الدراسات والبحوث

سرُّ المكان القدسيّ

سرُّ المكان القدسيّ*

 

د. محمود حيدر

(مفكر وباحث في الفلسفة).

كل كلام على المقدس وعلى السر الذي فيه ينتهي إلى الحيرة. فالمقدس بما هو مقدس مستقل بذاته، مغاير لكل ما ليس من طبيعته. ولكي يُفهم القدسيُّ على ما هو عليه في حقيقته، لا بد من أن يعاش. ومقتضى عيشه أن تكونَه. كأنْ تنظر إلى قداسته بالرضا والتسليم. ثم أن تتعقَّل ما أنت فيه ليكون فهمُك له حاصل نظر واختبار ومعايشه.
هذا ما يتفق عليه أهل الحكمة والعرفان حين يطلقون على هذا النوع من الفهم عبارة “لحظة التجلِّي”. وهذه اللحظة تُعرِبُ عن اختبار معنوي، وانخطاف روحي لا يتوفر عليها سوى الذي يعيشها بالفعل. فالتجلي هو حاصل القبول المتبادل بين المؤمن وقداسة ما يؤمن به.
كان عالم الانتروبولوجيا ومؤرخ الأديان ميرسيا إلياد، ينفي أن يكون المقدس مجرد مرحلة من مراحل الوعي البشري، بل يعتبره عنصراً مكوِّناً لبنية هذا الوعي. وأكثر من هذا فإنه يعتبر وجود العالم حصيلة جدلية لتجلي المقدس وظهوره. وكان يلاحظ أن أقدم صورة لعلاقة الإنسان بعالمه هي تلك العلاقة المشبعة بالمقدس حيث يفيض هذا المقدس بمعانيه على مكان الإنسان، وحيث تكون ممارسته له في حد ذاته عملاً دينياً. (Eliade La Nostalgie des origins: Méthodologie et histoire des religions, ed Gallimard 1971. P7)

إن هذا التأصيل الجوهري لمكانة المقدس في الحياة البشرية، يفضي إلى حقيقة أن الإنسان – بوصفه إنساناً – هو كائن ديني. وإذا كان الإنسان لا يستطيع العيش إلا في عالم ذي معنى، فالإنسان المؤمن- أي الذي يعتقد بوجود عالم متسامٍ فوق مادي – هو الأكثر توقاً إلى العيش في محاريب القدسي. أو وما ذاك إلا لأن هذا العالم المتسامي، الذي يستمد جاذبيته من الغيب، هو بالنسبة إلى المؤمن عالمه الواقعي والحقيقي. وهو الذي يمنحه الأمل بالآتي، وبالسعادة التي لم تأتِه بعد. ولأن المؤمن لا يجد نفسه إلاّ في محل ممتلئ بجلال المقدس وجماله، فمن أجل أن يفتتح بهذه الإقامة “البرزخية” سبيلاً إلى السكن في عالم الألوهية الفائض باللطف والأمن ولذة القرب. أي أنه يرجو الخاتمة في المكان الأعلى طهراً وتقدسُّاً، مثلما كان من قبل كائناً طهرانياً في علم الله وحضرته المقدسة.
في السياق الرؤيوي نفسه يلاحظ علماء اجتماع الأديان أن تجربة الإحساس بالقداسة لدى الناس تأسست على عدم انفصال الرموز المقدسة لديهم عن الحقيقة التي تدل عليها تلك الرموز. من أجل ذلك توفرت للرمز الديني القدرة على إدخال المؤمنين في عالم القداسة.. ولم يكن من أحد على مرّ التاريخ، يستطيع أن يُخبِرَ عن كشوفات هذا المطرح المدهش بصورة مباشرة. اللهم إلا عدد بالغ الضآلة من القديسين والأولياء. لذا كان على أي إنسان أن يسعى لإدراكها وسائط تمهِّد له سبيل الوصول إلى عالم المعاني. فعلى سبيل المثال أن تجيئه القداسة من خلال نبي أو ولي صار مرقده وما حوله مكاناً مقدساً. ويشير هؤلاء إلى أن الطقوس التي يؤديها الناس في المكان المقدس، إنما هي صورة أخرى من صور محاكاة الألوهية والدخول إلى عالم الوجود الأكمل. وهذه الصورة تكتسب أهمية أساسية لفهم قداسة المزار أو أي مدينة مقدسة، لأنه ينظر إليهما باعتبارهما ثمرة مصدر سماوي.

لكن المؤمن، وإن لم يدرك كُنْهَ السرِّ الذي تنطوي عليه قدسية المكان، إلا أنه محمول على اليقين بالأثر المترتب على الإقبال عليه. بل إنه يمضي في التسليم بقداسة المكان المقصود إلى الحد الذي يُعرِضُ فيه عن مشقة التساؤل عن سر هذا المكان. فلو تمّت الزيارة على النحوين معاً، – التسليم المحض والتسليم المسبوق بالمعرفة – تحققت الإجابة وانصرفت الحيرة، وحلّت الطمأنينة.
حالئذ لا يعود للسؤال عن السر من نفع. إذ لا لزوم لإشغال الفكر بأسئلة قد تودي بصاحبها إلى الاغتمام وانصراف القلب عن غايته. فما دام المؤمن مغموراً بالإيمان والتسليم والعشق فهو آمن. ذلك بأن تقديس المكان يعني تقديس المؤمن لتلك اللحظة الانجذابية التي تحقق بها في ذلك المكان الذي لا يشبه المألوف من الأمكنة. والمؤمن الذي هذي حاله، يدرك سر تلك اللحظة إدراك عيش ومعاينة، ولا يعبأ إن كان قد تعقّل ذلك السر بالحجة والاستدلال أم لا. فإن من عاش السر لا يعود يهمه التعرف على صفاته وآثاره الخارجية. فقد بلغ مقام التحقق، وبات يعرف ما لا يقدر على معرفته حتى بعض أولئك الذين أخذوا بناصية العلم، ورسموا له بيانات الرحلة وشروط الإقامة.
إنه الميثاق الروحي الذي ينعقد بين الزائر والمزار. فمتى تحقق للزائر هذا الميثاق أدرك السر وتيسّر له الفهم.

هناك من ينكر على المؤمن إيمانه بالمكان القدسي ويقول له “إن ما تفعله ليس إلا خيالات وأوهام لا يعوّل عليها. وحجة هؤلاء توهُّم وجود تناقض بين الإيمان والعقل. لكن وهنا يجب أن يسأل المرء بأي معنى تُستعمل كلمة “عقل” حين تُواجَه بالإيمان؟.. هل المقصود بها، كما هي الحالة في الغالب اليوم، أن تُطلّق بمعنى المنهج العلمي، والصرامة المنطقية، والحساب التقني، أم أنها تُستعَمل، كما كان الحال في كثير الحضارات البشرية ولا سيما الحضارة الغربية، بمعنى منبع المعنى والبنية والمعايير والمبادئ؟

 

 

حول هذا التساؤل يبين الحكماء أن الإيمان لو كان نقيضاً للعقل لكان يميل إلى نزع الصفة الإنسانية عن الإنسان. فالإيمان الذي يدمِّر العقل يدمر في المقابل نفسه ويدمر إنسانية الإنسان. إذ لا يقدر سوى كائن يمتلك حكمة التعقُّل أن يجمع بين عقله وإيمانه. أي أن يكون شغوفاً بالله والإنسان في آن. وحده من يمتلك مَلَكَةَ “العقل المتدبر” ـ أي العقل الجامع بين الإيمان بالله والإيمان بالإنسانية ـ يفلح بالوصل بين الواقع الفيزيائي للإنسان وحضـور المقـدس في حياته. وما نعنيــه بـ “العقل المتدبر” هـو العقــل الذي يشكل البنية المعنويــة للذهن والواقع، لا العقل بوصفه أداة تقنية بحتة. وبهذا المعنى يصير العقل شرطاً تأسيسياً للإيمان: ذلك لأن الإيمان هو الفعل الذي يصل به العقل في نشوته الانجذابية إلى ما وراء ذاته. أي إلى ما بعد أنانيته التي يتجاوزها بالإيثار والعطاء والجود والغيرية. بتوضيح آخر، إن عقل الإنسان متناهٍ ومحدود، ويتحرك داخل علاقات متناهية ومحددة حين يهتم بالعالم وبالإنسان نفسه. ولجميع الفعاليات الثقافية التي يتلقى فيها الإنسان عالمه هذه الخاصية في التناهي والمحدودية. لكن العقل ليس مقيداً بتناهيه، بل هو يعيه، وبهذا الوعي يرتفع فوقه وعندها يجرب الإنسان انتماءً إلى اللامتناهي الذي هو مع ذلك ليس جزءاً منه ولا يقع في متناوله، ولكن لا بد له من الاستحواذ عليه. وحين يستحوذ على الإنسان يصير بالنسبة إليه هماً لا متناهياً، أي مقدساً ونبيلاً. وحين يكون العقل ـ بهذه الصفات ـ مسلّمة للإيمان، يكون بهذا المعنى تحققاً للعقل. ومقام الإيمان هو نفسه مقام العقل في طور نشوته الانجذابية. والنتيجة أن لا تناقض بين طبيعة الإيمان وطبيعة العقل – كما يقول الفيلسوف واللاهوتي الألماني بول تيلتش – بل يقع كل منهما في داخل الآخر.

___________________________

*نقلًا عن موقع ” شبكة فجر الثقافية”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى