الطائفة العيساويَّة في المغرب… تصوُّف وموسيقى
نوفل الشرقاوي
تعتبر الطريقة العيساوية من أبرز المذاهب الصوفية التي ظهرت في العصر الحديث، خلال القرن السادس عشر، على يد الولي محمد الهادي بن عيسى، وهي امتداد للطريقة الجزولية التي ظهرت خلال القرن الثالث عشر على يد الإمام أبي الحسن الشاذلي. وتعتمد الطريقة العيساوية على الطهر والصفاء في سبيل التقرب إلى الله ورسوله، ويظهر ذلك الصفاء في اعتماد مريدي تلك الطريقة خلال حلقات الذكر على ترتيل القرآن والأوراد ومدح الرسول عليه الصلاة والسلام، إضافة إلى الابتعاد عن الشوائب العقائدية، وكذلك اعتماد نظام توجيهي من أبرز سماته احترام الآخر وتقدير الأشخاص الأكبر سناً وطاعة المعلمين.
الشيخ الكامل
على الرغم من قلة المراجع التاريخية عن الولي الهادي بنعيسى، إلا أن المؤرخين الذين تحدثوا عنه أجمعوا على أنه كان عالماً كبيراً وفقيهاً حكيماً، أثر في أجيال بكاملها وتجاوز إشعاعه الفكري وطريقته الصوفية حدود المغرب، إذ وصل إلى بلدان المغرب الكبير كافة ومصر.
أحد عروض الموسيقى العيساوية (موقع الطائفة العيساوية بمدينة مكناس)
ولد الهادي بنعيسى أو الشيخ الكامل عام 1467 بمنطقة سوس، وحظي في صغره بتربية جيدة وعناية فائقة من أخواله ووالده الذي رافقه إلى مدينة فاس (العاصمة العلمية للمغرب) من أجل تجهيزه للدراسة بجامع القرويين، ساعدته سرعة بديهته في حفظ القرآن الكريم في مدة وجيزة، ومن ثم انتقل إلى دراسة العلوم الشرعية والأدبية، وبرع في اللغة العربية والفقه والتفسير، إلى أن بلغ درجة معرفية شرعية مرموقة ومكانة عالية في الزهد والتصوف، وأصبح عالماً دينياً يدرس ويفتي، واتسم الشيخ الكامل بغزارته المعرفية الدينية وبحكمته وباتباعه منهجاً دينياً صافياً خالياً من الشوائب.
وتتلمذ الشيخ الهادي بنعيسى على يد وارث سر الطريقة الجازولية الشيخ أحمد الحارثي، الذي ساعده على تعلم روح تلك الطريقة الصوفية، حتى لقب بالخليفة الجليل وأصبح من أهم أقطابها بالمغرب، انتقل بعد وفاة معلمه إلى مراكش لملاقاة الشيخ عبد العزيز التباع، الذي كان من أهم أعلام الطريقة الجزولية، وأولاه اهتماماً وتقديراً كبيرين، وكشف له عن خبايا الطريقة، إلى أن أصبح الولي الهادي بنعيسى خليفة الطريقة الجزولية، والتي ستصبح في مجملها تسمى بعد وفاته بالطريقة العيساوية، انتشرت تلك الطريقة الصوفية بقوة في كل الدول المغاربية التي لا تزال موجودة بها حتى الآن وكذلك في مصر، ودفن الهادي بنعيسى عام 1526 في ضريح بمكناس الذي يعتبر الأشهر من نوعه في المغرب.
ويقول الشيخ أحمد الخليفي في كتابه “الأنيس الجليل في طريقة ومناقب سيدي محمد بن عيسى القطب الكامل”، وما كاد أن ينتهي من علوم الشريعة حتى كان قد تأثر بالحكمة والحقيقة لا سيما والطريقة الجزولية الشاذلية قد عرفت حركة روحية عالية، فجاءت أحزابه الأورادية المتعددة جامعة لما نهجه في حياته العلمية وما تلقاه عن مشايخه، لا سيما بعد اعتناقه طريق القوم ووروده موردهم كما في قصائده الشعرية سواء في توسله أو في التحدث بنعمة الله تعالى عليه، فقد نهل من البحرين وارتوى من المنهلين وقضى حياته ما بين التدريس والفتوى وتربية المريدين بزاويته.
الموسيقى العيساوية
إن الموسيقى العيساوية هي امتداد للمذهب الصوفي العيساوي، تعتمد على تعاليم ذلك المذهب نفسه، وتتغنى بقصائده وأمداحه الصوفية. وعن خصوصيات ذلك الفن يقول جمال الدين بنحدو الباحث في التراث المغربي لـ “اندبندنت عربية”، إن للموسيقى العيساوية ميزة مخاطبة الروح والجسد، وإعطاءها الأولوية للإيقاع خلافاً للطرق الصوفية الأخرى التي تعتمد على ذكر الله ومدح الرسول فقط.
ويضيف بنحدو “الإيقاع العيساوي يجعل الذات تهتز بالأذكار، وتعتمد على الإيقاع الحضّاري والذي يحتوي على مجموعة من الأشكال، فهناك الموسع والخفيف والقنطرة والسريع، كما يحتوي أيضاً إيقاع انصراف القدام الذي يعتمد على الإيقاع الثلاثي، وهو إيقاع يشبه نظيره الكناوي، يسميه المراكشيون بـ (دريبكة)، هناك شبه كبير بينهما خاص بالحضرة لا يفرّق بينه إلا المتمرسون”.
على مدى تاريخ المغرب، كانت كل دولة تتهم سابقتها بالانحلال، فيجري تكسير الآلات الموسيقية، ما جعل الزوايا الصوفية تعتمد في الأمداح على الأنغام الصوتية فقط، فجرت بذلك المحافظة على الأنغام المغربية الأصيلة. وفي عهد المرينيين، بدأ المغرب يبني شخصيته الخاصة في جميع المناحي الثقافية والحضارية، ومن بينها الموسيقى بحسب تعبير الباحث التراثي.
الليلة العيساوية
كبقية الأنواع الموسيقية الصوفية، لليلة العيساوية طقوس وتفاصيل مقدسة، يُجملها الباحث بنحدو في الدخلة، إذ يقف أفراد الفرقة العيساوية أمام المنزل الذي يقام به الحفل، ويقومون بذكر الله، ويجري استقبالهم من طرف المحتفلين في الخارج خلال ترديد الفرقة لـ (حنا جيناكم يا ناس الدار نسعاوا على أبوابكم نسعاوا الله الكريم ويسقينا من حوضكم)، حتى يصل الناس إلى حد أقصى من التشويق ثم يدخل العيساويون بالأعلام والمبخرة مع ذكر الله (الله دايم، الله عظيم).
يأتي بعد ذلك مرحلة التقيِيلة، التي تنطلق بعد دخول الفرقة لوسط المنزل، يبقون خلالها واقفين لفترة معينة وهم يرفعون الفاتحة (الدعاء) لأهل البيت، ثم يجلسون ويتابعون ذكر الله، ومن ثم تأتي مرحلة الحضرة، إذ تجعل كثرة المدح والإيقاعات الصوفية من يعانون من ضغوط نفسية على تفريغ مكنونات أنفسهم بالجذبة، وهي تمايل بالجسد عند وصول مرحلة من النشوة الروحية.
وللجذبة أصول دينية، إذ إن أحد الصحابة كان بحضرة النبي فأخبره الرسول أنه يشبهه، فقام الصحابي وبدأ يتمايل من الخشوع والقول (الله، الله)، وهي حركة اقتبسها الصوفيون منه بحسب تعبير بنحدو.
اللباس العيساوي
توارثت عائلات عدة، خصوصاً الفاسية والمكناسية الموسيقى العيساوية، وحافظوا على الإيقاعات مع القيام باجتهادات معينة، لكن جرى تغيير في طريقة اللباس، إذ عوضت الجلابيب المنمقة الحنديرة، وهو قميص يصنع بمواد بسيطة تعكس مستوى عال من الزهد والتصوف، وكان يلبسها مريدو الطريقة العيساوية الذين يسمون فقراء، وظل يضعها إلى الآن أعضاء الفرق العيساوية ممن يقوموا بالتمايل على أنغام تلك الموسيقى، بينما أصبح العازفون يلبسون الجلابيب والعمامات، وهذه الأخيرة وحدها تشكل شرطاً لالتحاق كل عضو بالفرقة، بالتالي لا يمكنه مرافقة المجموعة إذا لم يكن يرتديها.
شروط الالتحاق
لدخول عالم الموسيقى العيساوية شروط ومناهج دقيقة، يقول المقدم عبد الصمد هادف الذي يرأس فرقة عيساوية، كنا نحاول حضور الليالي العيساوية في طفولتنا لكن كنا نطرد كل مرة، لكن مع تكرار المحاولة، سُمح لنا بحضور تلك الليالي، باعتبار أن شيوخ عيساوة يقتنعون بأن تكرار الطفل للمحاولة دليل على ولعه الكبير بتلك الطقوس، ورغبته في دخول ذلك العالم، ويُشترط على الأطفال خلال المرحلة الأولى الجلوس والاستماع من دون التحرك أو التكلم لكي لا يحدثوا ضجة قد تؤثر في مسار الليلة العيساوية، كما يجري تعليمهم تدريجاً جوهر الطريقة التي تعتمد على الانضباط والروية واحترام الآخرين، وبالخصوص أولئك الأكبر سناً ومنزلة داخل الجماعة، ومن تجليات ذلك الاحترام تقبيل الوافد الجديد لكتف معلميه عندما يمنحونه آلة موسيقية معينة، إيذاناً بأنه وصل مرتبة تؤهله الالتحاق الفعلي بالفرقة الموسيقية.
_____________
*نقلًا عن موقع ” INDEPENDENT عربية “.