاحيّة المتفرقّة. وقد قدّم ابن خلدون تصوّرا متأخّرا وأكثر وضعيّة لأصل الكتابة حينما أشار إلى تنقّلها من السّرياليّة إلى الحميرين إلى الحيرة إلى سكّان الحجاز.. وهي قراءات تقترب من الاكتشافات الحفريّة الحديثة. والغريب في الأمر أنّ الأبجديّة العربيّة هي أبجديّة حديثة، لأنّ أقدم النّصوص الّتي تمّ العثور عليها بالأبجديّة العربيّة تعود إلى سنة 328 ( فنّ الخطّ العربي ص 52).
وترى الدّراسات اللّغويّة الحديثة بجملة القرائن الّتي بين يديها أنّ اللّغة العربيّة تعود إلى أصول أرمينيّة وفنيقيّة.
[17]« Ce geste introduit une peinture secrète de l’âme, dans sa manière d’envelopper le vide et de s’y loger par des épures gnomiques : calligrammes absolus, monogrammes symboliques, géométrie à parabole divine. ». KHATIBI Abdelkébir & SIJILMASSI Mohamed, L’art Calligraphique Arabe, op; cit, pp 231-232.
[18]« L’art musulman n’a point son centre à la Mecque, ni à Tombouctou, mais il présente un paysage divers, décentré. Prenons l’exemple de la calligraphie arabe écrite par des Chinois musulmans. Une telle calligraphie est arabe par excès, par débordement de sa propre source. La cursive idéogrammatique tord la lettre arabes, la fait tourner sur elle-même, pour en mesurer en quelque sorte la plasticité. Chaque culture se fait plaisir à elle-même, en déplaçant l’autre sur le sol de sa différence. Le désir éclate par un flux écarté des stipes ». Ibid, p 226.
[19] KHATIBI Abdelkébir & SIJILMASSI Mohamed, L’art Calligraphique Arabe, op. Cit.
Alexandre Papadopoulo [20] : فيلسوف روسي في مجال الجماليّات الإسلاميّة عرف بكتابه المرجع في 1976 الإسلام والفنّ الإسلامي.
[21] ألكسندر بابادوبولو، جماليّة الرّسم الإسلامي، ترجمة عليّ اللّواتي، نشر وتوزيع مؤسّسات عبد الكريم بن عبد الله، تونس، 1979، ص ص 29-30.
[22] رغم أنّنا لا نجد هذا التّحريم في القرآن فلا جدال في وروده صريحا في نصوص السّنّة، قال الرّسول محمّد (ص) “لسوف يكون الرّسامون والمصوّرون من أشدّ من يعذّبهم الله يوم القيامة” (صحيح البخاري)، وعن ابن عبّاس أنّه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول ” كلّ مصوّر في النّار، يجعل بكلّ صورة صوّرها نفس تعذّبه في جهنّم” (أحمد بن حنبل، المسند ج 4) … ” أنا أفكّر”، إصدار المركز الوطني البيداغوجي، تونس، ص 168.
[23] يقول بابادوبولو ” يعرض مؤرّخو الفنّ جميعا تلك التّحريمات الّتي سنّها فقهاء الحديث والواردة في الأحاديث الّتي لديهم من جهة، ومن جهة أخرى يسجّلون الازدهار الفعلي للرّسم، وحيث أنّهم لا يطرحون مسألة ما إذا لم يكتسب الرّسم بجماليّته صبغة إسلاميّة حقّة، فإنّهم لا يتعدّون تسجيل هذا التّناقض وتفسيره بنفوذ الأمراء المحبّين للفنّ والمهملين لتحريمات رجال الدّين بخصوص هذه المسألة ابتداء من شرب الخمر. وهكذا يكتب ارنولد: لقد كان بوسع الأمراء المزهوّين بنفوذهم ازدراء تعاليم علماء الدّين” وكذلك ” لقد كان العلماء يدينون هذه الجرائم دون التّجرّؤ على الكلام واثقين بعقاب الله” ومثل هذا الموقف لاوغو مونيري دي فيلار Ugo Monneret de Villar.
وهو ممّن تعمّقوا في مشكل “تحريم الصّورة” فهو يعطي أمثلة كثيرة لتحريمات أخرى بقيت حبرا على ورق كالكتابة على القبور والأنصاب الجنائزيّة، وخاصّة القباب والحمّامات أو النّائحات والعويل في المآتم. ويختم مونيري دي فلار حديثه قائلا” يمكن مواصلة تعداد الأمثلة: فالأوامر المسنونة في الحديث تظلّ دائما دون جدوى والفقهاء أنفسهم يجدون بعض الملاءمات مثل إذنهم بالكتابة على القبور رغم النّهي، وكذا بالنسبة للقباب على القبور والصّور” ونستطيع بدورنا الزّيادة من الاستشهادات لأنّ هذا الموقف قد اتّخذه في الواقع جميع مؤرّخي الفنّ الإسلامي.
ألكسندر بابادوبولو، جماليّة الرّسم الإسلامي، مرجع سبق ذكره، ص ص 30-31.
[24] المرجع نفسه، ص31.